جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (تاريخ البيت الحضرى فى السودان)
بيوت أمدرمان العهد المهدوى
كنت قبل فترة من الزمان و أنا أواصل مسعاى فى إستقصاء تاريخ واقع البيت الحضرى السودانى، أواجه دائماً بشح فى المعلومات عندما أتتبع مسيرته خلال فترة العهد المهدوى. كنت أجتهد ى هذا الشأن معززاً بمصادر محدودة من أهمها ذلك السفر القيم، كتاب البروفيسور (محمد إبراهيم أبو سليم) (ناريخ الخرطوم). لكننى أخيراً سعدت للغاية إذ تدفق على فيض من المعلومات تغطى العديد من الجوانب المحيطة بهذا الأمر. الفضل من بعد الله يعود إلى حد بعيد للأخ الحبيب الرائع العلامة البروفيسور/ بدر الدين حامد على الهاشمى. البروفيسور قام و لا زال يقوم بمجهودات مقدرة فى مجال الترجمة أستهدف فيها ما كتبه الغربيون عن السودان.
أرسلى لى البروفيسور الهاشمى نسخة من آخر أعماله فى هذا المجال الموسوم (أمدرمان بأقلام غربية) فنزل على برداً و سلاماً. أمدرمان أو البقعة المباركة كما أشار إليها المهدى كانت دائماً هى مركز الإشعاع خلال كل مراحل و فترات العهد المهدوى. كانت بتخطيطها العمرانى المتفرد و عمارتها المميزة الأنموذج الذى حاول الإمام المهدى و من بعده خليفته عبد الله بشكل تلقائى أن يجسدوا فيها فلسفة و فكر المهدية.
المعروف و الراى المؤسس أن العمارة فى أى زمان و مكاان تصنعها عدة عوامل متباينة فى طبيعتها تشكل فى مجملها كل جوانب حياة الناس. أعظم ما فى كتاب (امدرمان بعيون غربية) أن مقالاته ألعديدة القيمة رسمت صورة باناورامية من عدة زوابا تكشف الكئيرالمثير من خفايا العهد المهدوى. تركيزى سيكون على البيت الحضرى عنوان هذه ةالدراسة. فى هذه الحالة يكون من الضرورى التعرف على إطاره، التخطيط الحضرى. تحاول الدراسة أيضاً التعرف على المعطيات التى من المفترض أن تكون قد أثرت على تصميمة و كافه ملامحه.
كتاب بروفيسور بدر الدين يضم بين دفتيه مقالات تتناول عدة مواضيع، جلها يتعامل مع الجانب السياسى مع تركيز على النهج العسكرى و الإدارى بدون تجاهل لإسقاطاتها الإقتصادية. مقالات أخرى تركز على المحتوى الدينى و البعد الروحى و الصوفى مع محاولات لوضعها فى إطارها الفلسفى. المكون المجتعى الثقافى للدولة المهدية و شعوبها و مجتمعاتها وجد أيضاً دور ه من الإهتمام. الواقع إن جل المقالات لم تحاول التعامل مع جانب بدون إنتباه لتفاعله مع الجوانب المؤثرة الأخرى.
شكلت الحصيلة المعرفية االمضمنة فى هذا الكتاب بالإضافة لمصادر أخرى خلفية جيدة سمحت لى التعامل بشئى من الثقة مع حالة الإطار الحضرى المهدوى بشقيه التخطيطى و المعمارى. حاولت بعد ذلك جهد طاقتى بعد أن أوجد علاقة بين معطيات ذلك الزمان المهة و بين التخطيط الحضرى و مكونات و ملامح العمارة. من أهم الجوانب التى ركزت عليها هو البعد الروحى الإيدوليجى. فى هذا الإطار كما هو متفق عليه قسمت فترة الحكم المهدوى إلى جزئين. فترة حكم الإمام محمد أحمد المهدى التى كانت قصيرة و إستمرت لعدد شهور، تلتها بعد ذلك فترة خليفته التى إستمرت لمدة ثلاثة عشر سنة.
ثمة فوارق عميقة بين المرحلتين أهم ما ميزهما تحولا ملموساً فى المنحى الإيدولوجى الفلسفى كان له ما بعده من تأثيرات متعددة شكلت فارقاً بيناً فى كافة المجالات. بعضهم إجتهد فى تحديد مبررات تبدو مقنعة لهذه التحولات. المرحلة الأولى، فترة حكم المهدى، لا يمكن أستعيابها بشكل معمق إلا عبر التعرف بنفس درجة التمحيص على فحوى رسالة الإمام المهدى. هدف من خلالها لتنزيل الفكر النبوى بكافة تفاصيله. تجلى ذلك النهج فى العديد من مظاهر تلك الحقبة قصيرة. إعتبر فترة حكمه الأولى فترة جهاد و تميزت بأجواء عالية من الورع و الزهد.
إنعكس ذلك كله خلال فترة حكم المهدى على حال عاصمته الوليدة عهدئذ أمدرمان على كل مستويات بيئتها الحضرية. الواضح عبر كثير من المعطيات أن كان يريد و يسعى بعزيمة كبيرة و إصرار لكى يستنسخ من عاصمته الوليدة أنموذج للمدينة المنورة. فى الأساس و منذ البداية كان يعتبرها أرضاً طاهرة مباركة عند مقارنتها بتؤامتها الخرطوم الواقعة على الضفة الأخرى من النهر. لهذا السبب منع أنصاره من الإقامة فى الخرطوم عاصمة الحكم التركى بإعتبارها أرض نجسة.
مظاهر الزهد تجلت غفى العديد من جوانب الحياة مثل الملبس و المآكل، و طبق المهدى فى حقبته الأولى هذه المبادى على نفسه قبل أن يفرضها على أنصاره و مريديه. تجلى أثرها بوضوح على عمارة ذلك الزمان التى كانت فى مجملها طينية بسيطة فى مظهرها العام و تفاصيلها. إتخذ المهدى إجراءات صارمة للمحافظة على هذا المظهر الزاهد. تشير بعض المصادر بأن عمارة الخرطوم كانت جميلة و عظيمة بالذات بيوت الأتراك. التى كانت تحتشد بكونات و مفردات الزينة. يبدو أن المهدى خشى من إفتتان أنصاره بها مما قد يدفعهم لإنتزاعها و إستخدامها لتزيين بيوتهم بسيطة المظهر. تحسباً لهذا الأمر يقال أنه أصدر فرماناً- أمراً- صارماً يحذر و يمنع مثل تلك الأفعال.
طوال فترة الأمام المهدى عاش أهل أمدرمان من أنصار المهدى فى توادد تام مع بعضهم البعض. توزعت المجموعات القبلية فيها بأنحاء مدينتهم المتعددة، كل مجموعة منها فى حى من أحياء المدينة. الواضح أن التوزيع هنا تم بشئى من التلقائية و دون كثير تدخل من جهات الدولة. فالمهدى بطبعه كانت تفصله مسافة متساوية مع كل تلك المجموعات القبلية بالرغم من أنه جاء من مجموعة موطنها فى أقصى شمال السودان. أنصهر الأنصار من سكان أمدرمان حقبتئذ مع تبائن خلفياتهم فى بوتقة واحدة. فى أنموذج يحاكى حالة مجتمع المدينة المنورة خلال مرحلة تعرف بإسم صدر الإسلام.
على مستوى مبانى المدينة و بيوتها كانت فى البداية خلال فترة المهدى الأولى فى غاية التواضع. إذ تم تشييدها على عجل فكانت جلها مبنية من مخلفات الزراعة و النباتات- سيقان و أغصان الأشجار و القصب و القش. مع مرور الزمن و حالة الأستقرار النسبى أستخدم الطين مع الإستعانة بنفس تلك المكونات النباتية. لم يرد ذكر أى مبانى مميزة فى أمدرمان خلال المرحلة الاولى من العهد المهدوى. فالإمام المهدى نفسه كان يقيم فى حجرة طينية بسيطة دفن فيها بعد وفاته. من المهم أن ننظر لحالة العمارة خلال المرحلة فى إطار فلسفة الإمام و نهجه السلفى.
كات لذلك النهج السلفى إسقاطات بائنة على شتى مناحى الحياة على وجه الخصوص الجانب الدينى العبادى. من أهم ما حدث فى هذا المجال هو لتهميش لدرجة الحظر على نشاطات و ممارسات الطرق الصوفية التى كانت سائدة فى ذلك الزمان. وصل الأمر أقصى مداه فى تلك الحقبة و فترة الخليفة عبد الله اللاحقة إذ منعت إقامة صلاة الجماعة فى مساجد المدينة و قصرها فقط على جامعة الخليفة المفتوح. إمتد الحظر ليلقى بظلاله الكثيفة على عمارة البيوت و مظاهرها الخارجية. إذ منعت أى زخارف أو رسومات خارجية على أن يتقتصر ذلك فقط على كتابة الآيات القرانية.
تبدل الحال كثيراً من كل النواحى بعد وفاة المهدى و فترة حكمه القصيرة و تسلم القيادة من بعده للخليفة عبد الله التعايشى الذى حكم البلاد لفترة قاربت الثلاثة عشر سنة. جرت مياه كثيرة تحت الجسر بعد ذلك أحدثت متغيرات متعددة الجوانب و الأنواع. يجب أن نوضح أن هذه المرحلة شهدت نقلة مقدرة من حالة الجهاد الأولى و التحرير إلى مرحلة الإنتشار و تأكيد السيادة و هيبة الدولة و عظمتها. يبدو أن هذا التحول كان له ثمن مقدر.
يبدو أن بعض تباين بين شخصية الخليفة عبد الله إذا قارناها بشخصية المهدى كان عاملاً مؤثراً فى هذه النقلة. فى هذا الإطار يجب أن لا نهمل جانباً مهماً للغاية و هو إختلاف أصول كلاً الرجلين و خليفتهم القبلبية لانه هذا الأمر كان له مردوداً مقدراً لاحقاً. الخليفة عبد الله يتحدر من قبيلة عربية موطنها فى أقصى غرب السودان الذى يبعد. أما المهدى فأصوله و موطنه فى منطقة نيلية فى أقصى شمال السودان. هذه الفوارق كانت لها إسقاطات بينه و إنعكاسات مؤثرة خلال مرحلة حكم الخليفة.
واجهت الخليفة تحديات كبيرة مع بداية فترة حكمه. من أهمها و أكثرها إلحاحاً عملية التوسع و الإنتشار لنشر الدعوة و تثبيت الدولة الوليدة. تحقيق هذه الأهداف الكبيرة الطموحة جعل الخليفة بالضرورة مواجه بأعداء كثر و أخطار بعضها حقيقى ماثل و بعضها الأخر متوقع أو متؤهم. كان من أهم الإجراءات الملحة و إعداد القادة العسكريين و تجهيز الجيوش. بعض الإجراءات الأخرى كانت ذات طبيعة مختلفة لأنها تعاملت مع أعداء متوقعين من بين طوائف الأنصار أنفسهم. بناءً على إفادات متنوعة موثوق بها كان لهذا الجانب الأخير إسقاطات مؤثرة على حال مدينة أمدرمان و إعادة توزيع مجموعاتها السكانية.
فى بداية فترة حكمه نجح الخليفة فى إعداد الجيوش بشكل جيد و أرسلهم فى شتى الإتجاهات. و حقق العديد منها نجاحات مؤثرة عززت من موقفه العام و صنعت منه قائداً إقليمياً مميزاً فى ذلك الزمان فأعتبر نفسه صنواً لجيرانه من الملوك مثل نقاشى الحبشة. الواضح أن هنالك إفادات عديدة ممن وثق لتلك الحقبة و بالإضافة لشواهد الأخرى تدلل مجتمعة على أن الخليفة كان يعيش و يتصرف لكأنه ملك أو سلطان. هذا الوضع و دلالاته العامة رسمت صورة مناقضة تماماً لحالة سلفة الإمام محمد أحمد المهدى.
توجه الخليفة و مؤشرات فلسفته إنداحت و اثرت بشكل واضح على شكل المدينة و مكوناتها و كافة تفاصيلها. ظهرت أمدرمان فى شكل عاصمة دولة حديثة بمقاييس ذلك الزمان. إرتكز تأسيسها على عدة معطيات من أهمها التراث الإسلامى و تجارب المدن و العواصم الأسلامية القديمة. هناك إيضاً ثمة أفكار و ملامح أقتبست من تجربة الفترة الإستعمارية التركية التى سبقت العهد المهدوى. الإرتكاز على هذه التجربة كان أوضح فى المجال الإقتصادى الإدارى- تحديداً نظام الضرائب و المكوس.
تطور الدولة و عاصمتها خلال فترة الخليفة عبد الله يتبدى بوضوح فى أكثر من شكل و صورة. إهتمامنا هنا فى البدء سيصوب نحو التنمية الحضرية، تخطيط المدينة و مكوناتتها لأنها التشكل الإطار العام. لن نركز كثيراً على تلك الجوانب سنعطى فقط فكرة عامة. موضوع دراستنا الأساسى هنا هو حال البيت الحضرى فى أمدرمان و فى السياق سنحاول جهد المستاط التعرف على العوامل المتعددة التى شكلته على نحو ما.
مع بداية تأسيسه ركز الخليفة بشكل خاص على مركز عاصمته- أمدرمان. إهتم به بشكل خاص لأنه يشكل مركز إشعاع روحى و سياسى مهم جداً. دراسة هذه الحالة مهم جداُ لكل معنى بالتخطيط الحضرى. بالرغم من حداثة تأسيس الدولة زمانئذ و عدم وتوفر إختسصاصيين مؤهلين لإنجاز مثل هذه المهمام إلا أن المهمة أنجزت بقدر عالى يستوجب الإحترام.
كانت أكبر مكونات مدينة أمدرمان ساحة مترامية الأطراف تبلغ مساحتها ————– كانت مكرسة لأدوات الصلوات اليومية و صلاة الجمعة و الأعياد. كانت مسجد مفنوحاً يقع فى جانبه الشرقى مسجد صغير مشيد بالألواح المعدنية. إهتم الخليفة عبد الله بأمرها نسبة لعدة أسباب لهذا سميت هذا الساحة بجامع الخليفة. إكتسيت أهميتها القصوى نسبة لحظر تشييد المساجد فى أى مكان أخر فى المدينة و الأوامر الصارمة التى منعت إقامة صلاة الجماعة فى أى موقع أخر. يقال أن الخليفة قصد من تلك الإجراءات أن يشاهد و يلتقى بأنصاراه و كافة أهل امدرمان عدة مرات فى اليوم. إكتسبت الساحة أو جامع أهمية أخرى لأنها كانت تستخدم لتوقيع العقوبات لمن يرتكبون جرائم كبيرة، عليه كانت تنتصب فى أردجائه المشاتق.
عدة عوامل أخرى عززت من أهميه هذه الساحة و هى نواعية المبانى الأهمية تتوزع فى أطرافه و التى تحيط به فى المواقع المجاورع. كانت تحيط به مباشرة و داخل الساحة و فى اطرافها مبانى صغيرة بسيطة بعضها أشبه اللأكشاك كانت مخصصة لأنشطة إدارية رسمية. يبدو أن الفكرة كانت نابعة من تعزيز العلاقات بين الناس بتواجدهم معاً و هم يقضون حواجهم فى صعيد واحد طاهر.
إكتسب جامع الخليفة المفتوح أهمية خاصة جداً إضافية نسبة لمكونات المدينة الرئيسة و السيادية التى كانت تحيط به من من جوانبه الشرقية و الجنوبية. كانت تطل عليه من الجانب الشرقى ضريح أو قبة المهدى التى إهتم الخليفة بتشييدها على أحسن ما يكون إذ تنصب شامخة كعنصر مهيمن طاغى. على الجانب الشرقى الجنوبى شيد الخليفة مجمع من طابقين كأول حالة من نوعها فى عهده. إكتسب المجمع أعلى درجات الأهمية لأن به مقر مجلس الشورى و مسكن الخليفة. مبنى فى مجمله بالغ التميز ليس فقط لإرتفاعه و شموخه و لكن أيضاً لمواد بنائه و طريقة تشييده. العديد من نفاصيله تشى باإحساس الخليفة بأنه صار مملكاً أو سلطاناً.
تصميم بيت الخليفة يشئى بالغموض الإحتياط الأمنية العالي. من مؤشرات حرصه الشديد أنه جعل مينى مجلس الشورى و الخلوة التى يلتقى بالغعلماء فى نفس مجمع مسكنه لبتجنب الخروج من المجمع. يبدو أنه بمرور سنوات حكمه إستشعر بالأخطار المحيطة به. على سبيل المثال كان هناك باب يفضى لجناحه الخاص لا يستخدمه شخص أخر غير أخيه يعقوب. ثقته الكبيرة فى أخيه جعلته يخصص له بيتاً هو الأقرب لمسكنه.
العديد من مكونات البيت و ملامحه توضح حالة العظة المفرطة التى كان يعيشها. نلاحظها أعلى وجه الخثصوص فى الحمام المعد على نظام المغطس ( البانيو) و تعلوه قبة بها فتحات دائرية صغيرة تبدو لطأنها النجوم. تكتمل مظاهر الرفاهية و الآبهة بذلك الفرن الرابض بجوار مبنى الحمام و المستخدم لتسخين للإستحمامه. العديد من الملاحظات الواردة هنا يجب أن نأخذها بتحفظ. فالرجل كان مستهدفاً من قبل أعدائة المستعمريت و من بعض من ناصيوه العداء من السودانيين الذين نالهم شئى من ظلمه. مجمع بيت الخليفه خصص لبعض الإداريين الإنقليز بعد سقوط الدولة المهدية و قد تكون تلك الأجزاء المشار إليهت هنا قد أضيفت لاحقاً.
من الواضح أن الخليفة عبد الله إهتم كثيراً بمجمعه ذاك.فاعديد من أجزائه و تفاصيله جلبت من أطلال مدين ااخرطوم بعد سقوطها على أيدى أعوان المهدى. فأغلبية الحوائط مشيدة من الطوب الأحمر المنتزع من بيوت الأتراك. كذلك اأبواب الغرف المصنعة من أجمل أنواع الخشب الأحمر المنحوته بعناية فائقة. الأسرة الكبيرة جائت على نفس ذلك النسق البهى. العديد من المؤشرات فى هذا المجمع و البيت تدلل هلى حالة الترف التى كان يعيشها الخليفة عبد الله. بالرغم من أن الكثير من الروايات التى تحكى عنه نصوره فى صورة الزاهدة فى الدنبا و نعيمها.
ثمة دلالات أخرى تشير لعدم أحساسه بالأمن و حسبة لغدر الغادرين تدلل عليه إحاطة مسكنه ببيوت أقرب الأقربين إليه. أشرنا من قبل لبيت اأخية يعقوب المجاور لبيت و قصره, بيت إبنه شيخ الدين لم يكن بعيد من المجمع الرئاسى، فهو كان يقيم فى ذلك المينى الشاسع المترنمة الأطراف و صار الآن سجن. البيت محاط بحائط حجرى يزيد إرتفاعه عن الخمسة أمتار. بالرغم من منظر البيت الخارجى مان متجهماً و صارم القسمات إلا أن الرويات تقول أنه كان يضم بين دفتيه منتدئى للشعر و المسامرة ه. قيل أن عمر البنا و أتربه من الشهعراء كانت لهم صولات و جولات و تنافس فى تمجيد المعهدى و خليفته.
الإهتمام الخاص ببيوت الخليفة و أسرته المباشرة كان على طرف نقيض من بيوت عامة الناس متزواضعة المنظر و المظهر. نفس الإهنمام نلاحظه فى إختيار مواقعها. هاجس الخليفة و أعوانه جعله الأمنى جعله يخصص كل المنطقة المحيطة ببيوت لأعداد كبيرة من حرسه إحتل حى بأكمله هو حالياً حى الملازمين و كان يعرف على أيامهم بحى الملازمية لأنهم كانوا لا يفارقون الخليفة و كانا بمثابة الحرس الشخصى.
ظهرت أمدرمان كعاصمة للدولة المهدية تكاد تنافس بعض حواضر الدول الجاورة بعد بتأسيس مركز المدينة على هذا النحو. لكن هناك جوانب آخرى مهمة جداً كان يجب إستكمالها. ثمة هاجس أمنى يبدو أنه كان يؤرق الخليفة عقبة توليه مقاليد الحكم. إختيار المهدى له ليخلفه فى الحكم أثناء فترة حكمه و حياته كان على حساب أقرب الأقربين له و أبناء عمومته. المشكلة إن الإختيار كان لمن هو من خارج قبيلة المهدى و موطنه الشمالى فالخليفة يتحدر من قبائل البقارة سكان أقاليم السودان الغربية. إستشعر خطورة مثل هذا الوضع فتحسب له بإستنفار المزيد من أهل إقليمه فأسكنهم فى منطق قريبة من مركزه ليخلق نوعاً من التوازن السكانى. خلق هذا القرار اإستقطاباً حاداً بين أهل الشمال و يشار إليهم بناس البحر و أهل الغرب.
من الخطوات الأخرى المهمة التى قامت بها إدارة الخليفة عبد الله إعادة ترتيب تسكين المجموعات القبلية بعاصمته. طوق المنطقة المركزية بالذات التى يوجد فيها مسكنه بحزام أمنى مشكل من أحياء أهله و أبناء قبيلته و عشيرتة و قبائل غرب السودان. الشريط المحيط مباشرة بالمركز من ناحية الشمال و الجنوب الشرقى و يدخل فى نطاقه مستودع الأسلحة و الذخائر و رايات الجيوش كان الأكثر تأميناً. أسكن فى تلك المنطقة الآلاف من جنوده المخلصين و الموثوق بهم و كون منهم حرساً خاصاً أشرنا إليه من قبل. ما زالت تلك المنطقة التى خصصت فى الماضى لسكنهم بالرغم من تبدل احوال فى الزمان الحديث تعرف حتى يومنا هذا بحى الملازمين.
إستكمالاً لهذه الإجراءات التحوطية الهادفة لتأمين الخليفة و أنصاره المقربين تم إستيعاب ناس البحر- المجموعات القبلية النيلية و تحديداً الدناقلة أهل المهدى فى أطراف المدينة. على سبيل المثال تم إسكانهم مثلاً بإحياء ود نوباوى الجزء الغربى من حى بيت المال. عزز من هذا الإجراء الأمنى أن تلك الأحياء الطرفية يفصل بينها و بين المنطقة المركزية المراد تأمينها المركز التجارى- السوق. كانت خطوة فعالة نسبة لتطبيق نظام حظر التجول ليلاً الذى يمنع تحرك الناس خلال تلك الساعات.
حال العمارة و نوعية المبانى خلال فترة الخليفة عبد الله شابه أيضاً بعض التغيير المحدود نتيجة لمستدجدات هذه المرحلة و معطياتها المميزة. برزت أمدرمان فى هذه المرحلة المحورية من العهد المهدوى كعاصمة لدولة مؤسسات. قامت العمارة بدورها فى التعامل مع هذه المستجدات. فشيدت مبانى بمواصفات خاصة لإستيعاب مؤسسات الدولة الوليدة و بيوت رموز الحكم و أقرباء الخليفة. فظهرت هنا و هناك فى إطار الصورة الممتدة من البيوت و المبانى الطينية البسيطة المظهر و العشش المشيدة من القش مبانى عالية صروح شامقة. التطاول فى البيان لأغراض التامين و إظهار الهيبة و المهابة إستدعى إستخدام مواد بناء إضافيىة أقوى و طرائق بناء مستحدثة العادية بالطين. فتمت الإستعانة بالحجر الرملى الذى ما زال صامداً.
سلطة و إدارة المهدويين خلال فترة الخليفة عبد الله لجأت لعدة طرق و حيل لتحقيق ذلك الطموح المعمارى و المظهر الحضارى. شكلت بالنسبة لهم مبانى و بيوت الخرطوم عاصمة الحكم التركى المصرى مصدراً أساسياً. أنتزعت بعض أجزاء المبانى و موااد البناء الحديثة هناك و أعيد إستخدامها لتشييد مبانى مؤسسات الدولة الهامة و بيوت الخليفة عبد الله و بعض أفراد أسرته. ظهر ذلك واضحاً و جلياً فى فى عدد من المنشآت و المبانى الهامة مثل قبة و ضريح المهدى و مجمع قصر الحكم- مقر مجلس الشورى و بيت الخليفة.
لم يكن التراب و الطين ملائماً لتشييد عدد من المبانى الهامة التى كان يجب تأمينها بشكل جيد. إحاطتها بأسوار عالية أستدعى تقوية أسوارها الخارجية فأستخدمت قطع الحجر الطبيعى لهذا الغرض فمنحها قوى جعلتها ما زالت تقاوم الزمن حتى أواننا هذا. الشواهد على ذلك عديدة مثل أسوار ذلك المجمع الذى كان يستخدم كمستودع السلاح و الزخيرة ز حفظ الغمائم و رايات وحدات الحجيوش و صار لاحقاً الملعب الرئيسس لكرة القدم- دار الرياضة. نجد تلك حوائط السور الحجرية العالية أيضاً تحيط بإمتداد بيت الخليفة المخصصة لعائلاته و بيت أخيه يعقوب المجاور. نفس الأسوار الحجرية العالية كانت تحيط ببيت إبنه شيخ الدين المترامى الأطراف الذى أصبح فى زمان لاحق سجن المدينة و لا زال يستخدم لهذا الغرض.
لم يكتف الخليفة بإستثمار مواد بناء و نظم تشييد عاصمة العهد التركى المصرى إذ أنه لجاء أيضاً لخبرات من عمل و تعامل مع ذلك العهد. إستعان ببعض المهندسين و الفنيين المهرة فى تشييد المنشآت الهامة. وضح ذلك جلياً فى مبنى ضريح و قبة المهدى. نظام تشييده و شكله العام و كافة ملامحه و تفاصيبه تنم عن مقدرات هندسية و لمسات فنية متقدمة. نفس الأمر ينطبق على مبنى مجمع مقر مجلس الشورى و بيت الخليفة. التصميم نفسه يدل على فهم متقدم و فكر معمارى أصيل. المجمع بكامله و كافة تفاصيله يشئى بأنه إيوان ملك أو سلطان.
باقى بيوت مدينة أمدرمان لم تكون مميزة كما هو الحال بالنسبة لبيوت الخليفة عبد الله و أسرته من الأقربين. الواضح أن بيوت أفراد قبيلته و أقربائه من درجات أقل و الذين أسكنوا فى أحياء قريبة كانت مساحاتها شاسعة و لا شك أنها تميزت ببعض ملامح مميزة. نلاحظ ذلك فى حى ليس ببعيد عن مركز المدينة يعرف بإسم بحى الأمراء إشارة لسكانه الذين كانوا من أمراء المهدية.
باقى المجموعات الوافدة من غرب السودان التى كان يشار إليهم بالبقارة- رعاة البقر- تم إستيعابهم فى أحياء ليست ببعيدة من مركز مدينة أمدرمان و بيوت الخليفة و أهله المقربين. جل أهل تلك الأحياء كانوا أساساً من الرعاة و الرحل يتنقلون أثناء العام من مكان إلى أخر. عليه لم تشكل نماذج البيوت الحضرية جزءً أساسياً من ثقافتهم و تراثهم المادى. عند حضورهم و إستقرارهم بأمدرمان لم يجدو مرجعية محددة يؤسسون عليها عمارة بيوت أحيائهم هناك.
للأسف الشديد باقى بيوت أحياء أمدرمان بالذات ناس البحر- النيليين- نسبة لهشاشة مواد بنائها لم يتبقى منها الكثير بشكل يسمح بالحكم عليها. الواضح أن مظهرها العام كان متواضعاً إذ كانت مادة بنائها الرئيسة التراب أو الطين. لم تكن لها ملامح مميزة بالرغم من تراث عمارة أهلها من تلك القبائل مثل الدناقلة بالغ الجمال. لاحظت عندما زرت حالات محدودة قبل عقدين من الزمان وجود بعض مكونات بيوتهم التقليدية فى موطنهم الأصلى. عدم ظهور الرسومات و الزخارف التى كانت تزين واجهات بيوتهم النوبية قد نجد له بعض تفسير. نهج الخليفة السلفى و القمع المذهبى كانت السلطات المهدوية تمارسه منذ نشاْتها الأولى فى إطار محاربة الطرق الصوفية حرم زخرفة المبانى و لم تسمح إلا بكتابة الآيات القرانية الكريمة.
الواضح من هذا الإستعراض السريع للبيت الحضرى خلال فترة الحكم المهدوى أنه كان كناك ثمة تحور ملموس إذغ قارنا بين فترة حكم أو ولاية الإمام محمد أحمد المهدى بخليفته الخليفة عبد الله التعايشى. يعزى هذا الأمر إلى بعض عوامل. واحد منها ذو كطبيعة امنية و إنعكس ذلك على التخطيط العام للمدينة و توزيع السكان فى أحيائها. الأمر هنا له علاقة مباشرة بحالة إنصهار السكان مع بعضهم البعض. يبدو إنهم ذابوا فى بوتقة واحدة خلال فترة ولاية الإمام محمد المهدى الأولى. تدريجياً خلال الولاية الثانية حدثت حالة إستقطاب حادة واحدة من أسبابها الخلفية القبلية للأمامين. لدوعى أمنية أسكن الخليفة عبد الله أهله و أهل غرب السودان حول منطقة بيته و إستبعد أهل شمال السودان و أهل المهدى فى أطراف المدينة.
كان هناك ثمة تباين بين مرحلتى المهدية إذا قارنا شكل البيوت العام و تصميمها. يمكن أن يرد ذلك إلى عوامل منهجية، بعض إختلاف بين نهج المهدى و الخليفة عبد الله فى الحياة وفى
الحكم. فالأول إلتزم النهج الصوفى الزاهد طوال فترة حكمه القصيرة. الثانى إنتهج نهجاً مختلفاً إلى حد ما بالذات فيما يخص بيوته و بيوت أقربائه التى كانت جيدة التحصين و بها بعض مظاهر الترف. بشكل عام تأثر شكل بيوت الناس موقف المهدية السلفى و تضييقها الخناق على أى توجهات صوفية. إنعكس ذلك فى منع وضع أى علامات أو إشارات على واجاهاتها مثل الرسومات أو الآيات.
البروفيسور مشارك دكتور معمارى/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان فبراير 2018
*جزء من كتاب من تأليف الدكتور/ هاشم خليفة عنوانه ( البيت الحضرى فى السودان) سيصدر قريباً