المسلمين يستظلون بدين يقوم على أنبل القيم الإنسانية. يحضهم على التكاتف و التآلف و التراحم. فوق هذا و ذاك، و فى هذا الإطار عرف المسلمون و أشتهروا بعواطفهم الجياشة المترعة بالحميمية. و لكآنى بالمناخ عندهم قد أصابته العدوى من حرارة عواطفهم. فبلدانهم جلها يقع فى المناطق الصحراوئية و الشبه صحراوئية. كل هذه المعطيات كانت حاضرة فى ذهن المعمارى المسلم فأنزلها برداً و سلاماً فى أُطُر معمارية بالغة التفرد. عمارة المسكن بالنسبة له كانت من أصعب و أهم التحديات، فسكب فيها شحنات إبداعه
عمارة المسكن التقليدى تكاملت فيها كل الجوانب فى توازن بديع. تعاملت بحساسية مفرطة مع تركيبة الإنسان و مجتمعه بكل ما فيها من خصوصية. راعت الأعراف و التقاليد. فجائت فى النهاية حلولها فى إتساق عضوى مع ذلك النسيج بالغ التعقيد المجدول من سماتهم المجتمعية و الثقافية و النفسية و الروحية. فأعطت الفرد حقه و لمت شمل الأسرة فى حميمية بالغة و إحتفت بالضيف و الغريب أيما إحتفاء. عمارة البيت التقليدى إستوعبت كل ذلك مع إلتزام دقيق بمطلوبات العقيدة و ضوابط الدين. و حققت أهدافها فى ظل ظروف مناخية هى التحدى بعينه. روضت المناخ الصحراوئى بفطنة فجعلت البيوت واحات و ملاجى و ملازات آمنة مناخياً.
بالرغم من صخب و حيوية الحياة فى الشوارع و الأزقة فقد كان للبيت و الدار قيمة معلأة. القيم و التقاليد زمانئذ جعلته عالم المرأة الأساسى فعزز هذا الأمر و قوى العلاقات الأسرية. و قيمة الدار أيضاً كانت رفيعة لأنها إرتبطت بالإحتفاء بالضيف و مؤانسته. و قد كانت جلسات السمر هنا هى محور حياة الأسرة. بالرغم من أن الحضور كان مقصوراً على الرجال لكن تصميم الدار العبقرى سمح بمشاركة نسائية من مكان قصى. ثراء الحياة المفرط داخل الدار إستوجب ترتيبات معينة تم إستعيابها من خلال تصميمه المعمارى و الداخلى.
الهم و الهاجس الأول كان ترويض المناخ العدائى. فالشمس كانت هى العدو الأول. ترويض سطوعها العالى و أشعتها الحارقة كانت التحدى الأكبر. المشربيات، تلك الغلالات المسدلة على النوافذ و الفتحات و المصنعة من خشب مخرم بديع الأشكال كانت من أهم أسلحتهم. خففت من وهج السماء و كسرت أشعة الشمس. و أيضاً حفظت حرمة الدار فحجبت نظرات المتطفلين. و بالإضافة إلى ذلك فقد كانت الشرفات- البلكونات- المعلقة على النوافذ و واجهة المنازل هى خط الدفاع الأول تصدت للموجات الأولى من المناخ اللاهب.
ترويض المناخ داخل الدار بشكل أساسى تم بطريقة متفردة تعتبر إبتكاراً نال المسلمون العرب برأة إختراعه. لقد كانو هم أول من أتى بفكرة الملقف. و هى تقوم على عملية دوران تيارات الهواء و صعود الحار منها إلى أعلى و حلول البارد مكانها. فطبقوا هذه الفكرة بحيث تستوعب الدار من الداخل بكامله. و إستلزم الأمر تركيب جزء كبير فوق مبناه أشبه بالمدخنة يسمى بالملقف. و الغرض منه هو إفساح المجال للهواء الساخن للهروب خارجاً.
تتم العملية فى أول مراحلها بإستدراج الهواء الساخن من الخارج، فيدخل الدار عبر منطقة توضع بها جرار مياه الشرب. فيترسب الغبار العالق و يتُشبع بالرطوبة هنا فتقل درجة حرارته و من ثم يأخذ دورته داخل الدار فينعش أجوائها. و عندما يُستهلك ذلك الهواء و يسخن تدريجياً يتم طرده و التخلص منه. الدوران الطبيعى للتيارات يقوم بالواجب عندما يرتفع الهواء الساخن و يبحث له عن مهرب. تصميم الدار يهئى الفرصة. الملقف المركب فى إعلى المبنى يقوم بالمهمة على أكمل وجه فتنساب تيارات الهواء الساخن إلى أعلى و تتبدد فى السماء. هذه الفكرة الرائعة كانت هى نظام التكييف المركزى فى زمان لم تكن فيه كهرباء و لا مرواح و لا مكيفات. و ما أحوجنا لمثل هذه الحلول الذكية فى زمن (الجمرة الخبيثة) الحارقة.
ثمة مكون مهم فى البيت التقليدى كان داعم بحق للحياة المجتمعية و الثقافية و الترفيهية للأسرة. و فوق هذا و ذاك، جعل من الدار واحة يُستظُل بها فى فى تلك المناخات الصحراوئية القاسية. الإشارة هنا لصحن الدار بترتيباته و إعداده البديع ذاك. كان بحق عالم قائم بذاته. كان قوام تصميمه و إعداده الماء و الخضرة، فصار بذلك تجسيدً حىً للواحة. تفوق عليها بتلك المكونات الَاضافية و اللمسات الفنية البديعة. مواعين الماء من نوافير و فسقيات متقنة التصميم و بديعة الأشكال كانت بحق تحف مترفة الجمال. الأرضيات و الرصف و الحوائط من حولها المرصعة بتكوينات و أشكال فنية رائعة من السراميك و القيشانى كانت لها خير إطار. و أكمل تلك الصورة على أجمل ما يكون عنصر النبات. أهل الشام قدموا هذا الأنموذج فى أروع صورة.
عبقرية تخطيط و تصميم صحن الدار تكمن فيما ما تكمن فى أنها تخاطب أكثر من حاسة عند الإنسان. حاسة البصر حظيت بنصيب الأسد. هناك إمتاع بصرى بلا حدود فالجمال منثور حول المكان بسخاء بازخ. حاسة السمع تُخاطب بذكاء مفرط فى سياق متصل مع حواس و أحاسيس آخرى. خرير الماء فى أحواض الفسقية موسيقى ناعمة كنغمات البيانو. تخاطب الأذن فى حنو و رفق، و أيضاً تنعش الدواخل و ترطبها بلا حوجة لملامسة مباشرة لتلك العناصر المائية. و حاسة الشم نالت أيضاً حظوظها. فعطر الياسمين و الفل يفوح مع نسمات الصيف فيعطر المكان فتفرد الرومانيسة أجنحتها على أجوائه.