fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (تاريخ البيت الحضرى فى السودان)

 

     

تراث العمارة الإسلامية يتألق فى بيوت سواكن التركية

كان لعهد التركية السابقة (18- 1885) و هى حقبة مهمة فى تاريخ السودان الحديث مساهماته الملموسة فى مجال التنمية الحضرية. فالآتراك لهم دور مشهود على المستوى العالمى مسجل بإحرف من نور فى سجل التراث المعمارى الأنسانى. ساعد فى إنتشاره نزعة إشتهر بها ذلك الشعب و تلك القومية التركية فى التوسع و الإنتشار. من أهم الشواهد هنا تجربتين: الإمبراطوريتين البيزنطية ( خلال القرن الميلادى الأول) و العثمانية ( من القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين الميلادى ). حقب تاريخية و عصور تمدد فيها نفوذ هؤلاء القوم و إنتشروا فى بلاد و قارات مجاورة لهم. حملوا معهم فيما حملوا أطياف من أروع الفنون و كانت العمارة رأس الرمح.

ليس هناك شك فى تميز جينات الأتراك بزخم فنى باذخ. بلادهم تتوفر على تراث فنى مذهل مبهر يتمدد على كافة جونب الفنون الجميلة و التطبيقية. فى الجانب المعمارى يرتكز  على معرفة تقنية و هندسية وائقة.  ساعدت تلك المقومات الأساسية فى تطوير و الـتأسيس لطرازات ذات حضور طاغى بالغ الأثر. الإشارة هنا بالتحديد للطراز البيزنطى و العثمانى. فالأتراك عندما تمددوا و أنتشروا فى بلادان قريبة و بعيدة منهم فى عدة قارات لم يفرضوا نفوذهم فيها فقط بحد السيف و قوة السلاح الحديث. فى كل تلك الحالات كانت الآلة الحضارية حاضرة بقوة. نحن معنيون هنا فى هذا السياق بالمردود المعمارى و تحديداً العمارة السكنية بالرغم من صعوبة الفصل بين مجالات العمارة المتعددة.  

الدوافع التى جائت بالأتراك للسودان متعددة فى طبيعتها. من أهمها أنهم أرادوا تأمين حدودهم الجنوبية بعد إحتلالهم لمصر. واحدة من مخاوفهم إنهم كانوا يخشون تمدد الأمبراطورية الوهابية التى سطع نجمها فى شبه الجزيرة العربية فى الجانب الشرقى للبحر الأحمر. عليه كان إنتشارهم جنوباً كان ذو بعد تأمينى مهم بالنسبة لهم. وجودهم فى شرق السودان كان له قيمة ألا تقل أهمية، و هى منحهم إطلالة على البحر الأحمر توفر لهم منفذ يربطهم بأجزاء أخرى من العالم. من الدوافع المهمة التى دعت الأتراك لغزو السودان هى الرغبة فى زيادة مواردهم بثروات البلاد الطبيعية و تحديداً معدن الذهب.

شهد السودان خلال القرن السادس عشر مولد و تأسيس أول سلطة أو دولة مصغرة إسلامية. قامت على أنقاض مملكة المقرة  المسيحية و عاصمتها سوبا التى تمركزت فى منطقة قرب الخرطوم عاصمة البلاد الحالية. يشار لتلك الدولة الوليدة زمانئذ بعدة أسماء مثل السلطنة الزرقاء و مملكة سنار أشارة لعاصمتهم الواقعة فى العمق الجنوبى للسودان.  شهدت إزدهاراً نسبياً مضطرداً عند نشؤها لكن تضعضعت لأحقاً مما شجع الأتراك للإختراق جنوباً فى بدايات القرن التاسع عشر و إسقاط مملكتهم و وضع نهاية لأول دولة إسلامية سودانية.

أستقر الاتراك فى بداية فترة حكمهم فى مدينة سنار و جعلوها عاصمة لهم. لم يطب لهم المقام هناك لأنهم لم يعتادوا على مناخها الرطب غزير الأمطار و تخوفوا من أخطارالأمراض المستوطنة. فأرتحلوا شمالاً و أستقروا لفترة بمدينة ود مدنى لكنهم لم يلبسوا بها كثيراً. أنتقلوا لاحقاً لموقع مدينة الخرطوم الحالى فإستحسنوه نسبة لموقعه الإستراتيجى. أجتهدوا هناك لتأسيس عاصمة تليق بمقامهم و تاريخهم التليد. 

كان الأتراك بناءً على إنجازاتهم الحضارية فى أرجاء العالم المتعددة يأملون فى إقامة عاصمة فى مصاف رصيفاتها فى نواحى أمبراطوريتهم متعددة الأركان. العديد من الإفادات تشئى بأنهم بذلوا جهداً مقدراً على صعيد التنمية الحضرية العمرانية. لم يقتصر سعيهم على حدود عاصمتهم الوليدة إذ تجاوزوها لمدن أخرى. كان لميناء سواكن المضجع على سواحل البحر الاحمر نصيب الأسد.

للأسف الشديد مجريات الأحداث لم تمهل الأتراك كثيراً إذ سرعان ما تداعى أنصار المهدى و إنقضت حشودهم من كل جاتب على العاصمة الخرطوم لتضع حداً لفترة حكمهم. يبدوا أن عمران المدينة كان زمائذ فى حالة مشرفة إذ وردت الأخبار هنا و هناك عن قصور و سرايات كانت تصطف على شاطئى النهر. بدليل أن قادة الأنصار بما فيهم القائد المهدى نفسه و معاونيه بالذات الخليفة عبد الله قد وجدوا مساكن مؤقته تليق بمقامهم لفترة قصيرة. ثمة مؤشر أخر على حالة المبانى المميزة أنه يقال أن المهدى أصدر لاحقاً فرماناً- أمراً- يمنع الأنصار من إنتزاع أجزائها و (إكسسوراتها) المعمارية لتطعيم بيوتهم الأمدرمانية. 

لكن الأتراك عوضونا عن ما كنا نتوقعه منهم فى عاصمتهم الخرطوم بواحدة من أهم تجارب التنمية العمرانية الحضرية بكل أبعادها و زخمها. الإشارة هنا لسواكن ذلك الميناء السودانى الصغير المضجع فى خليج داخلى صغير بساحل البحر الأحمر شرق البلاد. أعظم ما فى هذه التجربة هو تميز و تفرد كافة جوانبها التى تشكل كل مستويات البيئة الحضرية و السكنية. الِاشارة هنا للتخطيط العام و التصميم الحضرى و العمارة و التصميم الداخلى بكل مكوناته و تفاصيله التزيينيه. لهذه الأسباب مجتمعة أفردنا لها جزءً من مبحثنا هذا المعنى بالبيت الحضرى فى السودان.

المعطيات التاريخية النابعة إلى من واقع جغرافى مميز جعلت من ميناء سواكن الصغير تجربة عمرانية حضرية بالغة التفرد. إفادات المؤرخين تشير إلى أن موقعها على ساحل البحر جعلها منذ الأزمنة الضاربة فى القدم و منحها أهمية و خصوصية عالية. من محاسن الصدف انه و خلال كل العصور المتتابعة حرص كل من حكم السودان أو قام بإحتلاله مهما إختلفت ظروفهم أجمعوا كلهم على المحافظة على سلامة المدينة و صونها من الدمار و التخريب. إجماعهم على هذا الراى و الموقف كان نابع من أن سواكن كانت الميناء الوحيد و همزة الوصل بين أجزاء كبيرة من القارة الأفريقية و ذلك العالم الخارجى المترامى الاطراف.

من أهم ما ميز سواكن عبر تاريخها الطويل هو أنها و على مدى العصور كانت بمثابة بوتقة و قدر كبير melting pot  إنصهرداخله منتوج حضارات متعددة متعاقبة  و حصيلة ثقافات بالغة التنوع. موقعها الإستراتيجى المميز و نشاطها التجارى المتعاظم عبر العصور جذب إليها أطياف من البشر و منظومة متنوعة من من شتى البلدان. المتغيرات السياسية على مدى العصور و الأزمنة كانت لها إنعكاسات بليغة على كافة جوانب الحياة و تحديداً العمارة. إذا أخذنا فى الإعتبار الثلاثة قرون الماضية كانت سواكن تحت إدارة حكم التركية السابقة تلتها بعد ذلك سلطات تابعة لنظام الحكم الثنائى البريطانى المصرى. 

مبحثنا هذا معنى على وجه الخصوص بالبيت الحضرى فى سواكن بتركيز على البيوت التركية. كانت موجودة فى إطار عريض كبير و ليس كجزيرة منعزلة. عليه إستعراضنا لتجربة هذه البيوت متفردة العمارة سيتعامل معها فى إطارها االطبيعى و الحضرى الكبير الذى لم يكن أقل تميزاً. الإهتمام الخاص به نابع من مردوده المؤثر للغاية على تصميمها. روعة العمارة ستتجلى أكثر عندما نستصحب معها و نتفحص بعناية جوانبها الدخلية و تفاصيلها. التآمل بعمق فى عمارة البيوت التركية عبر منظور فلسفة الفيلسوف الألملنى مارتن هايدقر و وضعها فى سياق أطرها الخارجية و الداخلية سيجعلها تبرق و تلتمع.      

كل من ينظر لشكل ميناء سواكن من خلال الصور الجوية ينتابه إحساس فى البدء بأن تخطيط شوارعها لا يخلو من عشوائية. لكن المتعمق فى الأمر و الذى ينظر إليه من خلال معطيات تاريحية مجتمعية ثقافية  سيصل لإستنتاجات مقنعة. الواضح أن نسق تخطيط الشوارع يبدو مشعاً من مركز المدينة بيضاوية الشكل  الذى يحتله سوقها المصطخب حركةً ونشاطاً تجارياً. معروف تاريخياً فى أرجاء العالم العربى و الإسلامى أن قلب المدينة النابض هو مركزها التجارى. أذاً، نسق تخطيط الشوارع العام فى سواكن بالرغم من أنه لم يخطط بواسطة جهة إحترافية كان معبراً للغاية عن واقع  الحياة هناك. 

شوارع سواكن الداخلية كانت مختلفة تماماً عن شوارع مدننا الحالية المستقيمة و المتعامدة و المكررة النسق. الشوارع فى هذه الحالة كانت شبيه بواقع المدن العربية و الإسلامية القديمة، ضيقة و متعرجة و غير منتظمة. المتجول فيها كانت تنتظره مفاجأة عند كل منحنى و عطفة. ضيق الشوارع والبيوت العالية المحيطة بها وفر مساحات مظللة سمحت دائماً لأهل الحارات بالتجمع و التلاقى هناك الأمر الذى ساهم فى تعزيز الصلات المجتمعية. تواجد الرجال معاً فى الشوارع المحيطة بالبيوت كان أمراً مستحسناً من الناحية القيمية لأنه يتيح مزيداً من الخصوصية لنساء الدار فى بيوتهن. الواضح أن نسق و نظام و تخطيط تلك الشوارع الداخلية كان يحقق أكثر من هدف مهم جداً.

قدمت بيوت سواكن حلول عظيمة بكل المقاييس على مستوى تصميم كل واحد منها. تعامل المصمم و التصميم بذكاء و عبقرية مع كافة المطلوبات و التحديات الدينية القيمية، و الثقافية المجتمعيةو المناخية. التصميم يقوم على مستوويين أرضى مخصص للرجال و ضيوفهم و علوى لنساء الدار و ضيوفهن. بذلك أمن التصميم درجة عالية من الخصوصية التى كانت زمائذ من أهم المطلوبات المجتمعية المرتكزة على القيم الدينية. ترتيب آخر فى التصميم سعى و نجح فى تفادى الأثار السلبية للمباعدة بين شقى الأسرة. تحقق ذلك بالإطلالة المتاحة هنا و هناك من الطوابق العليا للطايق الأسغل حيث يحتفى و يتسامر رجال الدار مع ضيوفهم. بذلك سمح التصميم الداخلى لنساء الدار بالتواصل مع عالم رجاله من طرف خفى بشكل لم يجنرح من خصوصيتهن.  

جوانب آخرى من تصميم تلك البيوت تعامل بنفس الذكاء و العبقرية مع عدد من التحديات بشكل مدمج. تميزت بيوت سواكن بالشرفات (البلكونات) الكبيرة الجميلة المعلقة على صفحة واجهات عمارتها البيضاء. تعتبر تلك الشرفات جزءً أصيل و أساسى من البيت التركى السواكنى فهى متنفس مهم لنساء الدار. يلجأن إليها هرباً من حرارة البيوت فى زمان لم تتوفر فيهالإمداد كهربائى و وسائل التبريد أو التكييف. بالإضافة إلى ذلك فإن تواجدهن فى تلك الشرفات يمنحهن فرصة مهمة للإطلالة على العالم الخارجى فى زمان كانت هناك قيم صارمة تحد من مغادرة النساء لبيوتهن.

تلك العوامل مشتركة و أخرى غيرها عظمت من أهمية شرفات بيوت سواكن التى كانت إمتداداً مهماً لطوابقها العليا و كان فيها مجال يسمح بقضاء الساعات الطوال. أنواع منها تعرف بإسم المشربية كانت مسربلة بغلالة مخرمة منسوجة بعصى خشبية رفيعة تتقاطع فى نسق بديع مكونة أشكال هندسية جميلة. فتحاتها الصغيرة الفعالة ككاسرات لأشعة الشمس كانت تستدرج نسمات النسيم العليل. من ميزاتها العظيمة إنها كانت تسمح لنساء الدار بإستراق النظر و متابعة العالم الخارجى بدون إجتراح لخصوصيتهن. بالإضافة إلى ذلك كان لون المشربيات البنى ينثر الحيوية على الواجهات البيضاء. شكلها الشبية بالقناديل أو المصابيح المعلقة كسر من رتابة مساحات المبانى البيضاء التى تغطى أفق المدينة. 

التصميم الداخلى لبيوت سواكن كانت ينافس عمارتها الخارجية. تعامل بفكر متقدم و حصافة و حذاقة بالغة مع مطلوبات و تحدياتهم حياتهم زمانئذ. فصنع لنساء الدار و صويحيباتهن عالم داخلى مدهش يفيض حيوية عوضتهن عن حالة الإعتكاف الطوعى التى فرضتها عليهن القيم و التقاليد فى طوابق بيوتهن العليا. كان فى غرف الدار متسع لأن كل قطع الأثاث من أرائك و خزانات محشورة فى قلب الجدران. وجود الأرائك هناك منح الحريم المتكأت عليها إحساس جارف بالدفء الوجدانى يخفف من الأجواء الحارة الخانقة. إتكآتهن فى ذلك الخدرالأمن ما كانت تعنى العزلة عن العالم الخارجى. فالمشربيات المخرمة المثبتة خلف الأرائك تسمح و تحض على تحسس نبض الشارع فتبث الحيوية فى أجواء جناح الحريم الآمن. 

الجوانب التزيينية لبيوت سواكن التركية أكملت الصورة و أوصلت الرسالة إلى منتهاها. عبرت بصدق عن مزاج أهلها من خلال توظبف تراث الأتراك الفنى مترف الجمال. لكآنها أعادت و إستعادت جزئية من أمجاد الحضارة البيزنطية و العثمانية. عبرت بصدق عن إنتماء أهل الدار من خلال إستعراض روائع الفن الإسلامى. فوق هذا و ذاك أظهرت بفخر و إعزاز درجة ترف و ثراء طبقة أهل الدار من أثرياء مدينة عاشت فى أوج مجدها الإقتصادى زمانئذ. جسدت طنافس و زخارف دواخل ديوانات مجالس الرجال فى الطابق الأرضى من بيوت سواكن التركية بكل تفاصيلها كل ذلك و أكثر. 

البروفيسور مشارك دكتور معمارى/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان فبراير 2018

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.