fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

ديار الرحل وخيامهم : حالة الهدندوة

جنيت الكثير المفيد الخطر من خلال فترة التحضير لدرجة الدكتوراه في العمارة خلال ثمانينات القرن الماضي بجامعة إدنبرا بالمملكة المتحدة. مررت وعايشت العديد من التجارب استفدت منها للغاية ووسعت مداركي بشكل مقدر مؤثر. غيرت تلك الفترة العديد من مفاهيمي الأساسية. أحسب أنها جعلتني أكثر مقدرة على استيعاب العمل المعماري بدرجة معقولة من العمق. المفترض أنها جعلتني أكثر تأهيلاً لإنتاج عمارة ذات قيمة عالية. والله أعلم.

ضربة البداية كانت الكلية التي سجلت فيها لعمل الدراسة. في البدء أشير لأن جامعة إدنبرا كانت زمان إذ الثانية في بريطانيا بعد جامعة أكسفورد وكمبريدج اللتان كانتا تحتلان معاً المركز الأول. درست هناك وتخرجت في كلية الدراسات المجتمعية مما يدلل على علاقة هذا التخصص بمجال العمارة. انتماءات العمارة تتنوع وتختلف من بلد إلى أخر وإلى أكثر من جهة داخل نفس البلد. الوضع السائد أن تكون جزء من كلية الهندسة. في بعض حالات في بريطانيا تتبع لكلية الآداب. في جامعة الإسكندرية ملحقة بكلية الفنون. وفي جامعة إدنبرا حيث حضرت لدرجة الدكتوراه نلتها من كلية الدراسات المجتمعية.

تطور الأمر في العقود الماضية فأخذ أبعاداً جديدة. زالت الحواجز الوهمية والمصطنعة التي كانت تفصل بين ضروب المعرفة وتخصصاتها المتعددة. بدأت هذه الظاهرة أول مرة على مستوى الدراسات العليا في شكل مجالات ذات طابع هجين. مثل علم النفس البيئي ال environmental psychology وعلم الاجتماع الحضري urban sociology. من فوائد مثل هذه الدراسات أنها تساعد على تنمية فهم معمق للعمارة. فوائدها من الناحية الفكرية تتجسد في فتح المجال للتعامل مع بعض التحديات المفاهيمية. مثل تلك التي ارتبطت بمآزق فكر وعمارة الحداثة في الغرب الأوربي في سبعينيات القرن الماضي.  

تحدث كل تلك التطورات من حولنا في العالم الغربي بدون تفاعل ملموس من جانبنا. محتوى ومضمون مقررات تدريس العمارة على مستوى البكالوريوس لا زال يراوح مكانه. تعددت الكليات وتضاعفت أقسام العمارة بلا تغيير يذكر. المناهج الجديدة منقولة من سابقاتها مع بعض تحريف لتجميل الصورة. الدراسات العليا لم تحدث تغييراً يذكر لسبب بسيط أن المشرفون عليها وأساتذتها هم نفس الأطقم التي درست الطلاب في مرحلة البكالوريوس. كثيراً ما يشتكي الطلاب بأنهم في أغلب الحالات لم يحسوا بإضافات تذكر. غالباً ما يكون المكسب الوحيد ورقة أو شهادة إضافية يستحق عليها الواحد منهم علاوة بضع دريهمات تضاف لراتبه.

نعود مرة لحالتي الخاصة. أعتقد أنني استفدت كثيراً من انتمائي ودراستي في مرحلة الدكتوراه بكلية الدراسات المجتمعية بجامعة أدنبرا.  نقلتني لعالم مدهش لم تتطاه قدامى من قبل نسبة للفهم المحدود لعلم العمارة في بلادي وهو قصور لا زلنا نعانى منه حتى الآن. أعتقد أن دراستي هناك كانت هي البداية الصحيحة والحقة لفهم العمارة. أعانني هناك منذ البداية أستاذي البروفيسور بارى ويلسون وقد كان زمان إذ من أميز المفكرين في الغرب. تبنى توجه مفاهيم فكرية مؤسسة على وعى إنساني معمق. انجذبت لطريقته وشدتني فصرت واحداً من حوارييه أو حيرانه كما نُعرفها نحن بلغة المتصوفة السودانيين.  

بدأت دراستي هناك بالتأسيس لقاعدة معرفية فكرية استمدت منابعها من لدن طائفة من ضروب العلوم الإنسانية. فطفقت أتلمس طريقي في دهاليز دروب معارفها.  متنقلا بين التوجهات المتعددة في الدراسات المجتمعية والإنسانية- الأنثروبولوجي- والنفسية وما إلى ذلك من ضروب الدراسات الإنسانية the Humanities.  فاكتسبت خلفية زاخرة التنوع دعتني بشكل ملح لأعاده النظر في فهمي للعمارة. وظفت هذا الموقف لصالح عملي في رسالة الدكتوراه. التي أظن أنها شكلت بعضاَ من اختراق في هذا المجال على الأقل على المستوى النظري المفاهيمى.

حاولت أن أطبق مواقفي الفلسفية والمفاهيمية الجديدة عل أرض الواقع باختياري لحالات دراسية بمواصفات محددة. كان هدفي الأساسي منذ البداية أن أؤسس لفهم معمق عن أبعاد العمارة الإنسانية human aspects of architecture. فقررت التركيز على أبعاد محددة مثل تلك المعنية بالجوانب الثقافية والمجتمعية والنفسية والروحية. بعد عمليات بحث وتنقيب واسع ومعمق هداني تفكيري لأن أركز على دراسة حالات الرحل من اهل بلادي. اكتشفت أن عمارتهم المتنقلة التلقائية هي الأكثر تعبيراً عنهم. فهم في حياة الترحال يكونون بمنأى عن سطوة سلطات الجهات الرسمية. فتكون جل القرارات الخاصة بنظام سكنهم المتنقل مصدرها موجهات ثقافتهم المحلية.

حملت تلك القناعات بين جوانحي وتوجهت بها لأجراء العديد من الدراسات الميدانية. استهدفت مجموعات قبلية من أهل بلادي تقيمان أو بالأخرى تهيمان معاً بمنطقة بشرق السودان. هداني تفكيري بأن أجعل دراستي هناك ذات طابع مقارن. فاخترت مجموعتين قبليتين متباينتين في نهجهما وتوجهاتهما تقيمان معاً في نفس المنطقة وهما قبيلتي الهدندوة البجا والرشايدة. وفرت لي هذه التجربة فرصة ذهبية لفحص دور الثقافة المحلية المؤثر في تشكيل العمارة بكل مكوناتها وتفاصيلها. أعتقد أنه من واقع مخرجات بحوثي كان قراراً موفقاً للغاية.  

انخرطت في دراسات ميدانية مكثفة أسستها على معرفة معمقة بكافة جوانب حياة تلك المجموعتين وثقافتهم المحلية. درستهم ميدانياً خلال فترة امتدت لعدة سنوات عشت فيها معهم في حلهم وترحالهم. تعمقت في أسلوب حياتهم وهم يجوبون بواديهم المقفرة محدودة الموارد. دراستي عن قرب لنظام سكنهم المتنقل شملت كافة جوانبه ومستوياته. بداءً بنهج اختيارهم لمواقع تخييمهم وهم يرتحلون في تلك الفضاءات الرحيبة وهو أمر بالغ الأهمية. مروراً بنمط تخطيط مخيماتهم وتوزيع الخيام فيها. إنتقالاً لنوع الخيمة وإنتهاءً بتصميمها الداخلي ونوعية الأثاث داخله. بعض ملاحظاتي المهمة دعتني لاستيعاب زي المرأة القبلي في دائرة اهتماماتي.

استعراض مستويات وجوانب نظام سكن المجموعتين المتنقل يجب إلا يتم بمعزل عن خلفياتها ومسبباتها. من المهم أن نضعها في إطار نهج حياتهم بكل جوانبه المتعددة بما في ذلك سماتهم الشخصية وتركيبتهم النفسية. من أهم الجوانب هنا مكونات ثقافتهم المحلية وعلى رأسها القيم والاعراف والتقاليد. الخلفية التي اكتسبتها بدراساتي الموسعة المعمقة في مجالات العلوم الإنسانية مكنتني بدرجة معقولة من النجاح في التعامل مع هذه الجوانب. وظفتها فكانت لي خير معين في وضع مكونات نظام سكنهم في إطار نهج حياتهم وثقافتهم المحلية.

الموضوع كبير ومستويات ومكونات نظام السكن المتنقل متعددة. بالإضافة إلى ذلك المقارنة بين نظام القبيلتين مع تحديد دوافع كل واحد منها أمر يطول وصفه. من الصعوبة تغطية كل تلك الجوانب في إطار المساحة المحدودة المخصصة لهذا المبحث. لهذه الأسباب مجتمعة قررت أن أركز على جانب محدد هو خيمة واحدة من القبيلتين وهي الهدندوة. بما أنه من الصعب تناولها بمعزل عن إطارها العام وهو نظام سكنهم المتكامل قررت أن أستعرضها كجزء منه.

من الملاحظ أن مجموعات الهدندوة وهي في حالة ارتحالها تختار مواقع بمواصفات محددة. تفضل دائماً الأماكن النائية البعيدة عن المسارات المطروقة لكأنهم يحاولون تفادى الاختلاط بالغرباء. هذا التفسير تعززه ظاهرة مهمة وهي اختيارهم في حالات كثيرة لمواقع داخل غابة موحشة أو خلف جبل. مثل هذه الخيارات تدل على رغبة في الاختباء. استعراضنا لاحقاً لنوع خيمتهم سيوضح أن تصميمها يهدف لتحقيق نفس تلك الأهداف. ما أشرنا إليه هنا يبدو متسقاً مع الانطباع العام عن هذه المجموعة القبلية التي توصف إلى حد ما بأنها انطوائية.

يرتحل الهدندوة في مجموعات يشار لأفرادها ببطن القبيلة إذ يتحدرون من جدة أو جد واحدة جمعت بينهم قبل عدة أجيال مضت. يعيشون كجسم واحد في نمط حياة تتميز بأعلى درجات التكافل. يتعاونون معاً بشكل جماعي في إنجاز العديد من المهام. يظهر نفس نسق التكافل في استهلاكم لبعض مواردهم مثل الطعام الذي يتناولونه كمجموعات. يتجلى ذلك بشكل واضح في مجتمع الذكور عند تواجدهم معاً في الأماكن المجتمعية الخاصة بهم. مثل الخلوة المخصصة للأطفال ومظلات الصبية والشباب وشجرة الضيوف التي يتجمع فيها الكهول.

خيام أسر المجموعة المرتحلة تكون مبعثرة بشكل متباعد في منطقة فريقهم. تتكرر هذه الظاهرة مراراً وتكراراً بالرغم من العلاقة القوية التي تربط بين أسره. ينطبق هذا الأمر على أقرب الأقربين منهم فخيام أسر الأخوة والتوائم تفصل بينها مسافة تصل لعشرة أمتار وقد تزيد. هذا التباعد لا يعكس الصورة الحقيقية لعلاقات الفريق الأسرية التي تجمع بينها روابط وشيجة للغاية مترعة الحميمية. أساسها ولحمتها نظام حياة يتمحور في أماكن مجتمعية موزعة بعيداً عن خيام الأسر. بعضها موضعه في مقدمة الفريق وأخرى تحيط به. أهمية تلك الأماكن ناتجة عن استضافتها لأبنائهم الذكور في عدد من مراحل حياتهم ارتهانا لقيم بالغة الأهمية.

من أهم أسباب تباعد خيام أسر العائلات قريبة الصلة ببعضها البعض هو القيمة العالية جداً لأمر خصوصية النساء. يعتبرونها من المقدسات إذ تقوم على فهم يحتل مكاناً بارزاً في منظومة قناعاتهم. لهم قناعة راسخة بأن المرأة كائن ضعيف يسهل إستغوائه عليه يجب على المجتمع أن يحمل على حمايته بشتى السبل. واحد من أهم هذه السبل هو المباعدة بين النساء والرجال حتى لو كانوا من أقرب المقربين لهم. العديد من عاداتهم وتقاليدهم بالإضافة لعدة ترتيبات في نظام سكنهم المتنقل تسعى لذلك بشتى الطرق. سنعرض لها في سياق تداعى فقرات هذا المبحث وسنبدأ بتصميم خيامهم.

الواضح كما أشرنا من قبل أن تباعد خيام الفريق قصد منه توفير أعلى درجات الخصوصية للأسر بداخلها. عززوا هذا الأجراء بجانب مهم في تصميم الخيمة وهو محدودية فتحاتها. الفتحة الوحيدة المستمرة توجد في أسفل غطاء الخيمة عبارة عن شريط إن وجد لا يزيد ارتفاعه عن عشرة سنتمترات عن سطح الأرض. نوعية هذه الفتحة تحد كثيراً من التهوية التي هم في أمس الحوجة لها لمواجهة طقسهم الحار. مدخل الخيمة الذي كان يمكن يكون متنفساً يسمح بالتهوية طبق عليه نفس القانون ففتحته صغيرة وارتفاعه قد يقل عن المتر. الواضح أن انخفاض الفتحة قصد منها تأمين مزيد من الخصوصية داخل الخيمة. أمره مقنع إذا عرفنا أن ارتفاع السرير مقارب لمستوى تلك الفتحة.    

 من الإجراءات التي قصد بها تحقيق أكبر قدر من الخصوصية للنساء في خيامهم في منطقة الفريق الوسطى هي إبعاد الرجال منها بقدر الإمكان. تتم هذا العملية منذ سن باكرة لهذه الشريحة المجتمعية. من أساسيات تربيتهم أن الأطفال الذكور يفارقون أمهاتهم وخيام أسرهم وهم بعد في سن الخامسة. يقضون باقي مراحل حياتهم يتنقلون مع أقرانهم وأترابهم الذكور من مكان مجتمعي إلى أخر. لا يعود الواحد منهم لمنطقة خيام الاسر إلا عند زواجه حيث تخصص له خيمة هو وزوجته. تواجده في منطقة الخيام مقنن. يخرج منها عادة قبل شروق الشمس ويعود بعد غروبها بذلك يسمح للنساء هناك بالتمتع بخصوصيتهن طوال ساعات النهار.   

من أهم تلك الأماكن المجتمعية الخلوة التي تستضيف طفل الأسرة مع باقي أطفال الفريق. من أهم أسس التربية عندهم أن يبارح حضن أمه وخيمتها في سن مبكرة لكي يشب على نهج ينمى فيه نزعة الرجولة. عندما يخطو نحو سن البلوغ ينضم لأحد مجموعات الفريق مع صبية أكبر منه سناً. يقيم معهم في واحدة من (رواكيب) مظلات محمية جزئياً موزعة في مواقع بعيدة في أطراف الفريق. يتعلم منهم ومعهم الكثير عن ثقافة وتاريخ القبيلة وعن فنون الدفاع عن النفس والقتال. يفارق الروكيب عند زواجه فيرحل لخيمته مع بقية الأسر. إذ شاخ وتقدم به العمر انتقل ليقضى نهاراته تحت شجرة الضيوف ليستقبلهم ويؤانسهم.

أهمية هذه الأماكن المجتمعية أنها مؤسسة على قيم القبيلة السامية. لها دور تربوي أساسي للصغار والناشئة. كما أنها تربى الصبية على القيم الفاضلة في إطار مفاهيم ثقافة قبيلتهم. تشحنهم بروح الرجولة في مجتمع تحيط به الاخطار من كل جانب. من أهم منافع هذه الأماكن المجتمعية هي أنها تقوم على روح التكافل. إذ أن أطفال وشباب الفريق الذين يقيمون فيها يتناولون وجباتهم هناك معاً مما ترسله لهم أسرهم. يتداعى هذا النهج فينطبق عل ما يجرى تحت شجرة الضيوف. يتم استقبالهم بمن تواجد هناك من رجال الفريق ويطعمون بما توفر مما تجود به أسره. فيرفع ذلك النهج الحرج من الأسر المضيفة رقيقة الحال.

أدوار الأماكن المجتمعية كما ذكرنا موجهة لخدمة عدد من الاهداف النبيلة الأساسية. يجب أن نضيف إليها هدف أخر بالغ الأهمية. مجتمع الهدندوة يضع خصوصية نسائهم على رأس الأولويات. العديد من الترتيبات موجه للتعامل مع هذا الأمر على رأسها عدة جوانب من نظام سكنهم المتنقل. واحد من أهمها الأماكن المجتمعية التي تستوعب الصبية والفتيان. بذلك تساهم في إبعادهم من منطقة الخيام المخصصة للنساء والأسر. الهدندوة يغالون في هذا الأمر. كما أشرنا لذلك من قبل أرباب الأسر من الأزواج من المفترض أن لا يتواجدوا في تلك المنطقة طوال ساعات النهار. بذلك يتيحوا الفرص للنساء للتجول بحرية هناك.

ينظر الهدندوة لخصوصية المرأة والأسرة بدرجة عالية من القدسية. يتعاملون معه على أسس تربوية تتعدى مسألة الفصل بين الجنسين. فإبعاد ناشئة الأسرة من خيمة والديهم واستيعابهم في مكان أخر في الفريق يطبق على الأولاد والبنات معاً. أشرنا من قبل للترتيبات الخاصة بالأولاد. البنت تستضاف عادة مع قريبة لها أرملة كبيرة في السن تقيم بقرب خيمة أسرتها. تعلمها هناك من واقع خبرتها الطويلة الكثير من خبايا مطلوبات حياتها المستقبلية. أهمية هذه المرحلة الحساسة نابعة من أنها تعدها للعب دورها في الأسرة والمجتمع. أدبياتهم تحرص على ألا تكتسب مثل تلك المعرفة بالتلصص على حياة والديها الحميمة فتقلل من احترامها لهم.

الكثير من مما أوردناه هنا عن ثقافة وحياة الهدندوة البجا ينعكس بشكل أو أخر على تصميم خيامهم. نستشفه من شكلها العام ومن اختيار مواد غطائها. نستدل عليه من أبعادها ومساحتها. نوعية ونظام فتحاتها تكمل الصورة وتشي لنا أيضاً بالكثير من المؤشرات. يدخل في هذا السياق نظام الخيمة الإنشائي سيقان الأشجار وأفرعها التي تحمل غطاء وعرش الخيمة. يتضح لنا أيضاً تأثير جوانب من ثقافتهم المحلية في تصميمها الداخلي ونوعية أثاثاهم. يتداعى نسق زي المرأة القبلي ليجد له مكاناً في هذه المنظومة المتكاملة.

عند استعراضنا لنهج الهدندوة الرحل في اختيار مواقع تخييمهم أشرنا أنه يشي برغبة في الاختباء. ملامح من تصميم خيامهم تبدو معززةً لهذه الرغبة. شكل الخيمة أقرب للنصف كروي وبدقة أكثر أشبه بالمركب المقلوب مما يجعلها تكاد تختفي وسط الكثبان الصغيرة المحيطة بها. لونها يكمل الرسالة. غطائها أطوال من (البروش) المجدولة من سعف نخيل الدوم الذي يمنحها اللون البيج المشابه للون الأرض من حولها. الواضح هنا أن هذا اللون بالإضافة لشكل الخيمة يساعدان معاً في اختفائها وسط إطارها الطبيعي. فتكون هذه الجزئيات التصميمة متسقة تماماً مع أهداف توجه اختيار مواقع التخييم التي أشرنا إليها من قبل.

الواضح هنا أن اختيار مواد الخيمة جاء ملبياً لرغبتهم في محاولة إخفائها. هذا الاختيار ملائمُ لمناخاتهم الحارة وتصميم خيمتهم. أشرنا من قبل أن تقليل فتحاتها لدواعي المحافظة على الخصوصية يحد من التهوية داخلها وهم في أمس الحوجة لها لتلطيف الجو. جوانب من تصميمها تساهم بشكل مؤثر في حل هذه المشكلة. لون غطائها البيج الفاتح وملمسه الناعم يساعد كثيراً على عكس أشعة الشمس فيقلل من درجة امتصاص حرارتها. مثل هذه الشواهد تدلل على عبقرية تصميم خيمتهم التي تتعامل مع عدد من التحديات عبر حل مدمج واحد.

الهدندوة يعتبرون خيمة الأسرة مكان بالغ التقديس. الوصول إليه والدخول فيه أمر غاية في الصعوبة حتى بالنسبة لأصحابه وقاطنيه. من محاسن الصدف أنه كما ذكرنا من قبل أن ضوابط ثقافتهم المحلية استبعدت عدة شرائح من الأسرة من خيمتها. بالإضافة إلى ذلك هم لا يشجعون ويسهلون أمر التواجد فيها حتى لأقرب الأقربين. يتبعون أساليب ذكية وعدة إجراءات تصميمية لتحقيق هذه الأهداف. منها شكل الخيمة وأبعادها ومقاساتها. ونوع مدخلها. يضاف إلى ذلك نظامها الإنشائي المكون من أطوال من سيقان وأفرع الأشجار التي تحمل غطائها. تكتمل الصورة بنوعية الأثاث المستخدم داخلها.

اختيار شكل الخيمة الشبه بيضاوئى هو واحد من أهم الطرق للحد من المساحة المتاحة داخلها. انخفاض العرش في أطرافها الداخلية يحد كثيراً من الحركة بذلك تصبح المساحة المتاحة محدودة جداً. بالطبع هناك عدة خيارات كانت متاحة للاختيار منها مثل الشكل المكعب. الواضح أن هذه المجموعة القبلية اختارت هذا الشكل لأنهم وحسب قيمهم يراعى تقاليدهم التي تعتبر خيمة الأسرة مكان بالغ القدسية. عليه تم تصميمها بشكل يحافظ على قدسيتها بإرسال مؤشرات تصد الناس وتحد من عدد الذي يمكن استضافتهم داخلها.  

الواضح أن نظام الخيمة الإنشائي مسخر هنا بأكثر من طريقة لخدمة أهداف مؤسسة على قيمهم. النظام الإنشائي هي تلك العناصر التي تحمل عرش الخيمة ومكونة من مجموعة من سيقان وأفرع أشجار. بعضها رأسي وهو شبيه بالأعمدة والأخرى مقوسة وتعمل مثل الأبيام. نلاحظ هنا أنها موظفة لتحقيق أهداف أخرى بالإضافة لدورها الأساسي هو حمل عرش الخيمة. التأمل فيها يوضح ذكاء هؤلاء القوم. بالرغم من ذلك وللأسف الشديد نجد الكثيرون منا يرمقون عمارتهم البسيطة المظهر بنظرة ازدراء تقلل كثيراً من شانها.

خيم الهدندوة بيضاوية الخارطة صغيرة المساحة طولها لا يصل لأربعة أمتار وعرضه في حدود الثلاثة. عرشها خفيف فهو أطوال من البرش المنسوج من زعف أشجار الدوم. محمول على شبكة من سيقان وأفرع الأشجار بعضها أفقي وأحيناً مائل قليلاً وتعمل كالأعمدة. بعضها الأخر مقوس نوعاً ما وهو أشبه بالأبيام. تعمل كلها كعناصر إنشائية ويشار إليها مجتمعة بالنظام الإنشائي. قياساً بصغر مساحة الخيمة وخفة غطائها المفترض أن يكون نظامها الإنشائي بسيط للغاية. بضع سيقان أشجار نحيفة مقوسة تكفي لحمل العرش الخفيف.  لكن الواقع مختلف تماماً فخيمتهم تزدحم بعدد مقدر من الأعمدة. هناك أكثر من تبرير سنشير إليه لاحقاً.

نلاحظ ذلك الازدحام داخل الخيمة. تحديداً الجزء الأمامي هو الأصغر وهو مخصص لربة البيت وفيه تقوم بأداء مهامها المنزلية واستقبال ضيوفها. تحتله فرشة على الأرض تقوم فيها بكل تلك المهام. أشرنا من قبل لمحدودية المساحة الداخلية نسبة لشكل الخيمة النصف بيضاوي. يزيد من ضيق المكان وجود عدد من الأعمدة التي تثبت عليها الشبكة الحاملة للعرش. ذكرنا من قبل أنه كان يمكن الاستعاضة عنها بحلول إنشائية أخرى تستغنى عن هذه الأعمدة. الواضح هنا أن تصميم الخيمة الداخلي قصد منه تفادى تواجد عدد كبير داخلها. كل ذلك هو مؤشر لاهتمامهم بتوفر أعلى درجة من الخصوصية هنا.  

 لنبدأ بالنظر إلى واحد من تلك العناصر الإنشائية لأنه يشكل حالة جديرة بالاهتمام. عنصر أساسي من النوع المقوس ساق شجرة نحيف يحمل الشبكة التي يثبت عليها غطاء الخيمة. يعبرها منطلقاً من خط تنصيفها الطولي. الجزء الأمامي مثبت على الأرض في منتصف مدخل الخيمة. يرتفع ليعبر فضائها ويهبط مرة أخر ليثبت خلف منطقة السرير الخلفية.  المحير في الأمر هو تثبيته في منتصف المدخل بشكل يعوق ويعترض حركة الدخول. كان بالإمكان تفادى هذا الأمر بالاستعانة بعنصرين يثبتان على جانبي المدخل. هؤلاء القوم هم في غاية الذكاء، فهذا الترتيب هو إشارة سالبة وطاردة لمن يريد التطفل ودخول الخيمة.

تصميم الخيمة الداخلي يحد من استضافة الناس داخلها. تتكون من جزء أمامي عبارة عن مساحة صغيرة تؤدى فيه ربة الدار واجباتها المنزلية وتستقبل فيه ضيوفها وجلهم من جاراتها من أقرب الأقربين. هناك عناصر تحد من استخدام هذا الجزء. مثبتة في وسطه عدة أعمدة خشبية تحمل الشبكة التي يوضع عليها غطاء الخيمة. أشرنا من قبل إلى أنه كان بالإمكان الاستغناء عنها. قياساً بمساحتها الصغيرة يمكن حمل عرشها الخفيف على أعواد مقوسة. الواضح أن ميزة هذه الأعمدة أنها متوافقة مع قيمهم التي تضع قيوداً صارمة على زيارة هذا المكان عالي الخصوصية.  

الجزء الداخلي البعيد من مدخل الخيمة وهو الأكبر يحتله سرير كبير مرتفع. هو عبارة عن سطح من عصى صغيرة متجاورة مربوطة مع بعضها البعض تغطيه قطع قماش. عرش الجزء الداخلي الذي يحتله السرير مرتفع نسبة لشكل الخيمة المحدودب. احتلال السرير للجزء الأكبر من الخيمة يدل على رغبة في الحد من استقبال ضيوف داخلها. الوضع الطبيعي في هذه الحالة أن تكون منطقة الاستقبال هي الأكبر. 

هناك عدة خطوات تصميمية قصد منها تأمين أكبر قدر من الخصوصية لمنطقة السرير. ارتفاعه من الأرض يبلغ أحيناً قرابة المتر. هذه الجزئية يجب النظر إليها في إطار تصميم الخيمة ككل. تحديداً مستوى فتحة المدخل التي تقل أحياناً عن ارتفاع السرير. هذه التفاصيل تعزز من تأمين الخصوصية في هذا المكان. تصعب من مهمة التلصص واستراق النظر لمن هم خارج الخيمة. عدة جوانب أخرى مكرسة لتأمين خصوصية هذا الجزء الذي اكتسب درجة من القدسية.

 الجزء الخاص بالسرير وكافة أجزائه وتفاصيله عالم قائم بذاته. يكتسب أهميته الخاصة من اهتمام القبيلة المفرط بأمر خصوصية المرأة. يشبه في تصميمة والاهتمام الكبير به ذلك الجزء الداخلي الموجود في عمق المعبد الفرعوني المسمى بالمزار shrine. الذي يتم الوصول إليه بعد رحلة طويلة شاقة. الدخول إليه للمزار ممنوع إلا للفرعون الأعظم نفسه في صحبة كبار الكهنة. صغير جداً في حجمه لكنه كبير جداً في مغزاه. حاله هنا شبيه بسدرة المنتهى التي يتردد ذكرها في ثقافتنا وتراثنا العربي الإسلامي.

منطقة السرير داخل الخيمة معدة بشكل بالغ التميز يعكس قدسيته الفائقة بالنسبة لهم. تنهض وتتقاطع إحياناً في مقدمته عصى غليظة تحمل العرش بدون مبررات أو حوجة فعلية لها كما أشرنا لذلك من قبل. لكآنى بها موانع قصد منها صد من كل من تسول له بالدخول إليه ممن هم خارج إطار الزوج وزوجته وأطفالهم الصغار. في حالات كثيرة تثبت أسفل العرش عصا مقوسة تعلق منها ستارة من قماش صوفي لتنسدل وتفصل منطقة السرير عن باقي الخيمة. وجودها هنا يحد كثيراً من التهوية فيزيد من درجة الحرارة. لكن الواضح أنهم مستعدون دائماً للتضحية بالراحة الجسدية حفاظاً على أعلى درجات الخصوصية المقترنة بالقدسية. 

تقسم منطقة السرير بشكل واضح إلى قسمين أحدهم للزوج والثاني للزوجة. النظام المتبع يلزم أن كل واحد منه بالنوم في الجزء المخصص له. ينعكس التقسيم على الجزء الخلفي الداخلي للخيمة الذي تعلق عليه متعلقات كل طرف منهم. يضع الزوج متعلقاته في الجزء المخصص له وأهمها الأسلحة البيضاء من سيف وسكين وما شابه ذلك.  بالَإضافة لإناء (الودك) وهو نوع من الدهان المستخلص من اللبن يستخدمه ليدهن به شعره الغزير. تضع الزوجة متعلقاتها في الجزء الخاص بها وأهمها أدوات الزينة التجميل التقليدية محلية الصناعة.

إصرارهم على تقسيم منطقة السرير يعكس جانب مهم من ثقافتهم المحلية نلاحظه في الكثير من حياتهم. يتضح بشكل جلى في العديد جوانب نظام سكنهم المتنقل. لهم اهتمام خاص وحساسية بالغة بأمر النوع ال gender. فلسفتهم ونهجهم التربوي قائم بشكل كبير على التفرقة الواضحة بين الجنسين. جل جوانب حياتهم مكرسة لتحقيق هذا الهدف. يركزون بشكل خاص على تنشئة الأطفال والصبيان لكي يشبو فرسان مغاوير. مما يعنى دائماً ضرورة النئى بهم من مجتمعات البنات والنساء. عدد من أماكن فرقانهم المجتمعية المخصصة للذكور هي في الواقع مؤسسات تهدف لتحقيق مثل هذه الأهداف.

من أهم مظاهر روعة الثقافة المحلية لمثل هذه المجموعات التقليدية أن سمات بعض مكوناتها تكمل بعضها البعض. أستدل هنا بالإشارة للعلاقة بين تصميم خيمة الهدندوة وزي نسائهم القبلي. أشرت من قبل لمحدودية فتحات خيمتهم التي تقلل من التهوية داخلها فترفع درجة حرارتها. من ملامح عبقرية ثقافتهم أن تصميم زي نسائهم يتفاعل بذكاء مع مثل هذه التحديات. يتكون من قطعة ثياب واحدة طويلة. بعضها يلف بإحكام حول الجزء الأسفل من الجسم والباقي يستخدم بمرونة ليغطي الجزء الأعلى. إذ دخلت المرأة لخيمتها يمكن أن ترخى طرفه الأعلى فتسمح بتهوية جسمها. نلاحظ هنا التكامل والتناغم بين تصميم الزي والخيمة.

قصدنا ونحن نستعرض عمارة وتصميم خيمة الهدندوة أن نضعها في إطارها الكبير العام. نظرنا إليها من خلال خياراتهم وهم يجوبون البوادي وقيمناها في إطار تخطيط فرقانهم. انتقلنا بعد ذلك فتفحصنا عمارة خيمتهم بعناية فائقة. ثم دلفنا داخلها وعايشنا كل تفاصيل عمارتها الداخلية بما في ذلك نوعية أثاثها البسيط المعبر. اختتمنا سياحتنا بالتعرف على زي نسائهم القبلي فاكتشفنا سر علاقته بعمارة الخيمة الذي يعتبر مكملاً لها ومتناغم معها. في كل تلك الحالات رأينا العمارة منسجمة تماماً مع كل ما حولها وما بداخلها. هذه هي فقط لمحة من عظمة وعبقرية ثقافات أهل السودان المحلية بكافة قبائلهم وأطيافهم.

بدون أن أستأذنكم وخدمة لأغراض مبحثي هذا قمت بعملية أشبه بتلك التي يقوم بها المحلل النفسي وهو يعالج مريضه.  تعاملت مع خيمة الهدندوة وهي مضجعة ومسترخية في فضائها الرحيب ذاك كما يتعاملون مع مرضاهم الممددون في أريكتهم الشهيرة. استعنت بذخيرة معرفية مقدرة عن تلك القبيلة وظفتها كما يفعل المحلل النفسي بمخزونه العلمي الوفير. فتعاملت معها بحنكة حسب تقييمي للتجربة واستدرجتها وهي مضجعة في حالة إسترخاء ففضفضت وباحت لي بالكثير. فلململت إفاداتها المرسلة ونسجت منها مادة هذا المبحث.

أحسب أن تجربتي مع تلك المجموعة من قبيلة الهدندوة قد علمتني الكثير عن الدور المؤثر للثقافة في صناعة العمارة.  آمل أن يكون من خلال مبحثي هذا قد نالكم قيض من فيض. عودة أخرى لتجربة بحوثي التي أنجزتها لنيل درجة الدكتوراه. شكلت تجربتي مع هذه المجموعة القبلية وجه واحد للعملة. وجهها الأخر تجربة مماثلة مع مجموعة مرتحلة من قبيلة الرشايدة. كانتا تقيمان معاً جنباً لجنب في نفس المنطقة مما جعل بينهما العديد من القواسم المشتركة. لكن كانت تفرق بينها بشكل واضح الثقافة المحلية بكافة تفاصيلها. هذ الجانب وفر لي تجربة ثرية للغاية لدراسة مقارنة عن تأثير الثقافة على العمارة وهو أمر يطول شرحه.   

تغزلي في عمارة خيمة الهدندوة لا تعنى أننى أدعو لاستنساخها ونقلها بشكل حرفي لمدائننا. وجودها هناك لن يكون له معنى يذكر. مقصدي الأساسي من استعراضها هو لفت النظر لقيمتها العالية التي استمدتها من تجسيدها لمضامين وقيم ثقافتهم المحلية. دراساتي في إطار التحضير لدرجة الدكتوراه امتدت لتشمل واقع مجموعات الهدندوة في الإطار الحضري. اتساقا مع نهج الجهات الرسمية المعنية بالتعامل معهم لم تضع اعتبار يذكر لجوانب مؤثرة من ثقافتهم المحلية. أثبت كجزء من مخرجات دراستي عمق تأثير إشكاليات تجاهل هذا الجانب المهم.  

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان سبتمبر 2018

 

هذه المقالة هي واحدة من مقالات مضمنة في كتاب سيصدر قريباً من تأليف الدكتور هاشم خليفة عنوانه (بيوت السودان)

 

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.