الكلاسيكية الراجعة تسطع في سور مجمع جامعة الخرطوم
بعض المواضيع تظل دائماً من أهم شواغلي. أحدهم ذلك الإرث التليد الذي يزين عمارة عاصمتنا الحبيبة الخرطوم الكبرى. فهو مستهدف دائماً للأسف غالباً من جهات رسمية من المفترض أن تكون هي من سدنتها. الموضوع الثاني يبدو من أول وهلة على طرف نقيض من الأول وهو عمارة الشباب. واقع الحال وبعض المستجدات أثبتت أنه ليس هناك تناقض. سأحاول هنا أن أجمع بينهما بالحلال. سأتطرق لعمل معماري يحسبه العديد منكم بأنه لا يستحق تسويد الصحائف لعرضه دعك من مناقشته كموضوع مهم وحيوي. العمل هو لدهشة جزء مقدر من القراء السور الشمالي لمجمع الوسط الخاص بجامعة الخرطوم المقابل للنيل الأزرق.
في واحدة من نزواتي التي لا تنقطع جال بخاطري خلال العشرية الاولى من هذا القرن أن أقدم محاضرة مطولة تحتفى بعمارة جامعة الخرطوم. اخترت لها عنواناً قصدت أن يكون حاوياً وجاذباً وهو (عمارة جامعة الخرطوم: من كلاسيكيات الطوب الاحمر إلى أفاق الحداثة). حاولت بقدر الإمكان أن أغطى جوانب هذا العنوان العريض. طفقت أجوب مواقع الجامعة في المدن الثلاثة وبواديها ب (كراع) باحث. بصراحة وجدتها فرصة للـتجسس على زملائي الأساتذة من كافة الأجيال بفحص جلائل أعمالهم المعمارية بتمعن. هذا لا يعنى بأي حال والاحوال بأنني أتميز عليهم فعدد مقدر منهم من أساتذتي.
نعتز بحق بكسب إدارة الجامعة وأستاذتها الرائع المشهود خلال قرابة القرن من الزمان الذي يزين جيد عمارتها في كافة مجمعاتها. دشنوا خلال العقود الأولى من القرن المنصرم كلاسيكيات الطوب السدابة التي تصدح بها مباني كلية غردون التذكارية التحفة. من المدهش أنهم وظفوا نفس تلك الخامة الرائعة بحنكة وحكمة وإحساس فني عالي في منتصف نفس القرن ليأسسوا بقوة ناعمة لعمارة الحداثة السودانية. استلم منهم الراية من بعدهم بجدارة أساتذة وطنيون أشاوس ليحملوها خفاقة تحت نفس الشعار. مع بدايات الألفية الثالثة نهض أساتذة يعتبرون أوانئذ من الشباب وضعوا أقدامهم بجدارة على أعتاب ما يعرف بعمارة ما- بعد- الحداثة.
هذه المرحلة الأخيرة هي محور حديثنا هنا. مدخلنا إليها عبر ذلك التوجه الذي عرف باسم ما- بعد- الحداثة. توجه عريض أعلن ظهوره مع نهايات العقد السابع من القرن المنصرم في فترة اهتزت فيها صورة عمارة الحداثة وإنتاشتها السهام من كافة النواحي. تركزت وصُوبت نحو العديد من جوانب إخفاقاتها التي شكلت المرتكز الذي نهض عليه التوجه الجديد. هذا الواقع أفرز عدة مدارس سعت كل واحدة منها وركزت على تجاوز واحدة من تلك الإخفاقات. يهمنا بشكل خاص منها مدرسة سميت بالكلاسيكية الراجعة neoclassical school.
أسس فكر توجه عمارة الحداثة خلال العقود الأولى من القرن الماضي على عدة مرتكزات أساسية. واحد منها وتهمنا هنا على وجه الخصوص هو عدائه لدرجة الإقصاء للموروث المعماري أي كان منبته. لدرجة أن أي إشارة له من بعيد أو قريب في العمارة اعتبرت جريمة تستحق العقاب. أستمر هذا النهج لعدة عقود من الزمان وكان له مردود سلبي إذ أفقر المنتوج المعماري من جوانب مهمة كان تمنحه بعض من ثراء وألق. اعتبرت تلك الظاهرة واحدة من سلبيات عمارة الحداثة التي قللت من أسهمها وحظوظها في تسيد الساحة.
نهضت كردة فعل لهذا المنحى مدرسة خرجت من رحم فكر توجه ما- بعد- الحداثة جاءت بفهم جديد للتراث المعماري. من ناحية المبدأ نات بنفسها عن النقل الحرفي بحسبانه يسلب العمارة من واحد من أهم مقوماتها وهو الجانب الإبداعي. اتخذ له طريقاً صعباً محفوف بالتحديات التي تحتاج لفكر وقاد وروح مقتحمة مصادمة. ارتكز على مبدأ استلهام التراث بهدف بعثه روحه من جديد. متكئاً على مفاهيم راسخة رصينة أسس لها فلاسفة الحضارات الضاربة في القدم.
كانت الأجواء ملائمة في أوساط قسم العمارة بجامعة الخرطوم مع بداية الألفية الثالثة لاستشراف الجديد من الأفكار. منحت الحصيف الجرئى من أستاذتها فرصة ذهبية لدخول التاريخ من بوابة مدرسة الكلاسيكية الراجعة. الوضع في الجامعة بالذات بمجمع الوسط الرئيس كانت استثنائي. في إطار عمارة السدابة المتسيدة للموقف كانت الأعمال الحداثية محاطة بكنوز من الإبداع الكلاسيكي. على سبيل المثال مبنى كلية البيئة، قسم الجغرافيا سابقاً، تطوقه درر كلاسيكية كمباني كلية غردون التذكارية ومجمع كلية الآداب. كان من المتوقع أن يكون هذا المشهد المدهش مصدر إلهام محفز لمغامرة تنطلق من فكر مدرسة الكلاسيكية الراجعة.
جعلت مثل هذه الخاطرة نصب عيني وأنا أعد العدة لمحاضرتي بقاعة الشارقة عن عمارة جامعة الخرطوم. أنا أطوف بمواقع الجامعة في المدن الثلاثة أتجول بين أعمال المعمارية ركزت على جانب خاص. طفقت أبحث عن أي أثر لعمل يمكن بأي حال من الأحوال أن أصنفه في إطار مدرسة الكلاسيكية الراجعة. بصراحة قررت في رحلاتي الاستكشافية أن أركز على عمارة الشباب. تتبعت بشكل خاص أعمال أصغر الأساتذة سناً أوانئذ الدكتور/ أبوبكر حسين والدكتور/ أحمد عبد الله. اكتشفت في بعض أعمالهما ما يدلل على نوايا حسنة. المفاجأة الكبرى كانت في عمل في هذا السياق أكن له كل التقدير بالرغم العديد منا قد لا يعتبره عملاً معمارياً.
العمل الذي أسترعى انتباهي في إطار بحثي الدؤوب في مواقع الجامعة هو السور الشمالي لمجمع الوسط ال Main كما يعرفونه. مطل على النيل الأزرق ويمتد من حدوده الشرقية عند مدخل كبرى النيل الازرق حتى ركنه الغربي المواجه لوزارة الصحة. يبدو هذا العمل من أول وهلة قليل الأهمية باعتباره مجرد سور. إلا أنه يحتشد بالعديد من مظاهر الروعة التي تضعه في مصاف الأعمال الكبيرة. أهميته بالنسبة لي نابعة من أنه يمكن بجدارة أن يصنف في إطار مدرسة عمارة الكلاسيكية الراجعة. قصة هذا المشروع من ألفها إلى يائها جديرة بالانتباه والاهتمام.
بداءت فكرة المشروع بمبادرة كريمة سخية من أحد أهم رموز الإنقاذ أوانئذ النائب الأول الشيخ/ على عثمان محمد طه. ما من أحد سواه من قيادات النظام كان يمكن أن يتصدى لهذا العمل. فالرجل يتمتع بحس حضاري راقي شحذته فترة دراسته بالجامعة. تأسف لحال السور القديم وقد اعتاد أن يمر به يومياً ذهاباً وأياباً في طريقه من مسكنه لمكتبه بالقصر الجمهوري. اعتبره لا يليق بهذه المؤسسة التي أعتبرها واحدة من أرفع مؤسساتنا الوطنية. فأمر بالشروع فوراً في أمر تجديده بشكل جذري لائق يرتقي لمستوى مقام الجامعة وعمارتها المميزة.
تتابعت الأحداث وتم تكوين لجنة رفيعة المستوى لتنفيذ المشروع. أوكل أمر التصميم للدكتور/ أبو بكر حسين الذي باشر العمل بالتنسيق مع الإدارة الهندسية للجامعة. التصميم يدلل على أنه أخضع لدراسة متانيه معمقة. جاء بنفس كلاسيكي بازخ بدون ما نقل حرفي. متكئاً على نفس خامات عمارة الجامعة التراثية العريقة. تجمع بين طوب السدابة مفرط الأناقة مع وحدات من تيجان أعمدة من الحجر الجيري منحوتة بعناية فائقة لكآنها صناعة صائغ ماهر. تتمدد بين الأعمدة غلالة شفافة من وحدات القريل الحديدية باهرة التصميم. تشف من بين ثناياها عن درر من عمارة الجامعة التراثية لكآنها برقع على وجه حسناء مصرية من أيام عهودها الكلاسيكية.
تتوزع وتنساب في خيلاء مصفوفة من الأعمدة على امتداد السور تربط بين وحداته. كل واحد منها في حد ذاته مشروع ودرس بليغ يتحدث بلسان عمارة كلاسيكية مترعة الجمال والمعاني. كان لكل واحد من نظم الأعمدة التي ولدت في حضن عمارة الحضارات الضاربة في القدم مسمى اشتهر به في زمانه. لا زالت بعد مرور آلاف السنين تزهو بيننا في خيلاء. دكتور/ أبو بكر قدم بتواضع العلماء أنموذجاً لا يقل عنها روعة وبهاءً وحضوراً يتحدث كلاسيكي بلسان عصري. يحق لنا أن نسميه باسمه ليقف بجدارة وتحدى بجانب مثيلاته من نظم أعمدة عمارة الحضارات الضاربة في القدم مثل الدوري والأيوني و الكورينثى.
عامود الدكتور/ أبو بكر في إطار نظامه الطرازي استمد روحه من تراث تلك الحضارات الغربية التاريخية. مصدر إلهامه من الينابيع التي فجرها قدماء اليونانيين. لكنه انطلق من تلك الجذور ليصنع مجده ومجد عمارة الجامعة التي استلم المشعل فيها من الأفذاذ أمثال الأستاذ عبد المنعم مصطفى وبروفيسور عمر أقرع عليه رحمة الله. العامود مؤسس بشكل منطقي على نفس تلك التقسيمات الثلاثة، القاعدة وفوقها الجزع ويعلوه التاج. لكنه هنا مارس قدر عالي من الارتجال بمعناه الغربي الموجب ويشار إليه عندهم بال improvisation. إذا ترجمناها بلغة المسرحيين هي أشبه بحالة الخروج من النص لمصلحة النص.
أجرى الدكتور/ أبو بكر تعديلات مهمة في شكل وخامات عامود الحضارات العريقة تبدو منطقية. غير مواد البناء واستعاض عن حجر الرخام في أجزاء عديدة فاستبدله بطوب السدابة. قرار منطقي فهذه الخامة شيدت بها جل مباني الجامعة وعليه تظهر بشكل كثيف من خلال مساحات قريل السور. من التعديلات الرئيسة تغيير النسب بتضخيم القاعدة وزيادة ارتفاعها. تعديل يبرره استبدال الحجر واستخدام الطوب وهو أضعف. الاحتفاظ بالحجر الطبيعي في تاج العامود له مبررات مقنعة. إذ يسهل تشكيله وقد فعل به العجائب. الاحتفاظ به نابع من أن التاج موجود في منطقة هي محط الأنظار يجب أن تشيد بأجمل الخامات.
وحدات العامود من أهم أجزاء السور لذا اهتم بها دكتور/ أبو بكر بشكل خاص. كبر وزاد ارتفاع القاعدة كما أشرنا لذلك من قبل وبررناه. بالنسبة للجزع استعاض عن المحاريب التي كانت تزين سطح أعمدة عمارة الحضارات القديمة ببروز في الأركان منح منظره حيوية وجمال. العمل الكبير والإبداع الساطع كان في التاج المصنع من الحجر الجيري. مصمم على شكل فانوس قصد منه احتواء مصباح كهربائي لمبة من نوع القلوب. globe الغرض منه تجميلي و أيضاً لحماية اللمبة من السرقة. شكل التاج الحجري تحفة فعلاً يستحق الاسم.
يكتمل جمال اللوحة المستمرة والمنسابة على طول سور مجمع الوسط بمكوناتها الأخرى الممتدة بين وحدات الأعمدة. تتمدد في الجزء الأسفل مساحات من الحجر الجيري مفرطة الجمال. تعلوها شرائط من سياج حديدي قريل مصمم ومشغول بأبهى صورة. تصميمه ليس منقول حرفياً من نماذج عمارة الجامعة التراثية إذ أن أكثر ثراءً لكنه لا يخلو من لمحة كلاسيكية. رسمت مساحات الحجر الجيري والقريلات مع وحدات الأعمدة لوحة ممتدة بالغة الجمال والألق مع وقار بائن. أكملت روعة المنظومة الحضرية لمجمع الوسط. هي بلا شك أرضت غرور الشيخ على عثمان محمد طه راعى المشروع فله منا أعظم التقدير لمبادرته الكريمة-.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أكتوبر 2018