بيوت الخرطوم واحد مستودع ثري لتراث عمارة المسكن الحضري
لا أكل لا أمل الحديث عن عمارة حي الخرطوم واحد مهما تطاول الزمن. لأنها باختصار لا زالت بعد قرابة الثمانية عقود من الزمان تأتي دائماً بالجديد الذي يدهشنا. إذ تشاء إرادة الخالق العظيم أن يهيئ الظروف لمن يأتي من المعماريين ليجدد للحي شبابه. يجعله مرة أخري بعد تلك الفترة من الزمان مرة أخري مسرحاً لأخر (الصرعات) المعمارية. تعبير صرعات مقتبس من الثقافة اللبنانية كوصف لظاهرة مدهشة لا مثيل لها من قبل. كانت أول تجربة لي مع الحي في فترة تعود بي لمرحلة الطفولة الأولي في نهاية الخمسينات عندما أمتلك فيه والدي منزلاً حقبتئذٍ. صغر سني وقتئذٍ ما كان يسمح لي بالطبع بتذكر ملامحه. لكن لا يخالجني شك من واقع من كان يستأجره ومن اشتراه من والدي أن عمارته كانت مشرفة. ساطعاً هناك مع درر معمارية من الفيلات سنأتي على ذكر بعضها بشي من التفصيل لاحقاً. رصعت جانبي شارع سأركز عليه هنا ينحني برقة وليونة يداعب واجهاتها يلملم أطرفاها بلطف منسرباً مخترقاً ذلك الجزء المتميز من الحي. ليضع أول سطر في لوحة حضرية تطفح بعبق رومانسي راقي لم تشهده حواضرنا من قبل لا من بعد ذلك. بعد أنقض على عمارتنا وحش الحداثة الكاسر محمولاً على أكف فكر توجه علماني لئيم يفتقد للإحساس بالمشاعر الإنسانية الأصيلة النبيلة المتجذرة في جيناتنا. مشاعر سامية مرهفة ضمخت حقبتئذٍ جوانب عمارة الحي. سأفصح اكتفي ببعض منها في سياق هذه المقالة إذ أن أرجاءه كانت محتشدة بالعديد من المفاجئات. سأستعرض حالة بعضها هذه المرة لأدخر ما تبقي منها أتناولها لاحقاً بشي التفصيل في سلسلة من المقالات إنشاء المولي.
المتأمل في عمارة حي الخرطوم واحد ينجلي أمامه تراث تداعت روائعه لفترة قاربت الثمانية عقود من الزمان. احتلت فيه العمارة السكنية موقعاً متقدماً مشرفاً في فترة نهاية الأربعينات إلى أول الخمسينات. قبل أن تبدأ لاحقاً في التراجع لتفقد بعضاً من أراضيها وألقها. تداعيات كانت من أهم أسباب اهتمامي بهذه الحالة. من أهم ظواهرها أن هذا الحي كان هدفاً أساسياً لأميز المعماريين خلال حقب تاريخية متعاقبة. مصيدة نصبها لهم أصحاب بيوته الذين كانوا من أميز الشخصيات في المدينة في بلادنا في عدد من المجالات المؤثرة. أرادوا دائماً كخطوة متوقعة أن يقدموا أنفسهم لمجتمعها مستثمرين في عمارة بيوتهم كواحد من أهم أسلحتهم في هذه المعركة. ظاهرة استرعت انتباهي جَعلتها موضوع هذه المقالة من واقع تخصصي واهتمامي بالأبعاد الثقافية والمجتمعية للعمارة. الذي قدم فيه الحي في أرجائه المتعددة روائع معبرة للغاية تستحق الدراسة والتأمل. ليس بهدف التباكي علي الماضي التليد الذي مضي بخيراته. لكن لأنها حالة تقدم لنا بالتحديد للمعماريين دروس مهمة تستحق الاستفادة منها. يكمن سرها في تنوع طرازاتها المعمارية التي تتوفر علي مصادر إلهام ثرة يمكن الاستثمار فيها بروح ابتكار عالية. هذا ما فعله معماريون غربيون استثمروا في التراث المعماري بشتى أنواعه. وظفوه ليتجاوزوا به حالة احتقان أوصلهم لها فكر ونهج الحداثة الذي أتي به أسلافهم. منطلقين منه محلقين في أفاق جديدة مثمرة عبر طرازين سمي الأول الكلاسيكية الراجعة والثاني المحلية الراجعة. يضم تراث عمارة حي الخرطوم واحد يخبئ بين جوانحه كنز ثمين ورصيد وافر مقدر لكلا للطرازين. ستساهم هذه المقالة في إلقاء بعض الضوء عليه.
تمدد حي الخرطوم واحد عبر الزمان والمكان في ذلك الجزء من المدينة. أسسته الجهات المعنية من سلطات الحكم الثنائي في نهاية أربعينات القرن المنصرم. كخطوة لتطوير عاصمتهم الخرطوم ليحل محل أحياء الديوم. التي خصصتها من قبل لشرائح من السكان كانوا الأيدي العاملة التي عمرت المدينة. تطورات جعلت السلطات المحلية تستوعب فيه شرائح مجتمعية متعددة. من الطبقات العليا على رأسهم النخب السودانية من أوائل الخريجين من الجامعات. الذين أمنت لجانبهم بعد أن قررت من قبل أن تبعدهم عن منسوبيها في مدينة أمدرمان. خصصت لهم جانب كبير من ذلك الحي استوعبتهم فيه مع مجموعة من رجال مال وأعمال أجانب مع عدد محدود من نظرائهم الوطنيين. انتقت تلك الصفوة من سكان المدينة عبر عملية مزاد مفتوح تنافس فيه المقتدرين مالياً. بالإضافة إلى ذلك اِستنت لوائح صارمة حددت مستوي مواد البناء المستخدمة الأمر الذي انعكس بشكل إيجابي علي مستوي المباني. خطوات إجراءات ساهمت في ظهور تلك الصفوة من الوطنيين بشكل مشرف خلال مرحلة مفصلية من تاريخنا الحديث كان لها مردود مهم. في حي قريب من منطقة المدينة المركزية الذين كان يعمل فيه هؤلاء الخريجين جنباً لجنب مع منسوبي دولتي الاحتلال. بذلك تكونت في نهاية الأربعينات نواة حي الخرطوم واحد السكني. في منطقة يحدها من جهة الشمال والشرق شارع أفريقيا الذي يشار إليه بشارع المطار. يحيط به من الجانب الغربي شارع توفيق صالح جبريل الامتداد الجنوبي لشارع المك النمر. ليستمر منحنياً في اتجاه الجنوب ليتغير اسمه لشارع المفتي الذي يصل إلي بداية حي العمارات. يحد الحي من ناحية الجنوب امتداد شارع الجزيرة الذي ينطلق من حي الخرطوم اثنين باتجاه الشرق ليفصله عن منطقة الأندية المعروفة.
نطلق العمل في إعمار حي الخرطوم واحد خلال بعد بضع سنوات من تخطيطه. في نطاق محدود منه في البداية خلال المنعطف التاريخي من نهاية العشرية الرابعة إلى مطلع الخامسة فترة مفصلية مهمة من تاريخنا الحديث. لينداح بعد ذلك تدفق الإبداع المعماري ليغمر الحي الذي لا زال ينساب نحن في بداية العشرية الثالثة من الألفية. لتضع العمارة بصمتها كما هو متوقع موثقة لتطورات متعددة الجوانب في حياتنا ووطننا الكبير من منطلق دور العواصم الريادي. وضعها معماريون أماجد كان كل واحد منهم راس الرمح في زمانه الذي خطي من خلاله بعمارتنا خطوات واثقة للأمام. تسيد كل واحد منهم الساحة ليرسم لوحة معمارية زاهية المحيا عميقة المعاني يوثق بصدق لواقع حقبته الزمانية. نجوم وكواكب سطعت قدمت زخماُ معمارياً فائق القيمة نرجو أن نستوعب محتواه لنستخلص منه الدروس والعبر. عملية تحتاج بالضرورة لتأمله بعمق في إطار كافة الظروف والملابسات المحيطة به التي جعلته يبرق كاشفاً عن سر تألقه. أقدم هذه المقالة مساهمة متواضعة في هذا السياق الذي أرجوا ألا يفهم بأنه دعوة لاستنساخ تلك الأعمال الرائعة في زماننا الراهن. كلي أمل أن تتوافق رؤيتي مع أفكاركم لكي يتم التعامل معها كمصدر إلهام ننطلق منه ألي فضاءات إبداع حاضرنا المعاش. علماً بأن من سبقونا من المعماريين تركوا لنا كماً وفيراً من إرث معماري فخيم بالغ التميز سأحاول هنا الإشارة لبعض منه.
كان المعماري اليوناني إستيفانيدس من أوائل المعماريين المتميزين الذي وضعوا بصمتهم في حي الخرطوم واحد. الذي طرز أرجاءه بفيلات أنيقة مترفة الجمال. طور أفكارها من بدايات موفقة وضع أساسها من قبل في أعمال متفردة فيما كان يعرف باسم الخرطوم وسط نواة عاصمة حكم الاحتلال. مستلهماً تصميماتها مما يعرف بطراز عمارة البحر الأبيض المتوسط إشارة لاسمه باللغة الإنجليزية Mediterranean style. مستثمراً في علاقته مع أصحابها عملائه من أهل بلاده كانوا من أهم رجال مال وأعمال تلك الحقبة التاريخيةٍ. فيلات صغيرة تتميز عمارتها بصالة دخول يتوسطها سلم لولبي مفتوح يقود من منطقة الاستقبال لغرف النوم في الطابق الأعلى. بالغة النقاء والأناقة تنضح رومانسية وحميمية. منحتها لها خطوطها شبه الدائرية المنسابة في رقة في الخارطة والواجهات. تتصدر واجهاتها بلكونات مرفرفة مطرزة بأعمال حديد (قريلات) ذات تصاميم مترفة الرقة والعذوبة. تكلل هاماتها عروش بلاطات قرميد (مارسيليا) مائلة تغازل تغمز لشمسنا المدارية. عمارة سكنية فتانة أسرت أجيال من بعد ذلك الرعيل الأول من معمارينا الأفذاذ. أفتتن بها من بعدهم من جيل شباب المعماريين في نهاية القرن الماضي حيدر أحمد علي. الذي مر في مسيرته الظافرة بمرحلة عمارة الفيلات البيضاء قدم فيها أعمال متفردة. أجمل ما في ظاهرة فيلات إستفانيدس أنها كسرت احتكار طراز تراث عمارة دولتي الاحتلال بريطانيا ومصر. فحررتها لتنطلق مرفرفة في حي الخرطوم واحد. لكنها للأسف لم تهنأ بتلك المكانة الرفيعة لفترة طويلة إذ إنتاشتها لاحقاً السهام من كل الجوانب. بداءً بعمليات إضافة وخصم سلبتها من زخمها الرومانسي وحميميتها المتدفقة. لتكمل الجرافات المزمجرة تلك الحملة المدمرة بإزالة درر منها لتحل محلها أعمالا باهتة خصمت من بهاء أفق الحي.
بعد فترة قصيرة صعد سلم المجد في فضاء عمارتنا في الخرطوم في الخمسينات معماري أوربي متميز أخر ليلحق برفيق قارته إستفانيدس. اختلفا عن بعضهم البعض في أسلوبهم المعماري لكنهما كانا متشابهين في تأثيرهم الواضح لاحقاً. الإشارة هنا للمعماري النمساوي بيتر مولر الذي وفد إلى بلادنا بعد تجربة في بلدان عربية مجاورة مكنته من اللغة العربية بشكل لا بأس به. أضاف إليها جانب مهم للغاية هو مقدرته الفائقة على التعامل مع الحالة السودانية بكافة تعقيداتها على راسها المناخية منها. قدم من خلالها نماذج عبقرية لعمارة حداثية مدارية السمات مواكبة لطراز الحداثة الذي اكتسح عالمه الغربي في الخمسينات. أعمال بالغة الروعة نافس بها رصفاه الغربيين الذين سطع نجمهم خلال تلك الحقبة. لم يحظٍ للأسف حي الخرطوم واحد بالعديد من أعماله إذ أجبرته ظروف سياسية قاهرة لمغادرة بلادنا خلال تلك الفترة الباكرة من الزمان. حسن حظي أتاح لي فرصة زيارة عابرة لواحد من أعماله قبل فترة طويلة. بالرغم من ذلك كانت عظيمة الأثر خرجت منها بانطباع إيجابي للغاية. وجدتها عمارة ممتازة بمقاييسنا السودانية بالرغم من أنها تضح حداثية هذا هو سر عظمة هذا المعماري النمساوي العبقري. من أهم أفضاله في ذلك الزمان الباكر في الخمسينات أنه وضع الأساس لعمارة الحداثة السودانية بشكل أريب أنيق للغاية كامل الأوصاف.
مهد بيتر مولر الطريق في بداية الستينات قبل أن يغادر بلادنا الطريق لأميز معمارينا. حملوا المشعل من بعده بجدارة من أميزهم أستاذنا الجليل عبد المنعم مصطفي. الذي صار بحق العراب الوطني لعمارة الحداثة السودانية. سار على دربه أيضاً بنفس القدر المرحوم المعماري الأريب الفذ كمال عباس. ليمهدوا الطريق لسطوع عمارة الحداثة السودانية التي ظهرت في البدء في أزهي صورها. بالرغم من تميزهما الباهر في السبعينات إلا أن مساهمتهما التي جاءت متأخرة كانت محدودة في إثراء عمارة حي الخرطوم واحد. أنتظر كمال حتى عقد الثمانينات ليتحفنا بواحد من أروع أعماله. فيلا مترامية الأطراف موقعها قرب الطرف الشرقي لشارع أحمد مكي عبده غرب مبني سفارة هولنداً. زرتها فافتتنت بعمارتها إحساس شاركتني فيه إدارة منظمة اليونيسف التي اتخذتها مقراً لها. جاء ظهور أستاذنا عبد المنعم في حي الخرطوم واحد لاحقاً على دفعتين. الأولي في العشرية الأولي من الألفية في داره موقعها في الطرف الجنوبي من الحي قرب تقاطع شارع المفتي مع الامتداد الشرقي لشارع الجزيرة. عمل معماري متميز استغرق زمناً طويلاً لأنه كان يتعامل معه كأنه ملون عالمي مشهور منكب علي أهم أعماله. ظهوره الثاني الأخير بالغ التفرد والأهمية كان في العشرية الثانية. فيلا رجل المال والأعمال الوجيه محمود عبد الرحيم في الجزء الأوسط من شارع 33 التي سكب فيها أخر مرئياته المعمارية. قدمها كأنه يودعنا هو يهم بمغادرة البلاد للولايات المتحدة رحيل كان يدرك بأنه لن يعود بعده للسودان. في حالة أشبه بخطبة وداع ذلك الخليفة المشهور في تاريخ أمتنا الإسلامية. عمل كان بحق مسك الختام، مسك فواح لا زال عطره يضمخ أجواء الحي. عمل فاره بالغ التميز يحتاج لمقالة كاملة سأتحفكم بها في مرة قادمة بإذن الله.
لفت نظري قبل عدة عقود من الزمان لأكثر من سبب وجيه جزء محدد من حي الخرطوم واحد يقع علي جانبي شارع 33. منطقة محددة منه في الجهة الغربية منه المطلة على الامتداد الجنوبي لشارع المك نمر الذي سمي بشارع توفيق صالح جبريل. من أهم أول ما لفت انتباهي لهذه الجزء من الحي جانب مهم في تخطيطه العام. شارع ينسرب داخله في ليونة انحناءه خفيفة متحدياً نمط التخطيط المتعارف عليه الذي تتقاطع فيه الشوارع في زوايا قائمة. يلامس واجهات البيوت والفيلات المطلة عليه بلطف كأنه يداعب خدودها يلملم أطرافها كحبات عقد نضيد. مُؤسساً لأول ملامح رومانسية ظلت ترفرف على أجواء ذلك الجزء من الحي. أكملتها العمارة بعدد من مكوناتها الرئيسة وتفاصيلها الثانوية. التي تمددت لاحقاً لكافة أرجاء الحي لتصبح واحدة من أهم ملامحه وسماته. المحير في الأمر في ظاهرة تستحق الانتباه أن تلك الأجواء الرومانسية تبدو ألي حد بعيد مضللة. إذ وثق ذلك الحي حقبتئذ في المنعطف التاريخي بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات لصحوة نضالية مهمة مهدت الطريق لاستقلال بلادنا. كان أصحاب بعض البيوت والفيلات هناك راس الرمح فيها. صحوة جاءت متصلة مكملة لحركة وطنية وضع أساسها أخوة لهم في عقود سابقة في ربوع عاصمتنا الوطنية أمدرمان. المدهش في الأمر أن واحدة من هذه الفيلات الأنيقة صارت لاحقاً في حقبة الستينات ومطلع السبعينات منصة نضال سياسي مهم. ذهب في اتجاه مختلف للغاية عن التيار العام نتيجة لمنعطفات سياسية مهمة. لم يخرج من إطار الدور المؤثر لطلائع الحركة الفكرية السياسية السودانية. زخم سياسي وطني كانت فيلات ذلك الحي بكل مكوناتها منصة مؤثرة في صناعة منعطفاتها وتجلياته.
من المنطقي أن يبدأ تناولنا لحالة ذلك الجزء من حي الخرطوم واحد بإنسانه باعتباره ة أساس هذه الظاهرة. الذي شكلت تركيبته نقلة نوعية في منظومة تاريخ الخرطوم خلال تلك الحقبة من الزمان في نهاية أربعينات القرن الماضي. جمعت نتيجة لسياسات السلطات المحلية بين أطياف من سكانها أشرت إليهم من قبل. يهمني هنا علي وجه الخصوص شريحة تمثل نخبة من أوائل خريجي الجامعات الوطنيين. بدون أغفال لدور شرائح أخري كان لها دورها المؤثر المباشر والغير مباشر الذي سنشير إليه أيضاً. أنا مهتم بشكل خاص متابع لدور الشريحة الأولي. التي تتبعت مسيرتها من قبل في عشرينات وثلاثينات القرن في ربوع مدينة أمدرمان. عندما كانوا موظفين صغار في الدواوين الحكومية أطلقوا عليهم لقب الأفندية الشائع في اللغة التركية. في هذا الإطار سَلطت الأضواء علي نمط بيوتهم المتفرد الذي أسميته أشرت إليه هناك بطراز بيوت الأفندية. اهتمامي بحالتهم جعلني أتتبع مسيرتهم هنا في حي للخرطوم واحد الذي انتقلوا ونُقلوا إليه في نهاية الأربعينات. الواضح هنا من واقع هذه الحالة بناءً علي مستجدات عديدة أن الأمر تجاوزت حدود بعده المكاني لإبعاد أخري أعمق. لم يكن الانتقال مكانياً فقط إذ أن هناك معطيات معينة كان لها بلا أدني شك مردود ملحوظ. من أهمها التطور المتوقع في نهج تفكيرهم الذي افرزه واقع مستجدات سياسية كان تبشر بقرب نيل البلاد لاستقلالها. ثمة عامل أخر مهم للغاية نابع من طبيعة التركيبة السكانية في الحي. التي استوعبت فيه معهم نخبة من أهم رجال مال وأعمال ذلك الزمان من الشوام السوريين واللبنانيين وأخرين أوربيين جلهم (أغاريق) أي يونانيين. نقلة مهمة للغاية إن لم يكن تأثيرها ظاهر مباشر.
القيمة العالية المضافة لتفاعل الشرائح متنوعة السمات التي استوعبتها الجهات الرسمية هنا معاً تحكيها جوانب من قصة هذا الشارع المهم. الذي سكن فيه جنباً لجنب أميز الخريجين ذلك الزمان. مثل المهندس لاحقاً القانوني المتميز والسياسي الأريب محمد أحمد المحجوب. بجوار قريبه الطبيب أو بدقة أكثر أبو الطب عبد الحليم محمد. الذي سطع نجمه خلال تلك الحقبة وبعدها في أكثر من محفل ومجال احتل فيه موقع الصدارة. مجاورين لأسرة قطان شامية الجذور كان على رأسها صاحب الدار هو من أميز رجال المال والأعمال الأجانب في ذلك الزمان. مقامه الرفيع لم يمنعه من التفاعل الحميم مع كافة أطياف المجتمع السوداني وعلية القوم عدد منهم من جيرانه في الحي. واحد منهم صاحب الدار المواجه لفيلته سوداني سطع نجمه صار لاحقاً من أهم وجهاء المدينة والبلاد قاطبة. هو السيد عبد الله الفاضل المهدي حفيد سليل الإمام المهدي. الذي صار واحداَ من أميز رجال الأعمال يكفيه فخراً أنه أدار بحنكة عالية شئون دائرة المهدي. المؤسسة الاقتصادية المهمة التي أنشاءها الإمام عبد الرحمن المهدي لإدارة شئون حزب الأمة الوليد زمانئذٍ. كان تفاعل تلك الشرائح متباينة الخلفيات التي سكنت متجاورة في الحي واحدة من أهم سمات تلك الفترة المفصلية في تاريخنا الحديث. ظاهرة مهمة مؤثرة نشأت ترعرعت في إطار حضري احتضنه ذلك الجزء من حي الخرطوم واحد. صورة مدهشة ستتجلى لنا خباياها الكامنة عند استعراض عمارة فيلاتها المتميزة التي سأركز على أثنين منها.
النقلة التي حدثت لتلك للشريحة المشار إليها هنا ستتضح عند مقارنتها بوضعهم السابق في مدينة أمدرمان التي انتقلوا منها لحي الخرطوم واحد. حيث كان كل واحد منهم هناك يقيم مع أهله وعشيرته في حي واحد يضمهم معاً. نظام متبع أرست دعائمه فترة الحكم المهدوي في نهايات القرن التاسع عشر لم يتغير كثيراً في العهود اللاحقة في عقود القرن الماضي الأولي. تقليد أتبعه بعض من سكان تلك الأحياء تحسنت أوضاعهم بعد أن صاروا موظفين في الدولة. الذين لم يمنعهم طموحهم الذي دفعهم لتشييد بيوتهم على طراز بيوت الأفندية المتميز غربي السمات من مفارقة حيهم القديم. تمترسوا في تلك الأحياء العريقة بالرغم من ارتفاع درجة وعيهم السياسي وحسهم الحضاري. الذين انتشرت في دُوره وبيوتهم منتديات بدأت نشاطها الوطني بشكل مستتر بغطاء ثقافي. فاستمر حال تلك النخب من الوطنيين على هذا النحو. نشاطات جلها كان في نطاق الأحياء بالإضافة نادي الخريجين الذي أفتتح في سوق المدينة. حتى قيض الله لعدد مقدر من تلك النخب للانتقال في نهاية الأربعينات لحي الخرطوم واحد كخطوة أولي مؤثرة للغاية. أرخت لبداية مرحلة جديدة شهدت زخماً مقدراً كان في مصلحة تلك الحقبة المفصلية من تاريخنا الحديث. شكلت مرحلة تسخين بلغة قواعد لعبة القدم استعداداً للمباراة الفاصلة التي كسبها الوطن بتيلة لاستقلاله. كانت فيلات ذلك الحي واحدة من أهم منصاتها.
من أهم ملامح تلك التجربة المؤثرة استيعاب عدد من رجال الأعمال السودانيين المتميزين جنباً لجنب مع أقرانهم من النخب الوطنية في نفس الحي. ليكونوا معاً لأول مرة جبهة عريضة متماسكة عبرت بالوطن إلى غاية منتاه الشواهد على ذلك عديدة. يكفي أن عدد من صفوة رجال الأعمال هناك صاروا من أهم كوادر الأحزاب السياسية التي بدأت تتخلق حقبتئذٍ. بالإضافة إلى ذلك كان قرب تلك النخب من أوائل الخريجين من موقع الحدث في الخرطوم بلا أدني شك عامل مؤثر. واحد من أهم دلالته أن بعض فيلات الحي كانت من أهم منصات النضال الوطني. كل ما ذكرناه هنا لا يمكن أن يجعلنا نتغافل عن الدور المؤثر لشريحة أخري أجنبية استوعبت مع العناصر الوطنية جاورتها في نفس الحي. تفاعل كان له الي حد ما دور إيجابي لا يمكن تجاهله. ما من أحد يمكن أن يغفل أو يقلل من دور هذه الشريحة الأجنبية التي ضمت أميز رجال أعمال تلك الفترة. بدون أن يعفيهم ذلك من دورهم كجزء من نظام احتلال جسم على صدورنا نصف قرن من الزمان. لعل من أهم جوانب مردودهم الإيجابي فيلاتهم الأنيقة مترفة الجمال التي صممها لهم معماريون من بلادهم رصعت الحي بالدرر المعمارية. وجودهم في نفس الحي مع منظومة تلك الشريحتين الوطنيين منح أجواءه زخم من الحيوية ودفق حضاري ملموس. ساهم على نحو ما في إثراء تجربة نخبنا السودانية. مكنهم مع عوامل أخري لا تقل أهمية من العبور بسلاسة وثقة بوطنهم إلي بر الأمان حتى نال استقلاله في منتصف الخمسينات. في حالة تعرف باللغة الإنجليزية بأل safe soft landing لعبت فيها العمارة دوراً مقدراً مؤثراً للغاية.
الجملة الأخيرة في أخر فقرة تنقلني مباشرة تفتح لي المجال لتناول تجربتين معماريتين في غاية التفرد. كان مسرحهما فيلتين احتلتا موقعا مفتاحيٍ متقدم في نفس ذلك الجزء من حي الخرطوم واحد الذي أشرت إليه من قبل. تم تشييدها في نفس تلك المرحلة المفصلية من تاريخنا الحديث منعطف نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات. سأبدأ بتلك الفيلا التي اكتسبت أهميتها القصوى ممن اشتراها من صاحبها الأول. الذي أعمل فيها يده بأريحية فائقة سرح بخياله ليعبر بها إلى فضاءات رحبة حلقت بها لتجعلها واحدة من أميز الأعمال المعمارية في ذلك الحي. هو المهندس القانوني المجيد لاحقاً السياسي الأريب الأديب المفوه والشاعر المرهف محمد أحمد المحجوب. الذي ولد عاش مرحلة طفولته في مدينة الدويم واحدة من أهم قلاع التعليم في السودان في زمان مضي. لينتقل بعد ذلك في مراحل تعليمه المتقدمة لحي الهاشماب في أمدرمان الواقع بجوار دار الرياضة حيث تواجدت أسرة والدته الممتدة بكثافة. أسرة مرموقة تحدرت من أميز شخصيات المدينة في سابق الزمان وصل بعضهم لأعلي الدرجات في مجال القضاء الشرعي. نشاء في تلك الأجواء المضمخة بالمجد التليد في حي رصعته بيوت الأفندية بعمارتها المتميزة وعروشها المكللة ببلاطات المارسيليا البديعة. التي تتصدرها رواقات عرشها محمول على أعمدة أيونية بالغة الرشاقة. تيجانها مجدولة بعناية فائقة كأنها راقصة فتانة تمنح (شبالاتها) بسخاء للمعجبين من حولها في حفلة عرس محضورة.
عاش المحجوب مطلع فترة شبابه في أجواء تلك البيوت التي كانت مسرحاً لحراك فكري ثقافي محتدم في فترة العشرينات والثلاثينات. أجواء معمارية مبهرة شكلت الإطار لألق فكري نضالي بازخ. حمل تلك المشاعر والآمال العراض عبر بها كبري النيل الأبيض متوجهاً لحي الخرطوم واحد. ليصنع واقعاً جديداً في داره الأنيقة مترفة الجمال والرقة. امتداداً لذلك الألق المتوهج الذي عاشه من قبل في حي الهاشماب في أمدرمان. أضاف إليه هنا جدده بشكل مؤثر ليواكب واقعه الجديد الذي شكل قفزة نوعية أشرت لبعض جوانبها من قبل. من أهمها تطاول نسبي في البنيان سمح ببناء طابق إضافي. تعامل مع فيلته كأنها واحدة من قصائده الفريدة أذكر منها علي وجه التحديد قصيدة فيردالونا. التي أبدع فيها أعظم مغنيي تلك الحقبة حسن عطية بأسلوبه المتفرد في أهزوجة غنائية تفيض عذوبة ووجداُ. فطرز العمارة مستدعيا ما زخرت به نفسه المرهفة عندما كان مهندساً في بداية مسيرته الجامعية. قافزاً فوقها ليرتقي لأعلي درجات الرومانسية المعمارية. متعاملاً مع مكوناتها وتفاصيلها كأنها قصيدة مطرزة بالمحسنات البلاغية. تتنافس فيها وحدات بلاطات المارسيليا في عدة مواقع مع عناصر حديد (قريلات) مصممة برقة متناهية. لتخترق صفوفها ومساحاتها تشمخ هنا وهناك أعمدة خرصانية رشيقة مبرومة بشكل فتان يضج رومانسية. لم يصنع المحجوب كل ذلك الألق بدوافع نرجسية. لان داره كانت طوال تلك المرحلة من تاريخنا البازخ في الخمسينات والستينات وما بعدها مفتوحة للجميع. مزار ومحجة استقطبت أصحابه الخلص الصفوة من كل التوجهات السياسية والأطياف المجتمعية والنخب الأجنبية. لتصبح خلية نحل تحلق حولها الجميع منصة سياسية ازداد زخمها خلال فترات تبوه لأعلي الدرجات سيادية المقام.
سكب المحجوب مخزون مقدراته ومواهبه فجرها في أرجاء وتفاصيل فيلته التي اشتراها من صاحبها. ليصنع منها حاضنة وملجاً لأصدقائه وندمائه في قائمة تطاولت وتسامي مقامها بشكل يفوق التصور. يكفي أنها في إطار عملها كمنصة سياسية متألقة لعبت دوراً مشهوداُ لن يتكرر في مرحلة مفصلية حرجة للغاية من تاريخ الأمة العربية. إذ جمعت في صالوناتها الرحبة ورواقاتها حسنة الأعداد وحدائقها الغناء في عام 1967 بين راسين بالحلال فرقت بينهما المكايدات السياسية. حيث أجتمع هناك أكبر أهم زعيمين عربيين بفضل حكمة وحنكة المحجوب. الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز والرئيس المصري القائد الأشم جمال عبد الناصر. ليضعا حداً لجفوة استفحلت تطاولت بينها متحدين مع بقية الدول العربية لمواجه أخطار كبيرة كانت محدقة بالأمة العربية. كان نهج المحجوب متسق مع ذلك المنحى التصالحي التوفيقي على المستوي المحلي السوداني. فبالرغم من انتمائه لحزب الأمة الذي كان من أهم قياداته كانت داره دائماً مشرعة الأبواب مرحبة بكل ألوان الطيف السياسي الحزبي في بلادنا. لقاءات سياسية الطابع كثيراً ما عطرت لطفت أجواءها نفحات الأدب والفن والفكر خارج تلك الأطر الضيقة. إذ كانت داره هو المفكر الشاعر الصداح محط أنظار ملتقي المبدعين والمهتمين بهذه المجالات الإبداعية من كافة أرجاء العالم العربي. لقاءات كانت تزدان بها رحاب فيلته رحبة الأركان تتوزع فيها المجموعات في حديقتها الغناء ورواقاتها الرحبة وصالوناتها بديعة التجهيز جميلة التأثيث. بذلك دخلت تلك الفيلا معه التاريخ شاهدة علي عصره المجيد.
الفيلا الثانية قصتها أكثر غرابة بالرغم من أنها مجاورة لفيلا محمد أحمد المحجوب. موقعها أيضاً عند المدخل الغربي لنفس ذلك الشارع في حي الخرطوم واحد. بدأت فصولها في المرحلة الأولي من إعمار ذلك الجزء من الحي لتتابع لاحقاً بشكل دراماتيكي. حيث وصلت لمنعطف سياسي غريب الطابع عندما اشترتها ألت لأسرة سودانية ليست لها علاقة بصاحبها اليوناني الأول. بداية قصة هذه الفيلا التي كان طرفيها صاحب الفيلا ومصممها وكلاهما يوناني الجنسية كانت مدهشة بحق. عمل معماري كان من المتوقع حسب ما هو معهود في ذلك الزمان من واقع طرفي هذه الحالة أن يتبع نهجاً طرازياً محدداً. أن يتنكب أو يستهدي بمؤشرات عمارة البحر الأبيض المتوسط. التي برع مصمم الفيلا في توظيفها بحنكة ودراية وعالية في عدد مقدر من أعماله خلال تلك الفترة الزمانية. لكنها هنا يا للغرابة نزع عباءتها أبحر بعيداً في أنحاء أوربا ليحط رحل تطوافه الطرازي في الريف الإنجليزي. لينتقي منه يتأسى بطراز عرف هناك بأل English cottage ترجمته الكوخ أو (العشة) الإنجليزية. قدمه إستيفانديس هنا بشكل محور نوعاً ما مدركا عظمة الفوارق بين الحالتين. تحور لم يفقد العمارة الكثير من قيمها السامية محتفظاُ هنا بحضورها الطاغي وفيض حميميتها وأجواءها الرومانسية. مما يشيئ بعبقرية هذا المعماري العظيم الذي بداء مسيرته عندنا من خلال عمله تخصصه الأساسي في مجال المساحة. التي يبدو أنه لاحقاً فعل في هذا الإطار جينات أهل بلاده المترعة بالإحساس الفني. ليطرز أفق الخرطوم بأروع الفيلات قبل أن يغادر بلادنا في الستينات.
الفيلا المشار إليها هنا صاحبها طبيب أسنان يوناني كان من البديهي أن يكلف ابن بلده إستيفادنيس بتصميمها. الذي كانت شهرته حقبتئذ قد ملأت الأفاق لينتقل بطرازاته المدهشة الي حي الخرطوم واحد بعد أن نقل إليه نشاطه من قلب الخرطوم. ليس لدي علم بالطريقة التي استرسلت تداعت بها أفكارهما لتنتج في النهاية تلك الفيلا فريدة التصميم التي تختلف تماماً عن مجمل أعماله السابقة. قدم فيها طرحاً جديداً أستلهمه بدون تفسير مقنع من طراز الكوخ أو العشة الإنجليزية أل English cottage. هناك جانب مهم لفت انتباهي في هذا العمل. بالرغم من خروج إستيفانيدس من بيت طاعة طراز عمارة البحر الأبيض المتوسط حاول استرضائه على نحو ما. غازل فيه نمط فيلاته المعهودة في جزئية محددة داخل المبني سأشير إليه لاحقاً بشي من التفصيل. افتتانه بذلك الطراز الإنجليزي لم يجعله يرتمي تماماً في أحضانه. إذ استشف روحه حلق بها مرفرفاً يغازل بعض كلاسيكيات العمارة رومانسية السمت. لينتج لنا في النهاية عمارة هجين بالغة التفرد أعظم ما فيها أنها قاومت الزمن. إذ أفتتن بها صاحب الفيلا الأصلي طبيب الأسنان اليوناني في خمسينات القرن. لتقع في أسرها بعد أكثر من عقد من الزمان أسرة من صفوة شباب الخرطوم متحدرة من خلفية أرستقراطية حضارية النزعة. لم تمنعهم انتماءاتهم الاشتراكية الشيوعية راسخة الجذور من التعلق بمظهرها البورجوازي المرفهة. عمارة بلا أدني شك كما يقول المثل السوداني (سرها باتع) سأحاول هنا استكشاف جوانب من خباياه.
ألت هذه الفيلا في خواتيم الستينات لأسرة سودانية شابة. الوجيه رجل الأعمال النابه الناجح حامد الأنصاري. خرطومي سطع نجمه فيها بالرغم من أنه جاءها من مدينة الدويم قلعة العلم في زمان سابق. يساري النزعة اكتسب أهميته شهرته إلى حد كبير من أنباء تداولت بين الناس أنه من أهم ممولي الحزب الشيوعي. تداعيات كان لها ما بعدها جعلت تلك الفيلا فيما بعد منصةً مسرحاً ووكراً سياسياً مهماّ. لأحداث دارت كلها في فلك عوالم ذلك الحزب في الستينات وأوائل السبعينات. أحداث مصطخبة عاشها الأنصاري وحرمه الأستاذة الجامعية سعاد إبراهيم أحمد. نوبية الجذور يسارية شيوعية (على السكين) كما يقول المثل السوداني. ابنة واحد من أميز سياسي حقبة سابقة مهندس معماري أريب زكته مقدراته الهائلة ليصبح وزيراً للمالية والاقتصاد. كانت الأستاذة خلال تلك الفترة من أجرأ أشرس الناشطات مصادمة في إطار عملها الحزبي من منطلق خلفيتها النوبية. ما ورد هنا عن دور الفيلا في تلك الفترة المفصلية من تاريخنا السياسي الحديث بلا شك جعلكم أكثر تشوقاً لمعرفة المزيد عن عمارتها. التي قدمتها طائعة مختاره لخدمة أصحابها ورفاقهم في الحزب والتوجه. مانحة بسخاء حديقتها الغناء ومصاطبها المتمددة ورواقاتها وصالة استقبالها الوجيه وحديقة سطحها لو لزم الأمر لمزيد من السرية. ساعدها في ذلك الي حد ما مظهرها الأرستقراطي الخداع الذي يوحي بحياة مترفة وادعة. زلزل أركانها عصفت بها أنواء سياسية جلبتها لها أحداث مزلزلة.
نهضت عمارة الفيلا في نهاية الخمسينات بشكل مشرف للغاية من كل النواحي لصاحبها طبيب الأسنان اليونانيٍ. بالرغم من أنها لم تخاطب تراث بلاده بشكل مباشر إلا أنها حملت سمات غربية كلاسيكية متميزة. مرضية لطموحه كشخصية مرموقة في مجتمع المدينة. مستفيدة من التقدم في مجال البناء والتشييد حقبتئذٍ التي سمحت بالتطاول في البنيان مع بعض مغامرات أخري. روح عمارة طراز الكوخ الإنجليزي English cottageالناهضة في فناء الفيلا منحتها هيبة و (برستيج) بازخ. عززته حديقة مسترسلة أمامها بسخاء ومصطبة صغيرة جاثية تحت أقدامها. منظومة دعمتها مكونات تراثية حداثية النزعة. واجهة مصممة بعناية فائقة تتحاور فيها مساحات الحيطان المبيضة مع مساحات من الحجر الطبيعي. عقدات أقواس تتصدر الرواق أو البرندة الصغيرة تلتف حول ركنه في حنو. يكلل هامة المبني عرش بلاطات (المارسيليا) المائل المهيمن عليه يقدم أوراق اعتماد هوية العمارة الكلاسيكية. مفاجأة هذا المشهد الداوية في تلك الحقبة الزمانية شرفة أو بلكونة صغيرة أنيقة تنهض في جرأة في الواجهة. متحديةً قوة الجاذبية الأرضية والطرح الكلاسيكي المحيط بها. حاجزها (الدرابزين) المعدني في أطرافها مصمم مشغول بعناية فائقة كأنه قطعة حلي صنعتها أنامل صائغ بارع. ناهضة في خيلاء معتزة بطلتها الفتانة محلقة كأنها مركب شراعي مبحر في الفضاء. لا يقل أهمية عن كل تلك المكونات مدخل الفيلا الكامن في خاصرتها المصمم بعناية فائقة تعبر عن مقولة الجواب يكفيك عنوانه. مدخل معالجاته المذهلة بكل تفاصيلها تقدم حالة (برستيج) استثنائية تفيض حميمية. مرحبة تنقلك بلطف داخل الفيلا لتتلقفك مكوناتها الداخلية بسلاسة متميزة.
لست ملم بدواخل طراز العشة الإنجليزية الذي تأسي إستفيانيدس بطرازها في تصميم هذه الفيلا. لكن من الواضح أنه تخلي عنها في عمارتها الداخلية ليعود مرة أخري لنموذج تبناه في جل أعماله من قبل. يحمل بعض سمات عمارة البحر الأبيض المتوسط. مؤسس علي صحن وسطي داخلي يخترقه راسياً سلم لولبي مفتوح. يصل بين بهو الاستقبال وغرفة الجلوس والطعام وباقي المنافع في الطابق الأرضي. ليرتقي لغرف النوم في الطابق الأعلى صاعداً إلى طابق السطح. يلملم كل مكونات الفيلا في حنو بالغ وأجواء مضمخة بالحميمية. ترتيبات بلا شك منحت ذلك الطبيب اليوناني إحساس بالأمان هو غريب في ديارنا وخففت عليه أجواءنا الحارة. إحساس بالأمان تضاعف بلا شك مع مرور الوقت عندما تعالت نبرة عداء نحو الغربيين في الستينات دفعت بأغلبيتهم للرحيل عن بلادنا. جوانب في التصميم فعلت نفس الشي مع بعض اختلافات جوهرية مع من امتلكوا الفيلا من بعدهم الأنصاري وحرمه الأستاذة سعاد. يمكن ملاحظتها في استخدامات مكونات الفيلا الخارجية والداخلية خلال مراحل مفصلية من حياتهم الزاخرة بالنضال الفكري السياسي. مكوناتها الحديقة والمصطبة والبرندة ثم صالة الدخول والاستقبال وطابق السطح. جوانب في التصميم المعماري يشار للتعامل الحصيف معها بالتنطيق الأفقي السليم الذكي.
فلننظر إلي هذا الجانب في التصميم في سياق مسيرة حياة هذه الأسرة وعملها السياسي المعلن والسري عبر متعطفاته المصطخبة بالأحداث الجسام. كانت الفيلا في بدايات الستينات في فترة ثورة أكتوبر مسرحاً لنشاط عمل سياسي كبير دؤوب. ارتفعت فيه أسهم اليسار السوداني الذي تصدرته كوادر شيوعية كان من نجومها أصحاب تلك الفيلا. نمي إلى علمي حقبتئذٍ أن لقاءات رب الأسرة الأنصاري كانت تتم خارجها في المصطبة والحديقة. فيما كانت أستاذة سعاد تتبع نهجاً مختلفاً يبدو أنه نابع من خلفية أرستقراطية مع بعض من صفوية أساتذة الجامعات. إذ كانت اللقاءات التي تجمعها بكوادر الحزب تتم دائماً في بهو الدخول والاستقبال أو حجرة الجلوس الداخلية. في كل تلك الحالات كانت الفيلا مبذولة لكل أنواع الفعل السياسي الثوري. كانت أهم فعالياته استضافة حديقتها ل (بروفات) أناشيد وردي الأكتوبرية التي ضمخت أجواء تلك الأيام المفعمة بالأجواء الثورية. خلال حقبة قصيرة الأمد كانت حبلي بالنسبة للشيوعيين بمجد تليد مبشر باكتساح يساري طاغي. شهر عسل عصفت به أحداث جسام في مطلع السبعينات كان فيه الحزب الشيوعي وتلك الفيلا في قلب الحدث. تطورات دراماتيكية بالنسبة لأصحابها وزمرتهم من القادة الشيوعيين تمكنوا فيها من الإمساك بزمام أمور البلاد لبضعة أيام. كانت فيها صالة استقبال الفيلا خلية نحل شهدت اجتماعات خططوا فيه لإدارة شئونها ومسيرتها السياسية. شهر عسل لم يستمر سواء أيام معدودات إذ سرعان ما انقلب السحر علي الساحر. جعل تلك الفيلا مستهدفة بعد تحولات أساسية عصفت بالكوادر الشيوعية أعدمت أهم رموزهم. في كل تلك الحالات والتحولات المفصلية كان للفيلا دائماً بكافة مكوناتها دوراً مؤثراً للغاية.
تداعت عمارة حي الخرطوم واحد بعد تلك البدايات الموفقة القوية في ذلك الجزء منه متوجهة نحو الجنوب كما تدل على ذلك عدة مؤشرات. في مسيرة يمكن أن نستشف منها مظاهر تنافس طرازي كان يعكس إلي حد ما صراع توجهات سياسية برزت في حقبة نهاية الأربعينات. بين توجه كان يميل لفكرة الاتحاد مع مصر في الفترة المقبلة يقابله أخر مناهض له دعمه الشق البريطاني في نظام الاحتلال. صراع تصدر طرفيه أهم شخصيتين سياسيتين كان لكل واحد منهم وزن ديني مؤثر للغاية. هما السيد علي الميرغني والأمام عبد الرحمن المهدي. يمكن أن نستشف إسقاطات هذا التنافس والصراع في عمارة بيوت حي الخرطوم واحد في بداياتها الأولي. التي تأرجح طرازها بين نمط فيلات مصر في تلك الحقبة تقابلها التي تحمل سمات ملامح تراث العالم الغربي. تنافس رسخ له في البدء أوائل المعماريين الذين تخرجوا من الجامعات المصرية من أمثال حسن عتباني ومحمد حسن الأمين. لينافسهم بعد ذلك من درسوا في الجامعات الغربية جلهم في بريطانيا الذين سيطروا على المشهد بعد ذلك من أميزهم عبد المنعم مصطفي. تداعت الأحداث بعد ذلك منذ منتصف الخمسينات ليقع طراز الحي يستسلم لقبضة الحداثة غربية المنشأة. التي عاش معها شهر عسل متطاول حتى بدأت تهب عليه رياح التغيير مع نهاية القرن وبداية عقود الألفية الثالثة. تحول بطئي خجول ظهر على استحياء هنا وهناك في ظاهرة جديرة بالانتباه والاهتمام سأحاول التسليط الضوء عليها لاحقاً بإذن الله.
زرت حي الخرطوم واحد في شهر مارس في العشرية الثالثة من الألفية. فتفاجأت بظواهر لافتة للنظر بعضها إيجابي لكن للأسف أغلبها سلبي. بعض الإيجابية منها التي لا تخلو من أثر سلبي تهافت السفراء جلهم غربيين اختيارهم لفيلاته الأنيقة المتميزة مساكن لهم. ظاهرة جديرة بالاهتمام تشيئ بشغفهم البالغ بطرازها تراثي الطابع بعضها من أعمال اليوناني إستيفانيدس الذي غادر بلادنا قبل وقت طويل. توجه عام رفع أسهم هذا الطراز حفز المستثمرين في المجال العقاري لتبنيه. زحف بيوت السفراء على الحي كان له بعض مردود سلبي على أجوائه ناتج عن الإجراءات الأمنية المتشددة. لكن في هذا السياق يجب أن نشير لحالة إيجابية نتجت عن التواجد الدبلوماسي في الحي منحته ميزة معمارية مقدرة. الإشارة هنا لمجمع السفارة والقنصلية الهندية عمل في منتهي الروعة. من إشراقات واحد من الجيل الثالث من المعمارين الأماجد هو صلاح رحمة. بالإضافة لمثل هذا العمل استمر تدفق الفيلات في الحي تغازل عمارة بعضها التراث من طرف خفي بدرجات متفاوتة من التوفيق. موثقة لحالة تصطرع فيها الطرازات حسب أهواء المعمارين. ما زالت الحداثة تطرق الأبواب بإلحاح بالرغم من التشكك في جدواها مع تقادم الزمن. ليبقي الباب مفتوح مشرع للمعماريين الأفذاذ المبدعين ممن تميزوا بالنظرة الثاقبة والجسارة المطلوبة لتحقيق الاختراقات الإيجابية. هذه دعوة للباحثين لاستهداف مثل هذه الظواهر النادرة.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- مارس 2022