fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

أحزان مجتمع المعماريين: يتوالى تساقط واحتراق النيازك والشهب

فقد مجتمع المعمارين خلال الثلث الأول من عام 2021 ثلاثة من ألمع نجومه. تباينت أعمارهم عندما ما رحلوا واختلفت إلى حد كبير خطوات وملامح مسيرتهم. إلا أنهم تشابهوا كلهم في أن كل واحد منهم ترك بصمة بائنة في مسيرة عمارتنا. هذا هو بالنسبة لي بناءً على معايير معتمدة هو بيت القصيد. لأن العمارة في الأساس في النهاية عمل إبداعي. مهما أجتهد الواحد منا يقاس كسبه بصرامة في النهاية بمقدار ما قدمه من إضافة جديدة ذات معني ومضمون متميز. يشكل نقطة تحول بارزة في مسيرة العمارة من حولنا. الثلاثة الذين سأشير لعطائهم بشكل مختصر قدموا حسب تقويمي من خلال بعض أعمالهم ما يستحق أن يشار إليه ويحتفي به. لأنه شكل ملامح فارقة في سياق عمارتنا. تفاوتت درجة معرفتي بهم وتعمقي في أعمالهم المتميزة. لكنها كانت في النهاية كافية لكي أخط هذه الأسطر عنهم.  التي كانت نتيجة لقربي من كل واحد منهم خلال التعامل معها وإنتاجها.

أول هؤلاء الثلاثة أكبرهم سناً هو المرحوم البروفيسور معماري عبد الله البشير محمد الخير عبد الله. الذي فارق دنيانا الفانية هو على أعتاب الثمانيات من عمره. بالرغم من روحه الشابة المتوثبة التي لمستها فيه قبل أشهر من مفارقته لنا. عبر محادثات هاتفية كان يعاني فيها من ويلات ذلك المرض الخبيث اللعين. تميز بنبوغ أكاديمي علمي لافت في كل مراحله الدراسية حتى مرحلة نيله لدرجة الدكتوراه.  بالإضافة لمقدرات فنية أصيلة عالية مشفوعة بإحساس مرهف وطبع شفيف أصيل. واضح أنه نابع من جينات مورثة فهو سليل مجاذيب بربر التي تربي في حضنها وحضنهم. بيئة امتزج فيها الإحساس الفني الأصيل بالوجد الصوفي الدفين في أسمي صوره. أنتجت حالات متفردة حاضنة لكافة أجناس الإبداع. التي أنتجت من قبل الشاعر العبقري الفنان الأستاذ محمد المهدي المجذوب خال وصهر المرحوم. عرفت البروفيسور عبد الله عن قرب خلال ثلاث فترات متباعدة أعتقد أنها أهلتني إلى حد معقول لكي أكتب عنه هذه الصفحات. التي تحكي للأسف عن شخصه أكثر مما تشئ عن عظمة إبداعه المعماري. لأسباب خارجة عن إرادته وإرادتي كما سأوضح لاحقاً.

كانت السانحة الأولي التي التقيت بها بالمرحوم بروفيسور عبد الله في فترة نهاية الستينيات و   بداية السبعينيات. عندما التحقت بقسم العمارة بوزارة الأشغال في بداية مسيرتي المعمارية. كان قد سبقني على هذا الدرب بعدة سنوات بعد تخرجه مع طلاب الدفعة الخامسة من قسم العمارة بجامعة الخرطوم في عام 1965. ليشكل مع أقرانه بالقسم في الوزارة حقبتئذٍ منظومة عقد فريد. رسمت ملامح عصر ذهبي لم يطول أجله للأسف الشديد لأسباب لا داعي لذكرها. منظومة كانت بقيادة عبقري زمانه المعماري الفذ المبدع المرحوم حامد الخواض الذي توفرت له كل خصال القيادة والريادة. أهلته لها بجدارة بداياته الموفقة إذ كان واحد من خمسة سودانيين هم أول من درس العمارة في الجامعات البريطانية. تبوأ هذا المنصب هو مفعم بالأفكار الجديدة. كان من حسن حظه أنها صادفت مرحلة في تاريخ السودان السياسي جاءت محمولة على أجنحة التغيير الثوري. حملت راياتها زمانئذٍ ثورة مايو التي أتت على أسنة الرماح والسلاح مبشرة بتغييرات إيجابية جوهرية. فوفرت له تلك الظروف الأجواء الملائمة ليطرح أفكاره الجديدة المتوافقة زمانئذِ مع الثورة الوليدة. المؤسسة على إعادة النظر في موروث من أفكار كانت هناك مبررات لمراجعتها. لكي تسمح لطموحات الثورة الجديدة أن تتمدد لتصل لأصقاع البلاد النائية تنشر فيها مشاريع التنمية الواعدة.

بدأ الباشمهندس حامد الخواض مسيرته هناك مبحرا بأشرعة تملاها تلك الطموحات النبيلة. كان بلا شك يبحث من بين أفراد كتيبته في قسم العمارة عمن يتوافق معه في الكثير من خصاله وتطلعاته. النباهة البالغة والطموح الوثاب والنظرة المفعمة بالإنسانية المحمولة على أجنحة إبداعية خفاقة. يبدو أنه لم يجد خيراً من ذلك الفتي حديث التخرج عبد الله البشير. الذي رشحته لهذه المهمة بعض عوامل مخبؤه بالإضافة لخصال أخري ملموسة. لها صلة بموطنهم المشترك في ذلك الجزء الشمالي من بلادنا المضجع على ضفة النهر. فكلاهما يتحدر من أسرة كان لأسلافها دور مقدر مؤثر في الحركة الصوفية. فالخواض لقب الباشمهندس حامد يرجع لكرامات اشتهر بها جده. أما عبد الله البشير فيرجع الفضل في هذا الجانب لجده الأكبر الشيخ الأشهر محمد الخير. الذي كان له دور مؤثر في انطلاقة واحد من أهم أبطالنا قادتنا المغاوير. المناضل الأكبر محمد أحمد المهدي موحد أهل السودان في حقبة تاريخية لم تتكرر بعد ذلك. الذي تلقي أول دروسه في خلوة جده التي كانت مركزاً مهماً للإشعاع الديني الروحي أوانئذٍ. مرحلة كانت بمثابة الجذوة الأولي للمهدي ممهدة الطريق لدعوته الراشدة. يبدو أن هذا الإرث المشترك كان واحد من الأسباب الخفية للتقارب بين رئيس قسم العمارة وذلك المعماري حديث التخرج. الذي لم يؤسس على نعرات قبلية عشائرية لكن على توافق في جوانب عديدة من شخصيتهما أشرت إليها من قبل. التي أسست لشراكة ذكية أدت لنجاحات ملموسة.

انطلقا معا في هذه الشراكة التي دشناها في إطار مشروع تنموي كبير كان يعتبر من أهم مشاريع الثورة حقبتئذ. هو مشروع الرهد الزراعي بشرق السودان. الذي ركز فيه ذلك الثنائي على الجانب السكني فحققا من خلاله اختراقاً مهما. حاولا فيه تجاوز موروث لم يعد له ما يبرره أمام تحديات طموحة لنهضة السودان في عهده الجديد. أسس على مراجعة الترهل في مساحات البيوت بدون مبرر مقنع. فقدما نماذج جديدة حاولت فنجحت في تجاوزه بمزيد من الترشيد بدون انتقاص من قيمة التصميم بشكل عام. قدما من خلالها في ذلك المشروع مثال جيد للدور المرتجى لقسم العمارة بوزارة الأشغال. الذي يعتبر من أهم أهداف الوزارة التي كانت حقبتئذٍ زاخرة بالكوادر المتميزة في عدد من تلك التخصصات الهندسية. فقدم الخواض في هذا المشروع مع شريكه المؤثر ذلك المعماري حديث التخرج عمل متميز للغاية. كان هذا الإنجاز بداية طيبة لذلك المعماري حديث التخرج الذي سار على نفس ذلك الدرب مقدماً الروائع المعمارية المتفردة.

أكسب هذا المشروع المعماري المتميز عبد الله البشير هو في أولي سنوات مسيرته في هذا الدرب ثقة متعاظمة بنفسه. فواصل عطائه هناك تابع خطاه من البعد رئيسه شريكه في ذلك المشروع الرائد المشار إليه هنا. ظللت أنا أراقبه من طرف خفي مفتتن بنمط تفكيره ومخرجاته المعمارية المدهشة. فرايته يقدم السهل الممتنع في سلاسة مذهلة. تتبعت بشغف عمله في مشروع مهم للغاية حقبتئذٍ هو دار البياطرة. موقعه على الجانب الشمالي قرب الطرف الغربي لشارع واحد بحي العمارات في الخرطوم. مبني صمم في شكل مجمع متعدد الاستخدامات. فيه مركز مؤتمرات مصغر مكمل لمبني إداري. في جزء أخر امتداد له نادي ملحق به جزء سكني فندقي الطابع أشبه ببيت الضيافة. مكونات موزعة بعناية فائقة حول فناء مٌخضِر أنيق. قدم فيه عبد الله البشير عمل معماري ممتاز مرتب متكامل. سطعت فيه عمارة الحداثة في بساطتها المعهودة مكتملة الأناقة والرشاقة. سمات متميزة لم تنتقص من أجواء الحميمية المرفرفة المطلوبة في مجمع مخصص لشريحة تجمع بينها مهنة واحدة. بالإضافة إلى ذلك جاء طابع العمارة متسقاً تماماً مع طراز حي العمارات. الذي قدم نفسه في تلك الحقبة الزمانية بثبات وثقة كأنموذج للحداثة بألقها الرزين ومحياها الأنيق الرشيق. بذلك نجح عبد الله البشير في أن يقدم نفسه من خلال هذا العمل هو في بداية مسيرته المعمارية لمجتمع العاصمة كمعماري يعتد به. قادر علي أن ينافس في ساحة حي العمارات الذي كان مخصص للنخب من المجتمع العاصمي.  

بالرغم من نجاحاته المبكرة في بداية السبعينات لم يحبس عبد البشير نفسه بين جدران قسم العمارة بوزارة الأشغال. قادته طموحاته لتجاوز أسوارها للتطلع لأفاق أرحب. خلال فترة كان فيها زملائه ينتشرون في أرجاء المدينة يتحسسون طريقهم بطموح في محاولة لوضع بصمنهم على مسيرة عمارتنا. مستشرفين أفاق جديدة مشرقة تؤرخ لعمارة الحداثة السودانية.  مضي عبد الله في هذا الدرب تسبقه سمعة أعماله في قسم العمارة في وزارة الأشغال. فاصطادته مجموعة من زملائه السابقين في قسم العمارة بالجامعة أسسوا لهم مكتباً استشاريا. فعززوا به صفوفهم استجاروا به في مسابقة مهمة للغاية شغلت المكاتب الاستشارية أوانئذٍ. كان لهم خير سند فوضع بصمته البائنة التي لا تخطئها العين التي ارتقت بمقترحهم إلى المركز الأول. لتدفع بمكتبهم لدرجة رفيعة عبر ذلك العمل المعماري. الذي سطع في موقع مهم مطل على النهر عند تقاطعه مع شارع المك نمر. مجمع متألق مكون من عدة أبراج تتراص تتنافس في محاولة لاستراق النظر للنهر المنساب أمامها تغازله من طرف خفي. عمارة حداثية الملامح والسمات نجح معهم بجهده المقدر المتميز في أن يمنحها مقبولية وحيوية تلائم ذائقتنا. إذ اتسمت معالجات واجهاتها بزخم ملمسي يغازل أشعة الشمس في غدوها ورواحها. جاء مفعوله غلي طراز عمارة الحداثة باردة السمات شبيه ببهار أضيف لطبق أوربي عالمي المذاق جعله مستساق لنا. لمسات مؤثرة علي عمارة حداثية الهوية جعلتها بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان لا زالت تنافس رصيفاتها في المدينة.

يبدو أن مثل هذه الأعمال كانت تؤرخ لنهاية شهر عسل قصير الأمد في مسيرة عبد البشير.  تجلي فيها عطائه في مجال التصميم المعماري. إذ اختطفته لاحقاً أحداث مهمة نأت به تدريجيا عن خضم الفعل والأبداع المعماري الصرف. تمت عبر عدة مراحل مفصلية متلاحقة. جاءت الأولي عند نهاية الستينيات من خلال دراسة في بريطانيا منحته الدبلوم العالي في علوم البناء. فكانت الخطوة الأولي التي نأت به عن مجال التصميم المعماري. الثانية جرت أحداثها في نفس تلك الديار البعيدة عن أرض الوطن التي ذهب إليها للاستزادة بمزيد من العلم بالتحضير لدرجة الدكتوراه. طبيعة دراسته هناك في النصف الثاني من السبعينيات خصمت منه أيضاً عدة سنوات من عمره المهني تحديداً مجال التصميم المعماري بمعناه العريض. عندما ذهبت به الأقدار مرة أخري لدراسة نأت به مرة أخري عن هذا المجال. إذ ارتمي مرة أخري في أحضان مجال العلوم مركزاً هذه المرة في جزئية من علوم العمارة معنية بمجال الصوتيات. عاد بعدها لبلاده مواصلاً العمل في التدريس بقسم العمارة في جامعة الخرطوم. لكن الأقدار استهدفته مرة أخري في بداية الثمانينيات. لتبعده من حياض الوطن وأحضان مجال التصميم المعماري. جعلته في حالة عزلة مزدوجة عميقة الأثر استمرت لعقدين من الزمان. إذ أستوعب خلالها بناءَ على تخصصه في قسم علوم العمارة في كلية هذه العمارة والتخطيط بجامعة الملك فيصل بالمملكة العربية السعودية. لمدة تطاولت ابتعد فيها عن مجال التصميم المعماري الذي تتفتق تتدفق فيه مقدراته الإبداعية.

عاد المرحوم لحياض الوطن مع مطلع عقد الألفية الأول ليلتحق بشكل متتابع بعدد من الجامعات الحكومية وشبه الخاصة. عاد ليجد الحال قد تغير تماماً لا يخلو من تدهور ملموس. بالذات لأمثاله من النوابغ الأفذاذ. التحاقه بواحد من تلك الجامعات أتاح لي فرصة بعد عدة عقود من الزمان للقرب منه. عندما عملنا سوياً بقسم العمارة بجامعة المغتربين في خواتيم عقد الألفية الأول. فتعرفت عليه خلال مرحلة دعته قناعاته الراسخة لاتخاذ مواقف متشددة مؤسسة على طبيعة تخصصه العلمي. الذي كان يتحيز له يكاد يعتبره المعيار الوحيد أو الأساسي للتعامل مع العمارة. قناعات راسخة الواضح أنها جاءت نتيجة لعملية غسيل مخ متراكمة. ولدتها دراسته في البدء على مستوي الدبلوم في علوم البناء. أعقبتها مرحلة تحضيره لدرجة الدكتوراه في مجال علوم العمارة. لتتوجها فترة عقدين من الزمان قضاها أستاذا في قسم علوم العمارة بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك فيصل. كانت نتيجتها موقف متشدد لغاية معارض للتيار العام الذي يتبناه زملائه الأخرين. ذهب في ذلك المنحى إلي أقصي مدي بتبنيه لموقف متطرف مناوي للكثير من قناعاتنا الراسخة. كنت دائما أشعر بأسي لأن تخصصاته العلمية البحتة قد اختطفته منا. في وقت كنا فيه نحن نعاني من حالة الجدب المعماري في أمس الحاجة لإحساسه الفني العالي وفهمه العميق للعمارة. لتجاوز واقعنا الأليم بنفس الإحساس والأسلوب الذي طالما أدهشنا به خلال سني مسيرته المعمارية الأولي.

لم يكن حظ بروفيسور عبد الله أوفر في مجال الاستشارات الهندسية مما ناله في مجال التدريس بعد عودته من رحلة الاغتراب. نتيجة لظروف متعددة مرت بها البلاد كانت لها انعكاسات سالبة مؤثرة منذ بداية الألفية الثانية من أهمها تدهور الوضع الاقتصادي. بالإضافة لسيطرة النظام الحاكم علي مفاصل العمل الاستشاري عبر مكاتب وجهات محددة تابعة له. رفعت في النهاية من شأن أقزام تعاملوا بمستوي ضحل مع مشاريع بالغة الأهمية. مما ساهم للأسف الشديد وأدي لشكل المدينة البائس حالياً. حدث كل ذلك في وقت عانت فيه مكاتب استشارية أسسها ويديرها أميز والمعمارين من الفاقة. بالرغم من ذلك الوضع المضطرب البائس تهافتت بعض المكاتب الاستشارية سعت للاستعانة به في خوض غمار بعض المسابقات المعمارية. مستثمرة في سمعته الطيبة في مثل هذه الملمات باعتباره يملك مفاتيح اللعب كما يصف أهل كرة القدم مثل تلك الحالات. كان دائماً يبلي بلاءً حسناً يصنع الفارق. بالرغم من رأيه المعروف السالب في مجمل حال العمارة في بلادنا وتوجهاتها السائدة.

أكرم الله بروفيسور عبد الله بعمل معماري في بداية مرحلة عودته للبلاد جمع بين الحسنيين. لعب فيه صديق عمره الذي وقف بجانبه مؤازراً له حتى أخر أيام حياته البروفيسور المخطط العمراني والمعماري حسن ياسين. إذ كُلف معه بتصميم مبني بالغ الأهمية تابع لجامعة أفريقيا العالمية خاص بمشروع مصحف أفريقيا. شُيد في الركن الشمالي الغربي من موقع الجامعة المطل على امتداد شارع جبره بداية شارع مدني. عمل معماري جدير بالمشاهدة بذل فيه البروفسورين جهداً مقدراً. سكب فيه المرحوم فيض من أشواقه الروحانية التي حملها بين جوانحه لثمانية عقود من الزمان. عمل معماري متميز بجمعه بين الحسنيين، عمل استشاري رعته جامعة مرموقة عطرة السمعة. عمل معماري صممه في بدابات العقد الأول من الألفية. إلا أنه يبدو لكأن البروفسور أراد أن يختم به أعماله في المجال الاستشاري فكان بحق يجسد حالة حسن الخاتمة. لأعمال مجيدة على مستوي الإنجازات الاستشارية والعطاء الأكاديمي العلمي بالغة التميز على كافة الأصعدة. كلي أمل في أكون في هذه العجالة قد سلطت الضوء على بضع جوانب من إنجازاته وكسبه في هذه الدنيا الفانية. نسأل الله أن يجعلها كلها في ميزان حسناته.

كوكب وشهاب الثاني احترق في أرجاء كوننا الفسيح. غادر دنيانا الفانية مخلفاً جلائل الأعمال المعمارية هو المرحوم حسين كناني. اسمه بالكامل حسين كناني بدوي أبو صفية. الذي           اختطفته يد المنون منا في شهر أبريل 2021 فصل الربيع الأوربي ليسجل حالة خريف كئيب بمعيارهم. ليضيف لقائمة شهب احترقت وأطفئ بريقها إلا من صالح أعمالهم في شتي فضاءات عمارة بلادنا. بالرغم من الفارق في الأعمار بينه بين بروفيسور عبد الله إلا أن هناك قواسم مشتركة في سيرتهما الذاتية ومسيرتها. إذ تميزا معاً بنبوغ مبكر s لافته قادتهما لاحقاً لنجاحات فائقة في مجاليهما. خلفية رعتها بيئة ريفية أو شبه ريفية فطرية النزعة نبتت في تربة صوفية نقية مشبعة بالروحانيات. فكلاهما تحدر من بيت صوفي عريق إن اختلفا يعض الشي في المضي في دربه إلى أخر الشوط. أسس له في حالة بروفيسور عبد الله البشير في دامر المجاذيب جده الشيخ محمد الخير. الذي أضاء الدرب في خلوته وعبد الطريق في وقت مبكر لزعيمنا الأشهر المناضل محمد أحمد المهدي. كان واضع أساسه في حالة حسين كناني في تلك البيئة الريفية البكر جده الشيخ ود أب صفية صاحب الكرامات المشهودة. 

اختلفا عن بعضها في أمر المضي قدما في ذلك الدرب إذا قسنا الأمور بمظهرها المادي السطحي. فالبروفيسور عبد الله فارق بيئته في دار المجاذيب ببربر منذ وقت باكر. إذ حملته دروب الحياة في مدارج العلم ومواقع العمل لأماكن بعيدة وأصقاع نائية. فارق معها مدينته الصغيرة الوادعة ومسيدها وحوليتها وحضرتها. لكنها بالرغم من ذلك عاشت دائماً بين جوانحه. فالتصوف حالة تتلبس المرء أحيناً بدون حوجه لجبة خضراء ومسابح (لالوبية) ألفية توشح الصدر و )نوبة) ضاجه. أهم ما في هذه الحالة نقاء النفس والسريرة التي كانت دائماً في كل الظروف من أهم شمائله إلى أن لقي ربه. أما حبيبنا الراحل حسين كناني فقد كان أمره مختلف تماماً إن اتفقا معا فيما في دواخل نفوسهما. فقد كان مرتبطاً لدرجة العشق الجارف كثير الاعتداد بجده الشيخ ود أبو صفية صاحب الكرامات المعروفة. لدرجة أنه زين ختم باسمه اسم العمل الخاص به. عشقه للطريقة جعله في أسعد حالاته عندما يرتدي يتوشح بكامل زيها يرفل به في خيلاء. نزعة المرحوم كناني الصوفية تجاوزت كثيراً مظاهرها الخارجية الملموسة إذ صارت جزءً عميقاً من شخصيته المترعة بالزهد. حدثني أقرب الناس إليه عن سر قبوله بمحض اختياره لرسوم منخفضة جدا مقابل خدماته الاستشارية لا يقبل بها معماري حديث التخرج. فكان رده المفعم بأن مقدراته المعمارية الرفيعة هبة من الخالق العظيم لا يجوز المتاجرة بها والمغالاة في عائدها المادي.

هناك تشابه كبير في جوانب مهمة جداً من مسيرة كلا المرحومين يجب التوقف عندها إذ كانت لها إسقاطات ملموسة. بالرغم من بعض فوارق الصغيرة غير مؤثرة. لا يمكن النظر إليها بدون التعرف على مقدراتهم المعمارية الأساسية التي جاءت نتيجة كسب متصل منذ بداية دراستهما للعمارة. في كلا الحالتين كان ولوجهما لهذا التخصص على المستوي الجامعي نتيجة تنافس محتدم شرس. تمتعا بعدها أيضاً مع اختلاف فترة دراسة كل واحد منهما بخدمات مثالية في مرحلة دراستهم الجامعية. الفارق يبينهما هنا أن البروفيسور عبد الله مضي قدماً في دراسته العليا إلى أخر أشواطها. فيما اكتفي كناني لأسباب خاصة به بدرجة البكالوريوس. مع أن تخرجه بدرجة ممتازة أتاح له فرصة التحضير لدراسات عليا. بيت القصيد الذي أود التركيز عليه هو مسيرتهما المعمارية في مجال العمل الاستشاري بعد تخرجهما. أعتقد أنهما معاً لم يجدا فرصة كاملة للتألق والتفرد لأسباب مختلفة. أشرت إليها بشي من التفصيل بالنسبة لحالة البروفيسور عبد الله. تبقي لنا حالة كناني التي سألقي عليها بعص إضاءات مهمة.

يمكن أن أقسمها لعدة مراحل متعاقبة تنقل فيها بعد تخرجه داخل وخارج السودان بعضها مقسم داخليا لمراحل متعددة. تمددت منذ سنة تخرجه في منتصف السبعينيات حتى عام رحيله في الربع الأول من عام 2012. تفاوتت مدة كل واحد منها ومدي تأثيرها عليه. بداءها بفترة قصيرة داخل السودان بعد تخرجه من الجامعة مباشرة مع واحد من المكاتب الاستشارية حديثة التأسيس حقبتئذٍ. لم يكن مؤسسيها من أميز الخريجين. لكن يحمد لهم أن منحوه حسب إفاداته فرصة جيدة ومساحة رحبة للتصرف بحرية كبيرة وطرح أفكاره الخاصة. أعتقد أن خلفية ذلك المكتب وقصر المدة التي قضاها معهم لم تترك أثراً مقدراً في تكوين شخصيته المعمارية. هو أمر يعتبر في أغلب الحالات في صالح الخريج الحديث. إذ أنني أعتقد أن هامش الحرية في هذه المرحلة يسمح له ببلورة شخصيته المعمارية بشكل مقدر. بعد فترة عمل قصيرة في ذلك المكتب الاستشاري توفرت له فرصة اغتراب لدول الخليج العربي النفطية فأغتنمها. مضحياً بوضعه كمساعد تدريس بقسم العمارة الذي كان سيمنحه فرصة للدراسات العليا. كانت ستغير مجري حياته العلمية والعملية لتضعها في مسار أخر مختلف تماماً.

اغترابه في دول الخليج العربي تمددت من نهاية السبعينيات حتى بداية التسعينيات. مرحلة تخللتها استراحة محارب قصيرة في السودان. شكلت في مجملها حلقة مهمة من مسيرته المعمارية في العمل الاستشاري. لا أعتقد أنه كان لها مردود كبير مؤثر عليه كمصمم معماري موهوب متميز هي من أهم جوانب مقدراته. بدأها بدولة الكويت بفترة محدودة بجهة حكومية لتصطاده هناك بعد ذلك المكاتب الاستشارية الخاصة. انتقل بعد فترة عمل قصيرة في واحد منها لمكتب أخر كان حقبتئذٍ ملء السمع والبصر بالمعايير المعمارية. أعتقد أن فترة عمله فيه كانت من أهم محطات مسيرته العملية في المكاتب الاستشارية. إذ انتقل للعمل بمكتب (تست TEST) الذي كان من أميز المكاتب الاستشارية في العالم العربيٍ. عندما كان يديره خلال فترة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات نخبة من أميز المعماريين العرب. صنعوا عصره الذهبي عبر عدة مشاريع في حواضر ذلك العالم. كان من نصيبنا أثنين من أهم المشاريع في الخرطوم ألي يومنا هذا. مبني رئاسة الهيئة العربية للاستثمار والأنماء الزراعي في منطقة الخرطوم شرق قرب تقاطع شارعي البلدية مع عثمان دقنة. يضاف إليه مجمع السفارة الكويتية قرب بداية شارع أفريقيا بحي المطار. كان من حسن حظه التحاقه بالعمل في ذلك المكتب خلال تلك الفترة الخصبة معمارياً. مع أنه لم يشارك في تصميمها لكن وجوده في أجوائها كان مهم للغاية. الذي صادف عصر المكتب الذهبي قبل أن يخبو بريقه لاحقاً عندما أنفضت الشراكة بين مجموعة المعماريين الذي كانوا يديرونه.

عاد حسين كناني للسودان في مطلع الثمانينات بعد تجربته مع مجموعة (تست) وأشرعته ممتلئة بالآمال العراض. عاقد العزم على تأسيس مكتبه الخاص. في شراكة مع رفيق دربه المعماري قمر الدولة عبد القادر. الذي توطدت علاقته به منذ بداية مرحلة دراستهما معاً بقسم العمارة. عقدا العزم معاً هلي خوض تجربة جديدة في زمان كانت الأمور في بلادنا مبشرة بخير وفير. بداء عملهما معاً حقبتئذٍ أملا في أن يصنعا معاً أو منفردين لنفسيهما مجداً مستحقاً من واقع تميزهم المعماري وإنجازاتهم السابقة. لكن القدر كان يخبي له أمر أخر مختلف تماماً. ساق حسين مرة أخري لأرض البترول المتدفق خيراً عميما إلى الأمارات العربية التي كانت تعيش عصرها الذهبي. جاءته فرصة لا تُفوت أو تعُوض. للعمل بمكتب استشاري معماري كان على رأسه واحد من أساتذته السابقين بقسم العمارة. فرصة توفرت لها كل عوامل النجاح لكنها للأسف الشديد خصمت الكثير من عمره المهني. إذ اقتصر عمله في المكتب على مهام بعيدة عن مقدراته الإبداعية المتميزة. مما سبب له حالة من الإحباط واليأس ضاعف منها ضعف المردود المالي. مما دفعه لوضع نهاية لهذه المرحلة التي بدأت بآمال عراض لتنتهي بعد أربع سنوات ألي ما انتهت إليه.

عاد كناني مرة أخري للسودان في منتصف التسعينيات بعد الإحباط الذي أصابه في تجربة الأمارات. ململاً أطرافه مع زملائه وشركائه السابقين أملا في بداية جديدة معهم بالرغم من تعقيد الأحوال في السودان. فدخلوا في تجربة جديدة لم تكن نهاياتها سعيدة موفقة إذا قسناها بالمعايير المرجوة. إذ دخلوا في علاقة عمل استمرت لقرابة العقدين من الزمان. مع جهة اعتبارية مقدرة لها باع طويل في المجال الاقتصادي. كان الجانب المعماري وشقه الاستثماري واحد من أهم نشاطاتهم. الذي كان يديرها بشكل مباشر يحكم قبضته عليها واحد من أهم أفراد أسرة تلك الجهة. عبر دوره المؤثر في كافة مشاريعها بالرغم من عدم وجود علاقة لها بتخصصه. مما كان له حسب قراتي للأمور بشكل فاحص تأثير سلبي علي حسين كناني وشركائه حدت كثيراً من مساحات إبداعهم. لانغماسهم في نشاطات مهما رفعنا من قدرها ليست ذات مردود يذكر يضاف لمقامهم كمصممين يرجي منهم الكثير. استنزفت تلك المرحلة التي امتدت لقرابة العقدين من الزمان حقبة من عمرهم المهني. بدون جدوى تذكر أو إنجازات مهمة تضاف لسجلهم الإبداعي. إلا من حالات نادرة محدودة سأشير هنا لواحدة منها لأنها شكلت منعطف مهم في مسيرة حسين كناني المعمارية. حازت على إعجابي فدفعتني للتوثيق لها عبر أكثر من وسيط إعلامي. مضيت في خطوة متقدمة فقدمتها في فيلم وثائقي عرض قبل عدة أعوام على شاشة أكثر القنوات التلفزيونية مشاهدة.

هذه الحالة أو العمل المعماري هو مسجد الحاجة سعاد إبراهيم مالك في مجمع الميناء البري في الخرطوم. الذي أبدع حسين كناني في تصميمه فبلغ فيه أقصي درجات الإبداع. كاشفاً عن سر تميزه على أقرانه المعماريين من كافة الأجيال. سر اشتهر به في مرحلة مبكرة من مراحله الدراسية في قسم العمارة. حدثي عنه أقرب زملائه إليه حقبتئذٍ. أسر لي بأن حسيناً كان مختلفاً تماماً عنهم خلال تلك الفترة. على سبيل المثال لم يكن يتصرف كباقي أقرانه عندما يبادون العمل في مشروع مرسم جديد. لم يكن مثلهم يهرع إلى المكتبة. بعثاً عن نماذج مشابه للمشروع في كتبها ومجلاتها يستهدون بأفكارها وملامحها في مشاريعهم. كان دائماً يستعين ببنات أفكاره الخاصة ليخرج بمشاريع مختلفة عنهم تنال إعجاب أستاذته فيمنحونه أعلي الدرجات. أقدم حسين كناني على تصميم مسجد الحاجة سعاد بنفس هذه الروح. ترك جانباً ملامح منظومة مساجد العاصمة بأنواعها العجيبة. أتي بأفكار جديدة لم أر لها نظير في أرجاء العالم. علماً بأنني متابع جيد لما يدور حولنا عن عمارة المساجد في شتي أركان الدنيا. هذه هي بحق شيم المعماريين الذين يحققون اختراقات ملموسة مؤثرة عندما تتاح لهم الفرص. التي لم يجود له بها الزمان بسخاء خلال مسيرته الطويلة حتى لحظة رحيله. فاغتنمها بحماس عندما أتته طائعة مختاره ووجد كامل الحرية في التعامل معها. فسكب فيها فيض من إبداعه لينتج درة من درر عمارة المساجد. لن أحدثكم هنا لأترككم تتعرفون عليها من خلال الفيلم الوثائقي الذي قمت بإعداد فكرته وقدمته.

نيزك ثالث سقط احترق في سماء كوكبنا في شهر أبريل من 2021 يمثل حالة مختلفة تماماً عن الاثنين اللتين استعرضناهما من قبل. المرحوم المعماري المتألق رشيد يوسف محمد علي هو الأصغر سناً بالمقارنة لتلك الحالتين. بفارق عشرين عاماً عن الأول بروفيسور عبد الله البشير وعشرة أعوام من الثاني الباشمهندس حسين كناني. فارق المرحوم رشيد دنيانا هو في منتصف الستينان من عمره بعد حياة عملية مسيرة حافلة بالإنجازات. يتفق مع الاثنين بأنه كان من المتفوقين عند تخرجه من قسم العمارة في منتصف السبعينات. لكنه اختلف عنهم تماماً في بعض جوانب مسيرته. فهو مثلاً لم يسلك طريق الدراسات العليا كما فعل بروفيسور عبد الله البشير. كما أنه الم يبدد سنوات عديدة من مسيرته بالعمل في مكاتب زملائه الاستشارية بدون مردود مؤثر كما فعل حسين كناني. إذ اختط له طريقاً مختلفاً تماماً عنه خطأ فيه منذ البداية بجراءة عالية نابعة من شخصيته المتميزة بثقة عالية بالنفس. ولج طريق العمل الاستشاري من أوسع أبوابه مؤسساً مكتبه الخاص بعد عامين من تخرجه. قضي الأولي بوزارة الأشغال العامة والثانية بمكتب أستاذنا عبد المنعم مصطفي. ليتفرغ بعد ذلك تماماً لمكتبه الذي قضي فيه أكثر من أربعين في عمل دؤوب مضن محتشد بالإبداع يضج بالإبهار. وضعه في مكانة متقدمة على عدد مقدر من أبناء دفعته ومن سبقوه في هذا المجال. مضي فيه بعزيمة قوية متسارع الخطي كأنه يدرك أن القدر لن يمهله كثيراً. كأنه كان يسابق الزمن يضع بصمته البائنة في كافة جوانب العمارة وتفاصيلها.

جاءت بداية رشيد قوية بكل المقاييس والمعايير على غير العادة في حالة بداية الخريجين الجدد التي تتسم بالتردد. جراءة متميزة محسوبة الخطوات بعناية فائقة هي جزء أصيل من تركيبة شخصيته. عززتها ذخيرة علمية معتبرة اكتسبها من دراسته وتفوقه في قسم العمارة بجامعة الخرطوم. ملأ أشرعتها لتحلق في أعلي سماوات العمارة تراث وميراث أسري وفير مكنه من تلك الانطلاقة القوية. لم يبدأ مكتبه الاستشاري في مطلع الثمانينات متخفياً في شارع خلفي أو جانبي. لم يتجنب وضع لافته على واجهة مبناه تخوفا من استهداف الجهات المعنية برصد الضرائب كما يفعل العديد منا عند تأسيس مكاتبهم. إذ اختار له عند تأسيسه بعد عامين من تخرجه موقعاً مفتاحيٍ في مدينة الخرطوم بحري. مطل على الجزء الأوسط من شارع الزعيم أزهري الرئيس. بواجهة عريضة اجتهد في تصميمها بشكل مبتكر بديع جاذب. يزين جبينها يتلألأ في خيلاء بخط كبير واضح اسم مكتبه الاستشاري المبتكر-كايتر KYTER. بداية قوية بكل المقاييس واضح أنه أراد من خلالها أن يروج لمقدمة. كرقم لا يمكن تجاوزه هو بعد في أولي خطوات ولوجه للوسط المعماري. الذي كان يحتشد حقبتئذٍ بنجوم من خريجي قسم العمارة بجامعة الخرطوم أيام مجدها التليد. أكمل إنجازاته في هذا السياق فانتقل بمكتبه قبل بضع سنوات إلى مقر جديد في واحد من عماراته الحديثة بديعة التصميم. اختار لها موقعاً بالغ التميز في الطرف الجنوبي من حي الوابورات بالخرطوم بحري مطل على كبري المك نمر.     

أسس مكتبه الأنيق في ذلك الشارع الرئيس في مدينة الخرطوم بحري على أحسن ما يكون ظاهراً وباطناً. لم يكن ذلك الإعداد الجيد إلا بداية لمشوار طويل طموح تطاول لأربعة عقود من الزمان جاءت نهايته بانتقاله للدار الفانية. مرحلة انطلاقه الأولي وَضحت معالم رؤية مستقبلية بعيدة المدي يحتاج الواحد منا لعدة سنوات لكي يتبناها يبلورها. واضح أن تبنيها كان دافعه إحساس عميق ورؤية شاملة للعمارة بكافة تفاصيلها نابع من جوانب مهمة في شخصيته. إحساس دعاه في تلك المرحلة الباكرة من مسيرته للقيام بخطوة جرئيه لم يسبقها إليها أي معماري أخر. إذ أسس على أحسن ما يكون ورشة متكاملة لتصنيع الأبواب والشبابيك المعدنية بمستويات متقدمة عالية. طورها لاحقاً لتنتج بنفس المستوي كافة (اكسسوارات) العمارة وأثاثها المثبت. خطوات جريئة محسوبة بعناية فائقة مكنته أن يضع أقدامه بثبات في براحات محالات تصميم الأثاث والتصميم الصناعي محققاً نتائج مبهرة. جعلت العمارة في بعض الحالات مرفرفة كقوامه الممشوق فائق الرشاقة. معالجات مبتكرة جريئة رفعت من أسهمه هو يقتحم لاحقاً مجال الاستثمار العقاري لينافس فيه بقوة. الواضح أن نجاحه في تلك التوجهات كان نابع من خصاله المتميزة وسماته الشخصية. فقد أشتهر بأناقته الفائقة الراقية المقترنة برشاقة ومظهر عصري بازخ رزين. كأني به كان يسعي بإصرار لكي يمنح عمارته تلك الصفات التي وفق في عكسها في جل أعماله.

تنقل رشيد في أعماله الكثيرة مطوفاً في فضاءات طرازات معمارية متعددة. التي كان جلها من المباني السكنية والفيلات من واقع الإقبال الشديد عليها عندما ذاع صيته. تطواف عبر عدة محطات طرازيه متميزة المعالم والملامح. متحرراً تدريجيا من إسار عمارة الحداثة متحفظة الخطوات صارمة القسمات. تبني منذ مراحله الأولي طريق العمارة البيضاء الذي توقف عنده طويلا تحديدا في مباني الفلل. التي عززها بعروش بلاطات المارسيليا فمنحتها دفق من الكلاسيكية والرومانسية. كسر استمرارية اللون الأبيض أيضاً بتطريزه بمساحات محدودة من الحجر الطبيعي المشع بزخات من الحميمية. أضاف لتلك العناصر والمكونات الثانوية مساحات الزجاج الإنشائي المقوس structure glass التي تتصدر جزءً من الواجهات. زين بها محيا عمارة الوجيه عبد الرحمن في شارع كترينا في الخرطوم وعمارة مكتبه الجديد المطلة على كبري المك نمر. في مراحل لاحقة في خطوة جريئة أدخل مساحات محدودة من الألوان القوية. خير مثال لذلك فيلته الجديدة مترامية الأطراف. التي تسطع في واجهاتها زخات من ألوان باهرة. في إطار معالجة معمارية توثق لمنعرج مهم في أسلوبه المعماري. غازل فيه واحد من مدارس توجهات عمارة الحداثة الغربية متكئيً على المدرسة الفنية التكعيبية. أقدم على هذه الخطوة الجريئة في أخر مراحل حياته فصارت أشبه بحسن الخاتمة. لمساعي أجتهد فيها في منذ بداية مسيرته. حاول فيها التحرر من إسار عمارة الحداثة التي صارت عبئاً على العديد من المعماريين المبدعين.

في زمان لاحق تحرر قليلاً من قيود عمارة الحداثة صارمة الملامح. التي تحبسها تعتقلها في الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة والأشكال الصندوقية. فانفلت منها ليقع أسير الدوائر بأنواعها المتعددة. لترفرف في أركان الفيلات والبيوت محلقة ببلكونات دائرية الشكل تمنح عمارته البيضاء دفق من الخفة والحيوية. أبلغ مثال عمارة الوجيه عبد الرحمن بشارع كترينا في الخرطوم وعمارته الجديدة المواجهة لكبري المك نمر بالخرطوم بحري. أدخل الأشكال الدائرية في البدء بحذر وشكل محدود ليتعامل معها لاحقاً بشكل أكثر جراءة. في هذا السياق أتاحت له مبني الفيلات مجال ومساحة أكثر. طور نفسه بشكل لافت في مجالها بلغ فيه شأناً عظيما. أكبر مثال تلك الخاصة به التي سكب فيها قمة إبداعه الذي يتجلى في مقطع فيديو يطوف به في أرجائها. تجاوز فيها مرحلة التلاعب بالمناسيب ليذهب إلى أخر مدي في التعامل مع الفضاء المعماري. إذ نجده ينساب في سلاسة فائقة في كل الاتجاهات. قدم هذه الأطروحة في أخر أعماله هي فيلته التي لم تكتمل حتى موعد رحيله. قدمها في مقطع فيديو تخيلي كواحد من أروع مشاريعه في مجال مباني الفيلات. لخص فيه أخر أفكاره فكان بحق مسك الختام.

داخلياً في جل حالات الفيلات والبيوت كان التلاعب بالمناسيب الذي يعرف باللغة الإنجليزية بأل split levels سيد الموقف. حيل تعلمها في بداية مسيرته خلال فترة قصيرة قضاها في كنف مكتب أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي. تشبع بتلك الفكرة فاخنزنها في ذاكرنه ثم طورها بشكل لافت في مجال الفيلات فقدم فيها نماذج رائعة. مضي في هذا الدرب حتى وأتته فرصة ثمينة وجد فيها كامل حريته ليطبق فيها أخر أفكاره. التي تجاوز فيها مرحلة التلاعب بالمناسيب ليذهب إلى أخر مدي في التعامل مع الفضاء المعماري. جعله ينساب في سلاسة فائقة في كل الاتجاهات والأبعاد. طبق هذه الأفكار الجريئة عندما وأتته هذه الفرصة في أخر أعماله هي فيلته التي لم تكتمل حتى موعد رحيله. جعل منها حقل تجارب أنزل فيه إلى أرض الواقع أخر أفكاره في عدة جوانب معمارية مغازلاً العديد من التوجهات الحديثة. على راسها التعامل مع الفضاء المعماري بشكل جديد جرئي. تجاوز فيهه مرحلة التلاعب بالمناسيب ليحلق في كافة اتجاهاته وأبعاده. الذي وجد فيه الفرصة متاحة بسخاء في أرجاء الفيلا مترامية الأطراف. قدم هذه التجربة والأفكار في مقطع فيديو تخيلي لهذا العمل الذي يعتبر من أروع وأخر مشاريعه في مجال مباني الفيلات. إذ رحل بعدها مباشرة فكان بحق مسك الختام. تعميماً للفائدة رأيت أن أضمنه مع هذه المقالة

أعتقد أن مساهمات المرحوم رشيد الأهم من خلال مسيرته كانت في مجال الاستثمار العقاري. تحديداً المعني منه بالقطاع السكني الذي اقتحمه بمفاهيم جديدة. مستثمراً في خصاله المتميزة وعلمه الفياض المواكب وحسه الحضاري الفريد ورؤيته المتقدمة السابقة لأوانها. تلك العوامل مجتمعة مكنته من أن يقدم في هذا المجال نماذج فريدة شكلت اختراقات ملموسة يجب التوقف عندها لتأملها بروية. اقتحم مجال تكالب عليه المستثمرين من كل حدب وصوب. كان من سوء حظه وحظ المنتفعين به أن جاء تحالف عدد مقدر منهم مع معماريين محدودي الأفق. فسدت أفق المدينة عمائر سكنية متواضعة التصميم متخلفة الأفكار مخيبة لأمال المستثمرين فيها وقاطنيها. اقتحم المرحوم رشيد هذا المجال بجرأة بالغة متسلحاً بجوانب خلفيته المؤثرة التي أشرت إليها فقدم نماذج غير مسبوقة. أشفي غليلي لأنني كنت قد أشرت من قبل لجوانب قصور في نوعية من المشاريع الإسكانية فشلت في الاستثمار في تراث عمارة الحداثة الغربية.  الذي قدمت به نفسها بشكل مشرف في مجال الإسكان قبل أكثر من سبعة عقود من الزمان.   مخاطبة متفاعلة بنجاح مع عدة متطلبات أساسية إنسانية مجتمعية وثقافية حضارية. من المحزن أن جل معمارينا الأماجد الذين تصدو لهذه المهمة فشلوا فيها. كان المرحوم رشيد واحد من قلة منهم تصدي لها بجدارة فقدم فيها نماذج في غاية الروعة.    

رصدت حالات من أعماله لمجمعات سكنية تعكس بعض مما أشرت إليه هنا. من أهمها عمارة الوجيه الدكتور حسن برقو. المطلة بشكل جذاب ومشرف على شارع مستشفيي البراحة في الطرف الشمالي لمدينة الخرطوم بحري. واحد من ميزاتها توفير مواقف سيارات للسكان في طابق القبو أو البدروم. هي واحدة من ميزات مبانيه السكنية بما فيها الفيلات. تتميز العمارة أيضاً بمركز تجاري صغير في الطابق الأرضي يقدم خدماته للسكان ومن يرغب فيها من خارجها. أهم ما لفت انتباهي فيها تنوع أنواع الوحدات السكنية. التي أفسح فيها مجالا رحباً لشريحة من المجتمع تكاد تكون مغيبة في مثل هذه المشاريع. إذ وفر في المجمع عدد من الشقق الصغيرة للغاية تعرف باسم الشقة الأستديو وهو مشتق من أسمه باللغة الإنقليزيةstudio flats . نوعية تستهدف شريحة الشباب، العزاب والمتزوجين في سني زواجهم الأولي. لفته بارعة من رشيد تجسد حالة نادرة في مجال الاستثمار العقاري الإسكاني. مضي في التعامل الفطن مع هذه الشريحة بتوفير مرافق تعتبر أساسية لنمط حياتهم خصص لها طابق السطح. مجمع فيه صالة رياضية ملحق بها مقصف أو كافتيريا مطلة علي بركة سباحة مفتوحة. مرافق أساسية لشريحة الشباب التي منحها حصة مقدرة في طوابق المجمع. شكلت كلها معاً بيئة جاذبة لهم بالذات الطامحين في حياة عصرية راقية. سعي رشيد لتحقيق هذه الأهداف من منطلق فلسفته ورؤيته الخاصة. كشخص شبابي النزعة غاية في الرقي والأناقة متطلع لصياغة مجتمع مواكب للعصر.

اهتمام رشيد الفائق بمجال الاستثمار العقاري لم يصرفه عن عشقه الأثير الأبداع في عمارة الفيلات. إذ تُوثق أعماله الأخيرة لنقلة مقدرة مضت بها نحو عمارة أكثر بساطة ونقاء. وضعت أقدامها عند أعتاب مدرسة سادت في الغرب الأوربي في بدايات القرن الماضي. أسس لها الفنان التشكيلي الهولندي بيت موندريان Piet Mondrian يشار إليها بأل de Stijl تعني الطراز. اختزلت اللوحة الفنية في مساحات مربعة أو مستطيلة محددة بخطوط سوداء تلتقي في زوايا قائمة. تغطيها مساحات الألوان الأساسية الثلاثة الأحمر والأصفر والأزرق. فجاءت أعمالها مفرطة البساطة والنقاء. ترتكز على الخطوط الأساسية الراسية والأفقية مع مساحات من الألوان الأساسية. انداح فكر تلك المدرسة ليغطي كافة أجناس الأعمال الإبداعية. لم تتخلف العمارة عن الركب إذ تبني نهجها أحد رواد عمارة الحداثة في الغرب الأوربي هو ميز فان دا رووه. مقدما فكرها من خلال أروع الأعمال المعمارية الخالدة. أنبري لها عندنا رشيد إن كان رد فعله جاء متأخراً بعض الشي. تبني فكر وأساليب المدرسة في أخر أعماله. في عمارة مفرطة البساطة امتطت ظهر أشكال وكتل أفقية ورأسية. عززها بتصميمه المبتكر لإكسسوارات المباني وللأثاثات. فأنتج عمارة بيضاء تبرق فيها ومضات من ألوان مبهرة تمنحها حيوية دافقة. جاءت في سياق عمارة فيلته الجديدة مترامية الأطراف. التي تتفاعل فيها تنزلق الكتل مع بعضها البعض في سلاسة فائقة تغمز في أرجائها مساحات مشعة الألوان. وثق لها في مقطع فيديو نخيلي رأيت أن أعزز به هذه المقالة.

أحزان عميقة دفعتني لكتابة هذه الصفحات المثخنة بالشجن بعد رحيل هذا الثلاثي العزيز على النفس. مشاعر جياشة بلا شك يشاركني فيها العديد منكم. لا أدعي أن ما سطره قلمي هنا هو عمل توثيقي بمعناه العميق الشامل. أعتبرها مجرد إضاءات تشير لجوانب مهمة من سيرتهم ومسيرتهم المعمارية. ركزت فيها بالتحديد على ما يعنيني بناءً على مجال تخصصي. الذي يؤهلني بجدارة كناقد ومؤرخ للعمارة السودانية من خلال رموزها المتميزة. أعتقد أنه خلال مراحل حياتي المتعددة كانت لي علاقة متوازنة مع تلك الشخصيات الثلاثة رحمهم الله تؤهلني لكتابة هذه الصفحات عنهم. التي عززتها عندما نويت كتابة هذه المرثية بتواصل مع بعض أفراد أسرهم وأقرب الأقربين إليهم. الذين تعاونوا معي بدرجة عالية بالرغم من حالة الحزن التي غمرتهم. حاولت اجتهدت جداً في تدعيم سيل المعلومات التي جمعتها عنهم بمنظومة من الصور التوثيقية لأعمالهم. أعتقد أنني وفقت إلى حد ما بالرغم من قصور في تغطية حالتين من تلك الحالات الثلاث. منعتني ظروفي الخاصة من تغطية ذلك العجز الذي لم تجدي استغاثتي بمن استجرت بهم لتكملته. فلكم العتبى حتى ترضوا أملاً في أن أكمل هذه الجوانب في عمل توثيقي متكامل عنهم.  

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان – مارس 2021

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.