إرتفاع درجات الحرارة و معها قيمة فاتورة الكهرباء التى صارت تنافس بنود صرف الأسرة الأخرى جعل حيشان البيت هى الملاذ و الملجأ. و لكن الإعتناء بتخضيرها و تشجيرها لم يعد كما كان سابقاً. من أهم ما نفتقده فى بيوتنا تلك التعريشة التى تتوسط أو تتخذ لها موقعاً مهماً فى الحيشان. و النبات هنا و المتسلق منه هو صديق العمر للتعريشة، فهما يشكلان معاً أروع ثنائية عبرت بالإنسان السودانى مراحل تاريخية مهمة حينما لم يكن هناك ذكرى للكهرباء و المروحة و المكيفات بأنواعها. و لا زال للتعريشة حضور قوى فى أريافنا و بوادينا. تنعقد تحتها أهم و أخطر المجالس و تسمر تحت ظلالها و أجوائها المنعشة الأسر و الأصدقاء. للأحبة أيضاً مكان هنا تحت رعاية الأسرة. قد عول على شهادة التعريشة من قبل سلطان العشاق و الناطق الرسمى بإسم الرومانسية الشاعر إسحق الحلنقى حين قال- أسالوا العنبة الرامية فوق بيتنا.
التعريشة تقوم على نظام تبريد هواء طبيعى عبقرى. فهى تحجب و تكسر أشعة الشمس، لكن الفتحات بين أغصان و أوراق النبات المتسلق تسمح بمرور تيارت الهواء. و للنبات هنا دور مهم. فهو يرطب تيارات الهواء الحارة فتدخل التعريشة فتنعش الأجواء داخلها. نفس فكرة مبرد الهواء الصحراوئى. و نضيف إيضاً أن جدارات النبات المتسلق تؤمن قدراً عالياً من الخصوصية و السترة.
فكرة تصميم التعريشة تقوم على أساس أنها هيكل يلتف حوله النبات المتسلق. فى شكلها البسيط هى تلك الراكوبة المكون من أعمدة عبارة عن شعب من جذوع الأشجار مثبته فى وضع راسى لتحمل مجموعة أو شبكة من جذوع أو أغصان سميكة مرصوصة أفقياً ليتمدد فيها النبات المتسلق مكوناً طبقة العرش. لكنها فى المدن أخذت شكلاً مختلفاً. الخشبية منها تشيد من مدادات أو مرائن أكثر إستقامة و إنتظاماً فى شكلها بالمقارنة بتلك المستخدمة فى الرواكيب التقليدية. و فى تطور لاحق أستخدمت العناصر المعدنية. كانت فى البدء أنابيب و مواسر مجوفة دائرية المقطع،ً و إنتشرت حالياً المواسير المجوفة المربعة.
المفاضلة بين الخشب و المعدن تحددها معايير معينة. العناصر الخشبية فيها رقة و حنية لأنها مادة طبيعية و هى هنا أقرب للطبيعية من حولها. لكن هناك تحفظ مهم نحوها. بالذات إذا شيدت من الأخشاب الخفيفة مثل الموسكى. إذ فى هذه الحالة يتهددها خطر محدق كامن فى الأرض الزراعية المبللة دائماً حيث تنتصب التعريشة، و هى تلك الحشرات القارضة مثل (الأرضة). خشب الموسكى بالنسبة لها أشهى من البسكويت المحشى. المخرج من هذا المأزق يتم بتثبيت أعمدة التعريشة على جزء حديدى أشبه بالحذاء يرفعها قليلاً عن الأرض. خيار آخر، أن نستخدم أنواع معينة من الخشب يشير إليها أهلونا فى الأرياف بالأخشاب المُرة.
الحل الجزرى لتفادى مشاكل الأرضة هو الهيكل المعدنى، و المستخدم فى السودان المواسير الحديدية. لكن فى المناطق الرطبة سيهددها الصدأ، و يمكن معالجته بالدهانات- البوهية. و هناك أنواع خاصة لهذا الغرض ذات فعالية عالية. إذا توفرت ميزانية كبيرة يوجد حل أكثر نجاعة- تشييد الهيكل من مواسير الألومنيوم التى لا تصدأ. الركون إلى هذا الحل يكون متسقاً تماماً إذا كانت التعريشة فى إطار مبنى حداثى الطابع و مكَسوىٍ بالواح من نفس هذا المعدن.
إختيار مواد تشييد التعريشة يحكمه أمر آخر بالغ الأهمية يؤثر أيضاً على تفاصيل تصميمها. فالغرض من تشييدها هو إلى حد كبير إقامة هيكل تتشبس به و تصعد على أجزائه النباتات المتسلقة. و هو جانب هام من هذه العملية لا يمكن تجاهله بالذات إذ عرفنا أن هناك عدة أنواع من النباتات المتسلقة تختلف فى خصائصها. بعضها مثل (الهايدرا) يحترق عند ملامسته للحديد الساخن. فى هذه الحالة يجب تشييد التعريشة من عناصر خشبية. تعدد أنواع هذه النباتات تأثيره يتعدى مسألة تحديد مواد التعريشة إذ ينعكس أيضاً على تفاصيل تصميمها. فتلك النباتات تختلف عن بعضها البعض فى الطريقة التى تتسلق و تصعد بها فى التعريشة. فمنها ما يلتف حول أجزاء التعريشة بأفرعه الكبيرة، و بعضها الآخر بواسطة أجزاء صغيرة منه. و هناك أنواع آخرى تفرز مادة لاصقة تساعدها على التسلق. إذاً، تصميم أجزاء التعريشة يجب أن يستصحب و يستجيب لكل هذه المعطيات.
فى بلاد حارة مثل السودان، التعريشة يمكن أن تشكل عنصراً حيوياً فى فنأات المبانى. فى بعض الحالات يمكن أن تستخدم لأكثر من غرض. فيمكن تصبح إطاراً لجلسة جميلة و فى أوقات آخرى موقفاً للسيارة. و يمكن أن تكون إمتداداً للبوابة فتشكل مدخلاً مشرفاً للدار. و فى هذه الحالة يجب أن نجعل شكلها متسقاً مع شكل البوابة من حيث مواد التشييد و ملامح التصميم. ثمة حل آخر من شأنه أن يجعل التعريشة عنصراً حيوياً أساسياً للمبنى و المنزل بشكل عام، على أن تكون قى هذه الحالة مدمجة مع جزء آخر من عناصر الفناء الخارجى. يتم ذلك عندما نجعلها غطاءً و إطارً لمصطبة تصمم عند مدخل المبنى و بابه الرئيس فتصبح عنصر تمهيدى إنتقالى يربط بين الخارج والداخل. وضعها هنا و على هذا النحو يضفى أجواء من الأهمية و البريستيج.
ليس للتعريشة حجم أو شكل واحد محدد. فلنمارس قدرا كبيراً من الحرية فى هذا الأمر و لنتعامل معه بدرجة عالية من الإبتكارية. فنتعامل معها كالمركبات. فالنجعل واحدة منها صغيرة، كما (الركشة) تحيط بأريكة أو كنبة لشخصين أو ثلاثة. و يمكن فى هذا الحالة أن تصمم على شكل أرجوحة. كبيرة كانت أم صغيرة التعريشة، فلنجعل داخلها مقاعد و مناضد و ترابيز مدمجة معها و مثبتة فيها أو فى أرضها. سيوفر علينا ذلك عناء إدخالها و إخراجها من الدار خوفاً عليها من السرقة. و فى هذه الحالة، فلنجعل مواد تصنيع الأثاث و أشكالها متسقة مع التعريشة نفسها.
جلسة التعريشة فى فناء المبنى و الدار غالباً ما تفسدها بعض المنقصات. واحد منها زوار الليل كما أشرنا إليهم هنا، و بعضهم يأتى نهاراً جهاراً. و هدفهم لا يقف عند حد الأثاث، فالمذياع أو الراديو الصغير و الموبايل عليها طلب شديد. فى هذه الحالات، يصبح التأمين من أهم مؤشرات تصميم التعريشة. و لكن ذلك لا يعنى أن نجعلها تبدو كالسجن الصغير. بعض اللمسات الجمالية من شأنها تكسر هذا الإحساس. الناموس و البعوض و الذباب هى أيضاً من المنقصات التى تفسد الجلسة هنا. لكنها ستحِلو إذا أسدلنا على هيكل التعريشة غلالة من ( النملى) أو (النملية) و بذلك تكتمل الصورة.
لقد أسهبنا و أفضنا نوعاً ما فى الحديث عن التعريشة. و بقى أن نقول شئى أو أشياء عن شريكها فى هذه العملية المهمة و العنصر الحيوى فى فناات مبانيننا و بيوتنا- تلك النباتات المتسلقة التى تحيط بها بحنو بالغ و تكلل هامتها و تزين جبينها كالخصلة المنسدلة على محيأ حسناء مفرطة الجمال. معاً، التعريشة و النبات، يشكلان ثنائية بالغة الروعة. التنوع فى أنواع التعريشات ينافسه تعدد محبب فى منظومة النباتات المتسلقة. سنبحر معاً بإذن الله فى مرات قادمات فى هذا العالم المدهش من دنيا النبات.