عبد المنعم مصطفي: معماري الإنتيلجنسيا وايضاً الجلابة
ولد عبد المنعم مصطفي في ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة أمدرمان وشب وترعرع في حي الركابية الشعبي المتاخم لسوقها. كانت كل أحياء تلك المدينة التي كانت عاصمة الدولة المهدية شعبية الهوى والمزاج. نشاء وسط تلك الاجواء المشبعة بعبق التاريخ والمضخمة بالتقاليد العريقة ودرس فيها جل مراحل دراسته الأولي. تركت تلك الفترة والمرحلة من حياته أثراً عميقاً في نفس ذلك الفتي. تفوقه مع أعداد محدودة من اقرانه قاده لجامعة الخرطوم التي درس فيها مرحلة تمهيدية قصيرة. تهيأت له منها فرصة ذهبية مع أربعة من زملائه ابتعثوا لإنجلترا لدراسة العمارة كأول مجموعة تدرسها في العالم الغربي.
تزامنت فترة دراسته للعمارة هناك مع العصر الذهبي لفكر وعمارة الحداثة. كانت بريطانيا وكل أنحاء الغرب الأوربي خلال تلك الحقبة تعيش تجربة الحداثة بكل ابعادها. انداحت أفكارها فسيطرت بالكامل على مجالات الفنون الإبداعية الثقافية والفنية وكانت العمارة في قلب الحدث. عاش عبد المنعم في خضم تلك الاجواء واستوعب المفاهيم المعمارية بعمق في ذلك الإطار الفكري. تعمقت تجربته هناك بعد اقترانه بواحدة من حسناوات تلك الديار آن أو آنيت كما كان يحلو له أن يسميها. عاشت معه هناك سنوات حلوة وانتقلت معه للسودان بعد عودته لأرض الوطن
عاد لأرض الوطن في نهايات الخمسينيات وهو مشبع بفكر الحداثة وكله شوق لإنزالها لأرض الواقع لصناعة نسخة سودانية. تنقل كما تفعل النحلة وهي تنتقل من بستان إلى أخر. بداء رحلته العملية بوزارة الأشغال العامة التي عمل بها لبضع سنوات. اصطاده بعد ذلك قسم العمارة بجامعة الخرطوم حديث التأسيس حقبتئذ حيث عمل بها إستاذاً بصحبة عدد من الأساتذة البريطانيين. كانت تلك المرحلة خصبة للغاية إذ شهدت بداية انطلاقه كواحد من أهم مؤسسي عمارة الحداثة السودانية. فارق المجال الأكاديمي مع بداية السبعينات وأسس له مكتباً استشاريا واصل فيه إكمال رسالته كواحد من أهم رواد هذه التوجه الجديد فاستحق لقب العراب عن جدارة.
عاش عبد المنعم خلال تلك المرحلة من شبابه وسط مجموعة مميزة من أصدقائه. جلهم من الصفوة أو النخب بمعني أدق من المهنيين مثل الأطباء والمهندسين والمحامين. يشار غليهم أيضاً بالإنتليجنسيا. عدد مقدر منهم درسوا معه ببريطانيا وبعضهم سار في دربه هناك فاقترن بواحدة بفتاة بريطانية. عليه كانت هناك عدة قواسم مشتركة جمعته بتلك الزمرة من اصدقائه الأحباب. بالإضافة إلى ذلك وحدت بينهم الإيديولوجية- الميول المذهبية- فقد كان جلهم يساري الهوى. من المهم استيعاب خلفية أصدقائه الٌأقربين إذ أنها شكلت الأرضية التي تبلور فيها طابعه المعماري في مراحله الأولي. كانوا مع كامل احترامنا لهم بالنسبة لهذه الحالة أشبه بفئران المعامل.
كانت بداية الستينيات مرحلة خصبة في تاريخ السودان الثقافي والمجتمعي. مضت بضع سنوات بعد نيل الاستقلال تمكن فيها عدد من شباب الوطن في كافة المجالات من رفع درجة تأهيليهم بدرجة مكنتهم من احتلال مواقع قيادية. كانت تُحركهم دوافع قوية لصناعة مجد الوطن وإبرازه بين الدول كبلد مستقل يقدم نفسه عن جدارة واستحقاق مع العالم المعاصر. شكلت هذه الظاهرة حالة عامة تنافست فيها كل المجالات العلمية والثقافية والفنية. وجدت العمارة نفسها في حالة تحدي مزدوج ناتج عن انتمائها لمجالي الهندسة والتقنية وفي نفس الوقت الفنون والإبداع. كان عبد المنعم مصطفي بحكم تأهيله وتجربته الثرة مؤهل تماماً للتصدي لمثل هذه التحديات.
كانت كنانته معبأة وجاهزة لخوض تلك المعركة. لكنه كان محتاجاً لأرضية وقاعدة صلبة ينطلق منها لتحقيق تلك الأهداف السامية الطموحة. لم تكن العاصمة مهيئاة تماماً لتغيير شامل وجزري في مجال العمارة. لم تكن الكلاسيكية قد اقتنعت بأن زمانها قد ولي بزوال من أتوا بها بعد نيل البلاد لاستقلالها. ما زالت تفرض نفسها بشكل أو أخر من خلال تأثير نماذج منها تهيمن على أمزجة الناس. في هذا الإطار أنا معني بالعمارة السكنية وتحديداً البيوت والفيلات. كان أمر التغيير يحتاج لاستراتيجية حذرة. الانقلابات العسكرية لا تصلح في هذه الحالة. الحل الأمثل كما يقول بعض أقطاب المعارضة السودانية هو الهبوط الناعم. هذا عين ما فعله عبد المنعم مصطفي.
تسلل عبد المنعم عبر مشاريع بيوت أصحابه الخلص الذين أشرنا إليهم من قبل. كانوا هم بحكم نهج تفكيرهم ونمط حياتهم خير من يمكن أن يطبق فيهم أفكاره الجديدة. في الجانب الثاني من المعادلة كانوا هم أنفسهم في حوجه لمن يقدمهم للمجتمع كنخبة متعلمة مثقفة تمثل وجه السودان المعاصر. التقت أهداف الطرفين فشكلت الأرضية المثلي لتقديم عمارة الحداثة السودانية في أزهي صورها. انطلق عبد المنعم خلال فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات ليقدم أروع أعماله في هذا السياق. طرز بها عدد من أحياء الخرطوم وعبر كبري النيل الأزرق والأبيض لينشر إبداعه في أمدرمان والخرطون بحري.
ابتدا عبد المنعم مشروعه الطموح ببيوت أقرب أصدقائه إلى نفسه ممن تميزوا بنزعة نحو التحرر. من أميز أعماله الأولي بيت صغير خاص بالخبير الزراعي الدكتور محمد عبد الله نور بالخرطوم بحري. موقعة في حي الميرغنية قرب الطرف الشمالي لشارع السيد علي. قدم عبد المنعم هناك عمارة مفرطة في البساطة. في اتساق مع جل أعماله جاءت محسوبة النسب بعناية فائقة وفي غاية الأناقة وفي مجملها تقطر حداثية. جمعت بين عبد المنعم وصاحب البيت علاقة خاصة تجاوزت حدود الصداقة العادية فكلاهما متزوج من إنجليزية. يبدو أن هذا الخلفية ساهمت في تقبل أفكاره التقدمية بمقاييس ذلك الزمان. كان هذا العمل بمثابة التسخين التي ساهمت في انطلاقته المظفرة بعد ذلك.
من أعماله الأولي المرموقة فيلا أعز أصدقائه وأٌقربهم إلي نفسه الدكتور منصور خالد. موقعها في منطقة الخرطوم وسط علي شارع الشريف يوسف الهندي ومرمي حجر من شارع المك نمر الرئيس. اكتمل بنائها في بداية السبعينيات وجسدت حالة استثنائية وَصفتُها بأنها تمثل لقاء السحاب. بالإشارة لحالة مرت بعالم الغناء في الشقيقة مصر عندما لحن محمد عبد الوهاب لأول مرة أغنية لأم كلثوم. أشار النقاد لهذا الحدث الذي التقت فيه قِمتا الغناء والتلحين في عمل واحد بلقاء السحاب. تلك الفيلا بحي الخرطوم وسط جسدت حالة مشابه. فعبد المنعم كان أوانئذ رائد عمارة الحداثة بلا منازع وصديقة الحميم كان بحق رمز الحداثة جوهراً ومظهراً.
الواضح أن عمارة الفيلا متوسطة الحجم جاءت ثمرة تفاهم وانسجام تام بين طرفي هذا العمل، صاحبها ومصممها. بالرغم من بساطة التصميم إلا أنه ينضح حيوية، بذلك نجح عبد المنعم في الجمع بين طرفي النقيض. المبني مستطيل الخارطة عبارة عن مكعب متطاول. ترسم خطوطه الأساسية عناصر الهيكل الإنشائي الخرساني، الاعمدة والأبيام، التي منحت العمل تماسكاً وبساطة ونقاء. هذه المعالجة الأساسية سمحت له بأن يتلاعب بعناصر المبني الباقية بحرية خصماً أو إضافة لشكل المكعب المتطاول. فمنحت العمل المعماري حيوية دافقة. في هذا الإطار تلعب عناصر المبني الإنشائية دور الممسكات. تمسك بأطراف العمارة كاللجام الذي يتحكم في حركة فرس جامح. هذه السمة هي واحدة من أهم ملامح عمارة عبد المنعم.
قدمت العمارة هنا أنموذجاً للبيت العصري. قسم المبني الملموم في شكل مكعب واحد لعدة مناطق. لم يتم التنطيق عبر طوابق منفصلة عن بعضها البعض. نُفذ من خلال أجزاء مختلفة المناسيب والارتفاعات على الجانب الشرقي والغربي من المبني بنظام ما يعرف باللغة الإنجليزية بالإسلبيت ليفل. فالأجزاء منفصلة من بعضها البعض لكن يمكن الوصول إليها بسهولة ومتصلة بصرياً. ترتيب يتيح قدراً من الخصوصية لكنها أيضاً يسمح بمساحة معقولة للتواصل بين أجزاء الفيلا. تبدأ الفيلا بالمستوي الأسفل المخصص للخدمات. منه صعوداً ببسطة سلم تقود لمنطقة الاستقبال. بنفس الطريقة يمكن الوصول للجزء الأعلى المخصص لغرف النوم. ترتيبات ملائمة ومتسقة مع الحياة العصرية وروح صاحبها رمز الحداثة في السودان.
مضى عبد المنعم في مسيرته الظافرة في بداية السبعينيات يواصل تطبيقاته الموفقة في نشر عمارة الحداثة عبر بيوت وفيلات أعز أصدقائه. فارتحل هذه المرة إلى الجزء الشمالي الغربي من حي الخرطوم إثنين. فنثر إبداعه في فيلا صديقه المقرب الدكتور الجراح زاكي الدين المطلة على شارع 39 او عبد الفضيل الماظ. قدم واحد من أميز أعمال عمارة الحداثة اتسم بدرجة عالية جداً من البساطة، فقال خير الكلام في بضع كلمات. ظهرت هنا نفس الخدع المستخدمة في بيت دكتور منصور. الفيلا عبارة عن مكعب متطاول مهيمن ممسوك وملجم بعناصر الهيكل الإنشائي. يخرج من إساره جزء في شكل مصطبة يبرز طرفها خارج السور الأمامي مطل على الشارع. قدم عبد المنعم هنا عمل شبيه بأعمال الموسيقي البحتة. موسيقي بدون كلمات لا يستوعبها ويطرب لها إلا الصفوة.
تنقل عبد المنعم بعد ذلك في أحياء العاصمة المثلثة ينثر الدرر من عمارة الحداثة السودانية عبر بيوت وفيلات أصدقائه الخلص من شريحة الإنتليجنسيا. من أعماله العظيمة المشهودة فيلا السفير الأشهر زمانئذ فرانسيس دينق بالطرف الشمالي الغربي من حي الرياض الخرطومي. أنتقل لمدينة الخرطوم بحري فأبدع في فيلا صديقه محمود علي الشيخ المحامي. مطلة على شارع المعونة وليست ببعيدة عن تقاطعه مع شارع الأزهري. تحفة إحادية اللون لكآنها قطعة نحت عملاقة. المحزن ان العديد من تلك الجواهر قد اختفت أو طالتها يد التعديلات فطمست معالمها المميزة. هذه الظاهرة تدق ناقوس الخطر فتعزز من أهمية التوثيق لمثل تلك الأعمال الخالدات قبل فوات الآوان.
جل ما أوردناه هنا يؤثق لأعمال عبد المنعم مصطفي الخاصة بطبقة الإنتيليجنسيا أو شريحة المتعلمين من حملة الشهادات العليا. نجحت إلى حد بعيد في تقديمه والترويج له لفئات أخري من المجتمع خارج هذا الإطار. من المهم أن نذكر أن السودان شهد في فترة الستينيات والسبعينيات انتعاشا اقتصاديا ملموساً حرك القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية بشكل إيجابي مقدر. أفرز عدد من المليونيرات في أقاليم السودان المتعددة وبعضهم انتقل للعاصمة. شكلوا فيها تدريجياً طبقة مميزة في مجتمعها بحكم تركيبتهم الإقليمية التقليدية. يمكن أن نشير إليهم في هذا الإطار بأثرياء المدينة الجدد. نسبة لاشتغال جلهم بالعمل التجاري يمكن أن نطلق عليهم اسم الجلابة. ظهروا في الصورة بطموح واضح ورغبة شديدة في الانصهار في مجتمع العاصمة.
من المفروغ منه أن هذه الفئة حاولت بقدر الإمكان أن تقدم نفسها بأحسن شكل. واحد من أهم الطرق الفعالة في هذه الحالة هو بيتها الذي كان يعتبر من أهم أسبقياتها. كانت هذه فرصة ذهبية لعبد المنعم لكي يقدم نفسه من خلال التصدي لتحدي التعامل مع شريحة مختلفة من العملاء أو الزبائن. يبدو أن ثمة ظروف سهلت عملية الاختراق. لعب فيها دوراً رئيساً حسن إبراهيم مالك وهو من أعز أصدقائه وابن واحد من أثرياء المدينة الجدد زمانئذ. اهتمامه بجوانب المباني والعمارة سهل الأمور وساهم بشكل مؤثر في هذا الاختراق. عبره قام عبد المنعم مصطفي بتصميم عدد من فيلات أفراد الأسرة الممتدة تزين جانب من حي الخرطوم إثنين يقع غرب سوقه.
كان مدخل عبد المنعم سلسلاً حيث ابتدر تعامله معهم بتصميم عدد من المباني الإدارية والاستثمارية والفندقية الخاصة بأعمال الأسرة. قاده هذا المدخل لتصميم عدد من فيلات أسرهم المتجاورة في ذلك الحي. دشن هناك أنماط من عمارة الحداثة تماهت مع المنظومة السائدة في ذلك الحي العريق نسبياً إذ تميزت بأجواء من الحميمية. لم تكن مستفزة أو تشكل جسماً غريباً عليه. افتتنت بأسلوبها الهادي الرزين. أكثره مبني لفت انتباهي فيلا المرحوم أحمد إبراهيم مالك. تحديداً معالجة الواجهتين الشرقية والجنوبية حيث عزفت كاسرات أشعة الشمس هناك سيمفونية رائعة. كنت كثيراً ماً أشير إليها في سياق دروسي للطلاب قبل أن تمتد إليها يد التغيير فتطمس معالمها المتفردة. مرة أخري ننبه هنا لأهمية التوثيق قبل فوات الآوان.
شاع أمر عبد المنعم مصطفي بين شريحة الجلابة من أثرياء المدينة الجدد. فانطلق عبر كبري النيل الأزرق في غزوة جديدة ليلبي دعوة واحد منهم. فحط رحله بحي الميرغنية في الجزء الشمالي الغربي من مدينة الخرطوم بحري. حيث كلفه الوجيه إبراهيم طلب الذي كان يمثل مركز ثقل مهم في المجال التجاري بعمل كبير شكل تحدياُ جديداُ بالنسبة له. يستلزم تخطيط وتصميم مجمع سكني متكامل لأسرة الشيخ إبراهيم الممتدة. في مساحة قاربت الألفي متر وتحتل مربع سكني بأكمله. تحدي كبير أثبت عبد المنعم أنه جدير بالتصدي له وقدم عملاً مميزاً للغاية. عزز من موقفه في منتصف السبعينيات باعتباره المعماري المفضل لأثرياء المدينة الجلابة.
تتجلي عظمة هذا العمل الكبير في أن عبد المنعم نجح في التعامل مع مكونات الأسرة الممتدة بشكل متوازن. حافظ علي اللحمة التي تربطهم بينهم في إطار حداثي مواكب لمستجدات العصر. واقع الحال إن التخطيط العام لهذا المجمع وتوزيع مكوناته لا يخرج في جوهره عن خارطة بيوت أهلهم التقليدية في دار جعل. المجمع مكون من ثلاثة مباني أو عمارات رئيسة تشبه القلاع موزعة في جنبات الموقع. يتصدرها مبني أصغر حجماً متموضع عند مدخل المجمع في الركن الشمالي الشرقي للموقع. نظام السكن في تلك الوحدات الرئيسة وتوزيعها داخل الموقع يحاكي إلى حد بعيد حالة البيت الكبير في ديار الشيخ إبراهيم طلب في موطنه الأصلي. هي في الواقع صورة مضخمة له.
يتصدر الموقع ويحتل ركنه الشمالي الشرقي مبني هو عبارة عن مضيفة كبيرة من طابقين. الأرضي للاستقبال وتناول الطعام والأعلى لسكن الضيوف وإقامتهم. عرفت أنه عندما كانت الامور ميسرة كان مفتوح لزوار العاصمة من الأقارب وطلاب العلم من أهله. تمثل هذه المضيفة نسخة مضخمة من ذلك الديوان الوسيع الذي يتصدر البيت الكبير في أريافنا. دائماً مفروش ومرشوش لزوم الترطيب ومفتوح طوال اليوم وأيام السنة. مضيفة هذا المجمع تعمل كالمصدات. تستقبل الضيوف وتحتفي بهم وتستضيفهم بعيداً عن الأسر. ترعي العلاقات الأسرية والإنسانية بدون ما اجتراح لخصوصية نساء أسر صاحب الدار الممتدة.
تحيط بالمضيفة ثلاثة من الفيلات القلاع من ناحية الغرب والجنوب متشابه في حجمها وشكلها وكل تفاصيلها. التي تقع غرب المضيفة مباشرة ويفصل بينهما فناء رحيب مخصصة للشيخ إبراهيم طلب وأسرته الصغيرة. تجاورها وتقع خلفها من ناحية الغرب واحدة مشابه لها مخصصة لضيوف أسرته من النساء. لها مداخل خاصة من الشوارع الجانبية مما يجعلها تتمتع بخصوصية عالية. الفيلا القلعة الثالثة التي تقع جنوب المضيفة مخصصة لأخ الشيخ أبراهيم طلب. هي طبق الأصل من الاخريات ولها مدخل الخاص من الشارع الشرقي. بذلك يصبح تخطيط هذا المجمع وتوزيع وحداته الرئيسة لكآنه صورة مكبرة مضخمة للبيت الكبير في دار جعل والمناطق المشابه.
وحدات الفيلات تستحق بحق أن يشار إليها بالقلاع. استوعب عبد المنعم مصطفي بعمق خلفية أصحابها فهم محافظون وتقليديون لأبعد حد شأنهم في ذلك شأن كل أهلنا في ربوع ريفنا. استقرارهم في العاصمة الذي أجبرتهم عليه الظروف لم يغير كثيراً من هذا الواقع زمانئذ في السبعينيات. تقبلوه بتحفظ وزاد من إحساسهم بالحرج في الوضع الجديد فكرة استيعابهم في بيوت متعددة الطوابق. تعامل عبد المنعم بإحساسه المرهف مع هذا الجانب القيمي بحصافة بالغة. عالج أمره بحنكة وبشكل استصحب معه أيضاً التحديات المناخية.
كما هو الحال في العمارة المدارية شكلت البرندات والشرفات جزءَ مهم من تصميم طوابق الفيلات العليا. تعامل معها عبد المنعم بفطنة عالية تحديداً تلك التي في الطابق الأول. أسدل على واجهاتها غلالة مخرمة عبارة عن حائط من المكعبات الإسمنتية المجوفة. تحافظ على خصوصية أهل الدار هناك لكن لا تحرمهم من إطلالة على العالم الخارجي. تكسر أشعة الشمس لكنها تسمح بمرور تيارات الهواء. شكل وحداتها على الواجهات أشبه بالبرقع او اليشمك الذي كان يغطي جزء من وجه الحسناوات في عهود ممالك مصر الإسلامية. بدت هنا كمشربيات عصرية شبيه بتلك التي زينت بيوت مصر في نفس تلك العهود. للأسف يبدو أن هذه الحلول العبقرية لم تتوافق تماماً مع معايير أهل الدار الصارمة وخلفيتهم المحافظة. فعمدوا إلى تقفيل تلك الأخرام لتصبح الغلالات حوائط صماء.
في نهاية الأمر ظهرت عمارة مجمع آل إبراهيم طلب كأنموذج رائع لعمارة الحداثة السودانية. مارس عبد المنعم هنا لعبته المفضلة. كل واحدة من تلك الفيلات القلاع إلى حد ما مكعب ضخم متطاول. تتخلله أحيناً ارتدادات في شكل برندات أو بلكونات. معالجة كان من الممكن أن ينفرط معها عقد العمارة. لكنه بإحساسه العالي لملم أطرافها بحيله الذكية. لعب على أوتار تقسيمات الهيكل الخرساني بتردداتها المتتابعة. فحزم أطراف الأبيام البارزة في واجهات للطابق الثاني بزوايا حديدية تمتد بارتفاع الطابق. توج بها الجزء الأعلى من المبني فجعل منها عنصر وحدة مهم لململ أطراف العمارة. مثل هذه المعالجات الملامح منحت هذا العمل مظهراً حداثياُ مشرفاً جعل أهل الدار يتباهون به أمام مجتمع العاصمة.
مضت السنوات نحو عقد الثمانينيات وتوسع عبد المنعم في نشاطاته المعمارية التي تركزت في مجال البيوت والفيلات. ليكسب أراضي جديدة ويجد مزيد من القبول والإعجاب في أوساط أثرياء المدينة الجدد من الجلابة. شهدت هذه المرحلة نقلة مهمة من حيث حجم العمل ومساحته. تطور من فيلا متوسطة الحجم لدكتور منصور خالد ودكتور زاكي الدين. لمجمع سكني لأسرة إبراهيم طلب الممتدة. لينتقل لحي الطائف في الخرطوم لمشروع أكبر في نفس ذلك المجال. القفزة الكبرى أنه صمم هنا مجموعة كبيرة من الفيلات المتشابه لآل الخبير احتلت جزء مقدراً من الحي. موقعها جنوب مبني رئاسة شركة كنانة مطل علي شارع عبيد ختم الرئيس.
التزم عبد المنعم بصرامة بنهج الحداثة في هذا المشروع الكبير. شهدت تلك الفترة مفارقته لطوب الواجهات السدابة. إذ تزامنت مع مرحلة تطوير وانتشار الطوب الآلي الذي يعرف باسم طوب السكة حديد لأن مصنعه الأول ارتبط بتلك المصلحة الحكومية. أنتج منها عمارة رائعة بالغة الرزانة والأناقة أضاف إليها ذلك الطوب ألقاً على ألق. عظمة عبد المنعم تكمن في أن خلفية عملائه الجدد التقليديين الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم لم تدفعه للتنازل عن مفاهيمه الصفوية حداثية المنحى. لقد حدث العكس تماماً إذ نجح في استدراجهم بنعومة لعالم الحداثة. تقبلوا هذه النقلة لأنها احترمت واستوعبت مطلوبات قيمهم السمحة. يجب أن نشهد له بهذا الدور المؤثر.
ظاهرة تربع عبد المنعم في قلوب تلك الشريحة من أثرياء المدينة التي جعلته المعماري المفضل جديرة بالدراسة. ما حدث هنا مشابه لحالة تجربته مع شريحة الإنتل جنسيا في عقد الستينات التي أشرنا إليه بشئي من التفصيل من قبل. سأحاول هنا تفسير بعض جوانب تجربته مع أثرياء المدينة الجلابة وأصر على أنها عملية تفسير وليست تحليل. التحليل يطبق فقط في حالات الظواهر المادية حيث يشار لطولها وعرضها ووزنها ودرجة كثافتها بدرجة عالية من الدقة. الظواهر الغير مادية بحكم طبيعتها لا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة وبشكل قاطع وحاسم. عليه يجب النظر لمبررات لتقبل تلك الشريحة لعمارته كمحاولة تفسير يفتقد للأدلة العلمية القاطعة. لكنها مؤسسة على بينات تبدو مقنعة قد يتفق الناس معي فيها وقد لا يتقبلونها.
كثيراً ما كنت أمازح أستاذنا عبد المنعم فأصفه بأنه مصاب بحالة انفصام شخصية، شيزوفرانيا، حميدة تمنيت أن تصيبني. حالة أردها لوقائع وظروف متباينة مر بها في مراحل حياته المتعددة. أشرت إليها بشئي من التفصيل في أكثر من مرة ولا بأس من أن أذكركم بها مرة أخري بإيجاز. عاش مراحل طفولته وشبابه الباكر في حي شعبي ومدينة هي رمز السوداناوية. فتشبع بكل معطيات ذلك الزمن الجميل وحملها في وجدانه. قادته الظروف لاحقاً ليحط رحله ببريطانيا لدراسة العمارة في حقبة بلغ تيار الحداثة فيه قمة عنفوانه. فاستوعب وشرب مفاهيم نهج العمارة النابع منه كما يقول إخوتنا المصريون من ثدي إمها.
أعتقد أن هذه الخلفية المركبة كان لها دور مقدر في تسويق عمارة الحداثة وجعلها مفضلة لدي شريحة الجلابة من أثرياء المدينة الذين تعامل معهم. معروف في علم النفس أن ذكريات الطفولة بحلوها ومرها ترسخ في الذاكرة وتكون مؤثرة في زمان لاحق. في هذ السياق أعتقد أن قيم حياة عبد المنعم في طفولته وفترة شبابه الباكر كانت دائماً حاضرة وهو يصمم بيوت وفيلات تلك الشريحة المجتمعية. استصحبها في تصاميم فيلاتهم فنالت رضائهم بدون مماحكات. أستدل على قولي هذا بمجمل تصاميم بيوته وفيلاته بشكل عام. لن تجد فيها حالة انتقصت من أو اجترحت خصوصية الأسرة. هذا أمر بديهي لأن عبد المنعم تربي على سماع أغاني تمجد الرجل فتصفه بمقنع الكاشفات.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- نوفمبر 2018