الحداثة بأمر عبد المنعم مصطفي في حي العباسية
قدم الاستاذ عبد المنعم مصطفي عراب عمارة الحداثة السودانية أنموذجاً رائعاً لهذا الطراز بحي عريق بمدينة أمدرمان. عمل معبر تجسد في دارة الدكتور حمد النيل عبد الرحمن بحي العباسية على مرمى حجر من الطرف الشمالي لشارع الاربعين. شُيد في بداية الستينات مؤرخاً لانطلاقة عبد المنعم في المرحلة الأولى من مسيرته. كان يتحسس طريقه ويجرب أفكاره الجديدة في بيوت أصدقائه من الصفوة أو الإنتليجنسيا. رغم صغر المبنى وبساطته إلا انه لخص جل مفاهيم وفكر الحداثة. روعة العمل تتجلى في حسن استجابته لعدة مطلوبات في حل مدمج واحد. تميزه نابع من ان المظهر يعبر تماماً عن الجوهر. حيث يتطابق الماعون المتجسد في العمارة مع المضمون وهو نهج الحداثة الذي صار صاحب الدار جزءً أصيلاً منه.
فكرة هذه الوحدة السكنية لها دلالات ثقافية – مجتمعية من أهمها روح الاستقلالية والانعتاق النسبي عن مفهوم البيت الكبير. أهم ما يميز تصميمها أنه يعبر بصدق عن مكانة وخلفية صاحبها الذي عاد إلى البلاد بعد سنوات في الغرب الأوربي توجهها بتخصصه في مجاله. لكنها تفعل ذلك بحساسية فائقة وبدون تعالِ على مجتمع مدينته الفاضلة أمدرمان ذات الإرث التليد. واحدة من مكونات التصميم تعبر عن توجهات جديدة زمان إذ وهي حديقة السطح الصغيرة. الواضح أن القصد من استيعابها في التصميم الابتعاد قليلاً عن عالم الحي حيث تتكاتف البيوت المتداخلة.
حديقة السطح ليست معزولة عن العالم من حولها فهي تتواصل معه بقدر محسوب بعناية فائقة. كلمة السر التخريم وبعض الفتحات على جداراتها الخارجية. اهل الدار في علياهم هناك يجول بصرهم فيمتد حبل التواصل. لكن بشكل لا يسمح باستراق النظر للجار فديننا وأعرافنا توصى بسابع جار. تتعامل الفتحات والتخريم بحكمة مع المناخ الذي لا يخلو من نزعة عدائية. تقل في الجانب الشمالي فتروض زمهرير الشتاء. مصممة بذكاء بحيث تقض طرف مستخدميها عن الجيران في الجانب الشمالي لكنها تسمح لهم بالتطلع إلى الأفق البعيد. يزداد عدد الفتحات بالجانب الشرقي المطل عل فناء الدار. تصميمها المحسوب بدقة يصد أشعة شمس الصباح لكنه يستدرج النسمات الشاردة (الهمبريب) التي توفر أجواءً مثالية.
مكونات وحدات الفتحات تشكل عنصر وحدة بين جوانب المبنى. فهي في الجانب الشمالي والشرقي عبارة عن مكعبات أسمنتية مجوفة مثبتة في الحوائط. منظرها على واجهات المبنى اشبه بالدانتيلة في الفساتين الانيقة. التي ترصع الحائط الشمالي موزعة بإيقاع محسوب بعناية. في الجزء الاعلى أنصاف فتحات بدون مكعبات كأنها تذوب في الفضاء. تذكرني بمقاطع من أغنية – يأخي بعد الشر عليك- للأستاذ محمد الأمين حين يغرد في أولها ويترك الباقي معلقاً في الهواء. جاءت أنصاف المربعات التي تغازل الأفق في نفس هذا السياق. تشكل منظومة الفتحات ملمحاً جمالياً أضفي على العمارة صندوقية المظهر دفقاً من الحيوية. بالإضافة إلى ذلك منحتها هوية وبصمة مدارية.
يتوشح المبنى بجماليات عمارة الحداثة. تقدم نفسها في حسن التناسب والتناسق وهو أحد اهم مفاتيح اللعب عند استاذنا عبد المنعم مصطفي. تكمن الجماليات أيضاً في تناغم الأضداد. في حوار الكتلة مع الفراغ ومناجاة الاسطح الناصعة البياض التي تغازل فجواتها المظلمة. تتواصل لعبة التناغم والحوار بين الاسطح الناعمة المدهونة بالباماستك مع مساحات الطوب المحتشدة بالتضاريس. هذا الزخم عوض العمارة عن جماليات المحسنات البديعية الكلاسيكية مثل الآرشات وأعمدة حضارة اليونان القديمة. إذ تجلت الحداثة هنا في أبهى صورها فجاءت معبرة عن شخصية الدكتور حمد النيل وقدمته لأهله ومجتمعه بدون ما تعالِ أو غرور.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- سبتمبر 2018