fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

عمارة الضريح والمزار والصرح بين العراقة والتحديث

يشدني موضوع عمارة الضريح والمزار والصرح يجذب انتباهي من وقت إلى أخر بالرغم تربص أحد التكفيرين المستمر. اهتمام نابع من ولعي بكل أنواع العمارة العبادية في كافة العصور. من أزمنة ضاربة في القدم مروراً بالتي تلتها حتى حقبتنا الحديثة التي نعيشها نعايشها بكل زخمها التعبيري. في هذا السياق أنظر بكل الاحترام والتقدير للعمارة العبادية للعصور التاريخية القديمة. تأسرني لأنني أشعر بأنها جاءت نتيجة عواطف جياشة متدفقة مما جعلها تقدم لنا دروساً في الإطار المعماري بالغة القيمة. لهذه الأسباب مجتمعة جعلتها دائماً من أهم بنود (روزنامة) مقرراتي الدراسية في أي قسم أو كلية دَرست فيها. كنت أفعل ذلك دائماً بدون نعرة تحيز أو تطرف. متنقلاً أطوف بالطلبة من معابد حضارتي كوش والفرعونية. لأعبر بهم الحدود بين القارات فأنتقل بهم إلى ممالك بابل وأشور القديمة. مرتحلاً بعد ذلك عبر الأزمنة والبحار متنقلاً بين العصور المسيحية في أوربا وأسيا. جاعلا مسك الختام دائماً روائع عمارة الإسلام العبادية في كافة عالمهم مترامي الأطراف عبر عصوره المتتالية.  في جل تلك الحالات كان الضريح أو المزار دائماً يفرض نفسه بقوة. لهذا السبب رأيت أن أتوقف عنده هنا. لكنني سأنظر إليه من زاويا مختلفة جديدة على سبيل المثال باعتباره نصب تذكارياً. سأذهب أبعد من ذلك لأتعامل معه كواحد من مكونات التصميم الحضري. لكأنه تحفة أريد بها تزيين جزء معين من المدينة. في كل تلك الحالات سأضع السودان تحديداً عاصمته تحت المجهر.

لدي اهتمام خاص لدرجة الولع بعمارة الطرق الصوفية بالرغم من عدم انتمائي وانضمامي لركب أي واحد منها. أوضحت في أكثر من مرة أن تعاملي معها يتم بطريقة علمية نابعة من منطلقات نبيلة. باعتبارها حالة متميزة تستحق رؤية معمقة بعيدة عن الغرض والهوى والأهداف الشخصية. هذا ما كنت أردده مراراً وتكراراً. لكن كل ذلك لم يكفني شر التكفيري الذي أوشك أن يتهمني بالزندقة. نظرته الضيقة لهذا الأمر من المفترض أن تغيرها حقائق أخري مهمة. لو كان يتابع كتاباتي في شتي المواضيع المعنية بالعمارة العبادية. فهل افتتاني بمعابد حضارات كوش والفراعنة الضاربة في القدم تعني أنني من عبدة ألهمهم الأكبر أمون. أيضاً هل تغزلي في مجمع حضارة اليونان القديمة في عاصمتهم أثينا يدخلني في زمرة الكفار. ثم هل تعبيري عن افتتاني بعمارة الكنائس المسيحية يعني قد صرت من أتباع هذه الديانة السماوية. في البدء أعتذر لكم عن إهدار فقرة كاملة في هذه المقالة للتعليق على ادعاءات هذا الشخص. كان من الأجدى تكريسها لما هو أنفع للناس. لأوكد مرة أخري أهمية عدم انتمائي لأي من الطرق الصوفية السودانية موقف استفدت منه في أكثر من جانب. أولاً جعلني أقبل نحو كل واحدة منها بشوق ولهفة تغمر روح كل من يقبل على تجربة جديدة مدهشة. ثانياً، وإذا هو الأهم جعلني أقف منهم كلهم بمسافة متساوية هو أمر مهم للغاية لتوفير قدر عالي من الحيادية. فلنجعل من هذه المقدمة مدخلا لهذه المقالة عن مبني الضريح أو المزار.

الحديث عن الضريح بغض النظر عن صاحب التابوت الذي يتوسطه والمفاهيم التي أتي بها يقودنا بالضرورة إلى سمات ة عمارته. أعتذر بأنني سأتعامل معه هذه المرة بشكل انتقائي. لأسباب موضوعية من أهمها المساحة المحدودة المتاحة في هذا المجال والمقال. عليه سأركز هنا بالتحديد علي عمارة القباب. التي سأحاول أن أرصد مسيرتها منذ نشأتها الأولي في الغرب الأوربي قبل فترة قصيرة من وصول الديني المسيحي لتلك الأنحاء. سآخذكم هناك في تطواف لن أمنحه حيزاَ كبير لأنني أريد أن أركز على حالة السودان. الذي سأحاول أن أتتبع مسيرتها بعد ذلك متوقفاً عند بدياتها الأولي لأطوف بكم بعدها في براحات أكبر. في هذا السياق ولأسباب موضوعية سأحط رحلي مطوفاً في حالة السودان. مركزاً إلى حد ما على النيلية منها في شماله والأجزاء الوسطي. متوقفا مركزاً بالتحديد على الحالات التي شكلت علامات فارقة. تستوقفني تستهويني بشكل خاص بداياتها الأول في شمال بلادنا وأواسطه. التي وجدت لأسباب موضوعية في ضفاف النهر ملازات أمنة. فقررت أن تكون حاضنة لمستوطناتهم الأولي هم في كنف دينهم الجديد الإسلام. أنظر الي فترات ميلاد قبة الضريح هناك بدهشة بالغة لا زالت تصل لدرجة الإبهار والانبهار.

أعود مرة أخري لموضوع عدم انتمائي لأي من الطرق الصوفية بالرغم اهتمامي المتعاظم بها. موقف ساعدني الي حد بعيد في التعامل معها بحيادية عالية وطريقة موضوعية بدون حساسيات. الأمر الذي كان يسهل من مهمتي عندما أوثق لحالاتها المتعددة فيجعلني أتعامل معها بسلاسة. أعمال توثيقية عديدة أحمد الله أنها وجدت القبول والاستحسان من عدد كبير ممن تابعوها عبر مقالاتي المتواترة. المدهش أن نسبة مقدرة منهم من خارج دائرة المعماريين والتخصصات المجاورة لمجالهم. اهتمامي الأكبر في بداية عملي التوثيقي كان منصباً على مبني الضريح بازخ الحضور. الذي يجب أن أعترف انه كان لي دائماً بمثابة الطعم الذي يجذبني يستدرجني. لأكتشف لاحقاً روعة مشهد مراكزهم الصوفية بمكوناتها المدهشة. مما جعلني لاحقاً اكتشف أنني انشغلت تشاغلت عنها. في حالة أشبه بمن يركز على شجرة واحدة متجاهلاً متغافلاً سر جمال الغابة التي تضمها بين ثناياها. فتغيرت نظرتي تماما لهذا الموضوع فصرت لاحقاً أوزع اهتمامي وعشقي بين الشجرة والغابة محيطها الفتان. بلغة أهل اختصاصنا جعلت تعاملي مع تلك الحالات متوازنا. موزعاً بين تخطيط المراكز الصوفية بمكوناتها المتعددة والضريح متميز العمارة. الذي يظل شئنا أم أبينا دائما في مقام الحبيب الأول الذي نلف ندور لنعود إليه في نهاية المطاف. فلننجر وراء سحره الأبدي لنذهب معاً في تطواف في عوالمه المدهشة عبر الحقب التاريخية. 

تحديق في عمق التاريخ قبل ألاف السنين من ميلاد السيد المسيح في بلادنا ليس ببعيد عنها   يطلعنا على تجربة ثرة لعمارة المدافن. جديرة بالتأمل بدليل أنها شغلت العالم لا زالت محور اهتمامه. كان مسرحها الجزء الشمالي من ضفاف نهر النيل. في حضن ضيافة فخرنا ورمز عزتنا حضارة كوش بممالكها الثلاثة وجارتها وصنوها الحضارة الفرعونية. قدمت من خلال تلك المكونات المعمارية المتميزة نموذجا فريداً لعمارة المدافن. سحر الناس لقرون عديدة لا زال مصدر إلهام لكافة العصور والبلدان. في شكلها الهرمي المحتشد بالمعاني والإيحاءات الرمزية. عمارة يحتاج المرء لجهد ذهني مقدر لاستيعاب معانيها العميقة. للتعرف من خلالها على رؤية تلك الحصارات لمعني وجودهم. المؤسس على فكرة الحياتين الأولي زائلة وعابرة تمهد السبيل للثانية الأبدية السرمدية. يربط بينهما يمهد للثانية مبني المدفن. عليه لم يكن مجرد مدفن بالشكل الذي نعرفه يستقبل المرء في نهاية رحلته في الحياة. إذ كان في الواقع وفق رؤيتهم بوابة الولوج للحياة الثانية الباقية الأبدية. عليه كان المبني يعد بكل مكوناته وتفاصيله يهيئ له لكي ينهض يبدا حياته الجديدة. متحصناً باقيم ما كان يملكه من قبل بالإضافة لهدايا قيمة تبذل له. مهتدياً بملامح من سيرته الذاتية التي تجسدها رسومات تغطي جدران غرفة التابوت والممرات المؤدية لها تحت الأرض.

لم تولد فكرة مبني الهرم المخصص لرفات الشخصيات المهمة من أول خاطرة طافت بذهن المهندس الفنان المبدع المكلف بتصميمه. إذ مرت عمارته بعدة مراحل حتى وصلت لشكلها النهائي. في حالة أشبه بمراحل تخلق الإنسان داخل بطن أمه، نضفه فمضغة فعلقة إلى أخر تلك المراحل. الواضح أنه الغرض الأساسي من تشييدها هو المحافظة على مقتنيات وهدايا صاحب المقبرة الثمينة وحمايتها من اللصوص. بالإضافة بالطبع لتحديد مكانها لمن يرغبون في زيارتها في مناسبات محددة لتقديم الهدايا والقرابين. تحقيق تلك الغايات النبيلة كانت الدافع الرئيس للاجتهاد في تصميمها في مراحلها الأولي. ثم من بعد ذلك تطويرها حتى بلغت المرحلة التي نعرفها. بدأت الفكرة في أول مراحله في شكل مسطبة فوق سطح الأرض الجزء الأعلى منها مسطح تماماً. لتتطور لاحقاً لتصبح لكأنها عدة مصاطب فوق بعضها البعض. تتناقص مساحتها كلما ارتفعت لتصبح كما يشار إليها بالهرم المدرج. الذي يشيد للشخصيات بالغة الأهمية كالفراعنة. التي كان يحتل فيها جزءَ من مجمع مترامي الأطراف به عدة مكونات مهمة. تطور مبني المقبرة لاحقاً ليصبح هرما مكتملا يسطع لوحده في فضائه الرحيب في صحراء ممتدة حوله تكاد تكون بلا حدود. يمهد له بالضرورة ينهض أمامه مكون صغير بالغ الأهمية من ناحية طقوسية. معبد صغير تؤدي فيه طقوس لها علاقة بمراسم الدفن لهذا السبب يسمي المعبد الجنائزي.

الاهتمام الفائق بمدافن تلك الحضارات يجب ألا يعمينا أو يجعلنا نتجاهل أنواع أخري من المكونات العبادية التي تفوقها أهمية. الإشارة هنا للمزارات تحديداً المبذولة لإلههم الأكبر أمون التي كانت تعتبر من أهم مكونات معابدهم. في هذا الإطار من المهم التفرقة بين تلك المزارات وحالة المدافن. فالأولي تختلف عن الثانية في عدم وجود رفات فيها. الذي كان يستعاض عنه بتمثال للإله يوضع في حجرة صغيرة جدا أشبه بالكشك. موقعها في جوف المعبد لتكون نهاية المطاف سدرة المنتهي. كان التمثال يجلب ليوضع في توقيت معين من العام في موكب مهيب محتشد بالمشاعر الطقوسية العالية. اهتمامهم الفائق بتلك المزارات بَينته أفضت في شرحه في سياق تناولي لحالة العديد من معابدهم. علي وجه التحديد حالة معبد أمون الذي كان يحتل مكاناً متقدماً مفتاحيً في أهم موقع عبادي في مملكة نابتا. المتمدد بسخاء في أرض منبسطة عند أعتاب جبل البركل المقدس عندهم. تحدثت فيها أشرت للمعالجات التخطيطية والمعمارية المذهلة المدهشة. أشرت بالتحديد إلى عملية التكثيف الفضائي وتوظيف الإضاءة بذكاء فائق للارتقاء بالإحساس الروحاني إلي أعلي وأسمي درجاته. حتى لا أعيد ما ذكرته من قبل وتعميماً للفائدة أعيد نشر تلك المقالة المطولة عن هذه الحالة. كان عنوانها- مجمع جبل البركل العبادي: إطار طبيعي مذهل وعمارة مدهشة. نشرتها في مدونتي بالفيس بوك وأضفتها لمواد موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط- drhashimk.com.

الانتقال لحالة المزار من رحاب الاضرحة ينقلنا لعوالم رحبة. بعيدة عن صولجان الملوك والفراعنة وهيمنة الأسياد ومظلة الشيوخ المؤثرة البازخة. ليحلق بنا في سماوات ترفرف في أرجائها معاني سامية تكاد تكون بلا حدود. الي أفاق قيم رفيعة تسمح بالتحليق في فضاءات الأوطان. تتجاوز حدودها أحيناً لتطوف في رحاب مفاهيم عميقة قارية وعالمية. معها يتبدل مفهوم المزار ليصبح له معني أشمل ليصير صرحاً، حتى لو صغر حجمه. تأخذنا هذه النقلة ليحط رحلنا في رحاب مجال التصميم الحضري. هذا بطبع إذا اتسع أفق من ينتمون له ليستوعبوا مثل هذه المفاهيم عميقة المعاني. تستهويني جداً هذه السياحة الروحانية الغارقة في فضاءات فلسفية الطابع. فأعجب لحالة بعض الأضرحة والمزارات والصروح. التي ظلت كما هي بالرغم من تغير المفاهيم التي حركتها والجهات التي شيدتها لتمجدها. إذ صارت لاحقاً رمزاً لمن أزاحوها من سدة الحكم ليحتلوا مكانها. حالة أخري في غاية الغرابة ظهر فيها الضريح في حالة ليسن لها علاقة إطلاقاً برجال دين يتم تمجيدهم. ظهرت في إطار مذهبي سياسي عقائدي له بعض مواقف يستشف منها مناهضته للأديان. لفتت هذه الظواهر اهتمامي فانكببت ركزت على دراستها. في هذا الإطار تعاملت معها كمقرر درسته على مستوي درجة الماجستير في كلية معنية بالدراسات الحضرية. كانت تجربة مفيدة جداً بالنسبة لي إحساس شاركني فيه طلابي. ردود أفعال يبدو أنها نابعة من حيوية الموضوع الذي سألقي عليه أضاءت هنا لكي تعم الفائدة.

الحالة الأولي التي لفتت انتباهي كان مسرحها في الاتحاد السوفيتي أو روسيا الحالية جرت أحداثها في النصف الأول من القرن الماضي. التي كانت تمر زمانئذٍ بمتغيرات سياسية مذهبية داويه. أحدثت إسقاطات مؤثرة على أجزاء عديدة من العالم لم نسلم منها. شهدت ميلاد حركة مذهبية زلزلت أركان الدنيا. كان رأس الرمح فيها بفكره وحسن قيادته فلاديمير لينين هو من أهم مؤسسي الحركة الماركسية. التي اكتسحت أجزاء عديدة من العالم لا زال أثرها باقياً. أحدثت زلزالاَ مذهبياً عقائدياً استهدف دولاً وكيانات راسخة في العالم ذات تاريخ ديني عميق الجذور. تأثير ذلك المفكر السياسي الماركسي الماكر القوي بين أهل بلاده واتباع مذهبه الخلص حول العالم لم يخب بعد وفاته. الذي دفعهم لتحنيط جثمانه بعد وفاته كما كان يفعل أهل حضارة مصر الفرعونية مع ملوكهم العظام. خطوا خطوات أبعد من ذلك شبيه بما كانت تفعله حضارات أسست على مرتكزات دينية. فشيدوا له ضريحاً في الميدان الأحمر أهم موقع في عاصمتهم موسكو. توسطه صندوق زجاجي أنيق يتمدد عليه جثمانه في كامل زيه وهندامه. في مشهد متناقض مع مفاهيم ذلك التوجه الماركسي. الذي أسس على مبادئ علمانية صارمة تنظر بريبة للتوجهات الدينية بكافة أشكالها. لدرجة جعلت بعض مفكروه يصفون الدين بأنه أفيون الشعوب الذي يسعي لتخديرها وإلهائها عن قضياها الأساسية. في تناقض تام مع هذه المفاهيم صار ضريح لينين مِحجة. يقصدها أتباعها الذين تتمدد صفوفهم لمسافات طويلة أمام مدخله في أجواء شتاء تتدني درجات برودته لما تحت الصفر.

في زمان لاحق في سبعينيات القرن الماضي شهدت الأجزاء الجنوبية من قارة أسيا في إيران أحداث مشابه. لا تقل عنها غرابة بالرغم من بعض اختلافات جوهرية. وجه الشبه الأساسي هي نفس مكونات محور اهتمامنا هنا الضريح والمزار والصرح. لتضعنا وجهاً لوجه أمام النوع الأخير الذي شكل حالة بالغة التفرد. زاد من فرادتها أحداث زللت أركان حياة ومصير الإيرانيين جرت أحداثها في سبعينيات القرن الماضي. الذين كان تاريخ بلادهم محور اهتمام العالم في أكثر من حقبة من حقبه المتعاقبة المحتشدة بالأحداث السياسية الحضارية. في بلاد تأسست في زمان سابق على أمجاد الإمبراطورية الفارسية. تدفق النفط في أرضها في الستينيات في فترة كان العالم متعطش له حفز ملكها في أن يستعيد أمجاد بلاده الغابرة. مبتدئاً بعاصمته الناهضة طهران التي بدأت تتدثر بمظاهر المدنية والحداثة. في محاولة للحاق بركب حواضر حلفائها الغربيين من الدول العظمي. فشيد في بداية السبعينيات في مدخلها صرح تذكاري بوابة في شكل برج فريد التصميم ارتفاعه خمسين متراً. تكريماً لملكهم راعي المشروع أطلقوا عليه اسمه فصار برج الشاه (رضا بهلوي). لكن أجواء شهر عسل ذلك الملك لم تمتد طويلا. إذ هبت في نهاية السبعينيات ثورة إسلامية كاسحة استولت على الحكم لا زالت تحكم البلاد حتى الآن. من المفارقات أنها جعلت ساحة ذلك الصرح الشامخ مرتكزاً لحشودها المليونية الذي كانت تستضيفهم بحفاوة. تغير اتجاه الأوضاع السياسة العقائدية هناك بدرجة مئة وثمانين درجة. لكن بقي الصرح كما هو في كلا الحالتين رمزا ومرتكزاً لحشود توجهاتها السياسية وأهدافها متناقضة.

تأمل حالات تلك الأضرحة والصروح الممعنة في الغرابة لن يصرفنا عن تتبع مسيرتها عبر الحقب التاريخية بدءً بتلك الضاربة في القدم. كنا قد توقفنا من قبل عند حالات الأهرامات التي سطعت في صحاري وديار حضارتي كوش ومصر الفرعونية. التي تؤرخ لها حقب سبقت ميلاد السيد المسيح بألاف واحيناً مئات السنين. لننتقل لمرحلة مفصلية ارتبطت بفترة ميلاده نرتحل معها من بلادتا نعبر بحاراً نتجاوزها لقارات أخري. لنشهد هناك صرخة ميلاد أنواع من الإنشاءات والعروش قدمت نفسها طائعة مختارة في شكل القباب. معتزة بتغطية أهم وأقدس المباني العبادية عند الشعوب والأمم. عندما تزامنت صرخة ميلادها مع فترة ميلاد السيد المسيح. إنجاز تم علي يد أهل الحضارة الرومانية الأماجد. مهتدين بتجارب أولية أساسية استشفوها من تراث عمارة بابل وأشور التي استعمروها ردحاً من الزمان. فاستلهموا منها فكرة أول عرش قُبوي متكامل. في معبد وثق لأول حالة تعتبر أروع نموذج لعمارة المباني العبادية في تلك العصور الكلاسيكية. هو معبد البانثيون الأشهر درة المعالم الإثارية في عاصمتهم روما. الذي تستدرج فيه العمارة أشعة الشمس من خلال ثقب في قمة القبة. يتجول يمسح الفضاء الداخلي برفق وحنو بالغ.  يغازل تماثيل الألة المصطفة في محيط الدائرة يؤجج المشاعر الروحانية فتسمو إلي أعلي درجاتها.

بعد بضع عقود من ميلاد السيد المسيح انتقل مركز الديانة الجديدة من الغرب في روما. لكي تستضيفه القسطنطينية في موقع تركيا الحالي مؤسسة لحقبة الإمبراطورية البيزنطية. لم يفوت هؤلاء القوم الأماجد الفرصة التي أتتهم على طبق من ذهب فكانوا على قدر التحدي. قدموا أهم إنجازاتهم في القرن السادس الميلادي كنيسة أيا صوفيا في عاصمتهم القسطنطينية. التي سطعت فوقها منظومة من القباب ممتدة البحور متنوعة الأحجام والأشكال. لتتباري بعد ذلك عواصم العالم الغربي المسيحي في تقديم إبداعاتها في هذا السياق. فوضع كل بلد بصمته المعبرة عنه التي جاءت نتيجة لخامات البناء المتوفرة وتقنيات ومهارات أهله. بالإضافة للمزاج العام الذي لعب دوراً مقدراً في هذا التنوع اللافت للانتباه. كانت القباب سيدة الموقف في هذه المنافسة المحتدمة في سباق العمارة العبادية. من أكثر ما لفت نظري حالة سطعت في ركن قصي بعيد من وسط هذه المنطقة الثقافو- سياسية. كاتدرائية القديس بازيل التي ظهرت في روسيا في إطار تمدد عمارة الإمبراطورية البيزنطية إلى ذلك الطرف القصي من القارة. لعل بعدها من مركزها في القسطنطينية سمح لها بمساحة واسعة من الحرية والابداع. فظهرت في إهاب معماري غير مسبوق لم يظهر له نظير بعد ذلك. امتطت ظهره قباب أشكالها في غاية الغرابة توشحت بمنظومة ألوان صارخة أكثر غرابة. سطعت كأهم كاتدرائية في منطقة مركزية مفتاحية في عاصمتهم موسكو فلفتت الأنظار وخلبت الألباب. قبل أن يجتاح بلادهم الطوفان المذهبي الماركسي الذي جاء خصماً على وجود الديانات السماوية على رأسها المسيحية.  

شهد العالم الغربي في النصف الأول من القرن الماضي عمل دؤوب مثمر سعي بشكل حثيث لتطوير تقنيات خامة الخرصانة المسلحة. صوب جله لمجال العروش فأحدث نقلة معمارية مقدرة بسماحه بتغطية مساحات داخلية شاسعة بدون أعمدة وسطية. بداءً بما يعرف بالبلاطة المطبقة التي تسمي باللغة الإنجليزية أل folded slab. لم نتخلف نحن هنا عن الركب إذ أستثمر فيها أستاذنا محمد حمدي فوظفها بشكل قمة في التعبير. في مسجد القصر الجمهوري الذي شيد في التسعينات من القرن الماضي. استخدامه لهذا النوع من العروش تجاوز مجال حلولها الإنشائية. ليصنع منها وحدات زخرفية عملاقة متسقة مع روح العمارة الإسلامية. دأب الباحثون في مجال إنشاءات المباني في منتصف القرن الماضي أثمر فتحاً جديداً مؤثراً غير وجه العمارة. تجلي في فكرة العروش القشرية التي تعرف باللغة الإنجليزية بال shell structure. التي أنتجت عروشاً بسمك رفيع للغاية يمكن أن يغطي مساحات داخلية شاسعة بدون أعمدة وسطية. مقدمة عمارة في غاية الروعة والرشاقة. استثمر فيها في منتصف ذلك القرن عبقري زمانه المعماري المكسيكي فيليكس كانديلا فقدم أروع الأعمال في المعمارية في ذلك الجزء من العالم. فتحت تلك التقنيات الإنشائية الباب على مصراعيه للإبداع المعماري. خاطبت على وجه التحديد مجالات المباني العبادية الأضرحة والمزارات والصروح التذكارية التي كان لكانديلا فيها نصيباً وافراً.

شهد منتصف القرن الماضي تنافس وصراع محتدم حاولت خامات بنائية أخري مزاحمة الخرصانية في مجالاتها. فبرزت المعدنية كمنافس خطير في مجال العروش. ممتطاة صهوة أنابيب معدنية رفيعة خفيفة الوزن. يتم تجميعا في شبكات مكونة تشكيلات هندسية رائعة المنظر. مع أن الهدف الأساسي منها هو العبور فوق مساحات داخلية شاسعة بدون أعمدة وسطية. فولد نظام إنشائي يستخدم عادة للعروش عرف باسم الإنشاءات الفضائية نسبة لاسمه باللغة الإنجليزية space structures. كان أول ظهور له في بلادنا في بداية سبعينيات القرن الماضي. في ساحات أرض المعارض في منطقة بري في الطرف الشمالي الشرقي من الخرطوم. حيث تتمدد عروشه بسخاء مغطية مساحات داخلية شاسعة في صالات معرض الخرطوم الدولي. ظهر أيضاً بشكل بديع رائع في إهاب وأغراض مختلفة في نهاية السبعينات عند ضفة النهر قرب مدخل مدينة أمدرمان. متوجاً عرش قبة واحد من أميز مساجدنا في العصر الحديث هو مسجد النيلين. حيث اكتملت منظومة أنابيب نظام العرش الإنشائي هرمية الأشكال بغطاء من قطع معدنية مثلثة. منحت العمارة مظهراً حضارياً مبهراً نموذجاً مشرفاً. تحدي الزمن سطع شامخاً بالرغم من ظهوره أول مرة قبل أكثر من أربعة عقود من الزمان. من خلال هذا العمل وأخري عديدة تطرز أركان الدنيا قدم هذا النظام الإنشائي نفسه كخيار مهم للغاية. يهب نفسه بسخاء لعمارة الأضرحة والمزارات والنصب التذكارية وكل الأعمال المشابه. مستدرجاً المعماري ألأريب المشبع بالطاقات الإبداعية العالية ليفعل به ما يشاء. يحقق اختراقات تُكسر الدنيا كما يقول المثل الشائع.

كان تطوافنا هنا حول العالم عبر عصور متعاقبة بداءً بأزمنة سبقت ميلاد السيد المسيح بألاف السنين حتى زامننا الحالي. تجولنا فيها في كافة أرجاء الدنيا متتبعين أثار عمارة الأضرحة والمزارات والصروح. كل ذلك لن ينسينا واقعنا المعاش الذي يزخر بحالات جديرة بالتوقف عندها. محور اهتمامي هنا هو نفس موضوع هذه المقالة الذي يدور حول تلك المكونات المعمارية. أسترعي انتباهي عدد مقدر منها في بعض أنحاء بلادي. عمارتها تعكس رقة حالهم فهي مشيدة بأبسط مواد البناء هذا هو سر عظمتها. جلها كان يقيم حول ذلك الشريط النيلي الممتد في أواسط بلادنا حتى أجزائها الشمالية. لفت انتباهي أنا أتأملها أنها تعبر عن روحهم الإيمانية العالية التي لم تقلل منها صعوبة ظروفهم المعيشية. لمستها في أضرحتهم المبعثرة في فضاءاتهم الجرداء المتمددة على مدي البصر. أكثر ما لفت انتباهي بساطة شكلها. الذي يعطيك انطباع بأنها نبتة برية لم يشيدها الناس من حولها كأنها كما يسمونها (قامت بروس). فهي مشيدة من نفس التراب والتربة التي تجلس عليه مما يعطي إحساس بأنها تذوب فيها. شكلها المتميز وطرفها الأعلى المدبب في تلك الأرض المنبسطة المسطحة والفضاء الرحيب يعمق من تأثيرها على النفس. يولد ويؤجج الإحساس والشعور بأنها واسطة خير بين السماء والأرض وهو معبر بصدق عن هذه الحالة. التي كان بأمل فيها الناس في تلك العهود السابقة بأن يجعلهم تشييد قباب أولياء الله الصالحين أكثر قرباً للخالق العظيم.

المنطقة التي أشرت إليها على ضفاف النهر في شمال وأواسط السودان عرفت تاريخياً بأرض الحضارة النوبية. منطقة زاخرة بتراث معماري يعتبر الأقدم والأكثر ثراءً على مستوي العالم. واحدة من أهم سمات عمارته المفعمة بالرمزية الربط بين السماء والأرض، بين الناس وخالقهم عبر المكونات المعمارية. مفاهيم قديمة راسخة عبرت عنها نماذج عمارتهم العبادية والسلطوية المرتبطة بها. أسست لها في عصور ضاربة في القدم أهراماتهم المشهورة. وصول الإسلام إلي ديارهم جعل سعيهم في هذا المسار يبدا من مرحلة أقرب إلى الصفر. مهتدين بأفكار أساسية حملها إليهم من أتوا بالرسالة الجديدة. فظهرت في البدء نماذج تلك القباب بسيطة الأشكال المتواضعة من حيث مواد بنائها. تطورت فكرتها بمرور الزمن وترسخ الدين الإسلامي بينهم. الذي لعب فيه أولياء الله الصالحين دوراً مقدراً لا يقلل من شأنه إلا مكابر. انعكست هذه التطورات بشكل مباشر علي عمارة الأضرحة. استوقفتني منها على وجه التحديد حالة متفردة للغاية. التمعن فيها يجب أن يستصحب ظروف إنتاجها في تلك المناطق النائية بدون معونة من جهات معمارية متخصصة. رصدتها في حالة قبة الشيخ إدريس المحجوب قرب مدينة عبري في شمال السودان هي جديرة بالاهتمام والتأمل. تصميم استثمر في إرث عمارة الأهرامات مرتكزاً على مرحلة من مراحل تحورها هي مرحلة الهرم المدرج. اِنطلق منها المعني بتصميم المبني وتشييده ليقدم عملاً معمارياً عبقرياً يستحق الدراسة والتأمل.

أعود بكم مرة أخري لموضوع الأضرحة والمزارات. التي شدني إليها لاحقاَ تخصصي ودراساتي المعمقة والاهتمام الخاص بالعمارة الروحانية. وجدت نفسي مرة أخري في خضم عوالم الطرق الصوفية المطرزة بمبانيها المتميزة فعدت أتأملها بعمق من زاوية خاصة. حالة أججتها ذكريات الطفولة في مدينة كسلا الوريقة التي نشأت فيها في كنف أسرة ختمية الهوى يفضحها اسمي الثلاثي. سنوات عامرة بذكريات حبيبة إلي النفس. أجمل ما فيها زيارات حي الختمية معقل الطريقة ومركزها في صباحات يوم الجمعة عندما تتوافد تحتشد الجموع في مجمع الضريح. في موقع بالغ التميز تنافسه عمارة لا نظير لملامحها وسماتها. يرقد في دعة واستسلام عند أعتاب جبال التاكا المهيمنة تماماً غلي المشهد تمنحه سره (الباتع). يتبادلان علاقة متفردة أساسها تاريخ مجيد يختلط فيه الواقع بالأساطير ليصنعا معاً إطاراً مدهشاً. يزيد من دراما المكان الحالة المتفردة لعمارة مكونات المجمع. عَمق من المشهد ما حاق بها من دمار أحدثته ويلات الاعادي في سابق الزمان. التي أحالت عمارته المدهشة الي أطلال فأججت من دراما المكان منحته أبعاداً فوق التصور. تبلغ قمتها في تسلل أشعة الشمس من فتحة عرش أطلال الضريح. مشهد خرافي عميق الأثر تابعته في فيلم وثائقي في (اليوتيوب). يرسم ملامح (لوكيشن) أي موقع تصوير يتمناه أبرع المخرجين. ليوثق لمواقف تجيش بالوجد المتدفق للمريدين المتشبثين بأهداب تابوت سيدي الحسن. منظر مؤثر للغاية يدفعني للاعتقاد بانه السبب الذي منع السادة المراغنة من الاجتهاد في ترميم هذه الصروح التي تمثل أهم رموزهم.

المعروف أن ذكريات الطفولة تعلق دائما بالذهن تترسخ فيه مدي الحياة. هذا هو عين ما فعلته معي ذكريات زبارة الضريح في الختمية وروح المريدين من البسطاء من حوله. صورة لم يستطع أكثر من نصف قرن من الزمان محوها أو التشويش عليها. جعلتني كلما اشتقت لزيارة مثل هذه الأماكن أينما حللت أبحث عن أبسطها شكلاً أفضلها على الفخمة عصرية الملامح. إذ كنت أبحث دائماً عن العراقة ملتمساً سماتها وملامحها في العمارة الخارجية والداخلية التي تجذب إليها البسطاء من الناس. تجعلهم يتمسحون بها يجدون فيها أنفسهم. التي تشعرهم كما يقال عنها باللغة الإنجليزية feeling very much at home. حالة يساهم فيها موقع الضريح او المزار بكامله وكل تفاصيله. لتكمل العمارة الصورة تاركة لصنوها الداخلي بكل تفاصيله ليضع اللمسان النهائية. منظومة متكاملة ترسم لوحة تشعر لمن هم في ذلك المكان أنهم أهل الدار وجزء مكمل له ومنه. رصدت حالات عديدة في العاصمة قدمت نماذجً رائعةً لما أعنيه هنا. واحدة منها اكتشفتها قبل عدة سنوات هي حالة مجمع ضريح الشيخ حمد النيل في الطرف الغربي لحي بانت بمدينة امدرمان. وثقت لها في مقالة مطولة نشرتها قبل فترة قصيرة في مدونتي في الفيس بوك ومنصة أل LinkedIn يمكن الرجوع إليها في أرشيفهما. وجدت قبولاً كثيفاً وتفاعلت معها بشكل ملموس شرائح متنوعة الخلفيات من شتي أرجاء العالم.

قبل فترة طويلة كنت أحرص من وقت إلى لأخر على زيارة موقع ضريح الشيخ حمد النيل في أيام الجمع. زيارات معمقةً كنت أحرص فيها على تتبع إيقاع الأحداث على مدار الساعة من بداية اليوم حتى انفضاض جمعهم هناك. أكاد أشارك في بعضها بالرغم من عدم انتمائي لهذه الجماعة الصوفية. ظاهرة تشير لواحد من أهم أسرار عظمة طريقتهم التي تشي بها جوانب أخري متعددة. من أهمها النهج الانفتاحين المرحب بالجميع الذي يتجلى في مظاهر متعددة في منطقتهم مترامية الأطراف. فهي على سبيل المثال غير محاطة بأسوار وبوابات عليها حراس أو نقاط استقبال. ينطبق نفس ذلك الأمر على مجمع الضريح الذي يضم معه عدة مكونات تحيط بفناء صغير. فقد لاحظت عتد زياراتي له في زمان سابق أنه لم يكن هناك جهد يذكر يفصل المجمع عن الفضاءات الرحبة المحيطة به. لفت نظري أيضاً عدم الاهتمام بأمر مدخله وبوابته الرئيسة. بالإضافة إلى ذلك كان حائط السور منخفض الارتفاع بشكل يسمح بالتواصل البصري مع بالفضاءات الخارجية. قد يستهين المرء بمثل هذه الملامح لكنها بالنسبة لي ذات أهمية خاصة. أقراءها مع مؤشرات أخري فتضيئ لي الكثير من جوانب فلسفة الطريقة التي تتنزل في نهج شيوخها. تدل علي روح انفتاحيه بازخة ورغبة واضحة في التماهي مع الجميع. مختلفة عن العديد من الطرق الصوفية الأخرى التي تتبع نهجاً مغايراً تماما. معالم وملامح أخري من واقع حالة موقعهم ومجمع ضريحهم تشي لتا بالكثير عنهم وعن طريقتهم. تتعامل هذه المرة مع جوانب أخري مختلفة ليست فضائية في طبيعتها.

السر الأساسي بالنسبة لي في تألق حالة مجمع الشيخ حمد الميل هو البساطة. كانت تتجلي في كل جوانب عمارة مكوناته وتفاصيلها المشيدة من مواد عادية للغاية. التي تنداح لتشمل عمارة مبني الضريح نفسه بالرغم من أنه المكون المفتاحي في كل هذه المنطقة. لم تخرج عمارته عندما زرته حقبتئذٍ عن الملامح المعهودة في مثيلاته في عمق أريافنا. ألوانه هادئة رزينة للغاية تقليدية المنحى يغلب عليها الأخضر الغامق. تتميز زخارفه أيضاً بانضباط عالي متبعة نفس المنحى المتحفظ. عمارته الداخلية سارت على نفس النهج بدون بهرجة. عليه كان مبني الضريح إلى حد ما متسقاً مع عمارة باقي مكونات مجمعه. منظومة متكاملة منسجمة مع مظهر وهيئة المريدين الذين يتحلقون حول المكان يتمسحون بأعتابه. الذين يحملون سمات أهلنا في الريف والبسطاء النبلاء من أهل الحضر. يحس المرء بأنـهم قد وجدوا أنفسهم في أجوائه المترعة بالحميمية. المشهد هنا كان شبيهً برحلات المجموعات لأطراف المدينة التي يشار إليها باللغة الإنجليزية بأل picnics. كان يزكي من أجوائها الولائم التي تستثمر في ذبائح النزور المبذولة من بعض الحضور. أجواء كانت بلا شك تمنحهم الإحساس الذي يمكن أن وصفه باللغة الإنجليزية بأنهم feeling very much at home. تعززه من جانب أخر انفتاحيه عمارة الضريح وذوبانه في الفضاء الرحيب من حوله. مؤشرات كلها نابعة من فلسفة الطريقة ونهج شيوخها الذين عرفوا بزهدهم وتماهيهم في معشر الناس من حولهم. كل ما قلت هنا نابع من زيارات ومعايشة لهذه الحالة في زمان مضي.

ظروف قاهرة جعلت متابعتي لموقع مجمع الشيخ حمد النيل غي الفترة الأخيرة من خلال الصور الفتوغرافية ومقاطع الفيديو. صارت من على البعد فحرمتني من ميزة المتابعة اللصيقة والمعايشة المباشرة. في فترة لمست فيها تطورات وتحولات في المشهد هنا وهناك هو أمر طبيعي متوقع. لعل من أهم أسبابه تصاعد الأدوار المؤثرة لشيوخ وقيادات الطريقة في الحقب الماضية في المجال المجتمعي والسياسي. تطورات كانت تستدعي تهيئة المكان ليليق بمقام ضيوف متميزين. لم تتح لي الفرصة لرصد ما تعمل عمله في هذا المجال عن قرب. لكنني لاحظت أثاره البائنة في مبني الضريح تحديداً تغيير ألوانه واضافة مزيد من الوحدات الزخرفية. للأسف لم تتح لي الفرصة للتعرف بشي من التفصيل عما جري هناك.  كما لم أستطع التعرف على ما استجد في العمارة الداخلية الأمر الذي كنت أوليه اهتماماً خاصاً. في إطار تركيزي على ظاهرة التحديث والتجديد في مجال المباني التراثية بالذات العبادية منها. في هذا الإطار كانت حالة مجمع ضريح الشيخ حمد النيل هي التي أوحت لي بعنوان هذه المقالة. لأنها تقدم نموذجاً جدير بالدراسة يتعامل حالة تشكل تحدياً مهماً.  

قد تدهشوا عند عودتي لهذا الموضوع أن تكون بدايتها بالمقلوب التي سأبدأها بعمارة الضريح الداخلية. إذ من المفترض أن أقبل نحوه أتمعن فيه لأدلف لاحقاً في أخر مرحلة إلى دواخله. لكن يبدو أن تجاربي مع عمارته الداخلية في بواكير حياتي كانت مؤثرة للغاية. جعلتها تأتي في المقدمة تفرض نفسها بشكل مؤثر للغاية. كانت لها إسقاطات عميقة في نقس ذلك الطفل الذي أصبح معمارياً لاحقاً. سيطرت على كيانه فصارت لها أهمية قصوى بالنسبة له. لأسباب موضوعية لأنها رسخت في نفسه إحساس عميق بالعمارة بكامل معانيها. قبل أن تفسدها تهمشها مفاهيم الحداثة من خلال دراسته التخصصية لها لاحقاً. استدرجتنني للعمارة الداخلية بعميق معانيها زياراتي في طفولتي الباكرة لضريح سيدي الحسن بكسلا. بالرغم مما أل إليه من حال جعله أشبه بالأطلال. تجربة أعقبتها أخريات في زمان لاحق مع حالات أضرحة شبيه تتميز ببساطة لافته. عشت تجاربها بكل إحساسي فحرصت على زيارتها والتردد عليها مراراً وتكراراً في حالة أشبه بالإدمان. فرسخت في نفسي قناعة بأن الإنسان يتعامل مع الفضاء والأمكنة أينما ما حل بكامل حواسه ليس فقط عبر حاسة النظر. تجربة معايشتي المعمقة لمثل تلك الأماكن جعلتنني أعيد النظر في رؤيتي للعمارة. بعيداً عن فكر ومفاهيم الحداثة علماني المنهج الذي يتعامل مع البشر كما الأنعام.

أدهشتني في تصميم تلك الأضرحة بسيطة المظهر المتواضعة في مواد تشييدها تشابه بينها وبين مثيلاتها في عصور ضاربة في القدم. فهي في كلا الحالتين تراهن على خصائص معمارية أساسية تهدف لتكثيف الإحساس الوجداني الروحاني. من خلال معالجات فضائية وأخري لا تقل أهمية. من أهمها شكل المبني المكعب مريع الخارطة والقبة التي تتوجه. كلها تكثف الاهتمام تلفت النظر لمركزه الذي يحتله تابوت الشيخ. يكثف الإحساس الروحاني هنا صغر مساحة تلك الأضرحة. الذي يجعلها تضم من هم في داخلها معاً فتغمرهم بإحساس طاغي بالحميمية والامان النفسي هو غاية ما يتمنونه. هناك جانب أخر مهم في تصميم الضريح هو انعدام أو صغر مساحة النوافذ. خاصية تمنحه أجواء من العتمة ترفع من درجة التركيز الروحاني. تقلل أيضاً من التهوية فتتيح المجال لعبق البخور المتصاعد ليتسيد الموقف. يضيف مؤثرات تناجي حاسة الشم فترفع من دراما المكان. تعززها أخري تراهن على حاسة اللمس عبر الأرضية المفروشة بالرمال. تلامسها برفق أرجل رواد الضريح الحفاء فتحرك فيهم مشاعر سامية تحلق بأحاسيسهم في هذا الموقف المهيب. من خلال هذه المؤثرات متنوعة الأشكال يتسرب روح المكان فيغمر نفوس مرتاديه ليرتقي بها إلي أعلي درجات الوجد الصوفي. فهل يا تري ينتبه المصمم الحديث ويرتفع بإعماله ليلامس تلك الحواس بنفس الدرجة من الحساسية. هل سيفعل ذلك عندما يصمم ضريح لمجموعات ريفية أو حضرية تحمل نفس السمات. أم سيجنح لحلول نهج الحداثة الذي يتعامل مع العمارة من خلال أبعادها المادية الملموسة الدنيوية.

التجوال داخل الضريح لا بد أن ينقلنا لعمارته الخارجية. لنتوقف عند ظاهرة التجديد والتحديث عندما تتعامل مع حالات تقليدية الطابع. مثل حالة ضريح الشيخ حمد النيل الاستثنائية التي تجسد مشروعاً محفوفاً بالتحديات. كنت اثمني أن يستعان في أعمال زخرفته الخارجية بمن هم من خارج منظومة المعماريين. في حالة يتخلى فيها المعماري مرة عن ظاهرة النرجسية المسيطرة عليه. فيتبني فكرة التهديف من خارج الصندوق لإحراز أهداف تاريخية. فيفكر في الاستعانة بفنان تشكيلي للتعامل مع هذا الجانب. في هذا السياق يقفز إلى ذهني الأخ الحبيب التشكيلي العبقري المتميز محمد عبد الله عتيبي. أطوف في رحاب أعماله التشكيلية التي ينثرها في فضاءات الفيس بوك فتبحر بي في عوالم خيالية متماسكة الأركان في منتهي الروعة. لو كان الأمر بيدي لأوكلت له أمر زخرفة واجهات تلك الأضرحة في إطار مشروع تجديدها وتحديثها. لو أتيحت له الفرصة لحلق بها في أجرام ومجرات الفضاءات الصوفية الرحبة مقدماً مشروعاً تجديدياً قمة في التعبير. عبر ذلك الإنجاز سيدخل البهجة والسرور في نفوس البسطاء الذين يتحلقون حول الضريح يتمسحون بأعتابه. المهم جداً هنا أيضاً أنه سيجعل منظر الضريح يرسم من على البعد خلفية مذهلة للحركة المصطخبة في ساحة الحضرة الخارجية. متسقة تماماً متماهيةً مع أزياء الدراويش متنوعة زاهية الألوان.

لا يمكن أن نختم هذه المقالة بدون بضع كلمات طيبات عن الصروح الضلع الثالث للثالوث المكمل للأضرحة والمزارات. تلك المنظومة الرائعة من المباني العبادية المترعة بالأحاسيس   الروحانية والوطنية في هذه الحالة الثالثة. كنت قد أوفيت هذا المكون الكثير من حقه من قبل. في إطار مقالة مطولة معنية بشكل عام بموضوع التصميم الحضري الذي يحتضنه كواحد من أهم عناصره. عنوانها: مكوت التصميم الحضري عندنا طفل لقيط مجهول الأبوين. وجدت                                            طريقها إلى مدونتي في الفيس بوك والوصول إليها عبر الرابط- drhashimk.com. أعتقد أنها نشرت أيضاً في رحاب منصة أل LinkedIn. تناولت فيها عدة مواضيع تمحورت كلها في أهمية الصروح كمكون حضري أساسي. في هذا السياق أذكر لأنني أشرت إلى أهمية استلهام أو استيعاب التراث كمرجعية أساسية في أفكار مشاريعها. في إطار هذا المقترح وجدتها فرصة ممتازة. للترويج لمفاهيم جديدة مهدت الطريق للتواصل الأريب السلس مع عالم التراث. عبر المدرسة والطراز المعماري المعروف باسم الكلاسيكية الراجعة. الذي ولد في كنف توجه ما بعد الحداثة الذي ظهر وسطع نجمه في الغرب خلال العقود الماضية. تميز نهج تلك المدرسة بأنه يمهد الطريق للتواصل مع التراث الضارب في القدم والقديم. بطرق وأساليب لا تلجأ للنقل الحرفي الذي يخصم من أهم قيم العمل الإبداعي. بذلك تمهد الطريق لتتعامل مع تحديات المشروعات تراثية الطابع. مثل الأضرحة والمزارات والصروح موضوع هذه المقالة.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

مجمع أمدرمان-يوليو2021

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.