تحية للوطن في ذكرى عيد الاستقلال
طقوس وتقاليد احتفالنا بعيد الاستقلال في كل سنة في مطلع شهر يناير صارت مكررة. حفظناها عن ظهر قلب لان مواضيعها متكررة بالرغم من انها تقدم في عدة صور. نفس الأغاني والأناشيد والخطب الرنانة والمقاطع الفيلمية تطرح عبر عدد من الوسائط والمنابر لكن المحتوي واحد. فيها تركيز متكرر على الجوانب والاحداث السياسية. انحرافها قليلاً وتغطيتها للجوانب الفنية والادبية والمسرحية لا يخرج كثيراً عن نفس ذلك المسار والأسلوب. فيها تركيز شديد علي ماضي تليد ضارب في القدم وهو مؤشر مزعج وظاهرة تستدعي الانتباه. يدل على حرج من ذكر العهود والعقود الحديثة. تقييمي للموقف بكامله يشير إلى نظرة ضيقة محدودة الأفق لا تخلو من التشاؤم تركز على الماضي وتتجاهل المستقبل.
إنني لا أعترض على مبدأ احتفالنا بأعياد الاستقلال لكن لي تحفظ على المحتوي والنهج المتبع. مع كل احترامي لفكرة إعلاء شأن كل من أسهم في نيلننا للاستقلال في كل العهود السابقة إلا أني أري قصوراً في هذا الجانب. آخذ عليه التركيز الشديد على الجوانب السياسية مع إقراري بدورها المؤثر. لكنني لا أنكر الاهتمام الخاص بالجوانب الادبية والفنية. لكنها تركز على شخصيات محددة وتعيد كل سنة نفس الكلام. يعاب على المساهمات في هذه الجوانب انها تهتم بشكل أكبر وتركز على البعد التاريخي. مع أنه من المفترض ان واحداً من أهم اهداف قراءة التاريخ هو استيعاب منجزاته لبلورة رؤية مستقبلية. أحس دائماً بغياب هذا الجانب المهم.
ثمة تجربة حاولت تجاوز هذا التعامل محدود الأثر بتحرير واحد من المجالات الإبداعية من الارتهان لإنجازات الماضي. الذي صار يشكل حجر عثرة امام اي اعمال جديدة مؤثرة. اشير هنا بالتحديد لتجربة بعينها في مجال الأغنية الوطنية حدثت قبل فترة قصيرة. لعلها كانت ردة فعل لظاهرة فشل طفحت بها شاشات التلفزيون على كل القنوات بشكل متواصل. التي ظلت ولا تزال تعيش حالة اجترار مستمرة. نفس اغاني الرواد في هذا المجال يعيد تقديمها مجموعة من المغنيين الشباب بصحبة جيش جرار من العازفين بدون ما إضافات تذكر. اشير هنا لواقعة محزنة عندما قُدمت واحدة من اعمال اهم الرواد في مناسبة قومية في القصر الجمهوري بأصوات شبابية. الذي كان حينها حي يرزق وفي أتم صحة وعافية. أغضب هذا التصرف الهرم الكبير الأستاذ محمد وردي عليه رحمة الله صاحب هذا العمل المهم.
يبدو ان هذا الوضع استفز عدد من الأخيار على راسهم الموسيقار العبقري الأستاذ محمد الأمين. الذي قام بمحاولة جادة ومبادرة يشكر عليها لأحياء فكرة الأغنية الوطنية. وجدت سنداً وافراً من الجهات الرسمية التي وفرت لها معينات مقدرة. نُظم العمل في شكل مسابقة شارك فيها عدد من المغنيين بعضهم من الرواد والبعض الأخر من الجيل الوسيط. طرحوا عطائهم من خلال فعاليات متعددة توجت بحفل كبير شرفه السيد رئيس الجمهورية. بالرغم من كل ما بذل من جهد وسخر من إمكانيات لم تكن النتيجة حسب علمي والقرائن الواضحة ذات أثر ملموس. لأنه وحسب رائي المنتوج الإبداعي المؤثر لا يأتي عبر فرمان من السلطان أو مؤسساته. إذ إنه يدخل غلي القلوب مباشرة بدون (واسطة). هذا هو عين ما حدث لأهزوجة (عازة في هواك) التي صارت تنافس السلام الوطني.
أري ان مثل هذه المسابقات كان ينبغي التمهيد لها بدراسات نقدية رصينة تغطي مجمل الاعمال السابقة الخالدة. تتناولها عبر شقيها الاساسيين الكلمات واللحن. مخرجاتها يمكن ان تكون خير معين لمن يريد أن يقتحم مجال الاغنية الوطنية. في هذا السياق نثمن عالياً المجهودات المقدرة التي يقدمها الأساتذة الافذاذ العاملين في هذه المجالات. نتمنى بحق ان يجدوا مساحة أكبر لنشر الوعي. الامر برمته يشير لأهمية توفر حركة نقدية عافية رصينة. تتعاظم اهميتها لحسم ظاهرة احتشاد الساحة بالأدعياء المتغولين على هذا المجال يساندهم ويروج لهم إعلاميون سذج. من الذين احكموا قبضتهم على عدد من الصفحات الادبية والفنية بالصحف ومنابر القنوات التلفزيونية.
ما قيل في سياق الحديث عن المجالات الإبداعية في إطار الاحتفال بأعياد الاستقلال يقودنا إلى ما يعني الشأن المعماري. تعرضت لهذا الامر من قبل في أكثر من مناسبة وفي سياق مواضيع شتي. الموضوع برمته لا يجد الاهتمام الكافي بالرغم من جوانب العمارة المتعددة التي تستحق الانتباه ونحن نحتفل بهذه المناسبة العظيمة. بالإضافة لجانبها الفني الإبداعي هناك شقها الهندسي التقني المرتبط بالتنمية. إذا ركزنا على الجانب الأول نلاحظ حالة واضحة من التجاهل. ظهوره في المناسبات الوطنية بالذات على شاشات وفي الصحف يشكل ظاهرة غريبة. تنضح بمناظر أهراماتنا وآثارنا القديمة بدون ما كثير شرح. بالرغم من القيم السامية والنبيلة التي تختزنها تلك الكتل الصخرية. ظاهرة تشير لضيق افق رؤساء تحرير الصحف ومن يديرون القنوات الفضائية. نلقي اللوم ايضاً علينا نحن المعماريين وبالذات العلماء منا المختصين في هذه المجالات.
سد هذه الفجوة يحتاج لتقارب بين الطرفين. الطرف الأول قوامه معماريون بمواصفات خاصة تحديداً من تخصص منهم في هذا الشأن. يقابلهم في الطرف الثاني إعلاميون مشبعون بالوعي الثقافي بمعناه العميق. ما أقلهم هذه الأيام بالرغم من اكتظاظ الساحة بالوسائط الإعلامية. أي اختلال في طرفي هذه المعادلة ستنج عنه اعمالاً مبسترة فطيرة وفجة للغاية أحياناً. لا أحتاج لكثير شرح فالوسائط الإعلامية تطفح بالكثير منها. يزداد تدفقها في المناسبات الوطنية مثل الاحتفال بإعياد الاستقلال التي توفر لها عادة ميزانيات معتبرة. فتجد مساحات مقدرة لطرح عطائها الغث. الحل هنا في التواصل السلس بين هذين الطرفين. لكن الامر هنا ليس بالسهولة والبساطة التي تبدو من اول وهلة. لي تجربة طويلة في هذا المجال سأحاول التطرق لها هنا باختصار.
بقدرة قادر تمكنت من اجتياز السياج المنيع المضروب حول الوسائط الإعلامية الذي يحصنها ممن يتجاسر ويحاول اقتحامها بدعوي الحديث عن العمارة. البداية الجادة كانت مع الصحافة عبر مجلة الخرطوم التي كانت تصدر في عقد السبعينيات الذهبي. كانت زمائذ تعيش أزهي ايامها عندما كان يدير دفة العمل الثقافي المرحوم الاديب والشاعر الفذ المرحوم الدكتور محمد عبد الحي. دبجت فيها عدة مقالات كتبتها من واقع ولعي وافتتاني أوانئذ بحركة الحداثة وكسبها المعماري. اقتحمت بعدها مجال الصحف فحررت في نهاية السبعينات ولأول مرة صفحة المعمار بصحيفة الصحافة التي كانت الأوسع إنتشاراً. أذكر انها وجدت تجاوباً محدوداً مقبولاً نسبة لحداثة الفكرة.
استمرت مجهوداتي في مجال الصحف متقطعة هنا وهناك بعد عودتي من بعثتي لنيل الدكتوراه في نهاية الثمانينيات. انتظمت لاحقاً بشكل راتب وممتاز في نهايات العقد الأول من القرن مع صحيفة الرائد التي تتبع لحزب المؤتمر الوطني الذي كان يحكم البلاد. اتاح لي فيها رئيس التحرير الاستاذ عبد المحمود الكرنكي فرص ذهبية بالرغم من عدم انتمائي للحزب. إذ كنت احرر ثلاثة ابواب اسبوعية جاءت كلها معنية بالشأن المعماري الذي تناولته من عدة زوايا. سعدت جداً بتعاوني معهم بالرغم من محدودية انتشار الصحيفة. واحد من أسباب سعادتي مستوي الطباعة الجيد الذي مكنني من تقديم خدمة ممتازة وجدت الإشادة من العديد ممن اضطلعوا عليها. تعميماً للفائدة ارتأيت ان اضمنها مع مواد موقعي الإلكتروني في إطار الإسهامات الصحفية.
قدمت في صحيفة الرائد خلال الأسبوع ثلاث صفحات راتبة اهم اثتنين منهما عمارة بلا حدود و (قاليري) العمارة. الاولي كانت معنية بالشأن الإقليمي والعالمي. التي كانت تناقش قضايا حيوية كان السودان دائماً حاضراً فيها بقوة. أحيناً يتم التعرض لظاهرة محلية يتم وضعها في سياق في ذلك الإطار الكبير. جاءت الصفحة الثانية في قالب صحفي مبتكر. تعبيراً عن اسمهما (قاليري) الذي يعني بالعربية معرض، كان يغلب عليها عنصر الصور وجلها من تصويري وأرشيفي الخاص. فتنكمش مساحة الكلمات مفسحة لها مجال أكبر. ناقشت من خلالها قضايا مهمة في العمارة السودانية. أفسحت مجالاً مقدراً لأستاذنا عبد المنعم مصطفي عراب عمارة الحداثة السودانية. غطت في عدة مرات جوانب من مجال البستنة المعمارية. تجدون عينات منها مع هذه المقالة بالإضافة لأخريات في موقعي الإلكتروني.
محطتي التالية في المجال الصحفي كانت بصحيفة السوداني التي جاءت مع بدايات العقد الثاني من الألفية. جذبني إليها الراحل العظيم الأستاذ احمد طه الذي كان يحرر ويشرف على ملف كان عنوانه العريض السودانوية. استقطب الأفذاذ من الكتاب الذين حملوا هذه الراية بجدارة فوجدت نفسي بين تلك القامات السامقة. تطورات معينة أدت للأسف الشديد لمغادرة الأستاذ أحمد وكتبت بذلك نهاية لتلك التجربة المميزة. أيلولة الصحيفة لمالك جديد أتت بطاقم إداري ورئيس تحرير جديد. الواضح ان الشأن الثقافي وظاهرة السودانيوية التي تشكل عاموده الفقري لم تكن واحد من أسبقياته. فانقطعت صلة كل كتاب ذلك الملف بالصحيفة وكنت انا واحد منهم.
قيض الله لي عودة قوية اخري لصحيفة السوداني في منتصف العقد الثاني من القرن بمبادرة كريمة من الأخ الصغير مجدي عبد العزيز. منحتني فرصة ممتازة إذ خُصصت لي صفحة كاملة بالألوان في عدد الجمعة الذي يحظى بمتابعة عالية. جعلت عنوانها (عمارة الأرض) وسعيت سعياً حثيثاً على أن اجعل محتواها معبراً عن ذلك المعني الكبير الشامل عميق المغزى. تناولت فيها العديد من المواضيع لكي تكون على قدر التحدي. اجتهدت ايما اجتهاد في كل مراحل إعدادها وكنت أشرف علي إخراجها مع المصمم المعني بهذا الشأن. استمرت على هذا المنوال لمدة قاربت التسعة أشهر قدمت فيها كل ذلك العطاء بدون اجر مادي.
برزت صفحة (عمارة الارض) كظاهرة متفردة لم تنافسها واحدة في اوانها ذاك وحتى زماننا هذا. طَرحت فيها العديد من المواضيع المتنوعة بعضها إرشادي الطابع وبعضها الأخر فلسفي المنحى. في كل تلك الحالات كان السودان حاضراً بقوة. تابعت باستمرار وقع موضوعاتها على كافة طوائف القراء. ردود الأفعال الموجبة من شرائح مجتمعية متعددة كانت مؤشراً معبراً على درجة مقبولية عالية. بالرغم من كل ذلك اوقفت الصفحة بدون اي سابق إنذار. بطريقة مؤسفة محزنة مخجلة تفتقر لأي قدر من الاحترافية او الكياسة. تدل على افتقاد أولي امر الصحيفة الذين يعتبرون أنفسهم من رموز العمل الصحفي للمقدرة على مواجهة محرر الصفحة. المحزن ان مساحتها حلت محلها صفحة اخري سطحية المحتوي. يحررها أحد الصبية بدون مسوغات مقنعة تخول له تناول الشئون الفنية التي يتعامل معها.
أفضت بعض الشي في تناول تجربتي في التعاون مع صحيفة السوداني تحديداً مشروع إصداري لصفحة (عمارة الأرض). أردت أن يكون ذلك مدخلاً لموضوع هذه المقالة المخصص لتناول القصور الذي يتسم به نهج احتفالنا بأعياد الاستقلال. بما أنني أركز هنا على الشأن المعماري فقد قررت ان اتيح لكم فرصة الاطلاع على ما قدمته في صفحتي في هذا الإطار. استعرض مع هذه المقالة نماذج من صفحات (عمارة الأرض) صدرتا في شهر ديسمبر عام 2014. صفحتين متتابعين حررتهما عندما كانت البلاد تتهيأ للاحتفال بأعياد الاستقلال. لهذا السبب جعلت عنوانهما (في ذكري الاستقلال: عمارة في حضرة الوطن صنعت مجده وهويته). تعميماً للفائدة ضمنت مثل هذه الصفحات واخريات شبيهات بها في موقعي الإلكتروني تحت باب مساهمات صُحفية.
قدمت هذه النماذج كمثال حسب رؤيتي لما يجب ان تكون عليه الأعمال التي تقدم إحتفاءً بالمناسبات القومية والاحتفالات الوطنية. لكنني وبالرغم مما بذلته في هذا الشأن أري أن امر الوطن وعمارته يجب ان لا يُحتفي به بطريقة موسمية. يجب ان ننظر اليه كمشروع متصل ومستمر يتم في إطار بحث دؤوب مقصده وهدفه الاساسي هو امر الهوية. تحقيقه يتم بتحرير مسار البحث من اي قيود زمانية او مكانية. على سبيل المثال يجب ان لا يشغلنا التغني والتباهي بتراث عمارتنا التاريخية عن مواجهة تعقيدات الزمن الراهن وتحديات المستقبل. دراسة إنجازات الحقب القديمة يجب أن يكون القصد من ورائه الاستعداد الجيد لما هو آتِ. يجب ان لا ننظر الي الامر لكآنه حالة من حالات البكاء علي الاطلال. شكلت هذه القناعات الارضية التي ارتكزت عليها في مسار بحثي في الشأن المعماري السوداني.
تعاملي مع كافة جوانب العمارة السودانية في عدد من الوسائط الإعلامية كان يقوم على هذا الفهم. أسوق هنا حالة محدد ة تعتبر مثالاً لي ما أعنيه. في إطار بحثي في كل الاتجاهات كنت احيناً أفضل اللعب خارج الصندوق. في هذا السياق صوبت سهامي مرة بعيداً في فضاءات تلك العمارة متفحصاً مكونها إسلامي الجزور. في إطار هذه المغامرة تجاسرت فوسعت مساحة طموحي. بحثت عن جهد وكسب بعض معمارينا الأفذاذ الذين ولجوا عبر تلك البوابة إلى أفاق الحداثة وما بعدها. التي تشكل ظاهرة بالنسبة لي كانت دائماً مثار اهتمامي في كافة أصناف العمارة. أضفت لطموحي في هذا المسعي تحدياً جديداً. قررت أن أقتحم مجالاً مختلفاً من مجالات الوسائط الإعلامية الذي منح مساهماتي أبعاداً مهمة بالغة الأثر.
ظللت لفترة طويلة أبحث عن موضع قدم مؤثر في مجال التلفزيون لإيماني العميق بمدي تأثيره واتساع رقعة انتشاره. كانت لي قبل فترة طويلة في التسعينيات تعاون مع تلفزيون السودان عبارة عن فقرات في برنامج بيتنا. محدودة المساحة إرشادية الطابع قوبلت بتجاوب واسع مما دعاني لتضمين بعضاً منها في موقعي الإلكتروني. توجهت هذه المرة نحو القنوات التلفزيونية برؤية مختلفة قصدت منها إنتاج وتقديم أعمال توثيقية. عميقة المعني والمضمون تتعامل مع قضايا تناقش جوانب مهمة في فضاءات العمارة السودانية. نشطت في هذا المسعي في منتصف العقد الثاني من الألفية. ركزت هذه المرة على مكون العمارة الإسلامية الذي أشرت إليه من قبل. كنت مفتتن بحق بمسعي وكسب المعماريين السودانيين التي حلقوا في فضاءاتها بأجنحة الحداثة وما بعدها.
تشربت بتلك الفكرة وجهزت نفسي تماماً لإنتاج وتقديم أفلام وثائقية. وضعت لها عنواناً جاذباً مثيراً للاهتمام والفضول وهو- عمارة إسلامية سودانية تجديدية. كنت قد مهدت لها من قبل بعدة مقالات سودت بها صفحات في إطار ما اتيح من مساحة في بعض الصحف. تأبطت مشروعي الطموح هذا وطفقت أتسول بين القنوات الفضائية فلم أجد منهم اهتمام او تجاوب مع الفكرة. فإداراتها محدودة الأفق لديها العديد من الحيل للتهرب من كافة المواضيع التي تخرج من إطار مجالات السياسة والغناء. استهدفت بشكل خاص تلك القناة الحسناء فهي دائماً كانت أوسعهم انتشارا ومشاهدة. الححت على المعنيين بالأمر فلم أجد منهم تجاوباً في البدء. بالرغم من أنني اتصلت بهم قبل شهر رمضان الكريم انسب المواسم لمثل تلك الأعمال ذات الطابع الإسلامي.
سهل لي الله الأمور فقررت الاتصال مرة أخري بالقناة الحسناء. إذ وفرت لي شركة (إم تي إن) للاتصالات مشكورة ميزانية معتبرة لتمويل إنتاج اربعة افلام وثائقية. اخترت لها مباني مميزة لأربعة مساجد بالعاصمة الخرطوم الكبري تمثل فتحاً جديداً في العمارة الإسلامية. عمارة نأت بنفسها عن النقل الحرفي واستشرفت أفاق الإبداع بعيداً عنه فحلقت في سماوات الحداثة وما- بعدها. لهذا السبب أشرت إليها بعمارة إسلامية تجديدية. جاء هذا المشروع الطموح وإنتاج تلك الأفلام إلى حد بعيد جهداً خالصاً أنجزته بمفردي. إذ قمت بعملية الإعداد وكتابة المقدمة والتقديم. قامت القناة الحسناء مشكورة ببثها في أربعة جمع متتالية في شهر رمضان في عام 1914. من المحزن أنها لم تقم بإعادة حلقاتها مرة أخري لاحقاً بالرغم من تكرار وإعادة أغنيات برنامجها الرمضاني المشهور بشكل مستمر.
اخترت أربعة مساجد متنوعة ومختلفة في كافة جوانبها إلا انها متفقة كلها في نهجها الإبداعي الذي ينائي إلى حد بعيد عن اجترار الماضي. فاخترت مسجد النيلين الذي صممه زميلي وصديقي قمر الدولة عبد القادر وكان لي شرف العمل معه لتطوير فكرته الاساسية. ضمت المنظومة مسجد القصر الجمهوري الذي صممه أستاذنا المعماري الرقم محمد حمدي. اشتملت القائمة كذلك على مسجد مجمع الطريقة البرهانية الواقع جنوب الخرطوم الذي صممه المعماري العبقري الفنان المرحوم كمال عباس. خاتمة العقد كانت مسجد الحاجة سعاد إبراهيم مالك بمجمع الميناء البري بجبرة الذي صاغ عمارته المعماري بالغ التميز حسين كناني. آملاً في أن تعم الفائدة ضمنت تلك الأفلام الوثائقية الأربعة مع مواد موقعي الإلكتروني في إطار المساهمات التلفزيونية.
قسمت كل واحد من تلك الأفلام التوثيقية إلى عدة اجزاء. المدخل عبارة عن وصلة سرد قصيرة تحكي قصة مبني المسجد من فكرته الأولي حتى نهاية عملية تشييده. تعقبها بعد ذلك مقاطع حوارية مع المصمم حاولت بقدر الإمكان ان أتعرف فيها منه على مصادر إلهام فكرة التصميم وكيفية تطويرها لعمل معماري متكامل. تتخلل تلك المقاطع لقطات تصاحبها شروح وافية من جانبي تطوف فيها الكاميرا في أرجاء موقع المبني وداخله. مركزة في كل مرة على جزء خاص يعكس ملامح تخطيط المشروع وسمات فكرة التصميم. يخُتتم الفيلم الوثائقي بتلخيص للعمل المعماري المستهدف. تنوع تلك الأعمال المعمارية المميزة منح هذا العمل الوثائقي الكبير ميزة خاصة. يمكن لكل واحد منكم زيارة موقعي الإلكتروني لمتابعة هذه الأفلام وسأسعد كثيراً بالاطلاع علي أراءكم النيرة.
إنني شخصياً أري إنجازي لتلك الافلام الوثائقية جزء من مشروع يحتفي بعمارة السودان بطريقة مختلفة. على سبيل المثال عرضت تلك الافلام في توقيت خارج إطار فترة الاحتفال بأعياد الاستقلال. بالإضافة إلى ذلك لم تتبع النهج السائد وهو الاستثمار في تراثنا التليد وإهرامنا الشامخة. احتفيت بالاستقلال بمعناه العميق عبر إبراز مواكبة معماريينا لحركة العمارة العالمية في أخر تجلياتها. الذين شقوا طريقهم بكل جرأة وثقة عالية عبر العمارة الإسلامية ذات الإرث الفخيم الضارب في القدم المتجذر في الدين الحنيف. فنجحوا بجدارة في التحليق في فضاءات نهج عمارة ما- بعد- الحداثة العالمي. لهذا الأسباب مجتمعة أعتقد ان استعراض هذه التجارب الجريئة هو احتفاء بنهضة السودان وهو بالضرورة احتفال باستقلاله.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- يناير 2019