عبد المنعم مصطفي يجرب ال Minimalism في فيلا زاكي الدين: عمارة ما قل و دل
أعتبر نفسي خلال فترة تجاوزت الثلاثة عقود من الزمان كنت قريباً جداً من أستاذنا عبد المنعم مصطفي. لكنني بأي حال من الأحوال لا أحسب أنني كنت الأقرب منه. كما لا يمكنني أن أدعي بأنني كنت قريب منه لمدة أطول من غيري. القرب الذي أعنيه هنا و يهمني لا يقاس بالمعايير المادية. يقاس بمقدار ما يجنيه المرء من فهم معمق بالشخص المستهدف بالدراسة. عند النظر في هذا الأمر يجب الأخذ في الاعتبار شخصية ذلك الشخص هو أستاذنا عبد المنعم بكل صفاته بالغة التميز. فهو شأنه شأن العديد العباقرة في مثل هذه المجالات الإبداعية قليل الحديث عن الروائع من أعماله. يبدو الأمر منطقياً في مثل هذه الحالات. باعتبار أن الواحد منهم قد قال قولته من خلال عمله المعماري. في هذا السياق يمثل أستاذنا حالة متطرفة. عَمقها في نفسه جانب من مسيرته يمثل حالة استثنائية بين أقرانه الأساتذة الكبار. أنه أبتعد تماماً عن المجال الأكاديمي منذ أن أسس مكتبه الاستشاري في مطلع السبعينيات. متفرغاً لعالم صناعة الحدث أو العمارة تاركاً الحديث عنها لغيره. فأستاذنا مقل جداً في الحديث عن أعماله. نهج كان يتبعه حتى هو في خضم عمليه صياغة الأفكار و بلورتها. حتى تنضج و يستوي عودها على طاولات الرسم. إلا في بعض حالات المخاض النادرة حين يبوح فيها ببعض خواطره المؤرقة التي كان من حسن حظي أن عايشت بعضها.
قريي الشديد من أستاذنا عبد المنعم الذي تنامي و أزدهر عبر السنوات وفق تقييمي له لم يأتي من فراغ. كنت قد التحقت بالعمل بمكتبه أنا معماري غر أخطو أول خطواتي في هذا المجال. أعانتني خلال تلك المرحلة مقدراتي و مهاراتي الفنية العالية في تنفيذ اللوحات التخيلية للأعمال المعمارية في مراحلها الأولي. إذ كنت الاميز في هذا المجال في زمان لم يكن بالإمكان إنجازها بالوسائل الإلكترونية الحالية. قربتني تلك المهارات منه فمنحتني الفرصة أحيناً لتطوير أعماله على نحو ما و أضافة بعض اللمسات الفنية عليها. مما جعله في تلك المرحلة الباكرة من مسيرتي يتنبأ لي بمستقبل واعد. أحسب أنني قد خيبت أماله إذ لم أمضي قدماً في طريق الممارسة المعمارية الذي فضلت عليه مجال العمل الفكري. ساعدتني تلك الملكات و اللمسات الفنية سرعان ما أصبحت فتي مكتبه المدلل. إذ كان يعاملني بطريقة خاصة لم يكن يطمع فيها من هم في سني و خبرتي.
تطور الأمر لاحقاً خلال فترة بعثتي الدراسية لبريطانيا التي كنت أعود فيها للسودان في جولات دراسات ميدانية متطاولة. أهرع فيها دائماً لزيارة مكتبه في شوق و لهفة بالرغم من عدم ارتباطي به من خلال مشاريعه المعمارية. الأمر الذي لم يقلل من اهتمامي بها الذي تنامي بمرور الزمن. فولج بي تدريجياً حقبتئذَ و مهد لي الطريق للدخول في مشروع التوثيق لأعماله. من قبل ذلك و بعده الولوج و التوغل و للتعرف عن قرب و بعمق على أبعاد شخصيته. أتيحت لي الفرصة مراراً عندما كنت أزوره في داره في لقاءات اتسمت بدرجة عالية من الحميمية. شكلت بالنسبة لي مسارات اختراق مهمة و فرصة ذهبية للتعرف على عالمه و نهج تفكيره. تنامت تلك العلاقة و تطورت في أخر سنوات عملي في دراسة الدكتوراه خلال زياراتي الميدانية المتكررة. ذهبت بي إلى منعطف جديد أكثر عمقاً مع تبحري في دراساتي العليا التي اتخذت لها منحًا إضافيا. محلقاً بي في أفاق فلسفية محمولة على أجنحة فيض من معارف العلوم الإنسانية. التهويم في فضاءاتها المعرفية جعلني أكثر قرباً من أستاذنا عبد المنعم و من أعماله المعمارية عبقرية المظهر و المخبر.
عودتي للسودان في نهاية الثمانينيات كانت نقطة تحول فارقة في علاقتنا. بالرغم من أنني لم أرتبط بمكتبه في عمل أو مشروع معماري. تجردها من مثل هذه المنافع المالية سمح لنا بالتحليق في أفاق سامية. طبيعة علاقتي به هيأت لنا الظروف لكي نلتقي دائماً في داره في هدأة ليل. يمكن وصفها بأنها لقاءات مسامرة أكثر من أنها جلسات حوار علمي مهني جاد. فأستاذي بطبعه ينفر من هذا النوع الثاني من كل اللقاءات ذات الطابع الرسمي التي تكون في شكل استجواب. كنت دائماً أستدرجه فيعطي إفادات مسترسلة. مثل هذه الفرص النادرة لم تأتي فتمنح من فراغ. إذ كان يتابع استعراضي لبعض أعماله المعمارية في الصحف. التي كثيراً ما كان يثني عليها مشيداً بتناولي لها بشكل معمق و كان يعتبرها أميز ما كتب عنها و عنه. منحتني ملاحظاته المشجعة جواز مرور و إقامة دائمة بين منظومة أقرب الناس إليه. فجسرت فجوة فارق السن و الخبرة بيننا. قربي الشديد منه و معرفتي اللصيقة به جعلتني و معي كثر ننصبه العراب الوطني الأوحد لعمارة الحداثة السودانية.
كثيراً ما كنت أطرز جلسات المسامرة الليلية المتطاولة بوصلات من حديث يطرب له. خصوصاً عندما اضطربت سفينة العمارة عندنا فدفعت بمعماريين أقزام للصفوف الأمامية مقصيه الأفذاذ العباقرة. معلقاً على جوانب من شخصيته لها تأثيرات عميقة على عمارته. فاعترفت له بأنني تمنيت أن أصاب مثله بنفس حالة (الشيزوفرانيا) أو ازدواج الشخصية الحميدة. نسبة حسب رؤيتي الخاصة لأثرها الإيجابي المقدر على أعماله المعمارية. تتجسد هذه الحالة في جوانب محددة من شخصيته. فهو في قرارة نفسه امدرماني قُح شَبَعت هذه المدينة الفاضلة جوانحه بإحساس سودانوي طاغي. من جانب أخر جاء في نهاية الخمسينيات من بريطانيا و قد تقمصته روح الحداثة في حالة أشبه بغسيل المخ. لكن شواهد عديدة متجسدة في أعماله المعمارية تؤكد أن سوداناويته المتجذرة في أعماقه حصنته و مكنته من تجاوز هذا المطب بنجاح. عبقريته الفذة مكنته أن ينتصر لها بدون أن يتخلى عن ثوابت فكر و نهج عمارة الحداثة. في حالة نادرة نجح من خلالها في أن يقدم نسخة سودانية أصيلة من تلك العمارة. كان يقابل تناولي لهذه الجوانب من شخصيته و مردودها الإيجابي على عمارته بارتياح يرفع من روحه المعنوية. في فترة تعرضت فيها الساحة المعمارية لهزات مؤثرة جعلت مثل أستاذنا الكبير يقف موقف المتفرج يراقب خالها في أسي بالغ.
سأركز هنا على ظاهرتين شكلتا ملمحين مهمين للغاية في عمارة أستاذنا عبد المنعم صارتا أشبه بالماركة المسجلة. الأولي ارتبطت إلى حد بعيد بمراحل مسيرته الأولي. تحديداً مرحلة مباني الفيلات التي صممها خلال تلك الحقبة لأصدقائه الأقربين. مجموعة من زملائه أساتذة الجامعة و غيرهم من حملة الدرجات العلمية العليا. كَرست مقالة سابقة لهذه الحالة مشيراً لتك الشريحة من عملائه باسم أل (الإنتـليجنسيا) المشتق من اسمه باللغة الإنجليزية. الظاهرة أو الملمح الثاني أمره مختلف جداً لأنه ارتبط بمرحلة متأخرة من مسيرته أرخت لتحول جذري في أسلوبه. الطريف في أمر هذه المقالة أنها تتناول حالة عمل معماري جمع بين هذين الملمحين بالرغم من تباعد فترتيهما. في عمل يشبه حالة الجمع بين راسين بالحلال. هو فيلا المرحوم النطاسي البارع الجراح الأشهر زاكي الدين أحمد. موقعها مطل على الجانب الغربي من شارع رئيس في حي الخرطوم أتنين. شارع 35 الذي سمي لاحقاً شارع الماظ تخليداَ لذكري أحد شهداء ثورة عام 1924. بالرغم من أن الفيلا ألت لاحقاً لجهة أخري لكن لحسن الحظ لم تطالها يد التغيير. إذ ظلت كما هي تؤرخ لحالة نادرة من أروع أعمال أستاذنا عبد المنعم في مجال عمارة الفيلات.
كتبت كثيراً عن تلك المرحلة الأولي من مسيرة أستاذنا متوقفاً في أكتر من مرة عند واحد من أميزها في مجال الفيلات. من أهمها و أشهرها فيلا المرحوم الدكتور منصور خالد التي تناولت حالتها في أحد مقالاتي. جاءت فيلا دكتور زاكي الدين في نفس ذلك السياق لكنها تميزت عليها بجوانب مهمة سنشير إليها لاحقاً. فيلات الأستاذ خلال تلك الحقبة و ما بعدها ارتكزت على عدة ثوابت مهمة. كتبت عنها كثيراً لا مانع من الرجوع إليها هنا. العمل المعماري في كل تلك الحالات مؤسس على مكعب متطاول بارتفاع طابقين أو أكثر في بعض الحالات. متوجه ناحية الشمال و الجنوب استجابة لدواعي مناخية. يمسك بزمام العمل المعماري بصرامة. موظفاً عناصر المبني الإنشائية، الأعمدة و الابيام التي تبرز أطرافها أحينا لبضع سنتمترات أمام الواجهة. تمسك بزمام العمل المعماري كما يفعل اللجام مع جواد جامح. يسمح بعد ذلك للمكعب المتطاول أن يتحرر فيتلاعب بالعمل المعماري كما يشاء وفقاً لاحتياجات كل حالة. تتم العملية بالخصم و الإضافة لذلك المكعب النقي. كلمة تلاعب هنا يجب ألا تفهم بأنها حالة مزاجية شخصية. شبيه بالتلاعب بالألفاظ في مقالة أو عمل أدبي بلا مضمون
الغرض من الخصم و الإضافة هو تفاعل ذلك المكعب مع إطاره الخارجي داخل و خارج القطعة السكنية. في حالات عديد يكون أهم جزء من هذا التفاعل مع الشارع الذي يقع أمام الفيلا. وضحت ذلك بشي من التفصيل في حالة فيلا المرجوم منصور خالد. دور هذا المكون المؤثر في تصميم الفيلا أوحي لي بجزء من عنوان تلك المقالة هو مقطع: الاستدامة الثقافو-مجتمعية. التي ركزت فيها على الطريقة التي تعامل فيها أستاذنا بحساسية فائقة مع استحقاقات أساسية ذات طابع ثقافي قيمي و مجتمعي. أدعوكم لقرأتها مرة أخري تجدونها مع في أرشيف مدونتي في الفيسبوك و في أل LinkedIn. مضمنة أيضاً في موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط- drhashimk.com. ها هو أستاذنا عبد المنعم يكرر التجربة مرة أخري في واحدة من الفيلات من تصميمه. تظهر فيها في شكل جديد مبتكر في فيلا دكتور زاكي الدين بالخرطوم أتنين التي سأحدثكم عنها لاحقاً. جزئية في التصميم تجعل ازدواجية شخصية عبد المنعم تطل براسها مرة أخري ة تفرض نفسها عليه. تتنازعه سودانانويته فيتحايل غلي المكعب المتطاول بالاستثمار في الخصم و الإضافة ليرضي غرورها. ليقدم لنا نسخة بليغة المعاني لعمارة الحداثة السودانية.
كلمة السر في عمارة فيلا زاكي الدين تكمن في الهيمنة التامة لذلك المكعب المتطاول الذي يحكم قبضته على المشهد. نتيجة لمعالجات مدروسة بعناية فائقة. سيد الموقف هنا الهيكل الإنشائي بأعمدته و ابيامه التي ترصع جبين المبني. سلاح العمارة المضاء هنا هو البساطة الفائقة التي تتجلي في مكوناتها و كافة تفاصيلها. يبدو أن أستاذنا حملها معه هو يحزم أمتعته مغادراً بريطانيا بعد انتهاء بعثته المظفرة. كواحدة من أهم مغانم عمارة الحداثة التي صار عرابها الأوحد في بلاده. حقق هيمنة المكعب المتطاول بلا منازع عبر عدة خطوات تصميمية ذكية. من أهمها تصميم النوافذ العريضة التي تتمدد من العامود للعامود بلا كثير فواصل أو تفاصيل. عزز من خلوها من التفاصيل جزء إضافي خارجي. طبقة متحركة اسمها باللغة الإنجليزية الشترس shutters. عندما تسدل عليها تلغي كل تفاصيل فتحات النوافذ. فتقوي من الإحساس بالمبني ككتلة صماء من تأثير المكعب المتطاول. هيمنة و استفراد هيكله الخرساني بالمشهد تعززه معالجات ثانوية أخري في أجزاء المبني. على سبيل المثال تصميم عناصر الحاجز على أطراف طابق السطح و بوابة مدخل الفيلا ممعن في البساطة. كأنها تتواري خجلاً و هي في حضرة المكعب المتطاول. من مظاهر هيمنة لونه الناصح البياض خلو المبني من ألوان أخري منافسة له. فحائط السور الحجري أحادي اللون مائل للون الرمادي المحايد. يربض على استحياء عند مدخل المبني مفصحا المجال للمكعب المتطاول بلون هيكله الأبيض ليتسيد الموقف.
عبقرية تصميم فيلا زاكي الدين لا يمكن استيعابها بالكامل إلا من خلال خلفية تطورات معينة. جرت أحداثها في حي الخرطوم اثنين. في حقبة زمانية تمددت من نهاية الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات تاريخ تشييد الفيلا. مرحلة مفصلية من تاريخ نمو المدينة عاشها الحي بكل أبعادها الاقتصادية و المجتمعية و الثقافية. ألقت بظلالها الكثيفة على عمارته بالذات السكنية منها في ذلك الحي الراقي الوادع في سالف الزمان. الذي عُمر بعد حي الخرطوم واحد كما هو واضح من الأرقام في أطار تطور المدينة خلال تلك الحقبة التاريخية. خصص لكبار المهنيين السودانيين الذين عاصروا المرحلة الأخيرة من فترة الاحتلال ليتقلدوا بعد رحيله مراكز قيادية بعد الاستقلال. شخصيات مرموقة تجلت درجة رقيهم في مستوى عمارة بيوتهم ذات الطراز الهجين الذي تجاذبته عمارة المحتلين الحديثة حقبتئذٍ. كرت السنوات و العقود رحل معها من دنايانا الأماجد من سكان تلك البيوت. حل محلهم أبنائهم و بناتهم الذين تبـوا نفس المراكز المتقدمة في كافة التخصصات و المهن. فضل بعضهم البقاء في رحاب دور أبنائهم في نفس الحي المضمخ بعبق ذكريات الماضي التليد. بقوا هناك بالرغم من أن الحي لم يعد نفس ذلك الحي الراقي الذي يقطر وداعة. الشوارع نفسها التي كانت غاية في النظافة و النظام باتت ترسم لوحة مناقضة لذلك الماضي الزاهر. صار حالة الحي في مجمله و كل تفاصيله بالغ التعقيد. فأصحاب البيوت يعشقون الحي يتمسحون بذكرياته و الشارع أمامهم يرسل رسالة مشوشة إن لم نقل منفرة.
وجد أستاذنا عبد المنعم مصطفي نفسه في قلب ذلك المأزق الحضري. عندما اختارته واحدة من أسر ذلك الحي الراقي لتصميم فيلتها. من الذين ولدوا و شبوا فيه ليصلوا لنفس مكانة أسلافهم السامقة. فقرروا تقديراً و اعترافاً بجميل تاريخ الحي المجيد و ذكرياته العطرة أن يتمسكوا به لشيدوا فيه فيلتهم. متجاهلين خيارات أخري يشار إليها بالأحياء الراقية في أطراف المدينة. أسرة على راسها السيدة الفضلي المدام الراقية ستنا حسن. رفقة زوجها الأستاذ الجامعي المرموق و النطاسي البارع و الجراح الأشهر حقبتئذَ الدكتور زاكي الدين أحمد. الذين كانوا من نجوم المجتمع تحفهم نخبة من نظرائهم و أصدقائهم يحيطون بهم كما الكواكب. كانوا (نوارة) و ريحانة مجالس المدينة قبل أن تعصف بهم و بالبلد أنواء السياسة و شطحاتها الإيديولوجية. كان من بين زمرة أصدقائهم أقربهم إليهم، لحسن حظ عمارة الفيلا، أستاذنا عبد المنعم مصطفي. الذي أنبري لهذه المهمة المحفوفة بالتحديات فنجح بفطنته الزاخرة في التعامل معها بحذاقة عالية. مستثمراً في خاصية ازدواج شخصيته ليجتاز هذا الامتحان بامتياز.
تجاوز هذا الامتحان و التحدي من خلال عملية تنطيق أفقي و راسي ذكية. أي بمعني أنه رتب مكونات الفيلا أفقيا على الأرض و راسياً من خلال طوابقها بطريقة أريبة. بشكل أستوعب معه كافة تعقيدات هذه الحالة التي تضاعفت في السنوات الأخيرة. من أهمها ضجيج و صخب الشارع المتصاعد الناتج عن أكثر من زلزال حضري. لكأني به قد تنبأ بأخر أخباره بعد أن زُرع في خاصرة الحي أكبر موقف لحركة المواصلات العامة. الذي يرفد شوارعه بتدفقات بشرية متواصلة طوال اليوم من كافة أطياف المجتمع و شتي أطراف العاصمة. تعامل أستاذنا بحصافة فائقة مع تعقيدات هذا الموقف. أفقيا بترك مسافة مقدرة بين مكعب الفيلا المتطاول و الشارع الواقع أمامه بصخبه المتواصل. ليستخدمه كمنطقة عازلة تعرف باللغة الإنجليزية بال buffer zone. لم يكتف بهذا الارتداد لتأمين أهل الدار من منقصات الشارع. كمزيد من الاحتياطات فرغ الطابق الأرضي من الفيلا فرفع غرف الدار إلي الطابق الأول. مستخدماً ذلك الطابق كمنطقة استقبال مفتوحة مع بعض غرف الخدمات. بذلك أنجز الكثير من خلال التنطيق الأفقي.
في خطوة في نفس المسار لجاء الأستاذ لحيلة التنطيق الراسي فرفع غرف الفيلا الرئيسة إلى الطابق الأول. مباعداً بينها و بين الشارع و صخبه المستمر. فعزز من عزلتها التي حققها من قبل بالتنطيق الأفقي. بالرغم من كل ذلك لم يحرم من في الغرف تماماً من جس نبض الشارع من على البعد من على الذي حققه بخطوتين مهمتين. أتاح لكل غرفة شباك عريض يسمح بِإطلالة بانوراميه على عالمهم الخارجي المصطحب. نوع شبابيك تميز بتجهيزات تسمح لمن بالحجرات بخيارات متعددة بالذات لمن لا يرغبون في تلك الإطلالة. فهي مجهزة بطبقة اسمها باللغة الإنجليزية الشترس. shutters تعمل كالسحاب بحيث تقفل فتحجب النظر تماماً لتعزل من بالحجرات عما يدور حولهم. مثل هذه التعقيدات أوحت للمصمم أستاذنا عبد المنعم بحلول عبقرية نابعة من إحساس داخلي متميز سنشير له لاحقاً. الذي مكنه من التعامل بشكل متوازن مع هذه الحالة. نجح في تحقيق بعض التقارب بين أهل الدار و أجواء الحي الخارجية. عبر جزء من الطابق الأول هو من أميز مكونات الفيلا. مكنه من التحرر من قبضة مكعب الفيلا المتطاول منسرباً من صالة الدخول في شكل سطوح صغير. محلقاً متوجهاً نحو الشارع ليلامس حدود القطعة السكنية. مؤسساً لحالة مصالحة بين سكانها الانتليجنسيا و عابري السبيل من عامة الناس و ابسطهم مقاماً. لحظة تجلي لأستاذنا عبد المنعم وهو تحت تأثير حالة الشيسوفرانيا. التي كبحت فيها جيناته السوداناوية نزعة الحداثة الجامحة. لحظة تجلي كان مسرحها ذلك السطوح الصغير.
نعود مرة أخري لعنوان هذه المقالة من خلال ظاهرة انغماس و افتتان أستاذنا عبد المنعم بفكر و نهج الحداثة. معرجين على طراز فيلا دكتور زاكي الدين محور المقالة. لتأمله في إطار توجه أل Minimalism الذي يظهر اسمه كجزء من عنوان المقالة. توجه نشاء في بداية القرن الماضي كرؤية فلسفية فكرية غربية المنشاء يمكن تلخيص مضمونها في عبارة ما قل و دل. انتشرت بين الناس فصارت طريقة تفكير و نهج حياة في عدد من بلاد ذلك العالم. أنتجت لاحقاً حركة تأسست خلال تلك الحقبة التاريخية في حضن مجال التصوير أو التلوين أحد أهم ركائز الفن التشكيلي. تمدد تأثيرها بعد ذلك لعدة مجالات إبداعية على راسها العمارة. الذي تبني فكر الحركة فيها المعماري الألماني الأشهر ميس فان ده رووه في منتصف القرن الماضي. أحد مؤسسي توجه عمارة الحداثة حقبتئذٍ. الذي نشر فكر تلك الحركة من خلال شعاره الأشهر less is more أي خير الحديث ما قل و دل. عمل على ترسيخه و نشره عبر أعماله الخالدة. التي كانت ذات أثر كبير على أجيال من المعماريين لفترة طويلة تمددت منذ ستينيات القرن الماضي حتى زماننا هذا. كان أستاذنا عبد المنعم مصطفي واحداً منهم صار عندنا من أهم حيران أو حواري هذه الطريقة.
قدم ميس خلال عدة عقود من الزمان عمارة بالغة التميز خالية من الشوائب حسب رؤية أل Minimalism بالغة النقاء مكثفة مقطرة. مطوفاً بها في عدد من أنواع العمارة من مباني المتاحف لأجنحة المعارض الدولية للبيوت. متنقلاً بها في بلدان أوربية عابراً بها المحيط ليقدمها في أنصع صورة في الولايات المتحدة. مقدماً رسالة أل Minimalism في أنصع صورها في متحف الفن الحديث في برلين و جناح ألمانيا في معرض برشلونة الدولي في إسبانيا. بالإضافة لعدد من البيوت من أميزها بيت السيد فانسورث في ضاحية بلانو بولاية إلينويز الأمريكية. جاءت في مجملها حداثية المظهر تسيدا أغلبها هيكل إنشائي فولاذي يكاد ينفرد بالمشهد. مقدماً من خلالها عمارة مقطرة نقية مجسداً شعار خير الحديث ما قل و دل. less is more. تحلي من خلال تلك الأعمال و غيرها في التعامل مع التفاصيل. منزلاً إلى أرض الواقع واحداً من أهم مقولاته: عظمة الخالق تكمن في التفاصيل، ترجمة لنصها الإنجليزي God is in detail. تعامل بدقة عالية و حذاقة فائقة لا نظير لها مع تفاصيل تلك العمارة الفولاذية. بشكل يعطي انطباع بأن مكوناتها ملتصقة مع بعضها البعض بقوة مغناطسية.
نعود مرة أخري لعمارة فيلا دكتور زاكي الدين بحي الخرطوم إثنين. الواضح أن أستاذنا عبد المنعم الذي صار بمثابة عراب عمارة الحداثة في السبعينيات كان الي حد بعيد واقعاً تحت تأثير حركة ال Minimalism. أقبل على تصميم تلك الفلا يغمره إحساس جارف بمفاهيمها. التي اجتهد في أن يجسدها في تصميمها في أنصع صورها. أعانه و شجعه على ذلك ما يمكن أن نسميه حالة الاستنارة و الوعي المتقدم و مزاج أصحاب الفيلا و ثلة أصحابهم الميامين من طائفة الإنتليجنسيا. بالإضافة لمجتمع الحي الذي نجح فيه من تبوا مكانة إسلافهم الأماجد حقبتئذٍ في المحافظة على مستواه الراقي. بالرغم من عدم مقدرتهم على السيطرة على بيئته الخارجية. لم يكن ينقص أستاذنا العلم و الإحساس العالي الرفيع بمفاهيم تلك الحركة. ليقدم مثل ما قدمه أنداده في العالم الغربي في التعبير عنها. ما كان يفتقده خلال تلك الفترة هو التقنيات العالية في التشييد تحديداً في مجال الإنشاءات الفولاذية. التي تمنح العمارة خفة تجعلها ترفرف كما قدمها ميس من قبل في أعماله الخالدة. بالرغم من ذلك في حدود الإمكانيات المتاحة بذل أستاذنا عبد المنعم قصارى جهده.
قدم أستاذنا في فيلا دكتور زاكي الدين نسخة سودانية معبرة عن مفاهيم ال Minimalism. عمارة نقية مقطرة بلا زيادات أو رتوش أو زخارف. يتسيدها المكعب المتطاول بهيكله الخرساني ناصع البياض رمز التقاء أهم مرتكزات هذه الحركة. ليعكس أهم شعاراتها less is more أي خير الكلام ما قل و دل. ألتزم الأستاذ بصرامة بضوابط مشروع عمارة الحداثة الجمالي معتمداً على مقدرات و إحساس فني لا نظير له. لم يلجأ للمحسنات الجمالية من زخارف و زخم لوني. راهن على تناسق النسب أهم مفاتيح اللعبة التي برع في فك شفرتها متكاً على إحساس داخلي هو جزء أصيل من تركيبته. راهن أيضاً على أهم ركائز مشروع الحداثة الجمالي الذي يمنح عمارته حيوية بازخة. من أهمها الحوار بين مكوناتها المؤسس على فكرة التضاد مثل البروز و الارتداد في المكعب المتطاول. الذي يفعل حوار الكتلة و الفراغ فيمنح العمارة حيوية دافقة. لم يفعل ذلك بغرض التلاعب بالكتل لكن لأسباب موضوعية. فعندما خصم جزء من المكعب في الطابق الأرضي فعل ذلك ليرفع غرف الفيلا في الطابق الأعلى ليجنبهم صخب الشارع. أيضاً عندما برز بجزء من المكعب المتطاول في شكل سطوح ناتئ في الجزء الأمامي فعل ذلك لتحقيق نفس تلك الأهداف النبيلة. لإتاحة قدر من التواصل لمن في الفيلا مع عالمهم الخارجي من على البعد.
هناك نوع أخر من الحوار لا يقل أهمية أساسه هذه المرة نوعية أسطح مكونات المبني. المؤسس هذه المرة أيضاً على فكرة التضاد. حوار بين أسطح ملساء للغاية و أخري في غاية الخشونة. مثل أسطح الهيكل الإنشائي الخرساني و حافة السطوح في مقدمة المبني ناعمة الملمس. هي تحاور مساحات الحجر الطبيعي الزاخرة بالتضاريس. حالة التضاد لها بعد أخر لا يقل أهمية أساسه اللون هذه المرة. نجده في الحوار بين لون هيكل المكعب الإنشائي الناصع البياض مع حيطان الحجر الطبيعي داكنة اللون. الواضح هنا أن خاصية التضاد بصورها المتعددة تلعب دوراً مؤثراً في حقن هذا العمل المعماري بجرعات مقدرة من الحيوية. من خلال عملية بروز و ارتداد مكونات المبني و نوعية ملامسها و ألوانها. التي أستثمرها أستاذنا بذكاء فائق و حساسية عالية. بدافع من جيناته السوداناوية التي روضت نزعة الحداثة الدفينة المشبعة بفكر حركة أل Minimalism. نجح هنا بذكائه المعهود في توظيف ازدواج شخصيته فجعل نهجها مقبولاً و مستساغاً للذائقة السودانية. أني أعتقد بناء على العديد من القرائن بأن السوداني مهما بلغ مقامه العلمي و الثقافي نجد في قرارة نفسه رغبة و توق للزخرف و الثراء اللوني. لا أستثني من هذه القاعدة طائفة الإنتلتجنسيا. نجح أستاذنا في التعامل بشكل أريب مع تعقيدات هذه الحالة مفعلاً حالة ازدوج الشخصية الكامن في جوانحه.
تمثل فترة السبعينات العصر الذهبي لأستاذنا عبد المنعم مصطفي الذي تنقل فيه برشاقة بائنة في عالم العمارة السكنية تحديدا الفيلات و لاحقاً البيوت. تكن النقلة هنا فقط بين هذين النوعين من المساكن. الأهم من ذلك أنها كانت نقلة مهمة في نوعية من كان يصمم لهم، عملائه أو زبائنه كما يعرفون في هذا المجال. أنتقل فيها من التعامل مع أساتذة الجامعة و كبار المهنئين من حملة الشهادات العليا أو الإنتليجنسيا كما سميتنهم. إلى فئة مختلفَة تماماً في مقدرتها المالية العالية و خلفيتها الثقافية و المجتمعية. أغلبهم لم يتلقوا قدراً وافراً من التعليم و كانوا أيضاَ أوانئذٍ حديثي عهد بالمدينة و مجتمعها. لهذه الأسباب أشرت لهذه الفئة من تجار المدينة و رجال أعمالها الجدد باسم الجلابة المتعارف و شائع بين الناس. سطرت من قبل مقالة عن ظاهرة تعامل أستاذنا مع هذين الفئتين المتباينتين. عنوانها: عبد المنعم مصطفي معماري الإنتليجنسيا و أيضاً الجلابة. تجدونها ضمن مواد موقعي الإلكتروني و نشرتها في منصة أل LinkedIn. وثقت تلك العمارة السكنية الرائعة بنوعيها خلال حقبة السبعينيات و الثمانينات للعصر الذهبي في مسيرة أستاذنا عبد المنعم. التي وضع فيها أساس متين و قاعدة صلبة لعمارة الحداثة السودانية. غازل فيها عشقه الأثير لمفاهيم حركة أل Minimalism متعاملاً معها علي استحياْ. فالحالة هنا لم تكن تسمح له بمساحة واسعة للحرية التي تقيدها خلفية و امزجه عملائه أصخاب الفلل و البيوت. الذين تحايل علبهم نوعاُ كما أشرت لذلك في أكثر من مرة و حالة.
كان الوضع مختلفاً بالنسبة لأستاذنا عبد المنعم و لمسيرته المعمارية ابتداءً من حقبة الثمانيات. فترة وثقت لمنعطف و تحور أساسي في أسلوبه. من أهم مسبباته انعتاقه و تحرره النسبي التدريجي من قبضة عملائه من أصحاب الفلل و البيوت. يضاف إليها أمر مهم هو انطلاقه إلي رحاب عملاء جدد. مختلفين تماماً عمن سبقوهم نتيجة لطبيعة مشاريعهم بالغة الأهمية. خاصة بجهات إقليمية ذات وزن ثقيل و أخري قومية لا تقل عنها أهمية. على سبيل المثال المصرف العربي لتنمية أفريقيا و مؤسسة التنمية السودانية التي أسسها نظام ثورة مايو لتكون راس الرمح للتنمية و الاقتصاد القومي. وجد أستاذنا في تلك المشاريع فرصة العمر إذ توفرت لها كل مقومات العمل المعماري المرتجى. عايشت إلى حد ما مرحلة المخاض في كلا المشروعين. كانت بالنسبة له فرصة ذهبية لطرح أخر أفكاره التي كانت تسيطر عليها رؤية أل Minimalism. فانطلق بها إلى مدي بعيد ساعده فيه سخاء الميزانيات و عدم تسلط العميل و مزاجه الشخصي. فقدم رؤي معمارية مفرطة النقاء من أروع ما يجسد ذلك التوجه. الطريف في الأمر أنه قبل بداية العمل في هذين العملين الكبيرين قد قدم مشرعين أقل أهمية و أصغر حجماً. طبق فيهما فكر تلك الحركة بشكل أقل نبرة. في حالة شبيه بعملية تسخين أو إحماء اللاعبين قبل بداية المباريات. المبنيين هما مكتب شركة الخطوط الجوية السعودية بشارع علي عبد اللطيف في الخرطوم غرب و عمارة ود الجبل في سوق حي الخرطوم اثنين. إذا كنا قد اعتبرنا مرحلته الأولي هي عصره الذهبي يحق لنا أن نعتبر الأخيرة عصره البلاتيني.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- فبراير 2021