fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

عبقرية عمارة الخيام: قصة قبيلتين

اهلنا من مجموعات الرحل يجسدون ثقافات شعبنا بكل ما فيه من تنوع مدهش فيرسمون لوحة فسيفسائية رائعة. خيام كل مجموعة من تلك المجموعات المنتشرة في الصحاري والوديان وسفوح الجبال تجسد حالة ثقافة محلية متميزة. شكل الخيمة وحجمها ومواد تشييدها ونوع غطائها تظهر حالة تتوهج فيها ثقافة المجموعة او القبيلة. الخيمة تعتبر منتج ثقافي لان موجهات تصميمها هي مفردات الثقافة من قيم عليا وتعاليم ومحاذير ومحرمات.

تشكل الخيمة محور حياة الارتحال فهي تنبض بالحياة وتتفاعل مع الناس. في كل مرة يشيدونها ويُركبونها في موقع تم اختياره بعناية فائقة تتم هذه العملية وفق خارطة ذهنية محددة الملامح. فرضية الخارطة تدل ظاهرة تكرار نفس الشكل عبر الزمان والمكان. شكلها وكل تفاصيلها محفورة في اذهان ووجدان اهل القبيلة كجزء أصيل من هويتهم. في كل مرة تنصب في الفضاء الرحيب تعلن للملا عن ثقافة القبيلة. تعبر عن قيمهم والكثير من جوانب حياتهم ومعنى وجودهم في الأرض.

الخيمة منتج تصنعه ثقافة القبيلة تماماً كما تنتج الملاحم والأراجيز والأهازيج والأغاني. هي بدورها تحمل هذه الثقافة عبر الزمان والمكان. إذا اتسعت الخيمة لتفرد للضيف موضعا بين الاسرة فهي تعلي من قيمة الكرم. تحملها عبر الزمان من جيل الى الذي يليه. إذا ضاقت عند قبيلة اخرى لكيلا تفسح مجالا للضيف فإن ذلك لا يعتبر مؤشراً على البخل. لان الضيف في هذه الحالة وفي اتساق مع قيم القبيلة له موضع أخر خاص به بعيدا عن الاسرة. في كلا الحالتين يُعلى تصميم الخيمة من قيم القبيلة ويحافظ عليها. ان ما يبدو تناقض بين هاتين الحالتين ما هو الا تباين في الروى واختلاف في الثقافات.

من ناحية آخري فان الخيمة بكل مكوناتها وتفاصيلها هي تجسيد واختزال لشخصية القبيلة. نستدل هنا بأنموذج من خيمة الرشايدة. عندما تفرد جناحيها وتزهو بألوانها في خيلاء فإنها تعبر بقوة عن اعتداد بالنفس خصما إلى حد ما على رو ح الجماعة. هذه سمة مجتمعية فيها توازن محسوب مرجعيته ثقافة القبيلة. غطاء خيمة الرشايدة ينسج بالضرورة من وبر حيوانات قطيع صاحبها. عدده الكبير يظهر دائماً في غطائها المتألق المتجدد. الأمر هنا لا يخلو من ميول استعراضية ونزعة فردانية مقبولة اذآ فهمت في إطار المعايير الثقافية.         

الخيمة عند قبيلة آخرى تجسد تواضع صاحبها وزهد مجتمعه. خيمة الهدندوة البجا في شرق السودان معبرة جداً وتجسد الكثير مما أشرنا إليه هنا. غطائها من أطوال البروش المنسوجة من زعف نخيل الدوم المنتشر في بواديهم. البروش عندنا هي أبسط أنواع فرشات الأرض ارتبطت دائماً بالتدين وبساطة العيش. استخدامها عند الهدندوة له معاني مهمة. إذا كانت خيمة أحدهم مجددة لا يعتبر هذا مؤشراً لثرائه ولأن مصدر خاماتها في أشجار الدوم المتاحة للجميع في بواديهم. هذه الحالة مختلفة تماماً عن حالة خيمة الرشايدة التي هي بالضرورة مصنعة من وبر قطيع صاحبها.

نوع ولون غطاء خيمة الهدندوة البيج الشبيه بلون الأرض والخالي من الالوان والزخارف يحمل عدة مؤشرات. يدل على حالة الزهد التي تعتبر من أهم سمات مجتمعهم. تكرارها بنفس ذلك الشكل والتفاصيل في كل خيام المجموعة المرتحلة دليل ساطع على روح المساواة بين أفراده. ملامح خيمة الهدندوة التي أشرنا تشي إلينا بالكثير المثير المهم. كل مرة تنصب وتنهض وهي تتمسك بنفس ملامحها وسماتها تجسد معها قيم القبيلة لكأنها بطاقة هوية. التمعن فيها يكشف لنا اسرار الشفرة التي تشكل بعض مفاتيح فهم شخصيتهم.

الخيمة من ناحية أخرى تكشف لنا الكثير من التركيبة النفسية لأصحابها. على وجه الخصوص علاقتهم بالغرباء وبالعالم الخارجي المحفوف بالغموض. علاقة تأطرها إلى حد بعيد ثقافتهم المحلية المؤسسة على تركيبتهم النفسية وسماتهم الشخصية. تعتبر الخيمة بشكلها ولونها وباقي ملامحها من اهم الآليات التي توظف في التعامل مع العالم الخارجي المحتشد بالمتربصين من الأعداء. المقارنة بين خيام مجموعتي الهدندوة والرشايدة تتيح لنا فرصة ذهبية لتسليط الضوء على هذا الجانب. دراساتي المقارنة بين هذين القبيلتين كشفت لي تباين واضح في تركيبتهم النفسية.

اختارت كل واحدة من قبيلتي الهدندوة والرشايدة بمحض إرادتها نوعية الخيمة الخاصة بها. تواثقت عليه منذ زمان يصعب تحديده وحافظت عليه عبر الزمان والمكان. المحصلة النهائية وثقت لحالة تباين تام بينها. اختلاف من حيث الشكل العام والتفاصيل يصل إلى حد الشي ونقيضه. حاولت استثمار هاتين الحالتين لإلقاء الضوء على علاقتهما بردود أفعال كل قبيلة منهما نحو الغرباء وعالمهم الخارجي. فإلى مضابط هذه المقارنة التي تكشف الكثير الذي يلقى الأضواء على اختلاف جوهري في التركيبة النفسية للقبيلتين..

قيض الله ومكنني من دراسة القبيلتين بشكل واسع ومعمق. بدأتها بالاطلاع على فيض مما كتب عنهما من دراسات في تخصصات متنوعة. عززتها لاحقاً ببحوث ميدانية مكثفة استمرت لفترات طويلة. الجميل والمفيد في هذه البحوث أنها أجريت على مجموعتين من القبيلتين كانتا تقيمان معاً في نفس المنطقة. بمعنى أنهما كانتا تواجهان نفس الظروف والملابسات والتحديات. هذا الجانب أكسب الدراسة بعداً مهماً ومؤثراً. مكنني عبر دراسة مقارنة مفصلة من التعرف على طريقة تعامل كل مجموعة مع عالمها الخارجي. 

عرف عن الهدندوة أنهم إلى حد ما قوم انطوائيون ويتحاشون الاختلاط بالغرباء. عزز حاجز اللغة هذا التوجه بالذات في مناطقهم الريفية والنائية. الناس هناك شأنهم شأن أبناء قبيلتهم يتحدثون بلغة البجا ويجدون صعوبة في التفاهم باللغة العربية. عليه صار هناك عامل يشكل حاجزاً إضافياً يضاف الى أخريات تحد من تفاعل الهدندوة مع الغرباء والعالم الخارجي.

جوانب من نظام سكن الهدندوة المتنقل في البادية تعمل بشكل ممرحل ممنهج ومتكامل للحد من التفاعل مع الغرباء. إبتداءً بالتوجه الخاص باختيار مواقع تخييمهم في ترحالهم المستمر. في هذا السياق لاحظت أنهم يتجنبون المواقع التي تقع على الطرق الرئيسة أو محطات السكة حديد. يحبذون ويختارون النائية والموحشة منها ويلجاءون أحياناً لتلك التي تساعدهم على الاختباء خلف جبل أو داخل غابة موحشة. يمكن النظر إلى هذه الخطوة المهمة لكآنها خط الدفاع الأول في إطار خطة محكمة تهدف لتجنيبهم الالتقاء والاختلاط بالغرباء.

يكملون تلك الخطوات ذات الطابع التخطيطي الكبير بإجراءات تصميمية. توظف كل سمات وخصائص الخيمة بذكاء في محاولة لإخفائها وهي في فضائها الرحيب. غطائها أطوال منسوجة من زعف النخيل المعروفة عندنا بإسم البروش. لونه البيج مشابه للون الأرض مما يجعل من الصعوبة ملاحظتها من بعيد. شكلها العام يكاد يكمل عملية الإخفاء. فهو أشبه بالنصف كرة أو المركب المقلوب مما يجعلها تبدو من مسافة بعيدة لكآنها أحد الكثبان الصغيرة. سمات وملامح الخيمة المشار إليها هنا تلعب دوراً متكاملاً في محاولة إخفائها في عملية أشبه بال camouflage.

 

جوانب أخرى في تصميم الخيمة تعتبر طاردة بذلك تكمل الرسالة التي تهدف لتجنب الغرباء. فشكلها العام منكفئ على نفسه عليه يبدو غير مرحب بالمقبل نحوها. محدودية الفتحات مؤشر اخر مهم. لا توجد بها نوافذ أو فتحات بالمعنى المعروف إلا شريط أفقي ضيق في الجزء الأسفل من غطائها قريب من سطح الأرض. المدخل والباب الذي اعتدنا أن يكون شكله لكآنه يدعو العابرين للدخول أمره مختلف تماماً. فتحته منخفضه للغاية في الحالات التي تستدعى درجة عالية من الخصوصية قد تقل عن المتر. كلها خطوات تصميمية تشير لدرجة القدسية العالية لهذا المكان.

حالة مخيمات قبيلة الرشايدة الذين يجاورون مجموعات الهدندوة في بواديهم تشكل في العديد من الجوانب طرف نقيض. بالتحديد ما كان فيها ذو صلة بموقفهم من الغرباء العابرين قرب مخيماتهم. ينصبون خيامهم دائماً في مواقع تمكنهم من الالتقاء بأكبر عدد منهم. عليه يفضلون ويختارون منها ما كان بالقرب الطرق القومية ومحطات السكة حديد. تجدهم وهم في تلك المواقع دائماً متأهبين يتصيدون العابرين بجوار مخيماتهم. يهرعون لاستقبال الوافد وتتسارع الأسر وتتنافس للاحتفاء به والمبالغة في استضافته وإكرامه. لا تُستثنى من ذلك ربة الدار التي يغيب زوجها.

يكمل تصميم خيمة الرشايدة المميز الرسالة التي بدأوها بحسن اختيار مواقع تمكنهم من اصطياد الغرباء والضيوف. شكلها العام لافت للنظر من مسافات بعيدة. غطائها الصوفي المخطط والعصى الشاهقة التي تحمله وتزين خط الأفق تلوح للعابرين بإصرار من بعيد. مؤشرات تصميمية أخرى تدعوهم بإلحاح للاقتراب وزيارة أهل الديار. جوانب خيمة الرشايدة مفتوحة ومشرعة طوال ساعات اليوم وعلى مدار العام. تحاكى حالة قلوبهم التي تهفو دائماً لكل عابر سبيل. انفتاحها يسهل على من بداخلها مراقبة الأفق آملاً في اصطياد ضيف جديد.

أشرنا في أكثر من موقع للثقافة المحلية لقبيلتي الهدندوة والرشايدة. في ذلك السياق وضحنا بأن العمارة وتحديداً الخيام تشكل واحداً من أهم مكوناتها. نضيف إلى ذلك بأن الأزياء التقليدية لا تقل أهمية. علاقتها تعتبر تكاملية مع العمارة وجوانب ذات أثر ملموس على حياة الناس. نحاول أن ننظر هنا لهذه العلاقة في إطار تناولنا لحالتي مجموعتي الهدندوة والرشايدة. سيكون من المفيد أن نستكشف في هذا الإطار دور نوعية الأزياء الفعال في إطار نهجهم المتبع للتعامل مع العالم الخارجي والغرباء. فلننظر لكل مجموعة منهم على حدة.

أزياء نساء الرشايدة تعكس واقعاً مختلفاً لكنه يأتي في نفس سياق رغبتهم الحثيثة في تصيد الغرباء واستضافتهم في خيامهم. وضحنا من قبل بأن أستارها تكون دائماً مفتوحة طوال الوقت وفي كل الحالات كواحدة من أهم خطوات اجتذاب تلك الشرائح. أزياء نسائهم التقليدية وعاداتهم المتبعة جاءت في هذا الإطار متوافقة مع حياة وقيم القبيلة المتمسكة بإسلامها. يشبه زيئهم النقاب إلى حد بعيد مع بعض تعديلات طفيفة. تلتزم به النساء بصرامة حتى عندما يكن داخل الخيمة مما يجعل بالإمكان فتحها تماماً بلا حرج. بذلك يصبح مكملاً للخطوات التخطيطية والتصميمية التي تسعى للتعامل مع الغرباء وفق نهج محدد.

تلك المؤشرات تلقى أضواء على تركيبة الرشايدة النفسية. بالتالي تسمح لنا أن نتعرف على بعض جوانب من نظرتهم لعالمهم الخارجي وموقفهم من الغرباء. عليه يصبح بالإمكان تصنيفهم بأنهم قوم يسعون بهمة للتعرف على الناس وإقامة علاقة ودودة معهم. يشار إليهم حسب مصطلحات تخصص علم النفس باللغة الإنجليزية بأنهم extrovert. مجموعة الهدندوة الذين تطرقنا لحالتهم من قبل الواضح أنهم على طرف نقيض. عدة مؤشرات اشتففناها من حياتهم في مستوطناتهم المتنقلة تدل إلى حد بعيد على أنهم منطوون على أنفسهم. يتحاشون الاختلاط بالغرباء عليه يمكن أن نصفهم حسب مصطلحات علم النفس باللغة بالإنجليزية بأنه قوم introvert.

 

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان- أكتوبر2018

هذه المقالة مع أخريات ستصدر قريباً في كتاب من تأليف الدكتور/ هاشم خليفة محجوب بعنوان (بيوت السودان)

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.