الشرفة أو البلكونة: هل من عودة هل؟
الشرفة هي ذلك الجزء الصغير الناتئ الناهض أمام الواجهة في طوابق المبنى العليا. أعتدنا نحن و بعض الدولة العربية الأخرى أن نسميه البلكونة. الواضح أن التسمية تحريف لمسماها باللغة الإنجليزية بالبالكونيbalcony. لا أدعي بأني قد قمت ببحث عميق ضافي عن أماكن و تاريخ ميلادها في العالم الغربي. لكني اجتهدت نوعاً ما في تتبع أثارها هناك. ثمة مؤشرات لاجتهادات خلال فترة حضارة روما القديمة. مهدت الطريق لخطوات خجولة شهدتها عصور أوربا الكلاسيكية تحديداً فترة العمارة القوطية. تجلت تحديداً في بعض أعمال المعماري الإسباني العبقري أنطونيو قاودي التي تميزت بشطحات معمارية مشهودة. ممهدة السبيل لعصر النهضة الذي وضعت فيه البلكونة أطراف أقدامها تحديداً في روائعها في إيطاليا. مقدمة نفسها على استحياء في عمارة قصورهم بما فيها القصر الحضري. الذي بذل له أصحابها الغالي و النفيس لتشييده و رعته موهبة و علم أميز المعماريين زمانئذٍ. ظهرت هناك على استحياء بشكل صغير متواري نوعاً ما. إذ منعتها خامة الحجر المستخدمة في تشييدها من النهوض بجسارة أمام واجهات المبني.
تم تحرير البلكونة من إسارها في العالم الغربي في زمان الحداثة خلال العقود الأولي من القرن العشرين. عندما تسارعت خطي تطور مواد البناء فشهدت تقدماً ملموساً. فتسيدت المشهد المكونات الحديدية مثل سيخ التسليح ليشكل ثنائية مدهشة مع رفيقة دربه خامة الإسمنت. مُطلين معا على عالم العمارة في شراكة ذكية مبهرة. حررت تلك التطورات المؤثرة البلكونة من القيود التي جعلتها تظهر من قبل على استحياء. بالإضافة إلى التطورات في علم إنِشات المباني التي منحتها دفعة مقدرة جعلتها أكثر جرأة لاختراق الفضاء من حولها. فمضت تَسطع تزين واجهات العمارة تغازل أجوائها. ترفرف لكأنها فراشة ممراحة أو راقصة بالية بارعة تستعرض فنونها في مسرح البوليشوي الأشهر بموسكو. تخلصت من قيودها فلم يعد يحد من مدي تحليقها إلا مقدرات المهندس الإنشائي العلمية و طاقات المعماري الإبداعية. فتفنن فيها المعماري و أبدع فدخل معها في شراكة ذكية فأنتجا معاً مكونات معمارية مرفرفة في غاية الروعة. مما دعي المعماري الإيطالي الفيلسوف كارلو بونتي ليتغزل فيها. فيصف البلكونات الناهضة في واجهة المباني بأنها أشبه بمراكب شراعية تبحر في الفضاء.
بعيداً عن ذلك العالم الغربي ظهرت البلكونة في حضور مختلف رائع مدهش بحق في كل جوانبه. أطلت في واجهة المباني في ظل ظروف مغايرة تماماً مرفرفة متدثرة بغلالة شبه شفافة أطلقوا عليها اسم المشربية. ظروف متباينة مناخيا لكن أهم من ذلك الاختلاف الديني بكل مستحقاته. فظهرت في إهاب مغاير تحت مظلة دين مختلف عن المسيحية التي ولدت من قبل في كنفه في العالم الغربي. جاءت محمولة هذه المرة تحت راية الإسلام الذي تمدد عبر عدة قارات و بلدان. فأضفي عليها مزاج و ذائقة شعوبها بصمة متميزة. جعلتها تطل تشمخ في مظهر متفرد في كل جوانبه و تفاصيله. لم ينلنا منها للأسف إلا أثر محدود تركز في مدينة صغيرة في طرف نائي من بلادنا. عندما ظهرت كحالة استثنائية هناك في القرن التاسع عشر. زينت فيها البلكونات الخشبية محتشدة المنمنمات واجهات بيوت مدينة سواكن. تلك الجزيرة المضجعة في خليج صغير في ساحل البحر الأحمر شرقي البلاد. فطرزت هامات العمارة بشكل مدهش. سأعود إليه بشي من التفصيل لاحقاً. لكن فلننتهز فرصة تلك البلكونات لكي نجعلها مدخل نلج من خلاله لحالة السودان متتبعين أثارها عبر الزمان و المكان.
كانت بلكونات بيوت سواكن جزء مؤثر للغاية من عمارتها. نوع منها يسمي الروشان تفتح نوافذه على اعلي فتظللها تماما من الداخل. ظهرت في أشكال بديعة مترفة التفاصيل شبيه بالتحف و أروع أعمال النحت. نوع أخر بالغ التميز مغطي تماماً بما يشبه الغلالة الشفافة تسمي المشربية. عظمة فكرتها أنها تعاملت بحصافة بالغة مع عدد من أهم تحديات حياتهم. المناخية منها و الدينية ذات الأبعاد الثقافية المجتمعية. التي يتم التعامل معها بحل واحد مدمج، بضربة لازب كما يقول التعبير المتداول. سرها يكمن في غلالتها أو غلافها شبه الشفاف المكونة من أطوال متقاطعة شبيه بالعصي الخشبية. تلتقي في تكوينات هندسية بديعة تنسدل في شكل شبكة تحيط بالبلكونة. جعلت البلكونات المعلقة في الواجهات خير ملاز تستجير به نساء الدار اللائي حددت التقاليد إقامتهن في البيوت. تتيح لهن فتحات المشربية الصغيرة متابعة نبض الشوارع المصطحبة حيوية بدون انتقاص لخصوصيتهن. نفس الفتحات الصغيرة تروض مناخ منطقتهم الحار عالي الرطوبة. تصد أشعة الشمس لكنها تستدرج كل نسمة شاردة. وفرت لهن فيها أجواء منعشة فصارت كأنها مسكن قائم بذاته مجهز بالعديد من احتياجاتهن. مثل جرار الماء الشرب الصغيرة، القُلل، التي تحولها النسائم الهابة إلى مبردات. أكملت تلك البلكونات بديعة الأشكال جميلها فأضفت على منظر المدينة مسحة جمال بائنة. كسرت رتابة منظومتها المشيدة بخامة واحدة مدهونة باللون الأبيض. تبرق هنا و هناك على الواجهات كأنها قناديل مضيئة.
بعد بضعة عقود من حقبة مجد عمارة سواكن المدهشة مع مطلع القرن العشرين شهدت الخرطوم بداية تحول أساسي في هذا المجال. جاءها مع جحافل خيول قوات الجيوش الغازية. التي احتلت البلاد مدشنة لنظام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. الذي أسس لمرحلة مفصلية مهمة مؤثرة من مراحل تحور العمارة السودانية. اجتهد ليعيد أمجادها بعد سلسلة من الهزائم و الانكسارات. كان أخرها خراب سوبا عاصمة أخر مملكة مسيحية نشأت و ازدهت في موقع ليس ببعيد من الخرطوم عاصمتهم الجديدة. أتي النظام الجديد المحتل برؤية طموحة لإقامة عاصمتهم الجديدة. اجتهد لكي ينافس بها رصيفاتها في عواصم دول أفريقية كانت ترزح تحت نير الاستعمار. مبتدأين بمواد البناء و تقنياته من نقطة أقرب من الصفر. جاءت بداياتهم قوية بالرغم من محدودية الإمكانيات الأساسية المتاحة. فقدموا في سنواتهم الأولي عمارة في غاية الرصانة و الجمال و الفخامة كلاسيكية الهوى و الهوية. محمولة بشكل أساسي على أكف أعز مواد البناء عند الجانب البريطاني طوب السدابة الأحمر الذي طوروا صناعته. دعموا عضده بتقوية المباني بتطعيمها بالحجر الرملي المستخدمة في أجزاء محددة من المباني. وفائهم النابع من حب جارف للطوب الأحمر لم يمنعهم في حالات محدودة جداً من الاستجارة بالحجر الرملي كما سنوضح لاحقاً.
مضت مسيرة إدارة الحكم الثنائي المعنية بالشأن العمراني و المعماري بخطي حثيثة في عملها خلال عقود القرن الأولي. قدمت عبرها روائع من عمارة طوب السدابة التي لا زالت تتحدي الزمن. من أميزها مبني كلية غردون التذكارية و توأمه مبنى الحكمدارية أو قصر الحكم الذي أل لاحقاً لوزارة المالية. في مشهد مهيب تسيده إلى حد بعيد طوب السدابة. معززاُ بقدر محدود بالحجر الرملي الذي احتل مكانه في أركان المباني و حول فتحاتها بغرض تقويتها. مشهد رائع كانت فيه البلكونة خارج اللعبة و هي بلا شك ترمقه تشعر بالغيرة لعدم منحها الفرصة لتساهم في رسمه. لم يكن ذلك ممكناً في البداية و الجهات المعنية بإعمار العاصمة تخطو أول خطواتها خلال العقود الأولي من القرن. تتقدم بحذر بالغ لكي ترسخ أقدامها. كان لها رائي أخر عندما أشتد عودها لأحقاً وتعززت ثقتها بنفسها. فيه بعضاً مما يرضي غرور البلكونة التي بدأت تتأهب لتشكل حضوراً مشرفاً متصدرة واجهة واحد من أهم المباني.
الإشارة هنا لمبني في غاية الأهمية خلال تلك الحقبة لأكثر من سبب مقنع. هو مبنى مكتب البريد الرئيس الواقع غرب ما كان يعرف بقصر الحاكم جنوب قصر الحكم زمانئذٍ المطل على شارع الخديوي الجامعة حالياً. أولته إدارة الحكم الثنائي كامل اهتمامها لأن يضم جهة التواصل الوحيدة مع بلادهم التي تبعد عنهم ببحار و قارات. تلك العوامل جعلتهم يولوا هذا المبنى اهتماماً عظيماً مما جعله من أميز أعمال عمارة الكولونيال أو المستعمرين. أهم ما ميزه الشراكة الذكية المتكافئة بين طوب السدابة و مكونات الحجر الرملي الإنشائية. بالإضافة إلى ذلك أرخت عمارته لنقلة طرازييه مفصلية سلسلة تشهد عليها حالة هنا عاشت فيها الكلاسيكية في حالة غزل فاضح مع الحداثة. تلك العوامل بالإضافة للثقة التي اكتسبتها الجهات المصممة والمنفذة الرسمية منحت البلكونة مساحة لا بأس بها. تسللت فوجدت لها موطئي قدم في الطابق الأعلى من الواجهة الرئيسة و المداخل الجانبية الشرقية و الغربية منه. فتصدرت المشهد توزعت فيه وحدات بلكونات صغيرة ناهضة ناهدة في حضن أعمدة الحجر الرملي الضخمة. مشيدة بنفس نوع الحجر متحدية بمعايير ذلك الزمان قوانين الجاذبية الأرضية لتسجل فتحاً مهماً في سجل عمارة الكولونيال.
ارتحلت البلكونة بعد عقدين من الزمان فعبرت النهر لتحط رحلها بمدينة أمدرمان مزينة واجهات مجلسها البلدي. لتحكي قصة أخري مختلفة تماماً عن حكاية مبني رئاسة مكتب البريد الرئيس في الخرطوم. تركت ردائها الحجري هناك لتظهر في إهاب رائع بديع من طوب السدابة عشق البريطانيين الأثير. في مبنى بديع العمارة متسربل بكامله بهذه الخامة البنائية النبيلة المحتشد بالمفاجئات في كافة جوانبه. اختيارها لم يكن محض صدفة. فالواضح أن حصافة هؤلاء القوم جعلتهم يلجؤون إليها لأكثر من سبب وجيه. لأنها تذوب بلونها البنى في إطار منظومة عمارة المدينة التقليدية الملتحفة بهذا اللون. بالإضافة لأنها تتوافق مع مزاج و طبع أهلها الشعبي المشبع بروحهم الوطنية المتقدة. حصافتهم تتجلي في تعويض متانة الحجر الرملي بالاستثمار في حيل نظم تشييد عمارة الطوب الإنشائية التي وُظفت في شكل رائع بديع. الأروع من ذلك أن نظام تشييد الحيطان الجانبية للبلكونات يشكل جزءً مهماً من مشروع العمارة الجمالي. هكذا هم البريطانيون يتوقون تحرقون دائماً شوقاً لطوب السدابة خامة بناءهم المحببة. بدليل أن تبنيهم هنا لعمارة حداثية النهج لم يجعلهم يتخلون عنها. فقدموها في واحد من أروع أعمال عمارة الكولونيال هم يستعدون لمفارقة بلاد احتلوها لستة عقود من الزمان.
لم يقف الجانب المصري شريك البريطانيين في سلطة الحكم مكتوف الأيدي في تطوير عمارة عاصمتهم الخرطوم. فكانت المنافسة محتدمة بين الطرفين غطت كافة أنواع العمارة و جوانبها. في هذا الإطار كانت البلكونة موضوع هذه المقالة دور مقدر في عمل مهم جداً أخذ موضعه في قلب الحدث. يبدوا أن تشييد الجانب البريطاني لكنيسة في مجمع قصر الحاكم قد حز في أنفسهم مما دعاهم للرد عليه بمشروع ينافسه. أنطلق من واقع أن مصر كانت تمثل راس الرمح في العالم الإسلامي. فشيدوا في مطلع خمسينيات القرن الماضي مشروع كبير مهم هو جامع فاروق. في موقع متميز في مركز الخرطوم التجاري عند تقاطع شارع الجمهورية مع شارع الحرية. جاء في مجمل عمارته و تفاصيلها خير معبر عن عظمة العمارة الإسلامية. التي تجلت في خامات متنوعة وجدت في أرجاء عمارته متسعاً للتنافس. بين مكونات حجر القرانيت الصقيل و أخشاب الأبواب المتوهجة و الواح النحاس الملتمعة. يتسلل فوقها برفق الضوء الطبيعي عبر الواح الزجاج المزجج مداعباً بلطف الفوانيس المدهشة المتدلية من العرش. سجلت البلكونة الموشحة تماماً بالمشربية حضوراً مؤثراً متصدرة هذا المشهد المعماري الرائع. سطوعها بحجمها الكبير في الركن الجنوبي الغربي من المبني أشبه بمنارة تهتدي بها السفن التائهة في عرض البحر. تجلت في إهاب من الخشب الأحمر الغامق الوهاج المشغول بعناية فائقة مقدمة أروع نموذج للمشربيات بديعة الشكل متقنة الصناعة.
الواضح أن الغيرة الحميدة قد لعبت دوراً مهما بشكل غير مباشر في تطوير و تجميل الخرطوم في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي. أشير هنا بالتحديد لحالة جهة غير حكومية أجنبية يبدو أن تألق تلك الدرر المعمارية على جانبي شارع الخديوي الجامعة حالياً قد حرك مشاعرها. هي شركة سفريان واحدة من المكونات المهمة في المجال الاقتصادي خلال تلك الحقبة التاريخية. امتلكت قطعة أرض قريبة من ذلك الشارع على الجانب الجنوبي الغربي من مبنى الحقانية أو القضائية. شيدت فيه مبني رئاستها تحفة من عمارة الحجر الرملي طرازها الغربي الكلاسيكي الرصين مكتمل الوقار. منحت ذلك الشارع و الجزء من المدينة زخماً مترفاً نافس عمارة المباني الحكومية هناك. تميز بالرغم من صغر حجمه بطلة مهيبة مهابة للغاية. خففت لمسات تفاصيل جمالية من صرامة محياها فمنحتها بعض أجواء رومانسية. تحديداً تلك البلكونة الصغيرة المرفرفة في جزء صغير من واجهته التي شكلت إضافة جمالية مؤثرة لمجمل عمارته. ترتكز على وحدات صغيرة من الحجر الرملي منحوتة بعناية فائقة لكأن الذي نفذها صائغ فنان بارع للغاية. سطعت تلك البلكونة هناك لتنضم لرصيفاتها اللائي طرزن محيا عمارة الخرطوم عبر عقود متتابعة من تاريخها المجيد.
الإبداع المعماري في الخرطوم في النصف الأول من الخمسينيات لم يقتصر على الجهات الحكومية و الشركات الخاصة المهمة مثل سفريان. كان لوجهاء المدينة من السودانيين و الأجانب دور مهم في هذا الشأن تجلي في فيلاتهم في حي الخرطوم واحد الجديد زمانئذٍ. الذي خصص لأوائل الخريجين المهنيين السودانيين من الأطباء و المهندسين و المحامين بالإضافة لعلية القوم من الأجانب. الذي سطعت فيه بانوراما معمارية مدهشة. تميزت بتنوع أنماط البيوت بالرغم من أنها لم تخرج من إطار طابع الفيلا المعروف. لفتت انتباهي بشكل خاص حالة بالغة التفرد. فيلا موقعها في الطرف الشمالي الغربي من الحي مطلة على الامتداد الجنوبي لشارع المك نمر. ألت قبل فترة طويلة لأسرة المرحومين حامد الأنصاري و الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد. لم أري لها مثيل منذ تلك الفترة حتى زماننا هذا. تصميمها مستلهم من تراث للبيت الريفي في بريطانيا عرف باسم cottage house يمكن أن ترجمتها بالبيت العُشة. عَشقتُ عمارتها بالغة النقاء منذ اللحظة الأولي ما زلت متيم بها بعد عقود من الزمان. من أكثر أسباب تعلقي بها بلكونتها الصغيرة الرشيقة المرفرفة على واجهتها. افتتاني بها نابع من أنها تذكرني بتشبيه تغزل فيه المعماري الإيطالي الفيلسوف المعاصر كارلو بونتي في تلك البلكونات. شبهها بزوارق شراعية سابحة في الفضاء. الحكم متروك لكم بعد مشاهدة صورها تغازل واجهة الفيلا كما الفراشة.
أرخ منتصف الخمسينيات لحدث مهم فرض على بلادنا متغيرات جوهرية بعد نيلها الاستقلال. أدخلها في تحديٍ مزدوج ألقي بظلاله الكثيفة على كافة نواحي حياتنا. كان علينا أن نقف على أقدامنا كأمة مستقلة بعد طول غياب. بالإضافة إلى ذلك كان يجب أن نظهر كأمة و بلد عصري. في عالم تجاوزت العديد من أجزائه مرحلة هذا المخاض بنجاح. كانت العمارة في قلب تلك الأحداث متلاحقة الخطي. أزم من موقفنا مواجهته بدون كتيبة من المعماريين الوطنيين. الذين بدأ توافدهم لاحقاً عند نهاية الخمسينيات بأعداد محدودة لم تكن كافية لأحداث التغيير المأمول. في فترة حرجة كان من المهم أن نؤسس لنسخة سودانية لعمارة الحداثة التي ظهرت كبديل منطقي حقبتئذٍ. في زمن كانت فيه عمارتنا تتخبط متأرجحة مشدودة لإسار الماضي عاجزة عن التعامل مع واقعها بتحدياته الجديدة. بالإضافة لتعقيدات أخرى على راسها مناخاتنا الحارة. قيض الله لنا الفرج في تلك المرحلة المفصلية في مقدرات و مواهب معماري نمساوي هو بيتر مولر. الذي تواجد في الساحة العامة فتسيدها. إذ أن تأثير و إنجازات أساتذة قسم العمارة بجامعة الخرطوم الذي كان في طور التأسيس حقبتئذٍ محدود الأثر في نطاق مواقعها. عليه سأركز في سياق هذه التطورات و التداعيات على مساهمات بيتر مولر. مولياً اهتماماً خاصاً لمكون البلكونة موضوع مقالتي الأساسي الذي ضاعف من أهميته طبيعة مناخاتنا الحارة.
لم تولد البلكونة من فراغ في حقبة منعطف نهاية الخمسينيات و بداية الستينيات. لقد خرجت من رحم تطورات متعددة متشابكة متداخلة تقنية و مناخية و بعضها ثقافي مجتمعي. تَقدمُ واقعنا الهندسي في تلك الحقبة طور العمارة فاتجهت للنمو الراسي بدأت معه المباني متعددة الطوابق تطل براسها بثقة. اقتحمت مجال الإسكان الذي تبنته في البدء جهات بعينها جلها مؤسسات حكومية و جامعات. جاءت في زمان لم يكن أمر تبريد و تكييف الهواء في المباني شائعاً. فقدمت البلكونة نفسها كمتنفس ملجأ يهرب إليه من في الشقق المعلقة في الهواء لاصطياد نسمة شاردة ترطب الأجواء. مهرب يذكر ممن في تلك الشقق بأيام (حيشان) بيوتهم التقليدية التي ترفرف الحميمية في أرجائها. فوفرت لهم البلكونة الملاذ بالذات للحالمين الرومانسيين و المؤرقين الذي يستدرجون النوم بِعد النجوم. المشكلة هنا أن شهر العسل في حضن البلكونة لم يدم طويلاً. فعملية ترطيب الأجواء هناك اصطدمت بواقع مصدره الأساسي هو نفس الخامات البنائية التي نهضت بالعمارة لتجعلها تشق أجواز الفضاء. على راسها الإسمنت المستخدم في أجزاء المبنى المشيدة من الخرسانة المسلحة. التي تختزن حرارة فترة النهار لترسلها ببطء طوال ساعات المساء. لتصبح البلكونة كالمدفأة لمن استجاروا بها بحثاً عن نسمة هواء باردة. عبقرية بيتر مولر قدمت الوصفة السحرية للتعامل مع هذا المأزق.
سعي بيتر مولر الحثيث في هذا الدرب في تلك الحقبة التي أشرنا إليها من قبل بداء بخطوة موفقة عبر عمل معماري بالغ التميز. داخلية لطلاب معهد الخرطوم الفني شيدت في الطرف الشمالي من حي الحلة الجديدة في الخرطوم. في موقع مطل على شارع رئيس في المنطقة الصناعية قرب مصنع سك العملة. في إطار مشروع كبير تبنته هيئة اليونسكو العالمية. واحد من مظاهر اهتمامها به تكليف بيتر مولر بتصميم هذا المبنى الذي جاء متميزاً في كافة جوانبه. تهمنا فيه هنا على وجه التحديد معالجة الواجهة الشمالية المطلة على الشارع الرئيس. التي صمم فيها بلكونات طوابق المبنى المتعددة بطريقة مبتكرة سديدة. صممها بحيث لا تكون البلكونات في طوابق المبنى فوق بعضها البعض مباشرة. بحيث جعل المسافة ستة أمتار و ليس ثلاثة أمتار بين البلكونة و التي تقع تحتها و فوقها. إجراء سليم وحصيف يسمح بتهوية البلكونة جيداً و يقلل من تأثير الحرارة المختزنة في البلكونة التي تعلوها مباشرة. الواضح أن بيتر مولر اعتبر هذا المشروع عملية إحماء أو (تسخينة) كتلك التي يقوم بها الرياضيين قبل المباريات المهمة. لكأني به تعامل معها هنا بنفس الفهم استعداداً لمشروع أخر كبير مهم طور فيه هذه الأفكار بشكل مدهش بحق.
المشروع الذي تمت الإشارة إليه هو (ميز) أو مجمع سكن الأطباء العزاب. موقعه مطل على الطرف الجنوبي شرق شارع المك نمر جنوب مستشفى الأسنان. عمارة في غاية الروعة خاصة درجها أو سلمها اللولبي المتألق أمام المبنى من الناحية الشمالية. قمة الروعة تمددت في الطوابق العليا في الواجهة الجنوبية هي بيت القصيد هنا. معالجة جاءت فوق التصور للبلكونات الفسيحة المعلقة هناك. يحكي كل جانب منها عن عبقرية بيتر مولر و عمق إحساسه و حساسيته في تعامله مع هذا الجزء من المبني. الخطوة الأولي كانت توزيعها بنفس طريقة داخلية المعهد الفني بحيث لا تكون البلكونات في طوابق المبني فوق بعضها البعض مباشرة. الخطوة الثانية المهمة كانت تفادي استخدام مكونات الخرسانة المسلحة مثل الأعمدة و الأبيام و البلاطة أو (السلابة) تجنباً لمردودها السلبي. فعلق أطراف البلكونات بحبال أو كوابل حديدية. استغنى أيضاً عن الأرضيات الخرسانية. فاستبدلها بأرضيات من الشرائح الخشبية مفرقة بعض الشي عن بعضها بحيث تسمح بمرورها الهواء. ساهمت تلك الخطوات التصميمية في تهوية البلكونات المعلقة فلطفت أجوائها خلال أشهر السنة مرتفعة الحرارة. حزنت كثيرا لأني لم أوثق هذا المشهد المدهش بكاميرتي. لأنه بكل أسف قد أزيل ليحل محله فيل أبيض عملاق مكسو بألواح المعدن. لينضم لأخريات تسد أفق المدينة بعمارة مسطحة باهتة بلا سمات أو ملامح.
من أعظم الخدمات التي قدمها لنا بيتر مولر قبل مغادرته لبلادنا في بداية الستينيات أنه أسس فيها لعمارة الحداثة في بلادنا. صنع من فكرتها العالمية نسخة سودانية قدمها في أزهي صورة متعاملة بحصافة مع تحدياتها المناخية. أضاف إلى جمائله علينا فسلم الراية بشكل سلس لأول مجموعة من الخريجين السودانيين. يكفي أن أحدهم هو المعماري الرائد الأمين مدثر ورث منه مكتبه الاستشاري. المستفيد الأكبر من جوهر أفكاره هو شيخي و أستاذ الأجيال عراب عمارة الحداثة السودانية عبد المنعم مصطفي. تأثر به في بداية مسيرته لكنه انطلق بعد ذلك يختط طريقه مؤسساً لنهجه الخاص الذي أهتدي به عدد مقدر من المعماريين. واحد من دلائل تأثره ببيتر مولر عمارة إبراهيم طلب المطلة على شارع البلدية في الخرطوم بحري في منطقة تعرف باسم المحطة الوسطي. التي اقتبس فيها نفس فكرة بلكونات داخلية طلاب المعهد الفني التي أشرت لها هنا من قبل. تسطع على واجهتها الشمالية الرئيسة ملطفة أجواء البلكونات المعلقة مانحة هذا العمل المعماري حيوية و زخماً بائناً.
قدم أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي أعمالاً خالدة في إطار مساره المستقل الذي أسس له بثقة وافرة. طرح في واحدة من أميزها رؤيا جديدة لفكرة البلكونة. كان مسرحها عمارة شيدت في السبعينيات في موقع شكله مثلث. هي عمارة الإخوة المطلة على الطرف الجنوبي الغربي من شارع عطبرة في مركز الخرطوم التجاري. تلاعب بالبلكونات على واجهاتها الجنوبية بشكل مدهش. أرجو ألا تفهم من هذه العبارة أن التلاعب هنا لم يكن وراه هدف مقنع نبيل. شبيه بحالة التلاعب بالألفاظ في نص أو قصيدة بدون مضمون أو هدف. الفكرة في تلك البلكونات قائمة على تنوع و تغير اتجاهاتها في طوابق المبني. فنجدها متجه من الشمال للجنوب في طابق و من الشرق إلى الغرب في الطابق الذي يعلوه أو الذي يقع أسفله. لم يكن الغرض الأساسي من هذا الإجراء هو إضفاء بعض الحيوية و الحركة على العمل المعماري فهناك أهداف أسمى أهم منها. إذ أنه يجعل نصف البلكونة في هذه الحالة مظلل بالتي تعلوها متيحاً الفرصة للنصف الأخر ليكون مفتوحاً للسماء. بالإضافة ألي ذلك أيضاً يتيح للجزء الداخلي المظلل قدراً أكبر من الخصوصية. بذلك وظف عبد المنعم فكرة البلكونات هنا لتحقيق أكثر من هدف بضربة لازب واحدة. منتهي العبقرية إذ لم يكتفي بالسير على خطي بيتر مولر إذ تخطاه بمراحل. نضرب له تعظيم سلام و نحييه من على البعد في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة أدام الله علية الصحة و طولة العمر.
شهد عقد السبعينيات بداية تراجع لموقف البلكونة بالرغم من تواجدها أحيناً يعزي ذلك لعدة أسباب متداخلة. من أهمها انتشار استخدام وسائل تبريد و تكييف الهواء داخل المباني مما قلل من الحوجة للبحث عن نسمة هواء خارجها. قد يُرد أيضاً لتعاظم دور التلفزيون و قنواته الفضائية الجاذبة التي جعلت الناس متسمرين أمام شاشاته طوال الوقت. هناك أيضاً عوامل أخري مثل رهق الحياة الذي يستنزف طاقات الناس فلا يدع لهم مجال لقضاء بعض الوقت في البلكونة بعد الدوام. تلك العوامل ربما هناك أخري قللت من الحوجة للجلوس في البلكونة. أدت للإحساس بعدم جدواها و التعامل معها بشكل غير لائق يقلل من قدرها. مما جعلها في حالات كثيرة في واجهة المبني شبيه بالبثور في وجه الحسناء. مع أنها من المفترض أن تكون كالشامة التي تضئ وجهها. التعامل معها بطرق معينة جعلها واحد من أسباب تشوهات واجهات المباني. إذ صارت مثلا مكان إضافي لتخزين قطع الأثاث الفائضة و المحطمة. في حالات أخري شائعة تستخدم كمكان لتجفيف الملابس بعد غسلها. منظر غير مستحب منعته بعض دول الخليج العربي التي تعاملت مع مثل تلك الحالات كمخالفة يعاقب عليها القانون. في حالات كثيرة اِعتبرت البلكونة مساحة إضافية تتمدد فيها الشقة بأريحية عالية لتقفل في نهاية الأمر خارجياً بأي طريقة. مخلفة لوحة سريالية شائه في واجهة المبني. لتضيف لمنظومة الشغب المعماري في مدننا الذي أشار إليه المرحوم الدكتور منصور خالد معلقاً على حالها.
في مطلع السبعينيات عندما ما كان تيار البلكونة قد بداء ينحسر قيض الله له من وضع اللبنة الأولي حقبتئذٍ في محاولة لاسترداد أراضيه. هو المعماري السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص. الذي كان يخطو أول خطواته في طريق طويل حافل بالإنجازات و المفاجآت المعمارية. سلك ذلك الطريق هو مزعزعً الولاء. مفتتن لدرجة الوله بعمارة بيوت النوبيين التقليدية في شمال السودان و جنوب مصر. التي أعاد اكتشافها و روج لها المعماري المصري الرسالي حسن فتحي. تشده في نفس الوقت بقوة جذب مماثلة أثار سواكن بعمارتها المدهشة التي زارها أول مرة في فترة باكرة من عمره. يقول علماء النفس أن ذكريات الطفولة المبهجة ترسخ في ذهن المرء تظل مؤثرة طوال مراحل عمره اللاحقة. هذا بالتحديد عين ما حدث لجاك. انطبعت بلكونات سواكن الموشحة بالمشربيات في ذاكرته البصرية لاحقاً فأصابته بحالة زغللة. تحدث لنا عندما نكون في مكان معتم الإضاءة به نوافذ مشعة بالضوء. تظهر لنا لفترة من الزمان في شكل مساحات صغيرة سوداء كلما أغمضنا أعيننا و فتحناها مرة أخرى. هذا هو ما فعلته ملامح بلكونات سواكن الموشحة بالمشربيات مع جاك. أصابته بحالة زغللة مستفحلة ظلت تلاحقه بإصرار طوال عمره حتى الأن. تغللت في روحه و وجدانه فأصبح لا يري البلكونة إلا هي متدثرة بالمشربية. صارت رفيقة دربه مطرزة لعمارته لفترة أوشكت أن تكمل النصف قرن من مسيرته المحتشدة الحافلة بالإنجازات.
تعرفت على جاك أول مرة في بداية السبعينيات عندما التحق بالعمل معنا عقب تخرجه بقسم التصميم المعماري بوزارة الأشغال العامة. توطدت الصلة بيننا فتطورت لعلاقة صداقة حميمة اكتشفت من خلالها مقدراته الفنية العالية. اكتشفتها أكثر من خلال أول مشربية خشبية صغيرة صممها بمزاج عالٍ و أشرف على تنفيذها في بداية مسيرته المعمارية. نفذها في بيت في حي الخرطوم وسط جنوب مستشفى الخرطوم. أعجبت بها لدرجة أن صُورتها لا زالت عالقة بذهني بعد عدة عقود من الزمان بالرغم من اختفائها من الوجود بإزالة ذلك البيتَ. افترقنا بعد تلك الفترة الوجيزة من الرفقة. ذهب هو لفترة اغتراب طويلة في قطر و تونس. ذهبت أنا في طريق مختلف في رحلة طويلة داخل و خارج السودان ابتغاءً لمزيد من العلم تمددت حتى نهاية الثمانينات. كنت طوال تلك الفترة متواصلاً مع جاك في زياراتي للسودان. عزز من علاقتنا هَمُ و اهتمام عالٍ مشترك تمحور حول تراث سواكن و عمارة بيوت النوبيين النيلين التقليدية. اهتمت بشكل خاص في مجمل أعماله بمكون المشربيات التي أوحت لي بموضوع هذه المقالة. إذ شدت انتباهي منذ وقت مبكر فظللت أتتبع مسيرتها باهتمام و شغف شديد.
حمل جاك إشخانيص البلكونة الموشحة بالمشربية على كاهله منذ بداية السبعينيات لا زال يواصل سعية لمدة قاربت النصف قرن من الزمان. جاب بها أحياء العاصمة مكحلاً عيون عمارته المدهشة. سعي بالبلكونة بين الناس يغمره اعتقاد راسخ بأنها لا تستقيم و تكتمل صورتها إلا إذ توشحت بالمشربية. لم يشذ عن هذه القاعدة إلا مرة واحدة في تلك الفيلات الثلاثة التؤام في حي الجريف غرب في الخرطوم التي سماها دار السرور. الواضح أن المعالجة المعمارية هنا أجبرته هنا على التنازل عن نهجه المعهود. ظهرت كل مرة في تلك المسيرة الظافرة مختلفة نحو ما عن الأخريات مما يدل على سعة أفقه و طاقته الإبداعية الهائلة. اتكأ في البدء على مخزون تراث بيوت سواكن الثري ثم أنطلق منه متحرراً إلى فضاء الارتجال البناء الرحب. أعنى الارتجال هنا بمفهومه البناء الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بال improvisation. الذي يتجلى على سبيل المثال في حالات (يخرم) فيها المغنى الملحن المبدع محمد الأمين في مقاطع من أغانيه الخالدات. التي يخرج فيها عن قالبها المعهود ليقدم طرحاً مدهشاً مختلفاً في نفس السياق. هذا هو عين ما كان يفعله جاك ببلكوناته الموشحة بالمشربية. افتتاني بها جعلني أخصص لها أكثر من مقالة عنوان واحدة منها- جاك إشخانيص أسير التراث عاشق المشربية. نشرت في صفحة الفيسبوك و موقعي الإلكتروني الوصول لكليها عبر الرابط drhashimk.com. وجدت لها أيضا مكاناَ مرموقاً في رحاب أل.LinkedIn
متابعتي المتصلة لمسيرة جاك الظافرة و اهتمامي الخاص بلكوناته المتميزة عرفتني على جوانب مهمة من عالمها. فاكتشفت ميزة يتفوق بها علينا نحن معشر المعماريين. هي سيطرته الكاملة على أنتاج مكونات العمارة مثل تلك المشربيات. التي أتاحت له أن ينتج أفكار تهويماته المدهشة ليقدمها في عدد من أعماله. ابلغ مثال تلك تتصدر الفيلا الصغيرة في جانب من مجمع السفارة الليبية في حي الرياض التي صارت مسكناً للسفير. السيطرة التي مكنته التطواف ببلكوناته بحرية متلاعباً بها كما يشاء. ظهرت أحيناً في شكلها التقليدي كمكان يطيب الجلوس فيه. كما هو الحال في فيلا نورما كافوري في حي كافوري بالخرطوم بحري. أطلت علينا في مرات عديدة في صورة مختلفة مجرد متكأ يسمح بإطلالة على العالم الخارجي من خلال رؤية محفزة للتأملات الرومانسية. قمة الإبداع عندما أستخدمها في شكل جديد مختلف عن الأنماط المعهودة. تتصدر فيها المشربيات الواجهة لغرض واحد محدد هو إضفاء لمسات جمالية مترفة. لتظهر لأول مرة مفارقة رفيقة دربها النافذة. تسطع على صفحة الحيطان الصماء كأنها (زمام) أو (رشمة) تبرق في وجه حسناء مغترة بجمالها. أبلغ مثال الحائط الغربي في الطابق الأول من فيلا الوجيه محمد شمينا بحي أركويت بالخرطوم. بدل المشربية الواحدة هناك ثلاثة مصطفة بجوار بعضها لتصبح شبيه بالرشمة. هي عقد من عملات ذهبية يتمدد بدلال علي خد فتاة مفرطة الجمال من ثقب أنفها ليُربط في جانب من غطاء راسها الذهبي.
فيما كان جاك يمتعنا ببلكوناته المستوحاة من تراث العمارة الإسلامية كان لمعماري أخر راي مغاير قدمه في عمل متميز في التسعينيات. الاختلاف الأساسي بينهما كان في مصدر الإلهام. الغريب في الأمر أن هذا المعماري اللبناني كان مصدره الأساسي من واقع حياتنا التقليدية و تراثنا الريفي. لم يكتف بمجرد الاستلهام إذ لجاء أحيناً للنقل الحرفي مع بعض التصرف الأريب. كان يقوده في سعيه الدؤوب هنا عشق عميق متأصل للمواد الطبيعية البكر. هو المعماري العبقري المبدع جمال مكي الذي سكب ذلك العشق في مباني سلسلة فنادقه الأربعة التي برنا بواحدة منها. فعل العجب في فندق و مطعم الساحة في بداية شارع أفريقيا عند تقاطعه مع امتداد شارع المك نمر الجنوبي. الذي سكب في عمارته عصارة عشقه لتراثنا الشعبي الريفي. تغزلت فيه في مقالة مطولة ضمنتها في موقعي الإلكتروني عنوانها- فندق الساحة في السودان نموذج لعمارة بلا حدود. نُشرت أيضاً في صحيفة السفير اللبنانية التي كانت الأوسع انتشاراً حقبتئذِ. من فرط إعجاب جمال بها وضعها في إطار رائع زين بها مداخل فنادقه. من أروع ما قدمه في إطار عمارة الفندق بلكونات واحدة منها محاطة بمشربية مبتكرة مشيدة بالكامل بسيقان الخيزران العادي. تحفة مدهشة كل مكوناتها من المواد المحلية المتوفرة في ريفنا استكمالاً و انسجاماً مع باقي عمارة الفندق. عمل رائع استثمر في تراثنا الشعبي سلاحنا المَضَاء الذي لا تقدر دبي و غيرها من حواضر العالم المتقدم أن تنافسنا فيه.
طوفت بكم في رحلة متطاولة للغاية عبر الزمان و المكان كان موضوعنا فيها هو البلكونة و المشربية دِثارها المدهش. قطعنا فيها القارات و البحار متجولين في مدائن كثيرة. ضربنا فيها في عمق التاريخ متوقفين عند حضارات ممعنة في القدم متجاوزينها بعدة قرون حتى وصلنا لعقود الألفية الأولي. متوقفين في النهاية لنبذل جزءً مقدراً من المقالة للشأن السوداني. تفحصنا في البدء نماذج نادرة منها أنعمت علينا بها عمارة الكولونيال بشقيها البريطاني و المصري و عهدها الذهبي. لندلف منها لمرحلة الحكم الوطني القديم منه و الحديث ما يشار إليه بلغة نظرية و تاريخ العمارة حقبة ما بعد الحداثة. لمسنا فيها بداية جيدة تلتها مراحل تراجع فانتكاسة. استبسل المعماري السوداني المجدد الخلاق جاك إشخانيص في أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. مستجيراً بمَنحً استلهمه من مخزون تراثنا. أعتقد أن بعض المنعطفات القليلة المضيئة هنا و هناك في تاريخ البلكونة يمكن أن تشكل مؤشرات لخارطة طريق لإنقاذها و إعادة مجدها. تحتاج منا جميعاً لهبة مضريه. أملي الكبير في الشباب الحصيف الوثاب. أيضاً في الفئات العمرية الأخرى ممن اصطفاهم الله بوافر نعمائه من روح ابتكار عالية و جرأة محسوبة العواقب. فهل نطمع فيمن يستدعي لنا بتصرف مكونات بلكونات سواكن أو تلك التي تمددت في واجهة ميز الدكاترة الجنوبية في سالف الأزمان. أو يستلهم فكرة وحدات جاك أشخانيص المعلقة كالقناديل في الواجهات لتضيئي محيا عمارة هذه الأيام الباهتة. أنك مجيب الدعوات يا رب العالمين.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان/ ديسمبر 2020