حوار الكاميرا والعمارة: جاك إشخانيص في فيلا نورما كافوري
تقع فيلا نورما كافوري في الطرف الجنوبي من حي كوبر في موقع ممتاز مقابل ومطل على النيل الأزرق. قام بتصميمها المعماري السوداني ذو الأصول الأرمنية جاك إشخانيص وشيدت في نهاية التسعينيات. يمثل هذا العمل منعطف مهم ونقطة تحول جديرة بالانتباه والاهتمام. ليس فقط بالنسبة لمسيرته هو لكن بالنسبة لمسيرة العمارة السودانية المعاصرة. نحن هنا بلا أدنى شك نتحدث ونشير لعمارة ما- بعد- الحداثة. سأشير هنا فقط لبعض جوانب هذا العمل المعماري بالغ التميز نسبة لمردودها الملموس. قبل ذلك من الأوفق تسليط بعض الضوء على المصمم. الذي جمعتني به صداقة عميقة لفترة طويلة مكنتني من الاقتراب منه بشكل لصيق. في علاقة جعلتنا دائماً في حالة حوار متصل. عليه، أجد نفسي هنا في موقف جيد يسمح لي بالإشارة لجوانب من شخصيته وخلفيته وإمكانياته ومقدراته المهولة. من أهم الأسباب التي جعلته يتبوأ مكانة عالية بين أقرانه المعماريين تنقله بسلاسة وحرية وأريحية عالية من طراز إلى طراز أخر. من المهم جدا أن نشير لان نجاحه في هذا المنحى لم يأتي من فراغ. إذ انه يرتكز على معرفة واسعة وثقافة عميقة نتجت عبر إبحار متصل في عوالم التراث. أعانه أيضاً في الإبحار بجدارة في تلك العوالم إحساس فني متقدم مقترن بمقدرات شخصية عالية وروح ابتكار جسورة. تجلى العديد مما أشرت إليه هنا في تصميم فيلا نورما كافوري التي نحن الآن بصدد استكشاف عالمها المدهش.
في المبتدأ وبطريقة غير تقليدية نبدأ استعراضنا بخلفية قصيرة عن صاحبة الفيلا. التي من الواضح أنه كان لها دوراً مؤثراً في صياغة هذا العمل المعماري بالغ التميز. قابلتها في أكثر من مرة لكن لا أدعى انى عرفتها عن قرب أو بالعمق الكافي للحكم عليها بشكل قاطع. لكنني تمكنت من جمع معلومات مفيدة عنها من مصادر أخرى. جزورها وأصول أسرتها متنوعة وتتمدد في أكثر من أتجاه في الشرق الأوسط وجنوب أوربا. بعضها حسب إفادتها يذهب بعيداً لجنوب فرنسا وهو أمر مهم ومؤثر سنعود إليه لاحقاً. ارتبطت في مرحلة من حياتها بأسرة بالغة الثراء كانت تملك مساحات شاسعة في منطقة كوبر وكافوري. زرت السيدة نورما أكثر من مرة في فيلتها المثيرة للدهشة. وجدت صاحبتها بنفس القدر أكثر إثارة للدهشة. بعض من جوانب شخصيتها تجعلني أصنفها وفق معاييرنا التقليدية بأنها إلى حد ما غريبة الأطوار. العديد من تفاصيل حياتها وأركان بيتها تدل على اهتمامها الفائق بالأعمال الفنية والمتعلقات تراثية الطابع. يبدو إن مثل هذه الاهتمامات هي واحدة من العوامل التي جعلتها تختار جاك لتصميم فيلتها الأمر الذي صادف هوى في نفسه. لعل من أهم أسباب حماسه لهذا العمل ميولها ونزعتها لتقبل للأفكار الجديدة والغريبة. التي فتحت له الباب على مصراعيه للإبداع بلا حدود فمضى فيه إلى أخر الشوط. كانت النتيجة في النهاية مدهشة ومبهرة للغاية. أعترف بأنها وقعت في غرام هذا العمل المعماري من أول نظرة ولا زال يدهشني كلما زرته. مما دفعني لكي أجعله محجة لفترة طويلة مضت درجت دائماً على اصطحاب طلابي وبعض الزوار الأجانب لزيارتها. اصطحبت مرة قبل عقدين من الزمان نخبة من رؤساء الجمعيات المعمارية في عدة دول أفريقية لزيارة الفيلا. عند حللنا بربوعها أخذتهم الدهشة والانبهار لدرجة إنني لم أستطع السيطرة عليهم لتنظيم الزيارة وفق البرنامج.
ثمة جوانب محددة استوقفتني وأمسكت بتلابيبي وأنا أشاهد هذا العمل المعماري أول مرة ومرات أخرى متعاقبة. أولا تصميمه المتفرد متنوع الطرازات الذي سأتناوله بشئى من التفصيل لاحقاً. ثانياً نظام مداخله المحيرة مزدوجة الأنواع. إذ أن الفيلا تبدو لكأنها تدير ظهرها للمقبل نحوها و هو يدخل البيت من الشارع الواقع شماله. الواضح حسب التصميم أن مدخلها يفترض أن يكون من جهة الجنوب عبر مرسى صغير على ضفة النهر. الجانب الثالث الذي يميز التصميم هو الملامح الطرازية التراثية متنوعة المصادر المنثورة على صفحة واجهته الشمالية و الجنوبية. التي تبدو هنا شبيهة بتلك الغمازات أو (النونات) كما نسميها بالدراجة السودانية على وجه فتاة مليحة القسمات وضاحة المحيا. الجانب الثالث الذي لا يقل أهمية هو تلك الألوان الصارخة الضاجة بالرغم من تقاربها في الدائرة اللونية الشهيرة. هو أمر في غاية الأهمية عندما نتمعن في الجوانب الخفية المتعلقة به. نحتاج لبضع شروحات لإلقاء مزيد من الضوء على كل واحد من تلك الجوانب الأربعة.
معالجة واجهة الفيلا الشمالية التي يقبل عليها الناس من الشارع الداخلي في الحي تكاد تكون مصمتة. فهي قليلة المداخل و الفتحات نسبياً إذا قارناها بالجهة الجنوبية. لكن أهم ما يميزها من الناحية الطرازية العناصر تراثية الهوى الموزعة هنا و هناك. تلك المشربية الخشبية المشغولة بعناية فائقة المثبتة في نافذة الطابق الأول و تتصدر الجانب الغربي من الواجهة. من العناصر و الملامح التراثية هنا (البرامك) و هي أعمدة خرصانية صغيرة قصيرة شبيه بأرجل الأسرة التقليدية (العناقريب). ظهرت تاريخياً أول مرة في فيلات حضارة روما القديمة. نجدها هنا على حافة الشرفة أو البلكونة الطويلة و كحاجز في طرف السلم الصغير في وسط الواجهة. تحتشد المكونات تراثية الهوى المؤثرة رغم صغر حجمها في موضع أخر من الواجهة. تتركز أمام و تحت السلم الصغير الخارجي. وحدات صغيرة سكب فيها جاك نهر إبداعه و فنه المتدفق. تشكيلات بلاط تدخل فيها فبصم عليها برسومات من عنده. بالإضافة لوحدة (قريلات) معدنية عكست بعض تجلياته الإبداعية. مسك الختام هنا مفاجأة تجلت فيها أعلى آيات الابتكار و هي لوحة صغيرة توثق لتاريخ تشييد المبنى.
يبدو تنوع الطرازات جليا إذا قارنا الواجهة الجنوبية المطلة على النهر بالشمالية في الجانب الأخر. يتجلى هنا بشكل واضح في أكثر من جانب و له بعض مبررات مقنعة. فهذه الواجهة على عكس الشمالية محتشدة بالفتحات و النوافذ فهي منفتحة بشكل كبير على منظر النهر البديع. بالإضافة إلى ذلك تتسم بمزيد من الحيوية و ليست مسطحة كالواجهة شمالية. أهم ما يميزها الجزء الأوسط الذي تتصاعد فيه الحيوية إلى قمة مداها. إذ ترتد و تلتف في شكل حرف الليو الإنجليزي مكونة صحناً أو فناءً صغيراً. تضمه في حنو بالغ عارضة أو بيم معلقة في الهواء. أشبه بذراع المحبوب التي تلتف برفق حول كتف المحبوبة. تتوسطه (فسقية) أو نافورة بديعة متوشحه ببلاطات زينها جاك بتصاميمه المدهشة. تحف بها أحواض نباتات تحتضن أشجار نخيلة قزمة تفرد أفرعها في دلال بائن. الاهتمام الفائق بهذه الصحن لم ينشا من فراغ إذ يلتف حوله جزءً من الفيلا بطابقيها الأرضي و الأول. أحسن جاك في استثمار حيويته و جماله الفتان بأن جعله محط أنظار من هم في الطابق الأرضي عبر نوافذ عريضة متوجة بأقواس نصف دائرية. تصميم أجزاء الفيلا المحيطة به تكاد تخلو من الأبواب مما يوحى بانه أراد أن يجعلها منطقة شبه مقدسة لا تطأها الأقدام. أراد أن يجعل ذلك الصحن تحفة تمتع نظر المطلين عليها من أجزاء الفيلا المحيطة بها عبر نوافذ عريضة. تعود بنا فكرة ذلك الصحن إلى أزمنة كلاسيكية ضاربة في القدم. تحي فينا ذكريات حضارات عصور روما القديمة الزاهية التي دشنت فكرة الفيلا لأول مرة في تاريخ البشرية. أكمل جاك جميلهم بأن قدم بعض ملامحها هنا في ثوب عصري.
منطقة الصحن الصغير المرتد عن الواجهة هي بلا أدنى شك روح هذا العمل المعماري المتفرد و قلبه النابض. تعلقت بها نفسي بشكل يفوق التصور فعبرت عنها بطريقتي الخاصة عبر كاميرتي. لدى اعتقاد قوى متجذر أن للكاميرا المقتدرة الذكية مقدرة فائقة على إعادة اكتشاف العمارة. عبرت عن هذه الأفكار في مقدمة الجزء الخاص بأرشيفي في موقعي الإلكتروني. في تجوالي حول الفيلا كما النحلة التي تحوم حول زهرة متفتحة نضرة فتانة كنت دائما أتسمر أمام و داخل ذلك الصحن الصغير. تقودني كاميرتي في حالة مناجاة يشدني فيها سحر العمارة بقوة خفية جاذبة. تجعلني أتدحرج على الأرض في حركة لا شعورية متصلة أبحث كل مرة عن لقطة أكثر سحراً و تعبيراً و القاً. في حالة شبيه بذلك الدرويش الذي يصل إلى أعلى حالات الوجد و الانجذاب الصوفي عندما يشتد قرع النوبة و يصل غاية مداه. أعترف بأن مثل هذه الحالة هي التي أوحت إلى بفكرة سلسلة من المقالات القصيرة نوعاً ما المعززة بعدد من الصور و هذه واحدة منها. ستظهر إن شاء الله تباعاً و عنوانها الرئيس: حوار الكاميرا و العمارة. سأتناول فيها في كل مرة واحداً من أميز أعمال العمارة السودانية عبر مراحلها و أجناسها المتعددة.
ثمة جانب طرازي مهم يجب الإشارة إليه في إطار استعراض تصميم الواجهة الجنوبية للفيلا. حاول المصمم كسر جمود و رتابة المعالجة الحداثية التي تسود فيها الخطوط المستقيمة و الزوايا القائمة. أدخل عناصر خففت منها بعضها مؤغل في الكلاسيكية. واحد منها تلك النوافذ العريضة نصف دائرية الشكل. التي جاء توظيفها هنا مبرراً للغاية إذ أتاحت إطلالة سخية على النهر. من ناحية أخرى استعان جاك بمخزون الإرث الكلاسيكي الروماني لحضارة روما القديمة. الذي ترك بصماته عند استعمارها لأجزاء في الشمال الأفريقي. أعمدة صغيرة مفرطة في الكلاسيكية منمنمة السمات بالغة الأناقة. جلب جاك فكرتها خلال فترة عمله في تونس في أول مراحل مسيرته المعمارية. كواحد من أسباب تميزه على أقرانه الاستشاريين المعماريين نجح في إعادة إنتاجها بدرجة عالية من الإتقان في وحدة تابعة لمكتبه. وزعها هنا بحصافة في أرجاء الواجهة الجنوبية. ترتكز بعضها في أركان وحدات الطابق الأول و بعضها الأخر موزع في جوانب من الطابق الأرضي. نجح جاك في استثمار النوافذ العريضة نصف دائرية الشكل و تلك الأعمدة الكلاسيكية الصغيرة بطريقة أخرى ذكية. إذ جعلها عنصر وحدة لملمت أطراف الواجهة متعددة العناصر الطرازية. تبدو تلك الأعمدة هنا لكأنها أوتاد تثبت أركان الفيلا.
أعود مرة أخرى لتناول و استكشاف بعض جوانب هذا العمل المعماري المتفرد. أهم ما استوقفني فيه أن هذا التصميم يبدو لكأنه موضوع بالمقلوب. فالمقبل نحو الفيلا من الشارع الداخلي في الحي تقابله بالجزء الشمالي الخلفي منها أي ب (قفاهأ) كما نقول نحن بلغتنا الدارجة. كما أسلفنا القول من قبل من يتوغل داخل موقعها فيصل لعمقها و يستشرف جانبها الجنوبي يشعر بانه هو واجهة الفيلا الرئيسة. بناءً على الاهتمام الكبير بتصميمها و انفتاحها الكبير على ما حولها. يبدو إن التصميم تم على أساس أن الوصول إليها سيتم عبر النهر و بوسائطه و مواعينه المتعددة لمرسى صغير خاص بها. كان هذا هو الوضع الطبيعي المتوقع خلال فترة التسعينات التي ازدهرت فيها الحالة الاقتصادية. فسمحت بتشييد مثل هذه الفيلات الفارهة الأنيقة على ضفاف النهر. التي كان من المتوقع أن تكون الواجهة النهرية المقابلة لها مصطخبة حيوية بحركة (اللنشات) و المراكب الشراعية التي يتقاطع معها من يركبون الأمواج بشتى الطرق. لكن شاءت الأقدار أن يوالى الاقتصاد بمرور السنوات و العقود من الزمان انحداره. تلاشت مع تدهوره المريع العديد من الأحلام الوردية مثل تلك التي أشرت إليها هنا.
نعود مرة أخرى لبعض جوانب هذا العمل المعماري المتفرد. لنستعرض واحد منها احسب انه ذو أهمية خاصة لارتباطه بمسائل ذات صلة بمنعطف مهم في مسيرة عمارتنا الحالية. بالرغم من أن العديد منكم قد يختلف مع رؤيتي لهذا الأمر و يعتبره شأناً ثانوياً يتعامل مع جانب سطحي من العمارة. أشير هنا بالتحديد لألوان الفيلا الصارخة التي ينافس فيها الأصفر اللون الأحمر المتسيد للموقف. منظومة لونية جعلت العديد من الناس يطلق على هذه الفيلا اسم الماكدولاند. في إشارة لمجموعة المطاعم الشهيرة في أوربا و دول الخليج العربي المتخصصة في الوجبات الجاهزة أو السريعة. أو ال fast food كما تعرف باللغة الإنجليزية. كان لصاحبة الفيلا دور مؤثر في اختيار هذه المنظومة اللونية التي نفذتها خلال فترة غياب جاك خارج البلاد. تمسكت بها لاحقاً بإصرار بالرغم من تحفظه عليها عند عودته. دافعت بشدة عن قرارها متعللة بأنها منظومة شائعة و محببة في موطن بعض إسلافها في جنوب فرنسا. أضع أكثر من خط تحت الجزئية المتعلقة بهذه الواقعة لما لها من دلالات مهمة سأشير إليها لاحقاً.
أنظر و أتأمل بعمق في هذه الحالة المعمارية بالغة التميز في إطار علاقة صاحبة الفيلا الخاصة جداً بمصممها. أيضاً في سياق مجريات عالمية مؤثرة كان مركزها في الجزء الغربي منه. بدأت في مطلع عقد السبعينات تذلذل مسيرة العمارة مهددة عرش الحداثة. مضت مسيرتها القاصدة بعد ذلك و تنامت في وتيرة مضطردة. كان جلنا نحن المعماريين هنا زمانئذ في سبات عميق. على غير تلك الصورة العامة كان جاك خلال فترة التسعينات مهيا بحق لاستيعاب المتغيرات الجديدة. مُعزز بخلفيته الزاخرة بالمخزون التراثي الذي تشرب به بعمق. متسلحاً بمقدراته فنية عالية جداً و إحساس فني رفيع و روح ابتكار طامحة جامحة. التقت هذه الخلفية الثرية و المقدرات المهولة مع تشوق نورما كافوري و رغبتها العارمة في إنتاج عمل بالغ التميز. فأنتجت هذه الكيمياء فيلتها الفريدة المتكئة بوداعة فائقة على ضفاف النيل الأزرق. لتنتج عملاً وضع نفسه في خانة واحد من طرازات شكلت منظومة توجه ظهر كمنافس خطير لتيار الحداثة.
ظهر في الغرب الأوربي في مطلع السبعينات بوادر تيار عريض استثمر في نقاط ضعف فكر و طراز عمارة الحداثة. الذي بدأت مظاهر الشيخوخة تدب في أوصاله زمانئذ. كمفهوم بديل أطلق على هذا التيار اسم ما- بعد- الحداثة. تفرع في عدة اتجاهات مستهدفاً في كل واحد منها جوانب ضعف الحداثة محاولاً تجاوزها بإتباع نهج بديل مبتكر. فأنتجت هذه العملية عدة مدارس أو طرازات فرعية متميزة. مضت المسيرة في اتجاه كل واحد منها في العالم الغربي و نواحي أخرى من العالم. بخطى حثيثة مؤسسة على فهم جديد للعمارة. وجد جاك بخلفياته الثرية و مقدراته المهولة نفسه في عقد التسعينات في خضم تلك الأمواج من المتغيرات العارمة. فابتداء في السباحة فيها بمهارة فائقة في بحرها الواسع متنقلاً برشاقة من رحاب طراز إلى الأخر. جرب نفسه و ادخل مقدراته في عدة تحديات. ظهر في عدة حالات قدم نفسه فيها كل مرة في إطار واحدة من تلك الطرازات المشار إليها هنا. من خلال معرفتي العميقة به ومتابعتي اللصيقة لأعماله تعرضت لهذه الظاهرة في العديد من مقالاتي. براعته في التنقل بجدارة بين تلك الطرازات جعلتني حسب تقييمي أو تقويمي له أنصبه كعراب لحركة ما- بعد- الحداثة السودانية. المظلة التي انضوت تحت لوائها تلك المدارس و الطرازات. في هذا السياق دعوني أتوقف و اعود مرة أخرى لحالة فيلا نورما كافوري باعتبارها تمثل نموذجاً لواحد من الطرازات المشار إليها هنا.
عندما عدت للسودان في نهاية الثمانينات تواصلت مع جاك الذي كانت تربطني به صلات من قبل. اقتربت منه محاولاً رصد خطوات مسيرته المعمارية. فلمست فيه و فيها بوادر تمرد على فكر و نهج الحداثة. واقع الحال إنني ما كنت أتوقع أن يظل رهن إسارها لفترة طويلة. معرفتي بتشربه العميق بالتراث و طاقاته و إحساسه الفني المتقدم و روح ابتكاره العالية جعلتني موقناً بانه سيتحرر من قيودها. حدث ذلك فعلاَ تدريجياً في مرحلة تحور طرازي ظهرت بوادرها مع بداية التسعينات. دشنها لاحقاً في أعمال غازل فيها التراث المعماري بشتى أجناسه. كان حينها موزع الهوى بين إرث بيوت النوبة في شمال السودان و تراث عمارة سواكن في شرق بلادنا. تنكبه لتلك الدروب وضعه في إطار أكثر من طراز في فضاءات توجه ما- بعد- الحداثة. نهاية التسعينيات منحته فرصة ذهبية في قطعة أرض لفيلا على ضفاف النيل الأزرق. منحته معها عميلة أو (زبونة) بروح متمردة على الأنماط المألوفة. فشكلا معاً ثنائية أنتجت ذلك العمل المعماري المتفرد فيلا نورما كافوري التي أشرنا إليها من قبل. فحلق جاك فيها عالياً في فضاءات مدرسة أو طراز ما يعرف بالكلاسيكية الراجعة. لم يكتف بذلك القدر. تجاوباً مع بعض رغبات و توجهات صاحبة الفيلا غازل من طرف خفي مدرسة أخرى من توجه ما- بعد- الحداثة. فيض اللونين الأحمر و الأصفر وضع أمشاط ذلك العمل المعماري على أطراف مدرسة المحلية الراجعة. تعرف باللغة الإنجليزية باسم ال neo-vernacular. حقق ذلك الهدف و الفتح هنا باقتراب تصميم الفيلا من أنماط بيوت جنوب فرنسا التقليدية.
مظلة مدرسة المحلية الراجعة واسعة و مترامية الأطراف. على سبيل المثال في مجال الأسكان عندنا في السودان يمكن أن تشمل نوعية البيوت التي ارتبطت بفترة الحكم الثنائي البريطاني المصري. التي يشار إليها بالطراز (الكولونيال) و باللغة الإنجليزية ال colonial style. مظلة هذه المدرسة تتمدد لتشمل نماذج أخرى ليست بالضرورة حضرية الطابع. على سبيل المثال عندنا هنا في السودان نموذج رائع للغاية. ارتبط ببيوت قرى النوبيين الشماليين التقليدية التي كانت تصطف على ضفاف النهر في أقصى شمال البلاد. اشتهرت بمكونات و ملامح و سمات بالغة التميز منحتها بصمة بائنة. تجاوزت مظهرها الخارجي البديع إلى جوانب مهمة من خارطتها. عمارة محلية شكلت لاحقا لجاك إشخانيص مرجعية أساسية و واحدة من أهم مصادر إلهامه. تجلت في عدد من أعماله المعمارية التي أنجزها في بداية هذه الألفية. تعامل فيها مع مدرسة المحلية الراجعة بعمق أكثر من حالة فيلا نورما كافوري. مثل هذه التوجهات و غيرها أخرى لا تقل أهمية ذهب فيها لأفاق أبعد هي دعتني لتنصيبه عراباً لعمارة ما- بعد-الحداثة السودانية.
تبنى المعماري لفكر مدرسة المحلية الراجعة إذا أسس على فهم عميق و روح ابتكارية عالية تجنبه شرور النقل الحرفي يمكن أن يحقق أهدافاً سامية. فهو سيعمل بطريقة غير مباشرة على نشر التراث و الترويج له. سيعمل أيضاً على بث الإحساس بالاعتزاز في نفوس المجموعات الأثنية أو القبلية التي صار تراثها مصدر إلهام لأعمال معمارية مهمة و مرموقة. لاحظت امر أخر في غاية الأهمية رصدته من خلال متابعتي لردود أفعال عامة الناس نحو بعض أعمال جاك المميزة. رصدته في التفاعل الإيجابي ممن هم ليسوا بنوبيين مع بعض أعماله المستلهمة من التراث النوبي. مثل هذه الظاهرة بلا شك من شأنها أن تعزز الوحدة الوطنية. هناك هدف في هذا السياق أعتبره هو الأهم. المتمثل في عملية تقرب المعماري للأعمال التراثية و التعمق فيها و استيعابها لدرجة توظيفها كمصدر إلهام له. أهميتها القصوى هنا نابعة في أنها ستجعله ينزل من برجه العاجي الوهمي إلى عوالم الناس البسطاء التي تنضح حكمة. بذلك تصبح عمارة المنتجة عبر هذه العملية هي نقط التقاء بجماهير شعبه.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
امدرمان- فبراير 2020
Beautifully Written
Most people look but they don’t see
You see in depth
You read the mind and see the vision of the architect
Many thanks
Jack
مرحبًا ، أنا ممتن للغاية بعد البحث ووجدت بعض المقالات المثيرة للاهتمام على هذا الموقع ، استمر في الكتابة وبعد ذلك سأعود مرة أخرى لمشاهدة أحدث مشاركاتك .. شكرا لهذه المعلومات