fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

شارلس مور يفجر طراز الكلاسيكية الراجعة في متنزه دا إيتاليا

استطاعت حركة الحداثة أن تفرض نفسها بشكل تصاعدي في العالم الغربي خلال العقود الأولى من القرن العشرين. نعنى بهذا العالم غرب أوربا و الولايات المتحدة. اجتاحت الحركة بفكرها الجديد بنسق تصاعدي كافة جوانب حياة الناس و مجتمعاتهم محمولة على أكف كل ضروب الإبداع.  الذي كانت فيه العمارة في قلب المعركة. نجح ذلك الحراك الفكري المحتدم الكاسح حقبتئذٍ في أن يخلى الأجواء لنهج الحداثة بعد دك أركان الكلاسيكية بشكل تدريجي ممنهج. فعاش الطراز الجديد فترة شهر عسل متطاول. مدعوماً بزخم فكرى شكل قاعدة صلبة و داعماً مؤثراً. ساهمت تلك العوامل مجتمعة في تأسيسه الراسخ في ذلك الجزء من العالم. مما ساعده لاحقاً في التمدد لأركان الدنيا. فوصلنا نحن كجزء من العالم الثالث في نهاية خمسينيات القرن المضي.

عندما بدأت أركان ذلك الطراز تتأسس و يجد رواجاً مضطرداً عندنا في بداية عقد السبعينيات كان أمره مختلف تماماً عندهم في الغرب. إذ بداء مسار خط رسمه البياني في الهبوط على نفس الوتيرة التي ارتفع بها عندهم قبل نصف قرن من الزمان. بداء يفقد أراضيه بين الناس بشكل مطرد. ظهر في البدء في شكل تململ متصاعد وصل تدريجياً لاحقاً لمرحلة الرفض. الذي تجلى في عدة صور كان من أبلغها حالات عديدة لمباني كبيرة مهمة حملت بصمة عمارة الحداثة تمت أزالتها بالكامل. تصاعد هذه الحركة الشعبية و الراي العام حرك ساكناً عند النقاد و المفكرين في هذا المجال الحيوي و كافة المجالات الإبداعية. فظهرت تيارات فكرية ولدت من رحم الحركة الرافضة لنهج الحداثة. صار يشار إليها في مجملها بتوجه ما-بعد-الحداثة. 

تبلور ذلك التوجه العريض المناهض لفكر عمارة الحداثة فأنتج عدة مدارس ذهبت في عدة اتجاهات. بدون أن تفقد بوصلتها أو تفارق المظلة العريضة التي استظلت بها. افرز كل واحد منها ما يمكن أن نسميه مجازاً طرازاً ذو معالم و سمات متميزة. الواضح أن كل واحد منها استثمر في واحد من المأخذ التي كانت سبباً في انحسار مد فكر الحداثة و عمارتها. نذكر منها على سبيل المثال مظهرها الباهت الناتج عن المحدودية اللونية. نسبة لسيادة اللونين الأبيض والرمادي لارتباطها بخامة الإسمنت و تسيد العناصر الخرصانية. نهج التزمت به يقوم على التعبير الصريح على كافة مواد البناء بدون مساحيق تخفى ملامحها. يضاف إلى تلك العوامل جمود أشكال عمار الحداثة. نسبة لالتزامها الصارم بالخطوط المستقيمة و الزوايا القائمة الذي أنتج أشكالاً مكعبة. يعتبر أيضاً افتقار عمارة الحداثة للزخم اللوني والزخرفي من أهم أسباب النفور منها. الذي نتج عن حساسية موقف فكره الرافض تماماً للتراث أي كان نوعه عالمياً كان أم إقليمياً أم محلياً. موقف جفف ينابيع مخزون ثرى مدهش و معين لا ينضب من الرصيد الزخرفي و اللوني البازخ. هذا ما يعنينا هنا على وجه الخصوص في إطار هذه المقالة. التي تعتبر امتدادا يقدم شروحات مفصلة لجوانب مقالة سابقة كانت معنية بأمر مجال التصميم الحضري. 

المعماري المفكر و الناقد المؤثر في هذا المجال شارلز جينكز (1) كان هو أول من تعرف على هذا التوجه الجديد و قدمه بشكل جيد. أطلق عليه باللغة الإنجليزية اسم البوست مودرنيسم (2) يمكن ترجمته باللغة العربية ب ما-بعد-الحداثة. ضمن ذلك في سفره الممتاز الذي صدر في عام 1977 باسم: لغة ما-بعد-الحداثة (3). صدرت منه لاحقاً عدة طبعات في محاولة منه لملاحقة أخر تطورات هذا التوجه و طرازه المعماري. خطى خطوات أبعد من ذلك في تقديمه و تعريفه بالتوجه الجديد بشكل مفصل وافى. فحدد في ذلك الإطار مدارسه التي أنتجت طرازات محددة المعالم و السمات. موضحاً الدوافع التي أدت لتأسيسها و منحتها سماتها المميزة. أشار إلى عدد منها بأسماء محددة. نذكر منها على سبيل المثال و بالتحديد مدرستي المحلية الراجعة (4) و الكلاسيكية الراجعة (5) و الأخيرة ستكون محور هذه المقالة. أهميتهما ناتجة من أنهما تفتحان المجال و فضاءات الإبداع لمعمارينا. لارتياد أفاق رحبة مرتكزة على إرثنا الفخيم المتمدد لألاف السنين حتى مراحل تاريخنا الحديث و هو أمر يحتاج لشرح مطول. أوجهكم في هذا السياق لمقاطع من مقالتي الأخيرة عن التصميم الحضري الذي شكل جزءً من عنوانها.   

الفرق بين الكلاسيكية الراجعة و المحلية الراجعة ليس بكبير فهو زمانيي و مكاني الطابع. فمرجعيات الكلاسيكية تستمر لفترات طويلة للغاية تتمدد فيها لرقعة جغرافية مترامية الأطراف. عكس المحلية الطابع التي تنحصر في نطاق محدود غير متطاول الأجل. مما يجعل النوع الأول عادة أبلغ تأثيراً. الذي سنركز عليه هنا من خلال النظر في واحدة من أكثر الحالات تعبيراً عن مضامينه. توفرت لها عدداً من المقومات الأساسية اللازمة المطلوبة التي جعلتها حالة استثنائية بحق. من أهمها المصمم و هو من أميز المعماريين. الذين حملوا راية توجه ما-بعد-الحداثة العريض و قدمه من خلال واحدة من أهم مدارسه هي الكلاسيكية الراجعة. من المقومات الأساسية لهذه الحالة أيضاً ذلك النبع التراثي مفرط الثراء بازخ الجمال هو عمارة عصر النهضة الإيطالية (6). المرجعية الأساسية التي وفرت أرضية ممتازة لإنتاج عمل فائق التميز. المقوم الثالث الذي جعل هذه الحالة تتوهج هو الشريحة من المستخدمين التي استهدفتها. الجالية الإيطالية بواحدة من أهم المدن في الولايات المتحدة. التي تبنت فكرتها و رعتها ثم منحتها زخماً مترفاً بحضورها المصطخب فيها. هذه المقومات و الأركان المتعددة هي التي جعلت من حالتنا هنا ظاهرة استثنائية جديرة بالاهتمام.

المشروع المشار إليه هنا هو متنزه دا ايتاليا (7). الذي شُيد في منتصف ثمانينيات القرن الماضي فازدانت به أحد ساحات مدينة نيو اورليانز (8) الأمريكية. تبنت فكرته و قدمته للمدينة و أهلها جاليتها الإيطالية التي يتحدر عدد مقدر منها من جزيرة صقلية. قَصدت أن تقدم من خلاله هدية توثق لعظمة تراث بلادهم المعماري الكلاسيكي. المتجسد في عمارة عصر النهضة الذي كان أول ظهور مبرق مدهش له هناك في القرن الخامس عشر الميلادي. ثم انداح بعدها لبضع قرون متمدداً لباقي ذلك الجزء من أوربا و لاحقاً لأجزاء أخرى من العالم. مخلفاً أثراً واضحاً لا زال و نحن على أعتاب العقد الثالث من الألفية يتردد أصداءه بقوة من حولنا. أكبر دليل على ذلك كان ماثلاً للعيان في نفس مدينة نيو اورليانز قبل بضع عقود من الزمان من إقامة ذلك المتنزه. إذ احتفت الجهات الرسمية في المدينة بذلك التراث فأقامت له متحفاً خاصاً به. في موقع ليس ببعيد من الذي خصصته للمتنزه. فصارت معروضاته المدهشة المبهرة مركز إشعاع قوى الأثر لم يكن بإمكان مصمم المتنزه الفكاك من قبضته. لكن عبقريته الفذة فتحت له أفاق الإبداع التي ارتادها بحنكة و هو في حضن ذلك التراث الذي قدم له بعض فروض الولاء و الطاعة بشكل أريب.  

كانت تلك المعادلة الصعبة المحفوفة بالتحديات تحتاج بحق لمعماري استثنائي بمواصفات رفيعة. مهمة بالغة التعقيد تصدى لها عن جدارة معماري سطع نجمه خلال حقبة بداية الثمانيات. متصدرا و مروجاً لتوجه عام عريض تنامت حركته خلال تلك الحقبة. قام على مناهضة فكر مفاهيم الحداثة المعمارية فشكل تياراً عريضا عرف باسم ما-بعد-الحداثة. قاد مؤسسوه معركة حامية الوطيس عبر عدة مسارات شكلت مدارساً أنتجت طرزاً معمارية أشرت إليها من قبل. كانت من أهمها مدرسة الكلاسيكية الراجعة. التي تأسست على استلهام رؤى العمارة الكلاسيكية و إعادة تقديمها بشكل مبتكر. يحتفظ بإحساسها القديم المعتق ليقدمه في صور تستوعب مستجدات العصر الحديث. مفاهيم يسهل الحديث عنها لكن من الصعوبة إنزالها إلى أرض الواقع إذ أنها مهمة عسيرة محفوفة بالتحديات. تصدى لها زمانئذ نفر من أفذاذ رموز العمارة متسلحين برؤى فلسفية فكرية تجديدية. كان من أهمهم الأمريكي شارلز وليارد مور (9). الذي قاد معاركه في هذا المعترك عبر ثلاث جبهات كان مؤهلاً تماما للتصدي لها. منطلقاً من قاعدة علمية راسخة وهبته رؤى فكرية تجديدية مؤثرة. تمكن من إنزالها بنجاح فائق لأرض الواقع عبر أعمال معمارية تعتبر من أيقونات طراز الكلاسيكية الراجعة.

تلك السيرة الذاتية المرصعة بالمؤهلات العالية و الفتوحات المشهودة أهلت مور تماماً للتصدي لمهمة التعامل مع حالة متنزه دا إيتاليا المحفوفة بالتحديات. تصدى لها بجدارة منتجاً عملاً كان و لا زال بعد مضى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان واحداً من أهم أيقونات مدرسة و طراز ما-بعد-الحداثة. صممه بأحاسيس مشبعة و مضخمة بألق عمارة عصر النهضة الإيطالية. بعضاً منها نابع من التأثير الوجداني المشع من متحف روائعها القريب من موقع المتنزه. إحساس فياض جارف كان يمكن يجعله فريسة سهلة لمصيدة النقل الحرفي. لكنه فكره التجديدي و قناعاته المؤسسة على مفاهيم مدرسة الكلاسيكية الراجعة الذي كان من مؤسسيه شكلت له طوق نجاة. مكنه من التحليق ببراعة في فضاءات الإبداع محلقاً بأجنحة فكر تلك المدرسة. أدخله في تجربة كان من ممكن أن تعتبر بمقاييس تلك الحقبة عملاً معمارياً مستهجناً لا يليق بأستاذ جامعي عالي المقام في أهم الجامعات الأمريكية. لكن مرور الزمن و تداعى الأحداث كان في صالحه فمنحه قدراً عالياً من الاحترام و التقدير. هذا هو دائماً قدر الرواد في كافة المجالات الإبداعية. شأنهم في ذلك مع كثير من التحفظ و بعد الشقة شأن الرسل و الأنبياء الذين يحملون الرسالات السماوية ينشرونها بين الناس.

لا يمكن أن يكتمل الحديث و استعراض حالة مشروع متنزه دا إيتاليا بدون التوقف عند شرائحه المستهدفة. التي كان لها أيضاً القدح المعلى في قيامه. الجالية الإيطالية بمدينة نيو أورليانز تحديداً مكونها المؤثر الذي تعود جذوره لجزيرة صقلية. شعب ميز نفسه مزاجياً من واقع جيناته المتأصلة عن باقي الشعوب الأوربية. جوانب لمستها فيهم أنا شخصياً من خلال زياراتي لبلادهم. يتميزون عن تلك الشعوب بحس مجتمعي عالي. محمول على أكف حالة مزاجية وقودها دفق عارم من الحميمية. مما يضفي على لقاءاتهم أجواءً احتفالية متفردة يشار إليها باللغة الإنجليزية بالهاى فيستف مود (10). صفات و سمات يبدو أن لها علاقة بشمس البحر الأبيض المتوسط الساطعة التي أكسبتهم اللون البرونزي الفتان. كانت تلك المعطيات بلا شك من الدوافع الرئيسة التي دعتهم لتبنى فكرة المتنزه و رعايته من الألف إلى الياء. الواضح أنهم أحسوا بأهمية وجود مكان مهى بشكل خاص يستضيف لقاءاتهم الحميمة المصطخبة التي لا تكتمل و تستوي حياتهم بدونها. هي بلا شك أيضاً نفس تلك المشاعر الجياشة المترعة بالإحساس الفني الرفيع. التي اتسم بها أجدادهم قبل أكثر من خمسة قرون من الزمان فأتحفونا بروائع عمارة عصر النهضة في ديارهم. عليه، كان من المهم أن يصبح إطار ملامحها المعمارية مكملاً لأجواء لقاءتهم الصاخبة في رحابها. هذا هو عين ما فعله المصمم هناك.

الواضح أن ما أشرت إليه هنا كانت هي نفس الأحاسيس و المشاعر التي تشرب بها المعماري العبقري شارلس مور. مهيئي نفسه و هو مقدم على التعامل مع هذه الحالة الاستثنائية. أعترف أنى استشفيت ذلك من واقع عمله عالي القيمة المضمخ بالكثير من المعاني المستبطنة. الذي نجح فيه بشكل فائق في التعامل مع كل تلك المعطيات التي ورد ذكرها هنا على كل مستويات المشروع. تخطيطه العام و تصميمه الحضري و المعماري و كافة تفاصيله. متنقلاً بخفة و رشاقة متناهية بين المعالجات الواقعية و الإيحائية. بين إحساس الكتل الكبيرة و مكونات الحجر الطبيعي الصغيرة و تفاصيله المنمنمة. التي سعى للتخفيف من وقع مظهرها الجاد الصارم بدفق من المسطحات المائية الرقراقة المطرزة بعناصر شبيه بالينابيع المتفجرة. مغازلاً في تطوافه العوالم الكلاسيكية لينفلت منها مرات ليهرب لمفردات حداثية من واقع زماننا المعاصر. مخاطباً في كل تلك الحالات عواطف مرتادي المتنزه من الشريحة المستهدفة. مدغدغا مشاعرهم بمفردات و تفاصيل مبرقة من تراث عمارة تراثهم التي تحرك فيهم أشجان ذكريات وطنهم الأم.

جمع شارلس مور هنا بحصافة و كياسة بالغة بين الجغرافيا و التاريخ. بسط في أرضية العمق و الجزء الخلفي من الساحة خارطة إيطاليا. مضجعه بدلال في بركة ماء رقراقه شبيه بالبحر الأبيض المتوسط. جعلها ترقد في حضن قوس بوابات زائفة شامخة تلامس ملامحها أمجاد عصر النهضة الإيطالي. ملامح لا ترتمى مستكينة في حضن تلك الإبداعات القديمة مستسلمة لفخ النقل الحرفي. تهرب منه لفضاءات الأبداع الرحبة مستجيرة بأخر مستجدات مواد البناء و تشطيبات المباني. التي تتلاعب بمكونات و تيجان الأعمدة الكلاسيكية المقدسة. تتصرف فيها في حالة ارتجال محببة شبيه بأعمال الموسيقيين البارعين المبدعين منتجة بدائل في غاية الروعة. تصرف في شكل تلك التيجان و حورها بشكل احتفظ بنفس سماتها التعبيرية. تمددت مساحات الإبداع هنا لتشمل خامة الأعمدة و مواد تشطيباتها. التي استبدلها بخيارات بديلة من لدن أخر المستجدات في تلك المجالات. فظهر بعضها يرفل في حُلل مبتكرة من الإستينليس ستيل المبرق الوهاج. لم تقف المفاجآت عند هذا الحد. إذ نفاجأ مرات بوحدات إضاءة براقة تغمز لنا في غنج فاضح. في أقواس الواجهات و الأجزاء العليا من جزع الأعمدة فائقة الرشاقة و أيضاَ في قاع المسطحات المائية.

هناك علاقة متميزة بين تلك البوابات الزائفة و منطقة خارطة إيطاليا و البركة التي تضجع عليها. فهي تطوقها في حنو بالغ بدون أن تحكم قبضتها عليها تاركة فراغات بينها ينسرب منها الرواد بسلاسة. في حالة شبيه بكواليس خشبة المسرح. حركتهم هناك تشبه لعبة للأطفال يسميها أهل مصر بالإسِتغماية تعرف عندنا بالدسوسية (11). تغمرهم بإحساس لا يخلو من عنصر المفاجأة مقترناً بأجواء من الحيوية الممراحة. الوصول لخارطة إيطاليا من فتحات البوابات يكون عبر عتبات متدرجة هي جزء أصيل من تصميمها. شكل الرصف في الجزء الكبير من الساحة أمام البركة يحمل مضامين مهمة. مصمم على شكل دوائر متمركزة (12). تشع من مركزها، ذلك الجزء الصغير الأسفل البارز من خارطة إيطاليا المشابه لشكل جزيرة صقلية. الموطن التاريخي الصغير لمجموعة مؤثرة من الجالية الإيطالية. التي لعبت دوراً ملموساً في تأسيس مشروع المتنزه و ظلت تضفي عليه لاحقاً بشكل مستمر فيضاً من حيوية إيطالية الطابع. مما يعزز من أهمية خارطة صقلية جزءً صغير مرتفعاً منها يستخدم كمنبر يخاطب منه المتحدث الرواد من حوله. تمدد خارطة إيطاليا ببركتها المائية في جزء محدود من الساحة لم يخصم كثيراً من مساحتها. إذ خصص جزءً مرصوفاً بازخاً منها ليحتضن لقاءات مجاميع (الطلاينة) أو الإيطاليين المحتشدة الضاجة.

فكرة البوابات تاريخية كلاسيكية الملامح و السمات محتشدة بالمعاني و المضامين. فهي زائفة بحق مستخدمة بطريقة مفرطة الابتكارية إذ لا تفضي بمن يعبرها لمكان أخر مجاور. دورها تأطيري بحت فهي تحيط بالساحة بدون أن تكتم أنفاسها. أبدع مور في التعامل معها بإبراز أطرها و مرجعياتها الكلاسيكية المعروفة. فجعلها ستة بوابات ترمز ملامحها لبصمة نظم الأعمدة الخمسة الشهيرة المعروفة. الدوري (13) و الأيوني (14) و الكورينثى 15) و التسكان (16) و الكومبوسيت (17). فعل العجب في البوابة السادسة إذ ابتدع لها ملامح و طراز أعمدة من عنده. تأكيداً لهذا المنحى الجري تمادى في غيه فمضى فيه لمراحل متقدمة. إذ ركب أقنعة في مواضع من واجهتها تحمل صورة وجهه. جعل جزءً منها أشبه بنافورة يصوب الماء فيها من فم القناع. من خلال تلك المعالجات المدهشة ذهب مور بهذا العمل إلى أخر أشواط مكونات فضاءات توجه ما-بعد-الحداثة. أكثرها غرابة و أثارة للدهشة يشار إليه بعمارة الطرفة أو المزحة. في جانب أخر من هذا العمل بالغ التميز خفف شارلز مور أجواء البوابات الممعنة في الكلاسيكية. بومضات من الحداثة تغمز هنا و هناك. وحدات إضاءة النيون الموزعة في أرجاء المتنزه بعضها مغمور بمياه البركة.

أروع ما في بانوراما المتنزه المتمددة هو ذلك الحوار المدهش بين الكلاسيكية و الحداثة. فالبوابات هنا بكل ألقها المترف تجلس جاثية خاشعة خاضعة عند أعتاب إطار حضري تشهق فيه ناطحات السحاب التي تكاد تلامسه. ليلتقي إبداع القرن الخامس عشر مع إنجازات القرن العشرين. واقع الحال أن وجود المتنزه في مركز المدينة المحتشد بالبنايات الشاهقة و الحركة الميكانيكية الدؤوبة يمثل في حد ذاته متنفساً مهماً. ينتقل فيه المرء من صخب نهايات القرن العشرين حقبتئذ إلى أجواء القرن الخامس عشر المضمخة برومانسية ذلك العصر الذهبي. نجح مور في ثنايا عمله بالغ التميز في خلق أجواء من الألفة بين إبداعات تلك العصور المتباعدة زمانياً. ألف بين قلوب مخرجاتها في وئام تام. حيث نجد خامة الستينلس ستيل تفتخر بنفسها و هي تسطع مرصعة تيجان الأعمدة أيونية و كورينثية الطراز فتانة المحيا. أو حين تتباهى و هي تحمل نفس تلك التيجان بشريط الستينلس ستيل (18) الملتمع في الجزء الأعلى من جزع أعمدتها الرشيقة. يظهر نفس ذلك التماهي و التوأمة بين المكونات الكلاسيكية و مخرجات الحداثة في مواضع أخرى. حينما تطوق وحدة إضاه مشعة الجزء الأعلى من العامود لتحمل بأريحية فائقة تاجه الفتان المنحوت بعناية فائقة من الحجر الطبيعي.

حاولت و اجتهدت هنا في أن أستكشف معكم كافة جوانب حالة متنزه دا إيالتيا بمدينة نيو اورليانز الأمريكية. متوقفاً في البدء عند تفاعلها مع ذلك الجزء من المدينة. منتقلا بعد ذلك لجوانب و ملامح تخطيطها العام. متأملاً في إطاره في مكون التصميم الحضري متفحصاً بعناية بعضاَ من عناصره المتميزة. في هذا السياق لم يكن بالإمكان تجاهل جوانب البستنة المتجسدة في التوظيف الأمثل للعناصر المائية. الاهتمام الأكبر كان مبذولاً للجانب المعماري بالرغم من أنه يبدو هنا لكأنه يتوارى خجلاً أو أنه مجرد ضيف شرف. حضوره المقدر يتجلى في أنه كان هو الرابط و همزة الوصل بين جوانب المشروع المتعددة. المرتكزة على تخصصات مختلفة متنوعة. حصافة المصمم المعماري العبقري شارلس مور تتجلى هنا في أنه نجح في التعامل مع كل تلك الجوانب بتوازن عالي و حنكة بالغة. وظفها بمهارة فائقة لتحقيق أهدافه السامية. فحقق من خلالها واحدة من الفتوحات و الاختراقات المشهودة التي خطت بالعمارة خطوات مقدرة. مكنتها من التعامل بنجاح مع مستجدات العصر و تحدياته.

هناك العديد من الدروس التي يمكن أن نستفيد منها من خلال تأمل حالة متنزه دا إيتاليا بالغة التميز. لعل من أهمها أنها تسلط الأضواء على مدرسة مهمة من مدارس توجه ما-بعد-الحداثة المشار إليها بالكلاسيكية الراجعة. التي تنير الطريق و تفتح الباب على مصراعيه لمعمارينا الذين يرغبون في تنكب هذا الدرب. إذ أرادوا ذلك سيجدون بين يديهم مخزون استراتيجي مهول من العمارة التراثية. سطعت بها أنحاء بلادنا عبر تاريخ طويل يتمدد من عصور ضاربة في القدم ترجع لألاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح. تشهد له أيضاً إنجازات مراحل من تاريخنا الحديث قبل بضعة قرون. مطرزاً خلال تلك الحقب التاريخية ساحة العديد من حواضرنا و مدننا بالدرر المعمارية. مقدما أروع الدروس عبر أعمال خالدة متعدد الطرازات و الخامات. تقدم نفسها طائعة مختارة لكل من يريد أن يستلهم منها أفكاره على هدى فهم عميق لفلسفة مدرسة الكلاسيكية الراجعة. تناولت هذا الموضوع بشي من التفصيل في مقالة كانت معنية بموضوع التصميم الحضري الذي كان هو عنوانها. نشرتها في صفحة الفيسبوك ثم وجدت طريقها ضمن مواد موقعي الإلكتروني و الرابط للوصول لكليهما- drhashimk.com.

ترجمات:

  1. Charles Jencks.

  2. Post Modernism.

  3. The Language of Postmodernism

  4. .Neovernacular

  5. Neoclassical

  6. Italian Renaissance architecture

  7. Piazza d Italiaباللغة الإيطالية

  8. New Orleans

  9. Charles Willard Moore

  10. High festive mode

  11. باللغة الإنقليزية Hide and seek

  12. Concentric circles

  13. Doric

  14. Ionic

  15. Corinthian

  16. Tuscan

  17. Copmosit

  18. Stainless steel

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان- سبتمبر 2020    

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.