حوار الكاميرا و العمارة: مرتضى معاذ في مركز النفط الفني
في نهايات القرن الماضي أي في تسعينياته شد انتباهي وأنا امر في شارع أفريقيا و قبالة مطار الخرطوم مبنى غريب في شكله و ملامحه. شاركني في هذا الشعور نفر من الأصدقاء و المعارف بعضهم ليسوا بمعماريين. المبنى الذي أعنيه هو المركز الفني للنفط التابع لشركة سودابت الحكومية. التي اكتسبت أهمية عالية مع الاكتشافات الكبيرة في مجال النفط في تلك الحقبة الزمانية. استوقفني المبنى فاقتربت منه و لاحقاً تجولت داخله و تعرفت على من يديرون العمل فيه و على طبيعة عملهم. توغلي داخل المبنى رفع من درجة انتباهي لهذا العمل المعماري و إعجابي به كما سأوضح لاحقا. زاد من فرط اهتمامي و فضولي هنا أن المصمم كان اوانئذ من زمرة الشباب و في أوائل سني مسيرته المعمارية. لم يكن من الأساتذة الكبار أو زملائنا الاستشاريين أصحاب المكاتب المعروفة. لم يكن معروفاً بالنسبة لي من واقع معرفتي بالخريجين الذين درستهم بقسم العمارة بجامعة الخرطوم لأنه لم يكن من خرجيها. هذا جانب مهم سأعود إليه مرة أخرى لاحقاً. استرعى هذا العمل المعماري انتباهي اوانئذ فتفاعلت معه على نحو معين. سطرت عنه مقالة استعرضت فيها بعض جوانبه نشرت في صحيفة يومية كنت أكتب فيها بشكل راتب.
لفتت نظري عدة جوانب و ملامح في هذا العمل المعماري فوقعت في حبه من النظرة الأولى. هذه بالمناسبة خاصية و ميزة مهمة بالنسبة للجهة صاحبة المبنى التي ترغب في لفت النظر لطبيعة عملها و الترويج له. واقع الحال كان هذا الأمر كان وارداً و مهما جداً ليس فقط بالنسبة لهذه الشركة. لكن لنظام ثورة الإنقاذ التي تتبع له خلال تلك المرحلة التاريخية المفصلية الأولى من فترة حكمه. التي كان محتاجاً فيها للإعلان عن واحداً من أبرز إنجازاته المدوية التي ارتبطت بالاستكشافات و الاستثمارات النفطية. عليه كان من المهم أن يكون هذا المبنى على نحو ما لافتاً للنظر. استرعت انتباهي عدة جوانب في شكله العام و ملامحه المتميزة. أولها خروجه عن المألوف إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة عمله الرسمية و الجادة المعنية بشكل أساسي بالتدريب. فالمتوقع هنا في مثل هذه الحالات التقيد بالأشكال المكعبة و الخطوط المستقيمة و الزوايا القائمة. في اتساق مع نهج عمارة الحداثة الذي تسيد الموقف خلال تلك الحقبة الزمانية. من أهم ما لفت انتباهي أيضاً في هذا العمل المعماري هو خامة تشطيباته الخارجية التي كانت على حد ما جديدة نسبياً زمانئذ و قليلة الانتشار. بالإضافة لتلك الجوانب استرعى فضولي فيه ملمح جديد لم نعتد عليه في مثل هذا النوع من المباني. هي تلك المظلة غريبة الشكل التي تكلل منطقة مدخله الرئيس من شارع أفريقيا و هو من أهم الشوارع في ذلك الجانب من العاصمة.
من ناحية الشكل العام يبدو المبنى ككتلة واحدة. لكنه داخليا مثقوب في وسطه الذي يحتله فراغ معروش يرتفع لطابقين هي ارتفاع المبنى. يشار إليه بالصحن الوسطى إذ تلتف حوله مكونات المبنى و حجراته في الطابق الأرضي و الأول. ربَطت رؤيتي و تقييمي له بدلالات مؤثرة سأشير لها لاحقاً. تم كسر جمود شكل المكعب الكبير بارتداد عميق في الجزء الأوسط المقابل لشارع أفريقيا يحتضن مدخل المبنى الرئيس. دوره الأساسي كمؤشر للمدخل معزز بمعالجات تصميمية ذكية للغاية. فخارطة أحد الحيطان المحيطة به نصف دائرية. شكلها الانسيابي الذي يحيط به يحتضن المقبلين عليه لكأنه يستدرجهم و يأخذهم برفق داخله. تصميم منطقة المدخل بهذه الطريقة المفعمة بالحيوية يساهم كثيراً في كسر جمود شكل المبنى العام المكعب. مما يمنح العمارة لمسة من الحميمية التي حرص المصمم على تعزيزها في جوانب أخرى تبدو منطقية و مبررة. ثمة معالجات إضافية أخرى متميزة قوت من توظيف منطقة الارتداد كمؤشر مهم للمدخل. إذ ثُبتت فوقها مظلة مبتكرة التصميم. مفتوحة مكونة من شبكة معدنية من المواسير الصغيرة المجوفة التي تلتقي مكونة تشكيلات هندسية بديعة. الغريب في الأمر أنها مظلة بدون طبقة عرش أو غطاء. عدم وجوده يقلل من أدوارها الأساسية فيجعلها رمزية المعنى تعمل كمؤشر لافت للنظر للمدخل الرئيس. بالإضافة لأهداف أخرى سنتطرق لها لاحقاً.
من الضرورة التوقف قليلا عند فكرة و نظام هذه المظلة الطائرة نسبة لما لها من دلالات مؤثرة. ظهر نظامها الإنشائي كفتح جديد بالغ الأهمية في زمان الحداثة كاختراق مؤثر في عالم إنشاءات المباني. أهميتها نابعة من المقدرات العالية لشبكاتها. المكونة من أنابيب معدنية مجوفة صغيرة القطر خفيفة الوزن تتقاطع مكونة أشكال هندسية مدهشة. المدهش أكثر مقدرتها العالية جداً على حمل عروش تتمدد فوق مساحات شاسعة بدون أعمدة وسطية. لهذا السبب سميت بالإنشاءات الفضائية و باللغة الإنجليزية أل space structures. حضورها المرفرف فوق منطقة المدخل الرئيس له دلالات و مؤشرات رمزية عميقة تتجاوز الاحتياجات البيولوجية المعروفة. شكلها المفتوح يحرمها من أداء أدوارها الأساسية كواقي من المطر و أشعة الشمس. مما يعنى أن فهم المصمم تجاوز تلك الاحتياجات البديهية فرؤيته كانت أعمق من ذلك. عبر عنها بتوظيفها هنا كرمز لفتح جديد في إنشاءات المباني. فجعلها تتصدر واجهة مبنى أرتبط بمؤسسة تلعب دور أساسي في تحريك الصناعة و التنمية في البلاد. أعتقد أنه في هذا السياق كان للمصمم أهداف أخرى أكثر عمقاً. فتلك الأنابيب المعدنية المجوفة بأحجامها و مقاساتها المتعددة تشكل أساس بيئة عمل المتدربين في مواقع التنقيب النائية التي يقضون فيها أزمان متطاولة. تطرز أفقها فتشكل جزءً طاغياً من عالمهم هناك. عليه يكون لوجود المظلة المرفرفة في واجهة المبنى بأنابيبها المكشوفة دلالات رمزية لا يمكن تجاهلها.
لكأني بالمصمم هنا أراد يكسر من حدة الوجود المعدني المحدود في تلك المظلة بعنصر كبير متمدد من خامة طبيعية المنشأ. فالمبنى بكامله مغلف خارجياً بنوع من الطوب الأحمر اسمه الصحيح الطوب الألى. ترجمة حرفية لاسمه باللغة الإنجليزية و هو أل mechanical bricks. لان الآلة تستخدم في تصنيعه بالرغم أن خامته الأساسية هي التراب. نعرفه في السودان بواحد من أسمين طوب عطبرة أو طوب السكة حديد. لجاء إليه المصمم مخالفاً لقاعدة ذهبية للتشطيبات الخارجية للمباني المهمة شاعت في تلك الفترة عند منعطف القرن. إذ اجتاحت أفق المدائن زمانئذ و توشحت واجهات المباني المهمة في حالة أشبه بالوباء بألواح معدنية شبيه بالألومنيوم. في جرأة يحسد عليها خالف مرتضى معاذ هذ القاعدة فلجأ لخيار الطوب الألى. الذي منح العمارة بشكله المنساب في سلاسة و رقة و منظره و الملتمع ألقاً بائناً و وقاراً مميزاً. فوق هذا و ذاك أضفت هذا المادة البنائية المصنعة من التراب و الطين على العمارة أجواءً من الحميمية و الدفء. أحاسيس مهمة راهن عليها المصمم في أكثر من جزء من أجزاء المبنى كما سنوضح لاحقاً.
لم يكتف المصمم مرتضى معاذ بتلك المعالجات الخارجية التي منحت العمارة تميزاً بائناً و دفقا من الحيوية. توغل داخل المبنى و واصل تصميمه لأجزائه الداخلية معززا نفس تلك الأهداف و محققاً أخرى لا تقل عنها أهمية. أشير هنا على وجه التحديد لفكرة الصحن الداخلي الوسطى المعروش. التي كانت جديدة زمانئذ على هذا النوع من المباني مكتبية الطابع و المعنية بالتدريب. يشار إليها باللغة الإنجليزية باسم إل. atrium شاع استخدامها و ارتبطت على وجه الخصوص بتصميم مراكز التسوق المعروفة باسم المول. رصدت هذه الظاهرة أول مرة و لعلها أيضاً أخر مرة قبل بضعة عقود من الزمان في مبنى أداري مكتبي خاص بجهة مهمة إقليمية الطابع. تابعة لأحد المنظمات الأفريقية معنية بشأن مهم ظهرت أهميته حالياً لارتباطه بأزمة سد النهضة الأثيوبي. المبنى خاص بلجنة مياه النيل و موقعه جنوب السفارة المصرية بحي المقرن في الجزء الغربي من الخرطوم. الصحن الوسطى في هذا المبنى مختلف عن حالة مركز النفط لأنه مفتوح للسماء و غير معروش. تَبنى هذا الخيار زمانئذ نابع من عدم انتشار نظم تبريد و تكييف الهواء. لا اذكر إنني بعد تلك الحالة قد صادفت حالات مباني مكتبية أسست على نظام الصحن الوسطى. جسارة تبنى مرتضى لهذه الفكرة هنا تؤشر لجانب مهم في شخصيته و توجهه المعماري بشكل عام. سأعود إليه بشئى من التفصيل لاحقاً.
من أهم ملامح تصميم هذا المركز هي فكرة الصحن الوسطى الذي تلتف حوله مكونات الطابق الأرضي و الأول. بما في ذلك السلم شبه المفتوح المطل على الطابق الأرضي. استوعب التصميم في الجزء الأوسط من الطابق الأرضي منطقة الاستقبال المجاورة للمقصف أو البوفيه. تتوزع حولها مكاتب الأساتذة و المدربين والإدارة. فيما خصص الطابق الأول الأعلى لقاعات و فصول التدريب. هذا الترتيب جعل جزءً مقدراً من الطابق الأرضي منطقة تلاقى مهمة. الأمر الذي دفعني هنا لمحاولة البحث عن تفسير لسر الاهتمام بهذه الجزئية من التصميم ذات الأبعاد المجتمعية. فحاولت ربطها بنمط و إيقاع حياة هذه الشريحة من المتدربين. التي تذهب بهم ظروف عملهم لمدد زمانية متطاولة لمواقع نائية معزولة عن عوائلهم و عن الناس. نمط حياة يشكل ضغوطات نفسية عالية دعت الشركات العاملة في هذا المجال لاستعانة باختصاصيين نفسيين للعناية بتعقيداته. فكرة الصحن الوسطى و التعامل معه على هذا النحو تدل على حساسية عالية نحو خصوصية هذه الحالة. اجتهد من خلالها المصمم لتوفير فرصة طيبة لتلاقى من سيباعد بينهم إيقاع طبيعة العمل و ظروف أماكنه المنتشرة في أصقاع البلاد.
جوانب محددة متميزة في شخصية مرتضى معاذ و مسيرته المعمارية المتفردة تجسدت إلى حد بعيد في عمارة مركز النفط. رسختها في ذهني لاحقاً عدداً من أعماله اللافتة للانتباه. التي أردها إلى حد ما إلى دراسته للعمارة في الفلبين. أكثر ما استرعى فضولي في هذا العمل تعامله معه منذ بدايته بطريقة غير نمطية. فمثلاً بالنسبة لشكل المبنى العام رفض أن يستسلم للأنماط التقليدية للمباني المكتبية. خارطة مستطيلة متطاولة تنتج في النهاية شكل مكعب متطاول للغاية. شبيه إلى حد كبير باللوح الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بال slab. خيار متكرر يأتي بشكل أساسي استجابة لدواعي التهوية الطبيعية و تجنب أشعة الشمس المباشرة. هناك إصرار على التمسك به حرفياً بالرغم من انتشار وسائل التهوية و تكييف الهواء الحديثة. بدون كثير اهتمام لمطلوبات أخرى لا تقل أهمية تستدعى مراجعة التمسك بهذا الخيار الأوحد. ذهب تفكير مرتضى معاذ بعيدا فاستبدل نمط ذلك اللوح المتوارث بفكرة الصحن الوسطى. مستثمراً في هذه الحالة في مرودها المجتمعي الإيجابي. حسب ظني إنه فعل ذلك استشعاراً منه لأهميته لشريحة مستخدمي المركز من واقع نمط و تحديات حياتهم.
تمرده على المسلمات غير المقنعة التي وقع المعماريين في إسارها في تلك الحقبة تجلى في جانب أخر من عمارة مركز النفط الفني. ظهر بشكل جلى في اختياره لمادة تشطيب المبنى الخارجية. لأسباب مقنعة بالنسبة له و لي أنا شخصياً أبحر عكس التيار. فتبنى خيار الطوب الألى في فترة تسيد فيها الساحة التجليد بالألواح المعدنية. فقدم من خلال هذه الخامة النبيلة عملاً مترع بالدفء. تجاوز عقدة الألواح المعدنية فأنتج عمارة بالغة التفرد. الواضح من مراحل مسيرته المعمارية اللاحقة أن تعامله مع حالة مركز النفط لم تكن محض صدفة أو نزوة عابرة. تتبعت العديد من أعماله اللاحقة فلاحظت ثباتاً بائناً على هذه المبادئ الأصيلة. لعل من أهمها ذلك البرج متفرد الشكل و المضمون الخاص بنفس المؤسسة النفطية القومية و كان من قبل مقراً لبنك المال. الذي يحتل موقعاً مفتاحي على شارع عبيد ختم في الشريط المقابل لحى الرياض الخرطومي و الواقع غربه. تواترت بعد ذلك أعماله على نفس المنوال و بنفس الجرأة المحسوبة بدقة و عناية فائقة. أذكر منها بنك فيصل الإسلامي فرع جامعة الخرطوم المطل على الشارع المسمى باسمها. الأمثلة كثيرة تعرضت للعديد منها في مقالات سابقة بعضها مضمن في مواد موقعي الإلكتروني. سطرت بالتحديد واحدة منها بعنوان عمارة الشباب لاقت اهتماما مقدرا ممن يتابعون تلك المقالات.
قد يجد المرء بعض التفسيرات التي تبرر تنكب مرتضى معاذ و سيره في هذا الدرب المحفوف بالتحديات منذ بداية مسيرته المعمارية. الذي شق فيه عصا الطاعة على جملة مسلمات ورثناها بطريقة تلقائية مع نهج الحداثة. لا زلنا للأسف الشديد بالرغم تجاوز الزمن لبعضها نستعصم بها. تفسيري الأساسي لمواقفه الذي أرجو أن يكون مقنعاً هو أنه قد نجى من قبضة بعض مفاهيم قسم العمارة بجامعة الخرطوم. التي رضع من ثديها و تربى عليها الخريجين عبر الأزمنة. إذ أفلت منها بدراسته في تلك الجامعة في الشرق الأقصى. أعترف بأنني غير ملم بالقدر الكاف بنوعية و توجه الدراسة هناك. لكن من واقع توجهاته و مسيرته و إنتاجه المعماري أعتقد جازماً بأنها كانت مؤسسةً على فكر حر منفتح على كل الأفاق. في هذا السياق أوكد على العلاقات الوشيجة التي تربطني بهذا القسم. الذي قضيت فيه أنضر سنوات عمري طالباً ثم أستاذاً. علاقات مؤسسة على حب عميق و تقدير عالِ و هي العوامل التي تدفعني دائماً للنظر لتجربته بعين ناقدة. مدركُ تماماً بأنها ستجلب لي من بعضهم عدم الرضى و الاستهجان. لدى اعتقاد جازم تولد عبر الزمن و نتيجة لمتابعة متصلة بأن بعضاً من توجهاته تقوم على أسس غير مرضية. من أثارها السلبية أنها تحد من طاقات الطلاب و الخريجين الإبداعية. شبهت هذه الحالة بأنها تجعلهم إلى حد ما أشبه بمن يركبون قطارا تحدد مسار رحلته القضبان التي يسير عليها. طريق الرحلة و اتجاهها واحد يشعر من يسافر فيها بأن الخيارات الأخرى ستكون مأساوية العواقب. كان من حظ مرتضى معاذ السعيد أنه لم يكن من ركاب هذا القطار. الواضح أن وسائل سفره خلال مراحل دراسته المعمارية كانت متعددة مما أتاح له الانفتاح على أفاق متنوعة. يتضح ذلك من مجمل فهمه للعمارة المتجلي في العديد من أعماله المتميزة.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
امدرمان- مارس 2020