توجه ما- بعد- الحداثة طوق نجاة لعمارتنا فاقدة الهوية
انقضت أكثر من ستة عقود من الزمان منذ أن نلنا استقلالنا الذي وضعنا في مفترق طرق موقف مزدوج التحديات. كان علينا أن ننهض بين الشعوب كأمة و بلد مستقل. واجهنا أيضاً تحدي أخر حين كان العالم كله في منتصف الخمسينيات يمر بحالة مخاض تسببت فيها رياح الحداثة. تيار قوي عارم أكتسح الحدود زحف لكل أرجاء الدنيا حتى وصل لأعتاب بلادنا. بمباركة و دعم ممن وفدوا إليها من ذلك العالم الغربي و احتلوها. كالعادة كما هو متوقع كان من قدر العمارة أن تكون في قلب الحدث. ليست فقط في قلبه إذ أنها كما هو الحال دائماً من المفترض أن تقوده. عاش السودان ذلك الواقع بكل أبعاده في وضع مواجه بتحديات عظمي. من أهمها أنه دخل في هذه التجربة بعد نيله استقلاله مكبل اليدين خلال فترة نهاية الخمسينيات. بدون كتيبة من المعماريين الوطنيين يمكن أن تؤسس لعمارة سودانية تُعبر عن بلد مستقل يحتل مكانه في منظومة العالم الحديث. تصدت لمهمة إعداد هذه الكوادر أوانئذٍ نخبة منتقاة من أساتذة بريطانيين. من نفس البلد التي احتلت بلدانا لستة عقود من الزمان قبل أن ننال استقلالنا.
الحق يقال إن تلك الكتيبة من الأساتذة الأماجد عملوا عملاً مقدراً مشهوداً في نهاية الخمسينيات. بتأسيس أول قسم للعمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. كان القصد منه أن ينهض بعمارتنا ليجعلها في مصاف الدول المتقدمة. وفق معايير كانت سائدة في عالمهم الغربي في إطار خطة خبيثة تجعلنا تُبعاً له بطريقة ذكية يستشف منها حسن النوايا. إذا تعمقنا في فيما حدث بعد عدة عقود من الزمان بناء على معطيات محددة نجده يجسد حالة معينة. حالة أمر ظاهرة الرحمة فيما ينطوي باطنه على بعض العذاب المخبوء الذي يحتاج لنظرة معمقة لإدراك أبعاده. هذا هو جوهر مقالتنا التي ستتناول العديد من جوانبه.
جاءت هذه الكتيبة من الأساتذة برؤية معمارية متكاملة. تمت بلورتها بشكل تصاعدي مفصل في عالمهم الغربي خلال العقود الأولي من القرن. نهضت على أنقاض كل الرؤي الأخرى التي تم استبعادها أي كان منشئها و مصدرها. قامت على فلسفة علمانية صِرفة و أسس مادية بحته تتجاهل و تقصي أي فهم للعمارة خارج هذا الإطار. جاءت تلك الكتيبة مشبعة بتلك المفاهيم التي كانت في أوان وصولهم في منتصف القرن في أوج مجدها في موطنهم. عكسوها بهمة عالية علي طلابهم فكان الوضع بالنسبة لهم تحت السيطرة تماماً. في حالة طرفيها نخبة من أميز الأساتذة البريطانيين مقابل ثلة محدودة العدد من الطلاب النوابغ. فأنساب العلم بينها بسلاسة مؤسساً لرؤية معمارية مستوردة غربية الهوى و الهوية محددة المعالم و السمات. مما سهل من عملية غسيل الأدمغة. عزز من منطق تبنيها هدفها النبيل الذي يسعى في النهاية لبناء سودان جديد عصري يقوم على أكتاف طراز الحداثة المعماري. هكذا وُضعت بذرة هذا الطراز من خلال ترسيخها في أذهان هؤلاء الشباب النوابغ. عزز من ترسيخ مفاهيمها تطبيقات أنجزها بعض أساتذة القسم في مواقع الجامعة في عملية أشبه بالبيان بالعمل باللغة العسكرية. قدموا فيه أروع نماذج لعمارة الحداثة.
أستمر شهر العسل المتطاول في مرحلة لاحقة عندما تخرجت أول الدفعات من الطلاب. الذين ابتعث أميزهم و بعضهم الأخر للتحضير لدراسات عليا في بريطانيا. عمل بعضهم تحت إشراف أساتذتهم السابقين و البعض الأخر بمساعدة و توجيه منهم. بهذه الطريقة استمرت الرعاية أو لنقل الوصاية بين الطرفين في أجواء هيمن عليها فكر نفس ذلك التوجه المعماري. عزز من تأثيره القوي أنه خلال حقبة بداية الستينيات كان مستفرداً مسيطراً تماما على الساحة هناك. فعادت أفواج المبتعثين بعد انتهاء فترة دراستهم مشبعين تماماً بذلك الفكر. لم يقتصر الأمر على المعماريين إذ أن المختصين في مجال التخطيط العمراني كانوا أيضاَ تحت تأثير نفس التوجه الفكري. تلقوا نفس جرعة التحصين القوية التي تغللت في جيناتهم فظلوا أسراها حتى زماننا هذا. ناولوه من خلال جيناتهم لأجيال تنشط بهمة الأن قابضة تماماً على مفاصل العمل في هذا المجال. بذلك شكل المختصون في كلا المجالين شراكة ذكية. عملت مع بعضها البعض في تناغم تام تحت راية توجه يسيطر عليه فكر علماني غربي الهوى و الهوية. فأحكموا قبضتهم هيمنوا بذلك على مصير الناس في أجزاء بالغة الأهمية من بيئتهم المبنية بكافة مستوياتها.
من عملوا في مجال التدريس من هؤلاء المبتعثين و عددهم لا يستهان به كان دورهم هو الأكثر تأثيراً. إذ أنهم بالرغم من بوادر مؤشرات سالبة تقدح في ذلك التوجه الوافد ممن أسسوا له ظلوا أوفياء له مستعصمين به. حملوا رايته نقلوها بإخلاص و عزيمة قوية لأجيال من طلابهم و أتباعهم. فحققوا انتشاراً كبيراً عبر مشاريع و أعمال تلك الأجيال. الذي أنتج في مجمله عمارة متكررة خالية من المضمون. تكرر نفسها بغباء من منطلق أن المعماري هو الأدري بأمور الناس و مصالحهم. أنه قادر علي استيعاب رؤاهم في عمارة من شأنها أن ترتفع بهم إلي أعلي درجات الرقي. كان ينافس العمارة في ذلك التوجه إطارها العام التخطيط العمراني و الحضري. في حالة ما أنزل بها من سلطان قدمت حلولاً مكررة. مخططات متشابه ينزلونها على أرض الواقع في كافة أرجاء بلادنا. من حلفا في أقصي الشمال إلى الجبلين منطقة تماسنا مع جمهورية جنوب السودان. من أبشي في أقصي الغرب إلى الكرمك نقطة الحدود مع الجارة أثيوبيا. حلول غبية مكررة نقل مسطرة بدون مراعاة لحالة التنوع التي تتميز بها حالتنا. تمد فيها مخططاتهم المتكررة لسانها ساخرة من تنوع أهلنا الملموس في خصائصهم الثقافية و المجتمعية. تتعامل معها بتعالي قائم على فكرة أن مخططاتهم الجاهزة هي التي سترتقي بهم إلى أفاق العالم المتقدم. بذلك تحل كل مشاكل حياتهم بمفارقتهم لنمط حياتهم التقليدية و أطرها المتوارثة.
سبب تشابه الحلول في مجال التخطيط العمراني و العمارة بالرغم تركيبة شعبنا متنوع الخصائص مفهوم. بيت الداء سببه الأساسي الفكر العلماني الذي تستند عليه هذه الحلول. أهدافه الأساسية الذي يسعي لتحقيقها ارتكازا على هذا الفكر العلماني مادية بحتة. تركيزها الأساسي مصوب نحو هدفين رئيسين. أولهما ذو طابع فيسيولوجي بيولوجي يهتم بشكل أكبر بسلامة و راحة الإنسان. عليه هو معنى بشكل أساسي بالتحكم في جوانب محددة مثل درجة الحرارة والتهوية و الرطوبة ما إلى ذلك من متطلبات مشابه. الهدف الثاني يركز على الجانب المادي أي التكلفة. التركيز على هذين الهدفين جاء على حساب أهداف أخري ليست ذات طابع مادي. مثل القيم و العواطف و الأحاسيس و الهواجس بعضها متوهم لكنه مؤثر للغاية. النهج العلماني لا يعبأ بها لأنها لا تخضع لمعايير القياس الدقيق بالأجهزة المعروفة لقياس الحرارة و الرطوبة و ما إلى ذلك. لأنها أيضاً لا تؤثر بشكل مباشر على التكلفة. ارتكاز عمليات التخطيط العمراني و الحلول المعمارية على هذه الجوانب المحدودة دون غيرها هو الذي أفرز التكرارية في كلا الحالتين.
كان المختصون في هذين المجالين يعيشون في حقبة السبعينيات يهنئون بفترة شهر عسل متمددة في مجالات تخصصهم. في قمة الاطمئنان يعيشون معاً تحرسهم مبادئي فكر الحداثة العلماني التي صارت من المسلمات التي لا تقبل النقاش. في فترة كان الوضع مختلف في ذلك العالم الغربي الذي أنتجها و روج لها و صدرها لنا. كانت الأرض هناك تهتز تحت أقدامه. نتيجة لظاهرة تململ تطور لاحقاً ً لبوادر حالة رفض على جبهتي التخطيط العمراني و العمارة. وصل لدرجة متقدمة في مجال العمارة أدت لهدم و ازالة مباني و مجمعات كبيرة مهمة في عدة أجزاء من ذلك العالم. حملت بصمة الطراز الذي كان حقبتئذٍ يمجده و يقدسه المختصون في بلادنا يتعاملون معه تعامل الهندوس مع أبقارهم المقدسة. لم تنشأ هذه الحركة الرافضة عندهم من فراغ إذ كانت ثمرة مراجعات فكرية أسست على رؤي فلسفية ثورية جديدة. شكلت قاعدة لجبهة عريضة لمرئيات معمارية متحررة تماماً من قيود الماضي. جاءت كبديل له مواكبة لتلك المستجدات. أُطلق على هذا التوجه العريض اسم حركة ما- بعد- الحداثة لتحل محل ما كان يعرف بتوجه الحداثة. تفرعت منها عدة مدارس ظهرت في شكل طرازات متميزة مستظلة كلها بروح ذلك التوجه العريض.
لم تنشأ تلك الفروع المنضوية تحت لواء ذلك التيار العريض من فراغ. جاءت نتيجة لحركة عامة كبيرة سعت لتجاوز عيوب و مآخذ حركة الحداثة التي بدأت تنحسر منذ بداية السبعينيات في وتيرة مطردة. من أميزها تجاهلها الذي وصل لدرجة العداء و الرفض للتراث أي كان نوعه. عالمياً كان أم إقليمياً أو محلياً. كان لهذا الموقف إسقاطاته الواضحة على ملامح عمارة الحداثة التي جلبت لها وبالاَ كثيراً. لأنه فرض عليها قيوداً أدت لمردود سلبي مؤثر للغاية. على سبيل المثال أنتجت مكونات معمارية جامدة متكررة الأشكال و المحيا. نسبة لالتزامها الصارم بالخطوط المستقيمة و الزوايا القائمة التي تنتج أشكالاً صندوقية. بالإضافة إلى ذلك حرمها هذا العداء و الرفض من أسلحة مضاءً تمنح العمارة قدراً عالياً من الحيوية. على سبيل المثال، من حيث الألوان اتسمت عمار الحداثة باللون الأبيض رمز النقاء عندهم. الخروج من إطاره لا يتعدى الرمادي لون خامتهم الأثيرة الخرسانة المسلحة التي حملت عمارتهم على أكتافها. أما الزخرف فقد كان الموقف منه في منتهي الحزم. إذ اعتبر أحد شيوخ طريقتهم و مؤسسيها ظهورها في العمارة جريمة كبري. تلك القيود مجتمعة حرمت العمارة من أهم أسلحتها الفعالة. التي أدت لإعراض الناس عنها ففتحت عليها أبواب جهنم. أهم من ذلك أنها وفرت لمجموعات معينة ثغرات لاختراق هذا الحصار الذي فرضه فكرها. استثمروها فأسسوا مدراس معمارية نشأت في إطار حركة بما ما- بعد- الحداثة التي أشرت إليها من قبل.
واحد من أهم تلك المدارس اختار نقطة اختراقه من خلال رفض الحداثة للتراث. مركزا من ناحية تاريخية على التي ارتبطت بعصور ضاربة في القدم. لهذا السبب يشار إليها باللغة الإنجليزية بال neoclassical style ترجمتها بالعربي الكلاسيكية الراجعة. أسست المدرسة طرازاً اتبع عدة طرق تباينت في درجة مساهماتها الإبداعية. بعضها استلف مكونات تراثية نقلها حرفياً بدون جهد إبداعي يذكر. البعض الأخر استلفها لكنه تعامل معها بتصرف متبعاً طرقاً متباينة. مثلاً تغيير حجمها أو مواد تشييدها أحيناً نوعية استخداماتها. هناك في هذه الحالات جهد إبداعي يستحق التقدير. أما الحالات التي تستحق كل التقدير هي التي لا تلجأ ً لنقل المكونات التراثية الكلاسيكية حرفياً. يخترع فيها المعماري بالغ الفطنة أشكالاً معمارية من عنده. يضخ فيها بمقدراته الإبداعية الهائلة روح الكلاسيكية المطلوبة في المبنى الذي يقوم بتصميمه حسب ما هو مطلوب. مقدماً عمارة تنضح مهابة تشع (برستيجا) كما يسميه الفرنجة. الجميل في هذه المدرسة أن المنتسبين لها تجولوا في بحثهم عن مصادر الإلهام بحرية عبر الزمان ضاربين في عمق التاريخ. متتبعين أثار روائع العمارة كلاسيكية متجولين بين كنوزها بأريحية فائقة. مستثمرين فيها بنفس الدرجة من الحرية ليرسموا لوحات من طرازهم. ليعبر فيها كل واحد منهم وفق رؤيته و مقدراته الإبداعية. مقدمين أعمالاً تباينت سماتها من النقل الحرفي إلى النقل بتصرف إلى الاستلهام الذي يبتعد تماماً عن النقل.
النماذج لما أشرت إليها هنا لا تحصي لا تعد عليه. سنتوقف عند أميزها التي اتبعت أكثر من أسلوب من أساليب مدرسة الكلاسيكية الراجعة. لنتوقف عند نماذج جديرة بالاهتمام في الولايات المتحدة من أعمال المعمارين شارلس مور و مايكل قريفث. أكثرها تعبيراً عن حالة النقل بتصرف من تراث الكلاسيكية هو مشروع متنزه دا إيتاليا من روائع مور الخالدات. شُيد في مدينة نيو أورليانز الأمريكية في نهاية السبعينيات. تبنت مشروعه و أهدته للمدينة الجالية الإيطالية ليكون رمزاً لعظمة طراز عصر النهضة فخر بلادهم. فاِسِتدعي مور للمشروع محيا نماذج بوابات عصور إيطاليا الكلاسيكية العملاقة بكل جلالة قدرها. محتفظاً بمعالمها الأساسية مع تعديلات جوهرية في تفاصيلها قفزت بها عبر موادها لأعلي مراقي عالم الحداثة. المهم هنا هو تغيير نوع استخداماتها إذ أنها بوابات زائفة لا تقود إلى أي مكان معين. الهدف الأساسي السامي الذي حققته هو احتضانها في حنو بالغ لساحة المتنزه. فضمخت أرجائه بإحساس جارف بروح عصر النهضة الإيطالي. فحقق بذلك مور غاية المني و اسمي أهداف الجالية الإيطالية بهذا المشروع الذي يعبر عن عظمة تراثهم الخالد.
الأمريكي مايكل قريفث Michael Graves هو بلا شك أكثر معماري مؤثر في توجه ما- بعد- الحداثة العريض. إذ ساهم بشكل مقدر في مسيرته بوضع الأساس لأكثر من واحدة من مدارسه المتعددة. من أهم إنجازاته من خلال مدرسة طراز الكلاسيكية الراجعة عملين معماريين. مبني البورتلاند Portland building و برج الهيومانا Humana Tower. قدم من خلالهما فتحاً جديداً في مجال عمارة مباني مقرات الجهات الحكومية و المؤسسات الاقتصادية بالغة الأهمية. أعمالاً جسدت و لخصت من خلال العمارة فكر هذه المدرسة. وسم قريفث عمارة مبني البورتلاند بملامح منحتها تفرداً بائناً. لم يجئ ذلك خصماً من وقار و هيبة مبني رئاسة السلطات البلدية في المدينة. أما مبنى الهيومانا الخاص بمؤسسة مرموقة في مجالها فقد جاء معبراً بقوة عن مكانتها. برج شاهق سطع بقوة في سماء مدينة لويزفيل. عمارة مكثفة مقطرة بالغة النقاء تجسد المثل الذي يقول خير الحديث ما قل و دل. بدون أن ينتقص ذلك من حضورها القوي البازخ الرزين في أفق المدينة. نقاء العمارة و سطوعها المؤثر يستدعي مشهد معبد البارثينون الأشم الأشهر في منظومة عمارة حضارة اليونان الضاربة في القدم. الذي يحتل موقع القلب في مجمع الأكروبوليس العبادي في عاصمتهم التاريخية أثينا. بذلك يكون هذا العمل العبقري أبلغ و أنصع نموذج لمدرسة الكلاسيكية الراجعة. عمارة بالغة الرصانة تتجلي بلا أي نقل حرفي تجسد تستحضر روح التراث الكلاسيكي بحضورها الطاغي الرزين.
استعراض حالات مدرسة الكلاسيكية الراجعة يجب أن ينقلنا لواقعنا في السودان. استوقفتني قبل فترة طويلة حالة أعتقد أنها من أعظم الأعمال المعمارية في العصر الحديث في السودان. التي تصنف في إطار هذه المدرسة تجسدها خير تجسيد. الإشارة هنا لمبنى المجلس الوطني أو البرلمان الذي يرابط عند مدخل مدينة أمدرمان قرب كبري النيل الأبيض. صممه معماري بروفيسور روماني عبقري في إطار هدية قدمتها لها لنا بلاده التي تكفلت بكافة مطلوبات المشروع. عمل معماري تكاملت كافة جوانبه بشكل المدهش. بداءً بفكرة نظامه الإنشائي مروراً بشكله العام و معالجاته الخارجية بكل تفاصيلها و مشروعها اللوني. انتهاءً بعمارته الداخلية الزاخرة بالأفكار العبقرية. مما دفعني قبل عامين لاستعراضه في مقالة غزلية نشرتها في مدونتي في الفيسبوك تعميماً للفائدة سأعيد نشرها هنا في أل LinkedIn. أحزنني أن أحدهم المفترض أنه من العلماء بخس هذا العمل و قلل من قدره. تعامل معه من خلال أفقه الضيق الذي لم يفٌصل أساساً حسب تخصصه لخوض مجال النقد العماري. خلت له الساحة بغياب العمالقة الأفذاذ في مجال نظرية العمارة فغادر ساحات الاحتباس الحراري. متجاوزاً مجال تخصصه متسلحاً بلقبه الكبير لينصب نفسه عمدة في هذا المجال. فجني على نفسه قبل أن ينتقص من هذا العمل بالغ التميز. أدعوه للاضطلاع على مقالتي أملاً أن يثوب لرشده احتراماً لذلك اللقب المؤسس على احترام التخصص. الحكم في النهاية متروك لكم.
شكلت المباني العبادية لكل الديانات بما تحمله من زخم عاطفي و معاني سامية دائماً تحدياً للتوجهات الإبداعية مثل مدرسة الكلاسيكية الراجعة. المعماري الإيطالي المعاصر باولو بورتقيزي المسيحي قدم فتحاً مبيناً في ساحة العمارة الإسلامية المحفوفة بالتحديات. فجرها في نهاية القرن الماضي في مشروع مركز روما الإسلامي في واحدة من ضواحي المدينة. سطعت فيه مدرسة الكلاسيكية الراجعة في أنصع صورها متبرجة في أرجاء المشروع و كافة تفاصيله. ممتطاةً صهوة النظام الإنشائي في شكل أعمدة صغيرة حزمها لتحاكي أكف الضراعة. تتكرر في أرجاء المشروع كأنها تراتيل يتردد صدائها في أجواءه. تتصاعد الحلول الإنشائية لأعلي مداها في مركز المسجد قبته الرئيسة لتصل الدراما المعمارية لأقصى درجاتها. نحن هنا في السودان لم نتخلف عن الركب. إذ تصدي لتحديات مدرسة الكلاسيكية الراجعة في عمارة المساجد بعض مبدعينا الأماجد. في توجه سميته العمارة الإسلامية التجديدية. اهتمامي الفائق بها دفعني لإنتاج أفلام وثائقية عن أميز الأعمال في مجاله. بثت في رمضان في منتصف العقد الثاني من الألفية على شاشة قناة النيل الأزرق عالية المشاهدة. قدمت واحد منها هنا من قبل في إطار مقالة عن أستاذنا محمد حمدي. تعميماً للفائدة أقدم لكم هنا الفيلم الوثائقي الذي أنتجته و قدمته عن مسجد الحاجة سعاد إبراهيم مالك في مجمع الميناء البري بالخرطوم. هو من إبداعات زميلنا المعماري الرائع حسين كناني.
لم تقف مدارس توجه ما- يعد- الحداثة الأخرى موقف المشاهد و هي تري مدرسة الكلاسيكية الراجعة تتصدر المشهد. إذ زحمتها في الساحة مدارس أخري. واحدة منها قريبة الشبه بها هي المحلية الراجعة ترجمة لاسمها باللغة الإنجليزية هو neovernacular. الفرق بينمها ليس بكبير فهو زماني و مكاني إذ تختلف عنها لارتباطها بحقبة زمانية و إطار جغرافي محدودين. أسس لها في منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة المعماري العبقري المفكر روبرت فنتوري Robert Venturi. أشتهر بأفكاره المناهضة لتوجه الحداثة التي ابتدرها بسِفره الأشهر Complexity and Contradiction in Architecture. لافتاً النظر فيه لتعقيدات و تحديات العمل المعماري. أسس لهذه المدرسة باستلهامه لعمارة بيوت محلية الطابع في بعض المدن الأمريكية. فاتحاً الباب لمسار جديد في مسيرة توجه ما- بعد- الحداثة العريض. نحن في السودان وفر لنا إرث عمارة الكولونيال أو المستعمرين في العاصمة في النصف الأول للقرن الماضي رصيد لا بأس به. أشرت لنماذج من عمارته أسميتها بيوت الأفندية توزعت في بعض أحياء أمدرمان. تقدم نفسها بسخاء كفرصة ذهبية لاستلهام المعماري الأريب. أتحفكم هنا بمقالة عنها نشرتها قبل أكثر من عقدين من الزمان في أحد الصحف اليومية. المغامر الأشهر حيدر أحمد علي لم تفته سانحة هذه البيوت التاريخية. إهتبلها من قبل في فيلا صممها في الطرف الشرقي لحي العمارات. تصدرها رواق أي برندة في مسكن يضج بمكيفات الهواء. ظهوره هنا يفهم في إطار الحنين إلى الماضي، لأيام و ذكريات حي الخرطوم واحد الزاهية.
توفي مايكل قريفز في منصف العقد الثاني من الألفية بعد أن قدم إنجازات مؤثرة في عدد من أصعدة الإبداع المعماري. من أهمها مساهماته الفعالة في إطار توجه ما- بعد- الحداثة. مبتدر و مؤسساً لأكثر من واحدة من مدارسه المتعددة متنقلاً بينها برشاقة بائنة. لم يكن التنقل مكانياً لكنه كان أيضاً طرازياً. على سبيل المثال، أعماله في مشاريع عالم والت ديزني في أورلاندو في الولايات المتحدة شكلت نقلة طرازيه ملموسة. إذ قارناها بحالة مبني البورتلاند و برج الهيومانا. نقلة كبيرة من عمارة في منتهي الوقار و الهيبة. إلى أخري غريبة الأشكال محتشدة بالمفاجأت ضاجه بالألوان الصارخة. إشارة هنا لعملين في أطار مشاريع عالم والت ديزني هما منتجعي البجعة و الدولفين. مؤسساً فيهما لمدرسة و طراز من توجه ما- بعد- الحداثة قررت أن أسمية عمارة البهجة و المرح. متكأ على تجربة بروفسير في جامعة الخرطوم أسس حزباً بعد انتفاضة أبريل في منتصف الثمانينات أسماه حزب البهجة. لم يتخل قريفث عن روح الدعابة و المرح في رحاب مجمعات والت ديزني. إذ لم يسلم منها مبنى الإدارة ذو الطابع الجاد. الذي رصع الجزء الأعلى من واجهته بتماثيل الأقزام السبع هزلية الأشكال. تجربة قريفث في هذه الأعمال المعمارية بالغة التميز تدل على طاقة إبداعية هائلة زلزل بها أركان مفاهيم فكر الحداثة. فذهب بالعمارة هنا مبتعداً من شواطئها. ليرسوا بها في مرفأ بعيد جداً عنها صنع فيه عمارة في غاية الجرأة تعبر عن أجواء عالم والت ديزني الافتراضي المرح.
تعتبر المدرسة التفكيكية اسمها باللغة الإنجليزية Deconstruction School من أهم مدارس توجه ما- بعد- الحداثة المؤثرة. التي لقت رواجاً كبيراً في الأوساط الغربية بالرغم من محدودية انتشارها عندنا. شأنها شأن باقي تلك المدارس نمت جذورها و تأسست في إطار فلسفي معروف. كان جل تركيزه منصب في مجالات إبداعية أخري خارج إطار العمارة. إذ كان معني بشكل خاص بضرب من ضروب الأعمال الأدبية. عَمِل واحد من مؤسسيه بالتعاون مع معماري عبقري مبدع فقدما معاً أعمالاً معمارية وضعت الأسس لهذه المدرسة. جاءت أفكارها مصادمة لأهم المفاهيم التي قام عليها فكر الحداثة. تحديداً تلك التي تبناها ميز فان دارووه القائمة على أشكال محكمة التركيب بعناية فائقة مثالية. فقدما بناءً على مفاهيمهم الجديدة أعمالاً مفككة مخلخلة الأجزاء. لتأكيد رؤاهم الجديدة بأنها أكثر قدرة على توصيل المعاني المستبطنة. حمل راية مدرسة التفكيكية من بعدهم ثلة من أتباع الطريقة المبدعين الجسورين من أبرزهم فرانك قيري الذي فعل العجب بالأشكال المعمارية. دَرب تحفظ معمارينا السودانيين كثيراً في تنكبه. اقتحمه أحدهم بجسارة في عمل جرئي قام به قبل عقدين من الزمان هو في زهو الشباب. المبدع محمد المصباح الذي فجر طراز التفكيكية في واجهة عمارة صغيرة قرب الركن الشمالي الشرقي من حي العمدة الأمدرماني. درست هذه الحالة بعناية و احتفيت بها بطريقتي الخاصة المعتادة. فأشدت بها في مقالة نشرتها قبل عامين في مدونتي في الفيسبوك. بناءً على الحيثيات المهمة التي وردت فيها أعيد نشرها هنا في منصة أل LinkedInتعميماً للفائدة.
لَفَت النظر لتوجه ما- بعد- الحداثة و مدارسه لا يعني قفل الباب أمام أي رؤي أخري خارج إطارها. على سبيل المثال استوقفني من قبل طراز ظهر لفترة قصيرة في عشرينيات القرن الماضي في الغرب عُرف باسم الأرت ديكو. ترجمة لأسمه باللغة الإنجليزية Art Deco و Deco اختصار لكلمة decoration. شب و ترعرع في إطار توجه تسيدته مكونات المجوهرات المبرقة التي ألقت بظلالها على إطلالته في مجال العمارة. من أهم الأعمال المعمارية في إطاره برج كرايسلر Chrysler Towerالأشهر. الذي شيد في مدينة نيويورك في عام 1930 كأعلى ناطحة سحاب في العالم حقبتئذٍ. سطعت في الجزء الأعلى من واجهاته معالجات زخرفية مبرقة مدهشة قدمت طراز الأرت ديكو كأحسن ما يكون. استهدف الطراز توجه حركة الحداثة الكاسح خلال تلك الفترةٍ. فأزاحه من الصورة نسبة لتعارضه مع مبادئه و مواقفه المتشددة ضد الزخرفة. أي دعوة لمراجعة أفكار الحداثة التي حامت حولها الشكوك يجب أن تشمل معاودة التفكير في توجهات مثل الأرت ديكو. مايكل قريقث و بعض أصحابه الميامين لم يقصروا في هذا المنحى. إذ أخذوا راحتهم بالكامل فرصعوا بعض أعمالهم بشتى أنواع الزخارف. نحن هنا في حالات بعينها يجب ألا نتردد في الاهتداء بنهجه إذ كانت هناك مبررات كافية مقنعة. سأعود لاحقاً لتناول هذا الموضوع بشي من التفصيل.
عاشت العمارة في العالم الغربي خلال فترة نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات مرحلة تحول تدريجي مهم. أهم مظاهره أن الأرض بدأت تهتز تحت أقدام توجه الحداثة و طرازه المعماري الذي جاء محمولاً على أكتافه. تداعيات فتحت شهية الجهات المعنية بهذا الشأن من كافة أطيافها أن تبحث عن بدائل. متكئة على رؤي مخرجات فلسفية فتحت لها أفاقَ للخروج من الأزمة المستفحلة. مشهد عام أرخ لحالة مخاض أفرزت بدايات مولد واقع معماري جديد. شكل مشهداً لحالة حراك محتدمة مؤثرة مزدوجة الجوانب. بداية تراجع مضطرد لنهج الحداثة و طرازه المعماري. متزامن مع بداية بزوغ نجم بدائل جديدة أشرت إليها من قبل. بدأت بمرور الزمن تكتسب أراضٍ ممهدة السبيل لواقع بديل يشار إليه بتوجه ما- بعد- الحداثة. أنبت عدة مدارس أسست لها طرازات متعددة السمات تعرضت لبعضها هنا. تعدد و تباين وحدت بينه و بينها وحدة الهدف وهو مراجعة المشهد المعماري بشكل جزري يستجيب لكافة تحدياته. كان الوقت هناك في صالح هذه التطورات الجديدة المؤثرة. التي رسخت موقفها و بداءت في الانتشار إلى باقي أرجاء العالم. محمولة على أشرعة إحساس النوابغ المستنيرين النبلاء العاملين و الناشطين في هذا المجال.
أعود بكم مرة أخري إلي حيث بدأت معكم هذه المقالة مستعرضاً هذه المرة الموقف الحالي في مجال تعليم العمارة. ظللت لعدة عقود تجاوزت الأربعة أعيش فيه و أتعايش معه عن قرب. أنظر لصورته من الداخل من كافة أنحاءها كعضو فاعل مشارك فيها. أيضاً من خارجها كمراقب متأمل في مخرجاته من خلال تفاعلي مع الخريجين و معايشتي لواقعهم. ثمة تطور مهم أضاف لهذه التجربة أبعاداً أخري. هو انفتاحي قبل أكثر من عامين على بعض منصات التواصل الاجتماعي مثل ال Facebook وألLinkedIn. التي استفدت جداً من تغذيتها الراجعة من خلال تفاعل متصفحيها و تعليقاتهم النيرة المثمرة. كشفت لي الكثير مما كان خافي علي. على وجه التحديد ضعف مستوي إلمام تلك الشرائح المهمة بالذات الشباب منهم بقضايا جوهرية. الذي استشفيت منه الكثير مما عزز من قناعات ترسخت في ذهني من خلال تتبعي لمسيرة تعليم العمارة عندنا. خلال حقبة متطاولة من الزمان. أتاحت لي فرصة تتبع مسيرتها برصد تجارب الجامعات الحكومية و الخاصة. تجربة متطاولة كنت فيها في قلب الحدث أو راقبته عن قرب. هي التي بنيت عليها إفاداتي و أحكامي التي ضمنتها في مطلع هذه المقالة. الموقف في بعض جوانبه التي أشرت إليها هنا لا يسر عدو أو صليح. المزعج أن المشاركين فيه هم في قلب الحدث لا يحسون بموقفه المتأزم.
أعتقد أن مشكلتنا الرئيسة في مجال العمارة أننا لا زلنا نفكر بطريقة قديمة تجاوزها الزمن بأكثر من نصف قرن من الزمان. بطريقة حالة الخمسينيات عندما كان هناك تقارب شديد بين طريقة تفكير المعماري من يصمم له. عندما كان كلا الطرفين من شريحة مجتمعية متقاربة ثقافياً و مجتمعياً. كان جلهم من أواسط وشمال السودان و لا نريد أن نوقظ الفتنة مرة أخري. فنشجع من أصدروا من قبل الكتاب الصندوق الأسود الذي يوثق لظلم أهل الهامش مركزين على جهة محددة فندفعهم لإصدار الجزء الثاني. واقع الحال أن هناك تغيير كبير حدث في مجمل هذه الصورة و تفاصيلها بالنسبة لطرفي هذه المعادلة. صعد أهل الهامش في كل الطرفين. مثلا في المدن ما عادوا يحلمون بمجرد موطئي قدم في أطرافها. إذ تملكوا قطع أرض و أشتروا فيلات في أفخم أحيائها. في هذا السياق رُصدت حالات جديرة بالانتباه و الاهتمام. على سبيل المثال لفت نظري أحدهم اشتري فيلا الواضح أنه لم يجد نفسه في عمارتها كما يقول المتفلسفون. فركب فوقها عشة أو قطية من القش في محاولة مستميته لإبراز هويته. سمعت أيضا بحالة فيلا أخري ألت لأخد أثرياء أهل الهامش في طرف فنائها حوض سباحة صغير. قام بتغطيته بالكامل بكُرنك و هو مبنى كبير من القش مستطيل الخارطة. حالات عديدة تقدم نفسها كموضوع ثري للبحث تنظر في الانعكاسات الثقافو-مجنمعية الناتجة عن متغيرات اقتصادية. الأمر برمته يدعو لتدارك هذا الواقع بحكمة و حنكة و مراجعة العديد من سياساتنا. الخطوة الأولى تبدأ بإعادة النظر في بعض مفاهيمنا الراسخة. على أن تكون ضربة البداية بأمر تعليم العمارة أملاً في مستقبل أكثر إشراقاً.
أس البلاء في نظام تعليم العمارة تمسكه و اعتصامه بفكر الحداثة الذي تجاوزه الزمن بعد أن إنتاشنته السهام في ديار مولده. إذ لا زال هو المسيطر على المشهد فيها. مع تجاهل للمتغيرات التي تحدث من حولنا التي أشرت لبعضها هنا. واحد من أهم أساسيات استراتيجيتهم التبخيس من قيمة العمارة المحلية لأهلنا المنتشرين في أرجاء البلاد. حاولت بعد رجوعي من البعثة في نهاية الثمانينيات أن أكسر طوق هذا الحصار. فدرست طلابي عرفتهم على جوانب من عمارة القبائل مشيراً لما تتضمنه من حكم بالغة. مما غير نوعاً ما من نظرتهم السلبية نحوها و نحو صناعها. ركزت فيها علي عمارة قري النوبيين الشماليين التي صارت لاحقاً موضة في فيلات أثرياء المدينة في أحيائهم الطرفية. نجحت أيضاً في أن أستعرض معهم عبقرية عمارة خيام أهلنا الرحل مثل البجا و الرشايدة. حاولت من خلال تلك المحاضرات أن أحقن المقررات بجرعات من الأنثرولوجيأ في محاولة لأنسنة المناهج. فك إسارها بتحريرها من قبضة الفكر العلماني و هيمنة أفكار عمارة الحداثة لا يعني أن نفك الطلاب كما يقول المثل، عكس الهوا. يمكن أن نوفر لهم ملازات أمنة في رحاب توجهات بديلة. مثل براحات توجه ما- بعد- الحداثة الرحبة. فمدارسه المتعددة التي أشرت لبعضها هنا تقدم خيارات تسع الجميع. التي سنجد فيها دائماً ما يتوافق مع أي مجموعة ثقافية نتعامل معها. على أن لا نتحيز لمدرسة واحدة في كل الحالات. تعدد المدارس هنا هو سر اللعبة الذي يمكننا من التعامل مع ظاهرة التعددية الثقافية و المجتمعية لشعبنا.
الخطوة الأولي لإصلاح مسار تعليم العمارة تبدأ بمراجعة مقرراتها. التي ظلت في أغلب الحالات بدون مراجعات تذكر. أركز هنا على واحد من مكونات مناهجها له مردود مهم يشكل محور موضوع هذه المقالة. يظهر باسم تاريخ نظرية العمارة لكن تطبيقه في أغلب الحالات لا يلتزم باسمه بالكامل ليعبر عنه بصدق. يٌختزل فيتم الاكتفاء بالجزء الثاني. تدرس المقررات باعتبارها تغطي مجموعة أنواع مباني متتابعة تاريخياً. بدون محاولة للتعرف بعمق على علاقة سماتها في كل حقبة بما يحدث فيها. مع أن هذا هو لب الموضوع و سر العمارة بالغ الأهمية. هذا هو الهدف الأساسي من تضمين هذا المقرر كمكون أساسي في تعليم العمارة. أس البلاء و سبب إفراغ هذا المقررات من معناها و قيمتها هو إلى حد بعيد في من يدرسونها. تخصصات أغلبهم لا علاقة له بهذا المكون. بعضهم فرض نفسه عليه بالعافية فصار اختصاصياً مستغلاً غياب الساحة من أهلها. أحدهم في أهم كليات العمارة نزح إليها من تخصص علوم المناخ فنصب نفسه اختصاصيا في المجال. تعامل معه بقانون وضع اليد السائد بيننا. الذي يمنح كل من زرع أرضاً في الخلاء الفسيح لمدة متطاولة بدونه أن ينازعه فيها أحد أن يتملكها بالقانون. زميلنا فعل ذلك في غفلة من الدهر فاستخرج له شهادة بحث. تجاوز مجال التدريس لفضاءات التوثيق أذ صار يؤلف كتباً في هذا المجال.
نظرة سريعة لما يجري في هذا المجال تكشف لنا مما يحدث فيه من خلل. منها تعامله السطحي مع العمارة الكلاسيكية و التاريخية مما يفرغها من المعاني السامية التي تزخر بها. على وجه التحديد تلك التي تشكل جزئاً مفصلياً من تراثنا و هويتنا. نفتقد أيضاً أي إشارة لعمارتنا المحلية مثل لتلك الخاصة بالنوبيين الشماليين التي احتفت بها أوساط كثيرة من خارج بلادنا. يعتذرون عن ضعف تغطية حالة السودان بندرة المراجع. مع أنهم لو كانوا حقاً مختصين في هذا المجال لأنتجوها مساهمة منهم لسد هذا النقص. تجاوزت إسقاطات أفق الأساتذة المحدود مجال العمارة السودانية. إذ ألقت بظلالها السالبة على نطاقها العالمي في الأزمنة الحديثة. حيث نجد القصور سيد الموقف مخلفاً عواقب مؤثرة. فهناك تركيز و شبه انفراد لتوجه الحداثة ضيق الأفق. واحد من أسبابه أن عدد مقدر ممن يدرسون هذه المقررات مختصون في مجالات لا علاقة لها بها. لا تؤهلهم للتجاسر و اكتشاف التطورات في مجالها للتعرف على أخر مستجداته. التي وضعت توجه الحداثة الذي يقدسونه في كف عفريت فدفعت في مقدمة الساحة في صدارتها بتوجهات و طرازات بديلة أخري. هذا الوضع العجيب المتأزم هو الذي جعلنا أسري مفاهيم الحداثة التي تجاوزها الزمن.
الخدمة المعمقة متمددة الأفاق من خلال مقررات مكون تاريخ نظرية العمارة من شأنها تعد الخريج بشكل جيد. للاضطلاع بأدوار مهمة في مقبل سنواته. سترفع من إحساسه بمستوي عالي بأهل بلاده في المدن و سكان البادية. سيستفيد يستثمر في معرفته العميقة بهم و انفتاحه على أفاق معمارية رحبة. التي ستحصنه تحميه من فخ الاستلاب الحضاري تمكنه من ابتداع حلول معمارية عبقرية. حالة أعتقد أنني وصلت فيها إلى درجة معقولة من الاستيعاب. جعلني أري أمكانية تبني توجهات عالمية جيدة التأسيس و استنساخها بتصرف لمجموعات سودانية. على سبيل المثال أفكار أعمال مايكل قريقث الضاجة بالألوان بناءً على شواهد عديدة و قد تلائم بعض قبائلنا ذات الجذور الأفريقانية القوية. من ناحية ثانية قد تلائم توجهات طراز الأرت ديكو مع بعض التصرف مزاج أهلنا نوبة الشمال المولعون بالزخارف. نفس التوجه مع ترويض ذكي يمكن أن يجد هوي عند السواكنية الذي عاشوا في حضن تراث مدينتهم الزاخرة بالزخارف. جيران النوبيين النيلين جنوب موطنهم من القبائل العربية الذين يتسم مزاجهم بتحفظ نحو الألوان الصارخة قد تلائمهم سمات عمارة الحداثة التي تتوافق معه. هذه مجرد أمثلة عابرة جالت بخيالي. أري أن تبنيها يبعدنا من فخ الاستلاب الحضاري الغير محبذ. يمكننا أيضا من الاستثمار في التراث العالمي بذكاء و تصرف لصالح قبائلنا السودانية. فنخلق شراكة ذكية تغنينا عن الحساسية الزائدة عند الحد الغير مبررة نحو كل ما غربي أو مستورد.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب