احتفاءنا بالنوبة يجب أن يكون على مدار العام
حٌدد اليوم السابع من شهر يوليو من كل عام للاحتفاء والاحتفال بالنوبة كحضارة وكيان ثقافي يستحق أكثر من ذلك. ليست لدي معلومات كافية عن سر هذا اليوم بالتحديد. لكن أذكر أنني قرأت مقالة ممتازة اجتهدت في توضيح هذا الأمر تسليط الضوء عليه. بشكل عام هناك تراث زاخر عن سر الرقم سبعة. يتعرض لعدة جوانب منه من أبرزها الإشارة للسموات السبعة وأيام الأسبوع. لن يكون هذا الموضوع محور حديثنا. لأنه مبذول للنوبة كحضارة وثقافة فهي تستحق أن يصوب نحوها الاهتمام وتسود فيها الصفحات. مما يجعلني أعتقد جازماً بإن اختصارها اختزالها في يوم واحد ظلم باين. لي عشق خاص لجوانب محددة مهمة جدا منها هي عمارتها التقليدية. كرست له أكثر من أربعة عقود من عمري هي من أخصبها. تنقلت فيها في رحاب البحث العلمي المضنى المعزز بدراسات ميدانية مهمة كرست لهذا الموضوع الأساسي. لأنتقل بعد ذلك لاحقاً بعد حصولي على درجة الدكتوراه لمرحلة التدريس. الذي لم يشغلني عن مهمة البحث المتصل والتأمل المعمق في هذا الموضوع المركزي بالنسبة لي. توجت تلك المرحلة بفيض من الكتابة الإبداعية المكثفة التي لا زلت أخوض غمارها. في جهد مكثف متصل تحركت فيه في كل الاتجاهات والأصعدة.
أعتقد أن واحد من أهم العوامل التي أبقت على جذوة عمارة النوبة التقليدية مشتعلة هي جزورها التاريخية الراسخة. فقد ولدت في كنف واحدة من أول حضارات بلادنا وعلى مستوي العالم. سادت عمرت ذلك الجزء النيلي الشمالي منها لفترة تعود بداياتها لما يزيد لبضع ألاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح. حضارة كشفت الحفريات الأثرية أنها تمددت حتى حدودنا الحالية مع جمهورية جنوب السودان. حيث نشاءة سطعت هناك الحضارة الكوشية بممالكها الثلاث كرمة ونابتا ومروي. أسست لحضارة مكتملة الأركان تعاملت بندية مع جارتها الحضارة الفرعونية. غربت شمسها في منتصف القرن الرابع الميلادي لتفسح المجال لتجارب حضارية عميقة الأثر. جاءت محمولة على أكف ديانات سماوية كتابية المسيحية من بعدها الإسلام. في حالة مشابه لما حدث في عصور ضاربة في القدم تأسست النوبة المسيحية على ثلاثة ممالك نوبتايا والمقرة وعلوه. توزعت بين الجزء الشمالي والأوسط من بلادها. مخلفةً بصمة بائنة كان لها نصيب مقدر في سوح العمارة بالذات العبادية منها. انسحب المد المسيحي في القرن الرابع عشر الميلادي مفسحً المجال للطوفان الإسلامي. ليفرض نفوذه يلقي بظلاله الكثيفة على كافة أرجاء أرض النوبة عبر عدة مسارات. ساهمت إلى حد ما في تقسيم الشعب النوبي لعدة مجموعات ثقافو-لغوية. القت بظلالها على عمارتهم السكنية بشكل لا يدرك أبعاده إلا من رحم ربي. جوانب مهمة عميقة الأثر سأخصص له جزءً من هذه المقالة.
في منحي قد يقابل بالاستغراب من العديد منكم سأجعل العمارة مدخلي لاستعراض الحالة النوبية. الذي كان من المنطقي أن يكون عبر حضارتهم وثقافتهم باعتبارها هي الأساس. توجهي المستغرب نابع من تفاصيل قصتي مع هذه الحالة بمراحلها المتعددة المتتالية. التي سأطلعكم هنا على تطور الأمور حتى بلغت نهايتها السعيدة. مراحل بدأت في النصف الأول من السبعينات لتمضي في نسق تصاعدي حتى زماننا هذا في بدايات العقد الثالث من الألفية. درست العمارة مرتين في السودان قبل بداية هذه الرحلة. لم توفر لي للأسف تمنحني من المعرفة ما يمكنني من التعرف على خبايا حضارة وثقافة النوبيين كمدخل أساسي مهم للتعمق في عمارتهم التقليدية. التي ظهرت أول علامات افتتاني بها في منتصف السبعينات. عندما لفت انتباهنا لها المعماري المصري الرسالي الفذ حسن فتحي رحمة الله عليه. عبر أعماله المتميزة في قريتين في صعيد مصر استوحي عمارتهما من تراث بيوت قري النوبة. تفاعلي مع تلك التجربة كان بمثابة الشرارة الأولي. التي جاءت في شكل تلقائي ليؤرخ لأول إطلالة جادة لي في عالم الصحافة. في عصر بلادنا الذهبي الذي لم تشهده مثله بعد ذلك. عندما تبوء نجوم من الشباب مواقع قيادية في المجال الثقافي كان من أهم إنجازاتهم إصدار مجلة الخرطوم في أعظم وأبهي صورة. التي أتاحت لي فرصة في رحابها للتعبير عن افتتاني بتجربة حسن فتحي. في عدة مقالات تغزلت فيها في العمارة النوبية التقليدية. كانت بمثابة الشرارة التي صارت وقوداً لرحلة طويلة ظافرة.
في بداية الثمانينات قيض الله لتلك الشعلة أن تواصل اشتعالها هذه المرة في حالة متصاعدة سعياً لأعلي درجات التوهج. إذ بعثتني جامعة الخرطوم للتحضير للدراسات العليا في بريطانيا. لأبداء هناك رحلة طويلة مثمرة في كلية الدراسات المجتمعية في واحدة من أميز جامعاتها هي جامعة أدنبرا. بدأت رحلتي فيها متأبطا ما نمي إلى علمي من حالة النوبيين عشقي الأثير. لم يتجاوز كثيراً ما خطه يراع المعماري المصري الرسالي حسن فتحي الذي نزر حياته لأحياء تراثهم المعماري النبيل. ذخيرة من المعلومات كانت خير معين دافع قوي لي في بداية فترة التحضير لدرجة الدكتوراه. أعانني عليها بشكل مؤثر دعم جامعتهم اللامحدود في استكمال استكشاف أسرار صورتها البهية المتدفقة حيوية ونضارة. دعم كان سندي الأساسي فيه مشرفي عبقري زمانه وواحد من أبرز المفكرين في مجاله البروفيسور باري ويلسون. ساهم بشكل فعال مثمر في وضع أقدامي في رحاب فضاءات فكرية سامقة قادتني لولوج أفاق جديدة في العلوم والمعارف. طَوفت فيها بإصرار وعمق لاحقاً في رحاب الدراسات الإنسانية التي لم يكن لي سابق معرفة بها. فحلقت في فضاءات تخصصات الدراسات المجتمعية والنفسية والأنثروبولوجيا. كسب كان من أقيم ثمراته انفتاحي علي رحاب فلسفية أحدثت تغيرات مؤثرة حقبتئذٍ. فتحت لي أفاق رحبة أنارت لي الطريق لتتعامل الفطن مع موضوع بحثي والتوغل في عالم النوبة والنوبيين.
جاء انفتاحي على عالم الفلسفة من منظور معماري في بداية الثمانينات في أوانه. فقد كان العالم الغربي يستشعر عمق الأزمة في ذلك المجال التي نتجت عنه إخفاقات ملموسة. تجلت في مظاهر التشكك والاعراض عن عمارة الحداثة التي تسيدت الموقف في النصف الأول من ذلك القرن. عمارة تأسست على فلسفة علمانية أفرزتها أجواء الزهو بالاكتشافات العلمية المتتابعة. كان من البديهي أن يبدأ البحث عن مخرج لهذا المأزق بالتأمل والتدقيق في جزوره. بإعادة النظر في مرجعياته الفلسفية باعتبارها السبب الأساسي في الإخفاقات. العمل النشط في تلك الجبهات كان من نتائجه تبلور توجهين قدما أنفسهما كبدائل مقنعة. أحدهم البنيوية ترجمة لمسماه باللغة الإنجليزية هو أل structuralism. الثاني الظاهرية اسم مشتق من مجاله باللغة الإنجليزية هو أل phenomenology. تنكبت لأسباب سأتناولها بشيئي من التفصيل لاحقاً طريق التوجه الثاني. الذي وضع أساسياته حقبتئذٍ الفيلسوف الألماني الأشهر مارتن هايدغر. لأنني اكتشفت بين ثنايا فلسفته مفاهيم مدهشة مفعمة بالإنسانية. أحسست بأنها ستنير لي الطريق في دروب أبحاثي المحفوفة بالتحديات. لفتت انتباهي بالتحديد تلك التي تعاملت مع جوانب إبداعية هي من صميم العمل المعماري. أحسست بأنها ستملكني مفاتيح خزائن أسرار الحالة النوبية ومثيلاتها من الحالات الشبيه. فطوفت في جوانب فلسفته تشربت بها بالذات المعنية منها بتحديات الإبداع المعماري. فانغمست فيها حتى صرت واحد من دراويش طريقته الفلسفية.
استيعابي بعمق لبعض مفاهيم فلسفة هايدغر أضاء لي جوانب بالغة الأهمية من عمارة التوبة التقليدية. تكشفت معها سمات مدهشة لحضارتهم جعلت عمارتهم تبرق تضيء. أروع ما في فلسفته أنها تجلي الكثير من جوانب حياتهم الثقافية والمجتمعية وسمات تركيبتهم النفسية. فهي تتميز برؤى متصالحة متوافقة تماماً مع رؤي أخري في مجالات خارج إطار مجال الفلسفة. قد يعتبرها البعض حسب مفاهيمنا السطحية الشائعة تقع تحت مظلة تخصصات علمية أخري. مثل الدراسات المجتمعية والنفسية والأنثروبولوجيا. كسر هايدغر بأطروحاته الفلسفية الجريئة المبتكرة تلك الحواجز الوهمية. لأن هدفه الأساسي كان هو النظر بعمق في مفهوم ومعتي الوجود بكل أركانه وتفاصيله. لهذا السبب يشار لفلسفته تصنف في إطار الفلسفة الوجودية العريض. لكن يجب أت نفرق بينها بين أفرع منها ذات منحيً إلحادي. إذ أنها تختلف عنها تماماً في مبادئها وأهدافها الأساسية إيمانية الطايع. عززتُ استيعابي لمفاهيم فلسفة هايدغر لاحقاً بإضافة حالتين دراسيتين للحالة النوبية. تتعاملان مع مجموعات قبلية سودانية من الرحل الذين يجوبون بوادي السودان الشرقية. تركيبة ثلاثية الأضلاع منحت بحثي لدرجة الدكتوراه قيمة إضافية متميزة بشهادة عدد من كبار الاختصاصين في مجالنا. توجد نسخة من الرسالة مودعة بمكتبة السودان التابعة لمكتبة جامعة الخرطوم الرئيسة. معلومات أساسية لمن يريد الاضطلاع عليها: Author-H. K. Mahgoub. Title- Dwelling Space in the Sudan: Official Policies and Traditional Norms. Ph. D. Thesis University of Edinburg 1988.
قضيت المرحلة الأولي في عملي في رسالة الدكتوراه في تطويره على هذا النحو الذي أشرت إليه. فنال استحسان مشرفي الذي صار مثلي متعلقاً بحالة النوبة الدراسية. يبدو أنه وجد فيها ضالته لأنها جاءت في إطار الأهداف التي كان يؤسس لها القسم. على رأسها التبشير برؤى جديدة تشكل اختراق يخرج العمارة من مأزقها التاريخي حقبتئذٍ. تحمس لبحثي أيضاً لأنه يستهدف منطقة بكر في العالم لم تغطيها بحوث طلاب القسم. ترجم حماسه بخطوة غير مسبوقة من قبل غير متوقعة من جامعة تتشدد جداً في تسجيل طلاب الدراسات العليا لدرجة الدكتوراه. إذ نجح في ذلك المسعي بالرغم من أنني لم أكن وقتئذٍ قد تحصلت على درجة الماجستير. تواصل دعمه لي بعد ذلك لاحقاً بعد بضع سنوات من نيلي لدرجة الدكتوراه. فرشحني لتغطية حالة السودان في أول أهم دائرة معارف معنية بالعمارة المحلية أو عمارة القبائل لا زالت تحتل ذلك الموقع المتقدم. هي Encyclopedia of Vernacular Architecture of the World. التي أشرف عليها واحد من أهم الخبراء في هذا المجال صدرت في نهاية التسعينيات من دار جامعة كمبريدج البريطانية. ساهمت فيها بتغطية حالة عدد من القبائل السودانية بتركيز على عمارتهم. خطوة وضعت أقدامي في مجال التوثيق المعماري قبل ربع قرن من الزمان نحن في بدايات عقد الألفية الثالث. منحتني دافع قوي هيأني لكي أمضي في هذا المحال بثقة عالية.
هياء لي قسم العمارة في كلية الدراسات المجتمعية بجامعة ادنبرا إمكانيات مهولة لإنجاز دراسة الدكتوراه. كجزء من هذه الخدمات أتاحوا بشتى الطرق فرصة الاضطلاع على كل ما كتب عن موضوع بحثي. وفروا لي أيضاً على نفقتهم تكلفة خدمة التواصل مع أي جهة أو شخص معتي بموضوعه في أي مكان في العالم. أتاحت لي هذه التسهيلات السخية أفاقاً رحبة للإحاطة بجوانب مهمة جداً عن موضوع البحث. أكملتها برحلات متعددة للسودان اجتهدت فيها لاستكمال المعلومات الأساسية عنه. عززتها بزيارات ميدانية معمقة تنقلت فيها بين موطن النوبيين التاريخي في شمال البلاد ومنطقة التهجير في شرقها. فاستكملت ألي حد بعيد حصيلتي المعرفية عبر تلك المصادر. في ادنبرا في السودان في الخرطوم وموطن النوبيين التاريخي في شمال البلاد ومنطقة التهجير في شرقها.
لم أقصر اهتمامي في دراستي لحالة النوبيين علي عمارة بيوت قراهم التقليدية قبل غرق المنطقة. تبحري في فضاءات الدراسات الإنسانية علمني درس بالغ الأهمية. وجهني لفت انتباهي لكي أنظر بعمق في جزور الظواهر ألا أكتفي فقط بما ظهر فيها للعيان. عليه صوبت اهتمامي بشكل مكثف لدراسة تاريخ النوبيين بكل مراحله. بالإضافة إلى ذلك وسعت دوائر اهتمامي لتشمل كل ما له علاقة بخصائصهم الأساسية المجتمعية والثقافية والنفسية الطابع. لم تخيب توسعة دائرة اهتماماتي وأهدافي ظني إذ أثبتت لاحقاً فيمتها العالية المضافة. إذ وفرت لي إضاءات مدهشة جعلت عمارة قراهم التقليدية التي ذوبتها مياه بحيرة ناصر تبرق تومض. جعلتها كأنها بعثت من جديد لتحكي عظمة ونبل حياة هؤلاء الفلاحين النوبيين البسطاء. حققت ذلك بمحاولة التعرف على الصلات والعلاقة بين أجزاء وملامح من عمارة قراهم التقليدية. بينها بين تفاصيل من واقع حياتهم خلال تلك المرحلة التاريخية. بجوانب من سماتهم المجتمعية والثقافية وتلك الشواهد التي تشير لمؤشرات مهمة عن تركبينهم النفسية. تقويم الأمر بكاملة متروك لكم أنتم كل ينظر إليه من زاويته الخاصة. المهم هنا أن تستوعبوا أن كل ما أشرت إليه هنا عن الحالة النوبية هو تفسير وتأويل ليس بتحليل. لأن التحليل غير مجدي مع مثل هذه الحالات ذات الأبعاد الإنسانية فمجاله هو تلك ذات الطابع المادي.
الكثير مما أشرت إليه هنا حفلت به ثنايا رسالتي للدكتوراه التي أشرت إليها من قبل. لكنني أعتز بأنني منذ تلك الحقبة التي تعود لعدة عقود من الزمان لا زلت مهموماً بهذه الحالة النوبية. لدرجة تكاد تكون أكثر من أهلها أصحاب الوجعة الأصليين النوبيين. بالرغم من أن جزوري النوبية قد تلاشت بعد عدة قرون فصرت مستعرباً. عدة شواهد تدل على درجة افتتاني بحضارتهم وثقافتهم المتميزة. تشيئ بها واحدة من حالات الوجد الفاضح مرثية (مناحة عديل كدة). سطرتها في منتصف عقد الألفية الثاني بمناسبة مرور نصف قرن على إغراق ذلك الجزء العزيز من موطن النوبيين. الزاخر بكنوز معمارية من عصور ضاربة في القدم وأزمنة حديثة نسبياً لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها. بداية ظهور أعراض افتتاني بهذه الحالة طفح في وسائط الاتصال الجماهيري كما ذكرت من قبل في منتصف السبعينات. عبرت فيها عن تلك الأحاسيس في عدة مقالات في مجلة الخرطوم. مطلع الثمانينات أرخ لبداية معركتي الكبرى والجهاد الأكبر التحضير لدرجة الدكتوراه. التي احتلت الحالة النوبية مركز الصدارة والقلب النابض في رسالتها. إنجاز تلك المهمة بامتياز لم يكن يعني بالنسبة لي نهاية المطاف. لم ينه علاقي بهذه الحالة كما يحدث مع بعض الزملاء. كانت مجرد استراحة محارب فصيرة الأمد. نقلت بعدها الجهاد المستميت والبحث المضنى الدؤوب عن تلك الحالة إلى ساحات أخري. من منطلقات جديدة أساسها مزيد من التأمل المعمق المتصل.
عدت من البعثة في نهاية الثمانينات وانخرطت مرة أخري في التدريس في قسم العمارة في جامعة الخرطوم. كانت مرحلة مفصلية بالغة الأهمية في مسيرتي في هذا المجال. دخلتها باستراتيجية واضحة المعالم نابعة من طبيعة مجال تخصصي. الذي وضعني بجدارة في المقدمة كاختصاصي في مجال تاريخ ونظرية العمارة لا زلت كذلك إلى حد بعيد. عزز من موقفي تكليفي في بداية التسعينات بتوثيق حالة السودان في دائرة معارف عالمية أشرت لها من قبل. أضاف لدوري الطليعي في ذلك المجال انتشاري في عدد من كليات وأقسام العمارة التي أنشئت في العقود السابقة. موقعي المتقدم في تأسيس وإدارة شئونها بعضها جعل دوري عميق الأثر. في تلك الأطر من منطلق تخصصي كان لدي هدف أساسي سعيت بكل الطرق لتحقيقه. أن أضع حالة السودان بكل عصورها وجوانبها في قلب الحدث في المقدمة. بعد أن عانت من التغييب في مجال تعليم العمارة لعدة عقود من الزمان لا زالت إلى حد بعيد. تغييب أثر سلبياً غلي تدريس مكوناتها وحقبها تحديداً التاريخي والتقليدي. المحزن أيضاً أن بعض مكونات مقررات الحداثة لم تسلم من مأخذ واضحة إذ تم التعامل معه بطريقة مبتسرة سطحية. لا أريد هنا أن أخوض في هذه المسائل لأنها خارج إطار هذه المقالة. لكنه أمر في غاية الأهمية نسبة لإسقاطاته بالغة الأثر كما سأوضح لاحقاً.
بدأت دأبي لتحقيق تلك الأهداف النبيلة بعد عودتي من البعثة بقسم العمارة بجامعة الخرطوم. الذي لم تكن الأوضاع فيه بالنسبة لي مقنعة بالشكل الذي أتمناه فيما يلي مقررات تخصصي لأسباب سأوضحها هنا. فقد كانت أقل من طموحي وما هو مطلوب. أكثر ما أزعجني حالة التهميش الفاضحة التي عانى منها السودان في مقررات تاريخ العمارة بكل مراحلها ومكوناتها الرئيسة. مقارنة بعمارة كافة بلدان العالم التي تتغزل فيها تلك المقررات. فتعاملها مع مكون عمارتنا الكلاسيكي عانى من ضمور واضح وتعامل سطحي. فشل في الغوص في خبايا كنوز إرث حضاراتنا الضاربة في القدم التي يهيم بها العالم حباً. تعامل جعلنا نتحسر على أيام العملاق العلامة والآثاري الرقم المرحوم بروفيسور حاكم. الذي كان يمنح عمارة هذه الحقب التاريخية كامل عنايته. كانت هناك فجوة كبيرة في تلك المقررات تجلت في تجاهل شبه تام لعمارتنا المحلية أو عمارة القبائل. تصرف استعلائي ناتج عن جهالة خطيرة مدمرة. نابع من التوجه العلماني الذي تربي عليه معمارينا رضعوه من ثدي مفاهيم فكر عمارة الحداثة. الذي لم يسمح في مقرراته بموطئ قدم لعمارتنا المحلية. بالرغم من تميزها البازخ الفائق القائم على تنوع مدهش. وجدت عمارة الحداثة السودانية نفس القدر من التجاهل والتعتيم المتعمد. إذ كان يتم التعامل معها بطريقة مبتسرة على استحياء كما أشرت لذلك من قبل.
صوبت جهد طاقتي خلال الفترة الأولي التي قضيتها في جامعة الخرطوم بعد عودتي من البعثة لتحقيق هدف أساسي. هو القيام بعمليات تقويم أساسية لمقررات مواد مادة تاريخ العمارة. بوضع السودان في المقدمة بعد فترة تهميش وصلت أحيناً إلى حد التجاهل. أقر أن الحالة النوبية كانت من أمضي أسلحتي في هذه المعركة. الأمر الذي يبرر مقدمة هذه المقالة الطويلة المعنية بشكل أساسي بأمرها حسب ما ورد في عنوانها. فمخزونها المعماري متعدد الجوانب كان خير معين لي في تحقيق اختراقات مؤثرة مضت عبر ثلاثة محاور حققتُ من خلالها أهم أهدافي. في البدء أغاثني هب لنجدتي تراثها المعماري الكلاسيكي الذي يعود بنا لألاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح. غني عن التعريف إذ تعرفه تفتتن به تمجده أكثر منا للأسف جهات أجنبية غربية. تقدم الحالة النوبية نفسها باعتداد مرة أخري بالرغم من بساطة مواد عمارتها. لتسدي لي خدمة لا تقدر بثمن في إطار تحقيق أهداف مراجعة مناهج مادة تاريخ العمارة. تهدي لي هذه المرة أنبل الهدايا من خلال بيوت فلاحيها التي كانت تطوق شواطئ النهر. عمارة طينية مفرطة البساطة لكنها زاخرة بمعاني مضامين تعبر عنها قيمتها النحتية العالية وزخارفها المدهشة. الهدية الثالثة التي أنعمت على بها الحالة النوبية تخاطب مسار أخر من مسارات العمارة السودانية. يتنكب درب الحداثة ليقفز فوقها إلى مرحلة ما- بعد- الحداثة. هدية اجتهدت كثيراً لفك طلاسم وأسرار عمارتها. احسب أني قد وفقت هو إنجاز تقويمه مرتهن براي العالمين ببواطن مثل هذه المسائل الشائكة.
كان قسم العمارة بجامعة الخرطوم خلال فترة ما بعد عودتي من البعثة في نهاية الثمانيات هو منصة انطلاقتي الثانية في سوح العمارة. التي تمددت لقرابة العقد من الزمان كانت من أخصب سنوات عمري المهني بالرغم من قصرها النسبي. حططت رحلي بها بعد أن تسلحت بذخيرة معرفية عززتها بزخم من مجال الدراسات الإنسانية كما أشرت إلى ذلك من قبل. التي فتحت لي أبواب مشرعة أعانتني على فهم معمق للعمارة. حلقت فيه بأجنحة مفاهيم مارتن هايدغر المشتقة من نهجه الفلسفي المعروف باسم الظاهرية. التي جسرتها تفاسير المعماري الفيلسوف العبقري كرستيان نوربيرغ-شولز. خلفية مثمرة زودتني بالأدوات اللازمة لتوظيف العمارة النوبية بشتى الطرق لإحداث اختراقات مقدرة. أعانتني كثيراً في تحقيق أهدافي الموجهة لمراجعة مقررات تاريخ العمارة. التي سعت لوضع السودان في مكانه الطبيعي في المقدمة. أهداف أعانتني تلك العمارة على تحقيقها في كافة مكونات المقررات المستهدفة كما سأوضح هنا.
بدأت مساعيي لتحقيق هذه الأهداف النبيلة بطريقة منطقية بالعمارة الكلاسيكية. فوجدت مكونها النوبي في انتظاري بكافة عتاده العظيم ذاك. وجدته يصدع متباهيي بروائعه التي كانت تزين الصحاري المحيطة بالنهر الخالد في شمال بلادنا حتى أجزائها الوسطي. أمجاد كانت تزهو بها تلك العصور لفترة بدأت منذ الأف السنين قبل ميلاد السيد المسيح تمددت لعدة قرون بعد ميلاده. لتؤرخ لعصور مجيدة متتابعة بداءً من ممالك حضارة كوش في نسق متوالي حتى انهيار مملكة سوبا المسيحية. لترسم لوحات متتابعة من عمارة الحجر الرملي والطوب الأحمر. متباينة الاستخدامات تتصدرها المباني العبادية من أهرامات ومعابد. لترسم صورة عمارة زاخرة بالمعاني والمرموزات تنتظر المعماري الأريب الذي يفك شفرتها. مع أني لا أدعي الذكاء الخارق إلا أنني أزعم أنني اجتهدت في استثمار ما استوعبته من ذخيرة معرفية ورؤى فلسفية مذهلة. سمحت لي بالغوص في معانيها العميقة بشكل أجلي الكثير من عظمة إشراقاتها المعمارية. فضربت أكثر من عصفور بحجر واحد علي أمل أن يستفيد طلابي من هذه الدروس. الأول هو تدريب الطلاب على كيفية النظر إليها بعمق ونهج فلسفي يخترق منظرها الخارجي لينفذ لمعانيها المستبطنة. الدرس الثاني الذي لا يقل أهمية هو لفت النظر لعظمة تراثنا المعماري التاريخي المغيب. درس أخر لا يقل أهمية مضمن فيه هو دور المكون النوبي في هذا الإرث الفخيم. بذلك أري نفسي قد قدمت مساهمة متميزة في إثراء مقررات مكون تاريخ العمارة. خطوت من خلالها خطوة مقدرة في تحقيق هدف مهم هو وضع السودان في مكانه الطبيعي الطليعي. منافساً لعمارة كلاسيكية لحضارات غربية مثل عمارة اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية.
اختراقي الثاني في معركتي لتطوير مناهج مواد تاريخ العمارة كان بمثابة معركة كبيرة. كان على أن أخوضها للتأسيس وتضمين العمارة المحلية كجزء أصيل منها. خطوة كانت تعني وضع أقدامي على أرض بكر. في محاولة لإزالة جدار عالي أسس له مفهوم متوارث. لا يعترف بها ككيان يعتد به دعك من تضمينها كجزء من المناهج الدراسية. مفهوم راسخ جزء من إرث متجذر عمقته مفاهيم فكر عمارة الحداثة التي غسلت أدمغة أكثر من جيل من معمارينا. عليه فإن التجاسر بتضمينها في مقررات تلك المادة كان يحتاج لمعركة ضارية. استعنت فيها استجرت بالحالة النوبية. متحصناً بعمارتها الطينية التقليدية التي رسمت لوحات مترفة الجمال محتشدة بالزخارف ضاجة بالمرموزات والمعاني. هي التي منحتها قيمتها الإضافية العالية السامية. تقديمها للطلاب في هذا الإطار كان في حد ذاته واحد من أهم أهدافي. كان بمثابة جواز مرور لقلوبهم قبل عقولهم. مما يجعل تدريس ذلك المكون من مقررات تاريخ العمارة بمثابة حصة في التربية الوطنية. لتحل محل الخطب العصماء والأناشيد الوطنية التي ضعفت فعاليتها بكثرة تكرارها. لدي قناعة راسخة بأن مكون العمارة المحلية يحمل رسالة بالغة الأهمية متعددة الجوانب والفوائد. لعل من أهمها تعريف السودانيين ببعضهم البعض. بشكل يجعلهم يكتشفون قيمة كل قبيلة من القبائل من خلال خبايا وجوانب عمارتهم المحلية. ألف شكر للعمارة النوبية التقليدية فقد أعانتني كثيراُ في تحقيق تلك الأهداف النبيلة.
كانت هناك جبهة ثالثة تحركت فيها بعد عودتي من البعثة لجامعة الخرطوم في سبيل تطوير مناهج تاريخ العمارة في قسمها. كان أمرها في غاية التعقيد واجهت فيها تحديات لا تخطر على بال من ينظر إليها بطريقة سطحية. إذ أنها كانت معنية بعمارة الحداثة التي كانت لا زالت تعيش شهر عسل سعيد متطاول في ديارنا. أرده لحالة عدم مواكبة كانت سائدة بيننا يشار إليها باللغة الإنجليزية بال. Time lag نلاحظها عند عدد مقدر منا لا زال يتمسك بموضات أزياء و تصفيفات شعر تركها تجاوزها العالم الغربي مصدرها الأساسي. هذا عين ما كان يحدث عندنا في نهاية الثمانينات عندما عدت من البعثة. لا زال عدد مقدر بعضهم أساتذة جامعيين يتمسكون يستعصمون بنهج الحداثة. يستميتون في الدفاع عنه بشكل لا يقبل مبدأ المراجعة والتراجع. موقف سببه الأساسي غياب المواكبة الجادة خلال حقبة بدأت شمس ذلك التوجه تغرب في العالم الغربي التي صدرها لنا. إعراض وحركة رفض واسعة النطاق عندهم أنتجت حركة عريضة مناهضة يشار إليها ب ما- بعد- الحداثة. استشعاراً تفاعلاً مع هذه الحركة الواعدة بدأت أبشر بها معددً مفنداً مبرراتها المقنعة. التي يفترض أنها أكثر أقناعاً بالنسبة لنا لأسباب موضوعية. طفقت أحاول بقدر الإمكان أن أجد مبرر لتبني هذا التوجه الجديد. من المدهش حقاً أني وجدت الحل في رحاب جذور ومكونات الحالة النوبية التي هبت لنجدتي للمرة الثالثة. بعد الخدمات العظيمة التي أسدتها لي من قبل في حالة العمارة الكلاسيكية والمحلية كما وضحت من قبل.
ظهور توجه ما- بعد- الحداثة في الغرب في منتصف السبعينيات وسطوع نجمه بشكل تصاعدي كانت له مبررات مقنعة. من أهمها انتكاسات تعرضت لها عمارة الحداثة أوصلتها لوضع مأزوم. أفرز ذلك التوجه الجديد عدة مدارس سعي كل واحد منها لتجاوز واحد من جوانب إخفاقات تلك العمارة. محققاً تلك الأهداف النبيلة من خلال طراز بديل محدد السمات. تتبعت تلك التطورات كنت شاهد عصر عليها خلال الفترة الأخيرة من سنوات بعثتي هناك. تشربت تشبعت بكل أبعادها بشكل مكنني بجدارة بالتبشير بتوجهاتها الجديدة. أنزلتها على أرض الواقع في محاضراتي بقسم العمارة بالجامعة. في هذا الإطار أعانتني الحالة النوبية فقدمت لي نماذج معمارية معبرة جداً من خلال حقبها التاريخية ومكوناتها المتنوعة. مثل عمارتها الكلاسيكية البازخة التي تعود بنا لبضع ألاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح. بالإضافة لمكونها المحلي المدهش التي سطع في بيوت قراهم الوادعة قبل أن تغمرها مياه السد العالي. حالتان تجلسان بارتياح وجدارة في إطار مدرستي الكلاسيكية الراجعة والمحلية الراجعة. اللتان تحتلان موقعاً متقدما في توجه ما- بعد- الحداثة العريض. ليقدما خدمة لا تقدر بثمن تمكن عدد محدود جداً من معمارينا في اغتنام فرصتها. على راسهم المبدع الرائع المعماري السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص الذي أجاد في استثمار تراث العمارة النوبية. أضيف إليه عباقرة في الغرب مثل شارلز مور. الذين مكنتني أعمالهم من توصيل أفكار هذا التوجه لطلابي. لكن يجب أن أقر أن العمارة النوبية بكافة مكوناتها كانت الشرارة الأولي.
انتهت مرحلة انطلاقي من منصة قسم العمارة بجامعة الخرطوم في منتصف التسعينات. التي هيأتني لاحقاً للعب أدوار محورية أساسية في مجالي. سعيت من خلالها للتبشير ونشر أفكاري الجديدة حقيبئذ. التي لا زالت إلى حد بعيد كذلك حتى الوقت الراهن نحن في بداية عقد الألفية الثالث. انتشار كانت منصاته سوح عدد من كليات وأقسام العمارة داخل وخارج السودان. تمددت لتغطي تخصصات أخري مثل التصميم الداخلي والتصميم الحضري والفنون الجميلة. في هذا السعي الدؤوب حططت رحلي في براحات ذلك التخصص الأخير. إذ كلفت بتدريس مادة في مقرر ماجستير بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية. تجاوز عطائي المستوي الجامعي ليتعامل مع درجات أعلي الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه. ساعدني هذا الانتشار الراسي في عدة مستويات والأفقي عبر تخصصات متنوعة في نشر أفكاري الجديدة. التي لامست بحكم طبيعتها وأفاقها الفلسفية الرحيبة عدد من المجالات المعرفية. أعانتني عليه فلسفة مارتن هايدغر الفضفاضة التي تتمدد من العالم المادي ما هو ملموس إلى أفاق الأحاسيس الإنسانية الرفيعة. كانت العمارة النوبية دائماً بكامل مكوناتها وتفاصيلها خير معين لي في تطوافي ومغامراتي الفلسفية في تلك المنصات. ظاهرة تدل على ثرائها مما يشيئ بأنها تشكل أرضية خصبة بكر تحتاج لمن يكتشف المزيد مكنوناتها.
حملت معي تلك الرسائل المدهشة عن العمارة النوبية بكافة مراحلها التاريخية ومكوناته إلى فضاءات وسائط الاتصال الجماهيري. في إطار جهد نزرت نفسي فيه لإنزال عالم العمارة من برجه العاجي إلى عامة الناس. فاغتنمت فرصة في الصحافة عندما منحتنني صحيفة السوداني في العشرية الأولي من الألفية صفحة أسبوعية كاملة بالألوان. أسميتها عمارة الأرض اجتهدت كثيراً لكي تكوني معبرة بحق عنه بتناول العديد من المواضيع المؤثرة. كانت من ضمنها الحالة النوبية وعمارتها البازخة التي وجدت تجاوباً وتفاعلا ملموساً. لدرجة أن أحدهم هو صحفي مرموق كان كل ما يلتقينني يردد على مسمعي عنوان تلك المقالة. عدلت استراتيجية غزواتي في محافل الاتصال الجماهيري في نهاية الألفية الثانية عندما حدت ظروف صحية من حركتي. فتوجهت نحو الاسفيرية منها بدأتها بمدونة في الفيس بوك. أخدت راحتي فيها بالكامل إذ عززتها باستعراض صوري الفتوغرافية. لدهشتي الشديدة وجدت تلك المدونة إقبال منقطع النظير. عمقه عدد مقدر من متابعيها ليست لهم علاقة مباشرة بمجال العمارة. تمددت مساحتي الإسفيرية عندما صارت مقالتي تنشر في نفس الوقت على منصة أل LinkedIn. وجدت الحالة النوبية بعمارتها بازخة الجمال مكانها الطبيعي المتقدم في تلك المساحات والساحات الإسفيرية. في حالة مشابهة لما حدث من قبل في الصحافة الورقية حصدت إقبال منقطع النظير. تطورات تحض تتحدي التجاهل الذي تلقاه في مدارج العلم بتوجهاتها الجائرة.
أطلعتكم على جوانب من مسيرة مساهماتي في سوح الكيانات الجامعية ووسائط الاتصال الجماهيري. لم أفعل ذلك بغرض التباهي بالرغم من أنه حق مشروع مستحق. جهد كان جزء مقدر منه مبذول للحالة النوبية التي تستحق أكثر مما قدمته لها هنا. قصدت اجتهدت من خلاله أن ألفت الانتباه لثرائها البازخ. ثراءً متمدداً بلا حدود مهما قلت عنه فأن ما خفي كان أكثر وأعظم. قناعة توصلت إليها من تعاملي معها لأربعة عقود من الزمان. وضحت لي أن هناك جوانب بكر لا زالت تحتاج لمن يرفع النقاب عنها يستكشف أسرارها. على سبيل المثال أخر إنجازات عالم الأثار السويسري الراهب المتبتل شارلز بونيي في منطقة كرمة. بالإضافة للكثير الذي يحتاج لإضاءات وتمحيص متأني فيما هو مكتشف ومعروف. يستوي في هذه الأمر شقي العمارة النوبية الكلاسيكي المفرط في القدم والمحلي الذي كان يرصع واجهات بيوت قراهم. واقع مدهش هو الذي أوحي لي بعنوان هذه المقالة. فنحن أمام حالة تنتظر كل مرة اليوم السابع من الشهر السابع من العام. نتذكرها من باب المجاملة لننساها تماماً بعد ذلك. يجب أن تكون ذكراها مشتعلة دائماً لنترجمها في شكل بحث دؤوب مثمر. أحدهم، هو معماري منهم ملأ الدنيا ضجيجاً عن مجاهدات مقاومته لقرار تهجير أهله في الستينيات ثم لم نسمع له خبراً بعد ذلك. تعامل معها مثل حالة أداء الخدمة الإلزامية أو الدفاع الشعبي. قام بالواجب استلم شهادة إعفاء ثم نام (عالخط) كما يقول المثل المتداول. زميل أخر منهم أيضاً نصب نفسه المؤرخ الموثق الأول الأوحد للعمارة السودانية بدون مسوغات تخصصية علمية مقنعة. سلط الأضواء علي عمارة المدن تفرغ لها ونسي تراث أهله.
تعاملي مع هذا الموضوع حماسي الفائق له لا يعني أنني من عبدة الأوثان مثل تلك الشواهد التراثية نبيلة المظهر والمخبر. ما أقوم به ليس حالة متقدمة من لطم الخدود وشق الجيوب. مقصدي موضوعي مؤسس على أهداف بعيدة تماماً عن نهج النقل الحرفي غير المجدي. نبيل يبدأ بالتعرف بعمق على ذلك التراث البازخ لصناعة واقع معاش مشبع بمعانيه السامية. أشرت لنماذج مما أعنيه مترفة الروعة منها ما هو في العالم الغربي مثل متنزه دا إيتاليا. الذي صممه العبقري شارلز مور في مدينة نيو أورلينز الأمريكية. أعاد فيه اكتشاف عظمة عمارة عصر النهضة الإيطالية فقدمها بفكر وإهاب جديد. حالة تغزلت فيها في أكثر من واحدة من مقالاتي. في حالة سودانية نجح المعماري السوداني ذو الأصول الأرمنية جاك إشخانيص في الاستثمار في عمارة بيوت قري النوبيين التقليدية. جعلها جاذبة نجح في تسويقها لأثرياء المدينة فرصع أحيائهم بروائع عمارة الفيلات. دخل في هذا السباق بقوة الشاب النوبي النابه المعماري طلعت دهب أو أباظة. اقتحمه بثقة بعمل بالغ التميز هو مجمع سفارة السودان بالدوحة عاصمة قطر. فسطع نجمه حصد إعجاباً غير مسبوق لدرجة أن تلك الدولة أصدرت طابع بريد احتفاءً بهذا العمل المعماري. دَرسته بعناية فائقة متأملاً تفاصيله فوجدت فيه نموذج رائع لاستلهام التراث النوبي. بكل مراحله التاريخية وسماته وتفاصيله بروح ابتكارية فذة. مما دفعني للتواصل معه بشكل لصيق عميق. وجدت على طاولة رسمه مشاريع مستقبلية تضج بالكثير المثير الخطر كما يردد الكابلي في أحد أغنياته. فرأيت أن أدخر الحديث عنها وعنه لمقالة خاصة مطولة.
أعيد النظر لحالة العمارة النوبية بكافة أجيالها متأملاً في جوانبها المتعددة. فأري فيها من واقع معرفتي اللصيقة بها مساحات خام تنتظر من يسبر أغوارها يميط اللثام عن أسرارها. بعضها يحتاج لمزيد من الإضاءات لتجعلها تبرق فتمنحنا دروس مجانية نحن المعماريين في أمس الحاجة إليها. أعتقد جازماً أن التدبر فيها بعمق سيرفع من درجة إحساسهم بها هو عين ما فعلته بي من خلال تفاعلي اللصيق معها. التعمق فيها سهائهم أكثر للاستثمار فيها بشكل إبداعي بعيداً عن النقل الحرفي. تغيير استخدامات المكونات المعمارية يصب في هذه الخانة والأمثلة كثيرة. تقدم في هذا السياق بوابات العمارة الكلاسيكية نفسها طاعة مختارة. استثمر فيها شارلز مور في متنزه دا إيتاليا فسطعت منحت العمارة حضوراً بازخاً بالرغم من استخدامها لأغراض مختلفة. فعلها أيضاً النابه طلعت دهب في مبني مجمع سفارتنا في قطر. استلهم فكرة بوابات المعبد الجنائزي في مجمع أهرامات مملكة مروي. بلورها فصنع منها بوابة المجمع الرئيسة التي تنهض في ركنه تحرسه في إباء وشموخ. فمنحت العمارة بصمة بائنة خلبت الألباب جلبت له سمعة داويه. تقدم العمارة النوبية نفسها مرة أخري بسخاء بعيداً عن الكلاسيكيات. فبيوت الفلاحين طينية العمارة التي كانت ترقد بوداعة على ضفة النهر. تقدم نفسها في دلال بائن مستجديه استلهام المعماري الأريب. اكتشفت فيها جوانب ثرة قابلة للتدوير بذكاء وروح إبداع عالية. إشراقات المعماري الفنان الحريف جاك إشخانيص المتدفقة في هذا السياق لم تكشف إلا قمة جبل جليد كامن في عمق البحار. أنها دعوة مغلفة بالاستفزاز أملاً في أن تحرك غيرة المعماريين المبدعين.
سعدت للغاية عندما سمعت بحملة كبيرة منظمة ستمكن النوبيين الذين تم تهجيرهم من قبل للعودة لموطنهم الأصلي التاريخي. خطوة عظيمة نتمنى أن تكلل بالنجاح لتجمعهم مع إخوتهم الذين تمسكوا بأرض أجدادهم بالرغم من ظروف بالغة الصعوبة. يبقي السؤال الملح، ماذا أعدوا لهم هناك؟ هو امتداد لسؤال محرج أخر، ماذا أعدوا من قبل لمن تمسكوا بالأرض بالرغم الظروف الصعبة التي عانوا منها. وصف أحدهم حالهم المحزن خلال السنوات الأولي بعد بناء السد العالي. بأنهم كانوا يتحركون ببيوتهم التي شيدوها على عجل كل عام بعيداً من البحيرة مع ارتفاع منسوب مياها. زرتهم في بداية الثمانينات فكان حال مساكن أغلبهم بلا شك أقل من طموحهم. لا يرقي بأي حال من الأحوال عما كانت عليه قبل الفيضان وغرق مدينتهم وديارهم. لا أظن أنه قد اتخذت أو ستتخذ خطوات لتعويض المهاجرين الجدد بجزء من موطن يحمل ملامح فردوسهم المفقود. لم أسمع بأن هناك جهة فكرت في خطوات في ذلك الاتجاه الطموح. للتعامل مع هذا المشروع الذي يشكل تحدياً يحلم به المختصين في عدة مجالات. التخطيط العمراني والعمارة وباقي التخصصات ذات الصلة بمثل هذه المشاريع. كل المعنيين بصياغة واقع جديد يعيد لهم ذكريات ماضيهم التليد. حسب علمي ليس هناك مجرد فكرة تسعي لتحقيق ذلك الحلم المرتجى.
منذ أن سمعت بأخبار عودة هؤلاء المهجرين صرت احلم بمشروع إسكاني نموذجي صغير. أشبه بما أنجزه حسن فتحي في صعيد مصر في خمسينيات القرن الماضي. تجاوز حلمي تلك الصورة برؤية تستثمر في أخر تقنيات البناء بالتراب المثبت تشكل حالة زواج سعيد. بين أخر مخرجاتها مع طرق مستحدثة لتطريز أسطح المباني بنقش بارز يضج بموتيفات عمارتهم التقليدية المدهشة. تعود بنا لأيام بيوتهم التقليدية مفرطة الوسامة. لدي رؤية متكاملة لما أقوله هنا تحتاج فقط لهمة من قبل جهات نوبية مقتدرة. أعجب لتقاعس بعضهما بالرغم من إمكانياتهم المهولة أشير هنا لواحدة منها. منحتني من قبل شرف تقديم أول فقرة في مهرجان ضخم. نظمته صرفت عليه بسخاء احتفاءً بالحالة النوبية في عشرية الألفية الأولي. لكنها تقاعست لاحقاً عندما تقدمت لها بمقترح مهم معني بشأن عمارة أهلهم في موطنهم التاريخي. بحث ميداني الهدف منه جمع معلومات مهمة ستشكل أرضية أساسية للتعامل مع عمارتهم في مقبل الأيام. تجاهلوا طلبي مع أنني لم أكن أبتغي من ورائه مغانم مادية شخصية مع أنهم يصرفون المال بكرم فياض لتكريم المغنيين. نوبي أخر أحرز نجاحات فائقة في المجالات الزراعية والصناعية. أسس قناة فضائية ناجحة وامتلك أسهم مقدرة في أخري لها شعبية كاسحة. استجديته أكثر من مرة لكي يمنحني مساحات في قنواته نعكس من خلالها عظمة كسب شعبهم المعماري عبر العصور. فاصطدمت محاولاتي الملحاحة بحائط صد عنيد. سببه تخصيص جل برمجة القناتين للثرثرة السياسة ومهرجانات الغناء مكررة المحتوي سطحية التناول. عموماً أتنمي أن يتبني النوبيين المقتدرين مشروع استثمار عقاري (حِنين) يوفر بيوت للبسطاء من أهلهم عمارتها نوبية الهوى والهوية.
تبدو الصورة قاتمة لا تنبي بفرج قريب يكون في صالح الحالة النوبية وعمارتها البازخة متعددة الحقب والجوانب. تشاءم مؤسس على تقويم موضوعي للواقع المعاش المازوم. حالة يمكن تجاوزها عبر أكثر من محور مهم أساسي. على راسها تعليم العمارة الذي تدفقت تمددت مؤسساته. بعضها من واقع حاله يجسد حالات محزنة هي أقرب إلى الوهم التعليمي. يمكن أن يستشفها المرء بالتحديق فيمن هم في كابينة القيادة في عدد منها وهو مؤشر مزعج. أدقق النظر مركزاً على توجهات بعينها ومناهج محددة فأكاد أصاب بحالة يأس مما هو مقبل في قادم العهود. سبب العلة الأساسي هنا عدد مقدر منهم صار الواحد منهم اختصاصي بالتقادم ووضع اليد. كان الأمل معقود في برامج الدراسات العليا لسد هذا الفراغ. لكنها للأسف الشديد صارت في قبضة نفس الحرس الذي يدير تلك المؤسسات بنفس المفاهيم الموروثة المرتهنة للفكر العلماني. مسار أخر كان يمكن أن يضفي بصيص أمل علي هذه الصورة القاتمة هو النقد المعماري. الذي يعاني لنفس الأسباب السابقة الذكر من (أنيميا) فقر دم حاد مزمن. ناتج عن تطفل أدعياء غير مؤهلين فرضوا أنفسهم بدون مسوغات علمية تخصصية مقنعة مما يزيد الصورة العامة قتامة. عوامل متعددة أضعفت من موقف حالة العمارة النوبية بكل نبلها وألقها اللافت جعلتها تتواري خجلاً. باعتبار أن مكونها الكلاسيكي وفق تقويمهم المختل قد تجاوزه الزمن. أما التقليدي فهو بالنسبة لهم ضرب من ضروب الدجل والشعوذة. تقويم ظالم انتقص من شأن هذه العمارة جعل الإشارة إليها إن دعي الحال يمكن تغطيته في يوم واحد كما هو محدد لها.
ثمة إفادات مهمة كان يجب أن أختم بها هذه المقالة المرافعة التي قصدت بها ألقاء الضوء على عظمة الحالة النوبية. المتجسدة إلى حد كبير في عمارتها بكل مراحلها الزمانية ومكوناتها المتعددة. أعظم ما كتب عن هذه الحالة النوبية بتركيز على تجربة تهجيرهم هو وليام أدامس في كتابه الأشهر Africa Nubia Corridor to. تَرجمتها بالعربي النوبة ممر لأفريقيا. بالرغم من إعجابي الفائق بكتابه إلا أنني أتحفظ على عنوانه لأسباب موضوعية مقنعة. فكلمة ممر تشيئ بسلبية النوبة وأهلها هم يبسطون أرضهم بسخاء منذ عصور ضاربة بالقدم حتى أزمنة أكثر حداثة. لتمر منها الحضارات والديانات بأنواعها المتعددة تغمر باقي البلاد منتشرة في العمق السوداني. السودان. كلمة مصطلح يوحي بأنهم استسلموا طوال تلك العصور كانوا مجرد متلقين ليس لهم دور فعال في مواجهة تلك الغزوات الحضارية. كأنهم كانوا مجرد ممر أشبه بال (الماسورة). عبارة انتشرت بيننا في الفترة الأخيرة ذات دلالات سلبية لكل من يوصف بها. الرد المفحِم على مصطلح الممر الذي وصف به أدامس حالة النوبة وأهلها سأستخلصه من واقع عمارتهم عبر العصور. سلاحي المضاء الذي أجيد التعامل معه وبه عملاً بالمثل الشهير ومبدأ من دقنوا وفتلوا. سأثبت بشواهد معمارية الأساليب التي تعامل تفاعل معها شعبهم مع الحضارات والديانات الوافدة طوال تاريخهم. التي تدل علي روح ابتكار واعتداد عالي بالنفس حافظ علي هويتهم. معارك خرجوا منها دائماً رؤوسهم مرفوعة.
سأبدأ بواحد من أول اهم إشراقاتهم المعمارية التي تدل علي روح ابتكار بالغة التفرد ارتبطت بمملكة من أقدم حضاراتهم. الدفوفة ذلك الصرح الشامخ الذي زين أفق كرمة عاصمة أول ممالك حضارة كوش الذي حملت نفس الاسم. عمل مدهش للغاية بازخ حير علماء الأثار والتاريخ الذين ما زالوا يجتهدون في فك سر شفراته. قبل أن يفيقوا من تلك الصدمة فاجأوهم الكوشيون بأخرى هم على وشك أن يطووا صفحة عصر حضارتهم النضر. كان لها بلا شك أيضاً نفس الأثر على جيرانهم الفراعنة. إذ أسسوا لكيان جديد ساطع الحضور بلغة مختلفة وإله إضافي وعمارة أهرامات متفردة. إنجازات أعلنوا عبرها الخروج من بيت طاعة حضاري متطاول عبر مملكة مروي. فعلوها مرة أخري في عهد مختلف عندما رفع الإسلام ألويته على أرضهم في العصور الحديثة. لم يستسلموا في عمارة بيوتهم على ما جاء به في جعبته من تراث راسخ. إذ رَصدت حالات ة بالغة التميز لا أحسب أن أحدهم قد انتبه لها ضمنتها في صلب رسالة الدكتوراه. كان الإسلام قد أنتشر في أرضهم عبر ثلاث مسارات فقسمهم لثلاثة مجموعات عرقوا-لغوية النوبيين الكنوز والفديجا والمحس. عظمة هؤلاء القوم أنهم تفاعلوا مع تلك الأحداث بروح ابتكار لا مثيل لها. رصدت تنوع بائن بين بيوت تلك المجموعات وثقته أشرت إليه في رسالتي. هل نحتاج لدليل أكبر من ذلك للإشارة للطاقة الإبداعية الهائلة لهؤلاء القوم. أضيفها للحالات السابقة الدفوفة وإنجازات مملكة مروي الحضارية الثلاثة. أخري أيضاً مثل كنيسة فرص والعمارة الطوبية المدهشة في سوبا عاصمة مملكة علوه المسيحية التي يستشهد الركبان بخرابها. هل بعد كل ذلك تريدوننا أن نحتفي بالنوبة في يوم واحد في سنة؟
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أغسطس 2021