عمارة الخرطوم عبر الزمان: شارع الجمهورية في أحضان روائع معمارية
استدرجني إلي رحاب عمارة الخرطوم عمل توثيقي الطابع. تعاملت تعاونت فيه مع أحد أهم قنوات الخليج العربي التلفزيونية الفضائية ذائعة الصيت. ذهب بي إليها بعد غيبة لأسباب متعددة خارجة عن إرادتي نأت بي عن تلك المدينة الحبيبة إلى النفس. وضعتني هذه المهمة الجذابة وجه لوجه أمام جزء مهم جداً منها. جزوره ضاربة في القدم نفسه تواقة لمواكبة للزمن متطلعة دوماً لصناعة المستقبل بكل تحدياته المتنوعة. وضعتني هذه المهمة التوثيقية في (وش) المدفع كما يقول المثل الشعبي. إذ كانت معنية على وجه الخصوص بواحد من أهم أوجه مكونات مركزها التجاري الإداري هو شارع الجمهورية. الذي عرف في غابر الزمان خلال فترة الاحتلال البريطاني المصري باسم شارع السردار. مهمة عسيرة محفوفة بالتحديات. تستلزم النبش في كتب التاريخ وتنشيط ذاكرة اعترتها نوائب الدهر. أيضاً استنهاض الهمم لعملية عصف ذهني بالغة الأهمية. تمرين مهم للغاية أعاد لي بعض الحيوية الفكرية في زمان الكورونا الأغبر. فرأيت من خلال هذه المقالة أن اصطحبكم معي في تطواف نسير فيه معاً في هذا الشارع. متوقفين هنا وهناك متأملين معاً مجموعة من الروائع المعمارية المنتقاة بعناية فائقة. التي سجل فيها التاريخ وضع بصماته البائنة فقال كلمته خلال فترة تجاورت الاثني عشر عقداً من الزمان. حاجز زمني اخترته لتوفر المعلومات عنه بشكل مرضٍ مقبول.
عملية النظر في حالة شارع الجمهورية وتفحص العمارة على جانبية تؤرخ لتداعيات فترة تجاوزت القرن من الزمان ببضع عقود. مجريات أحداث تاريخيةً تقتضي أن نبدأ النظر فيها مبتدئين من طرفه الشرقي متوجهين عبره حتى طرفه الغربي. بناءً على تسلسل وتتابع الحركة العمرانية التي كانت ضربة البداية فيها هناك مع مطلع القرن الماضي لتسير في نفس ذلك الاتجاه. في حالة نمو عمراني متصاعد خلال العقود الأولي والنصف الأول من القرن الماضي. في فترة الحكم الثنائي البريطاني المصري. تخصيص منطقة الطرف الشرقي المحيط بالشارع لمساكن الموظفين البريطانيين كان منطقياً. فقد كانت تلك المنطقة مؤمنة بتواجد ثكنات وحدات من جيوش دولتي الاحتلال بجوارها المعروفة باسم (البركس). مفهوم ضمناً مخاوفهم في تلك المرحلة الباكرة من فترة الاحتلال من الهبات الشعبية الغاضبة. كمزيد من تأمينهم هناك تميز ذلك الموقع بقربه من أماكن عملهم في الوزارات والدواوين الحكومية. التي اصطفت بين ضفة النهر وشارع الخديوي الذي صار شارع الجامعة بعد الاستقلال.
نجحت أجواء تلك الأحياء السكنية وعمارة بيوتها في تحقيق أهداف مهمة للغاية بالإضافة للأمن والأمان الذي حققه اختيار الموقع. من أهمها التعامل مع واحد من أهم المنقصات التي أرقت البريطانيين حقبتئذٍ. هي حرارة الطقس التي لم يألفوها في بلادهم الباردة. هدف تم تحقيقه من خلال عدة خطوات. علي عدد من مستويات البيئة السكنية أفضل أن أسميها خطوط دفاع متعددة الأنواع. لعب فيها التشجير والتخضير دوراً أساسيا على مستوي الأحياء وداخل القطع السكنية. شكلت فيها الأشجار والمسطحات الخضراء داخل القطعة طوقاً حامياً حول كتلة المبني. خطوة أخري كانت في غاية الأهمية قللت من حرارة الطقس داخل الغرف. هي إحاطتها بحزام من الرواقات او البرندات. التي ساعدت إلى حد كبير في تحييد درجة الحرارة الخارجية العالية. اكتملت تلك الخطوات الاحترازية باخري لا تقل أهمية مثل طبقات العرش المزدوجة. تحققت بإضافة طبقة داخلية من مادة شبه خشبية عازلة تحت الألواح المعدنية المتموجة الخارجية العليا. تلك الخطوات والمعالجات كانت زمانئذٍ بالغة الأهمية نسبة لانعدام وندرة وسائل تبريد المباني الميكانيكية. التي جعلت من البيوت واحات وسط إطار حضري ملتهب خلال أشهر الصيف المتطاولة.
اكتملت صورة تلك البيوت الحكومية الزاهية بفيض من أروع المكونات والتفاصيل. تحديداً تلك التي توجتها عروش (المارسيليا) والمكتسية ببلاطات القرميد الفخارية. أو تلك التي تصدرت واجهات رواقاتها أو برنداتها الأعمدة الكلاسيكية أيونية الطراز مترفة الرشاقة والأناقة. بالإضافة للتفاصيل المعمارية الشبيه ب) الاكسسوارات (. عدد من البيوت شكلت منظومة رائعة مع مثيلات لها تفوقن عليها توارين بعيداً عن واجهات شارع السردار. أعظم مثال لها نموذجين ظلمهما موقعها البعيد عن الأنظار. في الجانب الخلفي الشمالي الغربي من مجمع وسط جامعة الخرطوم المواجه للنهر. تحديداً مبنيً كان في سالف الزمان منزل حاكم العاصمة الخرطوم ثم صار لاحقاً مكتب مدير الجامعة. مقدماً نفسه كأعظم نموذج لعمارة السدابة المطعمة بتفاصيل بازخة الجمال. نافسه مبني أخر ليس ببعيد منه ظلت تشغله منذ فترة طويلة واحدة من أهم ركائز الجامعة أمانة الشئون العلمية. العناية والاهتمام الذي وجده هذين المبنيين افتقدهما العديد من المنازل الحكومية على جانبي شارع السردار. إذ ساءت حالتهم في عقود لاحقة خلال فترات الحكم الوطني نتيجة لتغيير استخداماتها. إذ صار جلها مقراً لوحدات بعض الوزارات مما عرضها لعمليات خصم وإضافة عشوائية ألحقت بها أذيً بليغاً. تبدلت معالمها وملامحهما فصارت مسخاً مشوهاً لا يمت بصلة لأي طراز معماري.
مضت عملية تغيير استخدامات البيوت في تلك المنطقة بعد الاستقلال في العصر الحديث لمدي بعيد كانت له إسقاطات عميقة. مضت بشكل تصاعدي أفرز ظواهر معمارية جديرة بالاهتمام. خلال فترة تسارعت فيها خطي الجهات الرسمية في التخلص من البيوت والوحدات الحكومية هناك. باعت أراضيها لجهات نشطة في مجال الاستثمار العقاري. كان لضفاف الجزء الشرقي من شارع الجمهورية نصيب وافر منها ظهر في شكل أبراج عالية. كنت حقبتئذٍ في السبعينيات معماري حديث التخرج قريب من مواقع إنتاج أفكار تلك الأبراج. في زمان كان شيخنا استأذنا عبد المنعم مصطفي متسيداً للموقف نافسه زمرة من الشباب كانوا من قبل من طلابه. أنتجوا إبداعاتهم هناك أبراجاً على ضفاف الشارع قدمت عمارة الحداثة السودانية في أزهي صورها. أذكر منها المبني الخاص بوكالة السودان للأنباء (سونا) الذي صممه أستاذنا عبد المنعم. لدهشتي الشديدة التي يشاركني فبها بعضكم تغير ملامح تلك الأبراج بشكل جزري. تصرف مشروع لحد ما إذ أن الزمن دائماً كفيل بتغيير الأشياء. لكن يبقي السؤال المحرج عن الجهات التي تعتبر مؤهلة للقيام بمثل هذه المهمة المعقدة بشكل يحافظ على مستوي تلك الأعمال المعمارية. سؤال مهم محرج يطرح قضية حساسة لأنها تتعامل مع جوانب مهنية أخلاقية أساسية. لأن بعض من صمموا تلك الأعمال ناشطين موجودين بيننا. لم يتم الاتصال بهم او يطلب منهم المساهمة في معالجة أعمالهم السابقة لتواكب الزمن. أثير هذه القضية لأنها معنية بظاهرة أطلت بوجهها في حالات عديدة بمركز الخرطوم لا تقل أهمية.
أرخ مطلع القرن الماضي لبداية فترة الاحتلال البريطاني المصري. التي شهدت تطورات مهمة ومرحلة مفصلية في تشكل عاصمتهم الجديدة الخرطوم. احتاجت سلطاته لشرائح أخري بالإضافة لمنسوبيها لتقديم خدمات لم يكون السودانيين مؤهلين لها. فاستعانوا بمجموعات من خارج إطارها بعضهم من أصول أوربية أغلبهم يونانيين كان لهم دور مؤثر في تحريك الاقتصاد حقبتئذٍ. اشتغل عدد منهم في مجال تجارة السلع الاستهلاكية اليومية التي كانوا يحتاجونها. لهذا الأسباب لأنهم كانوا يأمنون جانبهم خصصوا لهم مناطق سكنية ليست بعيدة عن مناطق سكنهم. توزعت في قلب العاصمة في مناطق يشار إليها بالخرطوم شرق والخرطوم وسط. انتشرت فيها فبلاتهم الأنيقة التي برع في تصميمها مهندسون من بني جلدتهم. أشهرهم اليوناني إستيفانيدس الذي كان نجم الساحة. تجاوز إبداعه مجال العمارة السكنية ليغطي مباني البنوك والفنادق. أحدثت أعماله نقلة طرازيه مقدرة عبرت بعمارة ذلك الزمان من أفاق الكلاسيكية البريطانية والمصرية لتلامس الحداثة بحذر. تميزت بدفق من الحميمية نجاوز العمارة السكنية ليسطع في مباني البنوك والفنادق. التي ظهرت بوتيرة متكررة مثل الكتل الانسيابية والأعمدة دائرية أو بيضاوية المقاطع. من المؤسف أن عدد من تلك الروائع تبدل حاله أو أزيل كانت العمارة السكنية الأكثر استهدافاً. لم يتبقى منها شئي يذكر على جانبي شارع السردار والجمهورية لاحقاَ. منها مبني بنك الخرطوم المواجه للقنصلية المصرية هو من أعمال إستيفانيدس.
المتحرك من الجهة الشرقية لذلك الشارع متوجه نحو مركزه تنتظره مفأجأت معمارية لافته للانتباه. تحديداً عنده تقاطعه مع شارع المك نمر في الركن الشمالي الغربي منه. حيث تكمن خلف الأسوار العالية تحف معمارية بالغة التميز غربية كلاسيكية السمات. تعلن باعتزاز عن وجود كان مؤثراً للجالية اليونانية محدودة العدد في النصف الأول من القرن الماضي. شفع لهم تاريخهم المجيد الذي سطر بأحرف من ذهب أروع الصفحات في تراث الغرب الكلاسيكي. فحق لهم أن يتباهوا به في رحاب ذلك المجمع فاستعرضوا فيه عضلاتهم المعمارية. سطعت فيه تفاصيل مترفة الجمال منفذة بدقة بلغت أعلي درجات الإتقان. أكثر ما بهرني في العمارة هنا نبرتها الخفيضة فهي تبذل نفسها للمتغزل في حسنها على استحياء وخفر. أهم ما يميز هذا العمل مشروعه اللوني الذي تذوب فيه المكونات المعمارية في بعضها البعض في سلاسة مدهشة. كلمة السر التي تمنح العمارة ألقها سيدة الموقف أعمدته. التي تسلم نفسها تستسلم تماماً للنظام الكلاسيكي الأيوني العريق الأنيق المتألق الذي لم يقصر معها. تعربد تيجانه مترفة الجمال فتتسيد المشهد في خيلاء. كنت قد تغزلت فيها فشبهتها بجانب من مشاهد كانت عامرة بالبهجة في ليالي أفراحنا في زمان سالف. حينما تتلاعب الحسان في حلبة الرقص بأطراف شعرهن المرسل الشبيه بتلك التيجان في حركة يشار إليها بالشبال. يطوحن به مع نغمات الغناء فتتلاعب معه بقلوب العشاق من الحضور. منظر تيجان الأعمدة الأيونية التي تطرز المشهد المعماري هنا تخلب القلوب. تماماً كما كانت تفعل جدائل شعر الحسان المضفورة بعناية.
مجمع الجالية اليونانية يقودنا في مسيرتنا غرباً إلى طرف المدينة عبر مركزها التجاري الإداري. الذي كان في أول مراحل تكوينه مع بدايات القرن. لتقابلنا هناك حالة بالغة التميز في شبكة طرق العاصمة خلال مرحلة مخاض ميلادها. تقاطع طرق أو دوار مروري نسميه الصينية. عرف تاريخياً باسم صينية سانت جيمس إشارة لملهي ليلي ارتكز بخاصرته. تميزه نابع من أنه حالة فريدة في مثل هذه التقاطعات. حاولت السلطات المعنية أن ترسم من خلال تقاطع شوارعه شكل العلم البريطاني المعروف باسم أل Union Jack. بحيث تتقاطع عنده شوارع متجهة من الشمال للجنوب مع أخري من الشرق إلى الغرب. متقاطعة مع شبكة ثانية مماثلة تسير بدرجة ميلان خمسة وأربعين درجة من الاتجاهات السابقة. مكونة شبكة شوارع في ذلك التقاطع في غاية التعقيد. سر تميز هذه الحالة نابع من فرادتها إذ أن السلطات المعنية لم تحاول تكرارها إلا في حالات محدودة في عاصمتهم الجديدة. زاد من أهميته في الأزمنة الحديثة قيام كبري المك نمر. الذي يتجه إليه واحد من الشوارع في اتجاه الشمال الشرقي سمي بشارع عطبرة. عامل أخر ضاعف من أهميته أن منطقته تكاد تحدد الطرف الشرقي لمركز المدينة الإداري التجاري.
ظلت هذه منطقة هي الطرف الشرقي لمركز المدينة حتى زمانا الحديث هذا. فأصبحت بمثابة البوابة لذلك العالم الحضري المصطحب بالحيوية والأنشطة متعددة الأنواع. كان ينتصب على جانبي وضفتي شارع السردار مرفقان يعتبران من مرتكزات ملامح التحضر غربي النزعة. يقع على الجانب الشمالي للشارع في موقع مترامي الأطراف مجمع مجتمعي كبير. كان جل مرتاديه حقبتئذ من رعايا بريطانيا مع تداعي الزمن استقطب مجموعات من جنسيات أخري. كان من أهم مكوناته نادي كبير مكتمل الأجزاء. من المحير أن اللافتة عند مدخله ليست لها علاقة بجنسيات من يرتادونه. كتب عليها باللغة الإنجليزية SUDAN CLUB. بالرغم من أن السودانيين لم يكن مرحب بهم فيه. كان يقع جنوب ذلك المجمع على الجانب المواجه له في شارع السردار ملهى ومرقص ليلي. كان ترتاده لعقود طويلة فئات أجنبية جلها من البريطانيين عدد مقدر منهم من الضباط. تضاؤل دوره بعد الاستقلال عصفت به في ثمانينات القرن الماضي نظم وطنية إسلامية النزعة فأغلقت أبوابه. لكنه ظل هو وذلك المركز المجتمعي في موقعهما لعدة عقود من الزمان. كبوابة لمركز المدينة يضعان بصمتهما البائنة على أجوائه. يضفيان على مرتادي رواقاته أو برنداته فيض من الحيوية غربية النزعة.
كانت لا زالت تتدفق الحياة والحيوية من ذلك الموقع وتنساب في عروق مركز المدينة عبر رواقات محاله التجارية. التي تمددت غرباً حتى وصلت لنهايته مع تداعي عقود القرن العشرين لتضع أمشاط أقدامها في بدايات الألفية الثالثة. كان الرواق الخيار الأمثل لبلادنا تحديداً عاصمتنا التي يتطاول فيها فصل الصيف بشمسه اللاهبة وتقلبات طقسه المزعجة. تبنته جهات نظام الاحتلال المعنية بالأمر. ثم صار بعد ذلك عرف راسخ حتى زماننا هذا الذي أسس له قوانين تخطيط صارمة. مع أنه في واقع الحال جزء من إرث راسخ تميزت به المدن الإسلامية منذ قديم الزمان. أسست له تقاليد تخطيط المدن الحديثة التي هدفت لتهيئة أجواء مريحة للمتسوقين. لتجعل من تطوافهم في أرجائها نزهة ومتعة وفرصة تلاقي حميمة. زاد من أجواء البهجة هناك تطور مستوي عمارة المحال التجارية التي كانت تحف الرواقات. هيأت أجواء محتشدة بالحيوية والبهجة وروعة التلاقي. استمتع بها المتسوق واستفاد منها أصحاب المحال التجارية. الذين ازدهرت تجارتهم وازدانت معها محالهم فظهرت في أبهي حلة مضيفة لرونق المشهد. أجواء تسوق جاذب للغاية استمتعت بها كل أطياف المجتمع وأفراد الأسرة لعقود من الزمان. منذ تأسيس العاصمة الجديدة حتى ثمانينيات القرن. كان التطواف فيها ولحظات التلاقي متعة بريئة لا تشابها متعة فحققت أنبل أهداف تلك القرارات التخطيطية.
لم تنشأ تلك الرواقات البديعة من فراغ إذ أنها ولدت جلست في حِجر عمائر بديعة التصميم حضارية المحيا مشرفة المظهر. سجل ضربة البداية في تشييدها وتأسيسها بعض الأجانب من أثرياء ورجال أعمال فترة الحكم الثنائي جلهم من أصول أوربية. نذكر منهم بالخير السيد سلافوس صاحب عمارة موقعها مطل على شارع السردار عند تقاطعه مع شارع بابكر بدري الفرعي. جميلة أنيقة ذات طراز حداثي يغازل الكلاسيكية من طرف خفي مستجدياً فيض حميميتها. تجلت فيها براعة مصممها المعماري اليوناني إستيفانيدس نجم ذلك الزمان الأشهر في النصف الأول من القرن. الذي صمم أيضاً في ذلك الشارع الفرعي على مرمي حجر من شارع السردار فندق الأكربول الذي لا زال يحتفظ بتألقه المعماري. شهدت المرحلة المفصلية الانتقالية بين فترة الاحتلال وفجر الاستقلال ظهور وسطوع نجم بعض رجال الأعمال الوطنيين. الذين تجرأوا اقتحموا مجال الاستثمار العقاري في هذه المنطقة المركزية. فتجاسروا ووضعوا مواطئي أقدام مساهماتهم على ضفتي شارع السردار فيها. الذي تغير اسمه بعد نيل الاستقلال وذهاب السردار وأشباهه ليصبح شارع الجمهورية. نماذج تلك العمائر عديدة فلنتوقف هنا عند أميزها. التي تركزت بشكل خاص في ذلك الجزء من الشارع الواقع بين (صينية) سانت جيمس وشارع فكتوريا سابقاً القصر حالياً.
تستوقفني هنا على وجه التحديد عمارة أبو العلا الجديدة. مَيزتها عدة خصائص على عمائر المركز خلال فترة خمسينات وستينيات القرن بالإضافة لمظهرها الحضاري الأنيق. إذ تمددت بسخاء محتلة مربع بكامله مطل على أهم شارعين هما شارع الجمهورية وشارع القصر. استعانت أسرة أبو العلا بجهات استشارية مصرية. خرجت بعمارة تلك المنطقة من قبضة ونفوذ إستيفانيدس لتستشرف تلامس أفاق الحداثة. فقدموا من خلال هذا العمل إضافات معمارية ملموسة لهذا المشهد الحضري. هناك مكونات مستحدثة أضفت عليه سمات حضارية راقية. على سبيل المثال ظهر لأول مرة طابق القبو تحت الأرض الذي خصص كمرآب لسيارات المستأجرين. أهم من ذلك أنهم اقتطعوا جزءً عزيزاً من أرضه استثمروه بشكل مبتكر. ليمنحوا ذلك الجزء المهم من مركز الخرطوم ساحة شبه داخلية مفتوحة للسماء. تطوقها أجنحة المبني الناهضة لأربع طوابق من ثلاث جهات. فقدموا مكوناً مهما للمركز لا زال يفتقده هو نموذج مصغر لساحة المركز التجاري الإداري. أضفي عليه نبض مترف من الحيوية يتصاعد في الأمسيات. وصل لأعلي درجاته عندما كان ينظم فيه قبل بضع سنوات سوق مفتوح للكتاب خلال عطلة نهاية الأسبوع. أتمنى أن تعاد هذه التجربة وتجتهد الجهات الرسمية والمنظمات الأهلية معاً لتطويرها. لدي أفكار نيرة ورؤية مبتكرة لهذا المشروع مستعد للتعاون مع أي جهة تتبناه. فمركز المدينة محتاج للغاية لمثل هذه المكونات التي ستضفي مزيداً من الحيوية على أجوائه.
نهضت حول ذلك الجزء من شارع الجمهورية خلال تلك الحقبة من فترة الحكم الوطني عدة عمائر أخري متميزة. في نهضة عمرانية ساهم فيها أقطاب الرأسمالية الوطنية. وضعت كل واحدة بصمتها الحضارية البائنة مؤرخة لمرحلة مفصلية من تاريخنا الحضري الحديث. كان لرجل الأعمال المتميز الشيخ مصطفي الأمين دور مقدر في تزيين واجهة الجزء الشرقي من شارع الجمهورية. سطعت فيها عمارته الضخمة التي صممها المرحوم عبد الرزاق موسي فجاء فيها بأفكار جديدة نيرة. جعلت رحلات التسوق متعة عبر ممرات داخلية عريضة بعضها مفتوح للسماء مظلل بالمباني المجاورة. عمارة صحاري هي أيضاً واحدة من العمائر التي وضعت بصمتها الواضحة على ذلك الجزء من شارع الجمهورية. من خلال عمارة مكتملة الأناقة اكتسبت اسمها من الفندق الراقي الذي يتربع في طوابقها العليا. جادت علينا بها إكراميات صاحبها رجل الأعمال الأمدرماني الأنصاري الأصيل عثمان صالح. تجاوزت بصمتها المشهد المعماري. إذ ساهمت في رسم ملامح مهمة من صورة زاهية لذلك العصر الذهبي معززة زخمه المجتمعي الثقافي الحضاري. إذا كانت صالات الفندق مترفة الأناقة ملتقي الأصدقاء والإحباب والحبان. التي كانت تمهد لها لقاءاتهم في الرواقات الأرضية المحفوفة بواجهات عرض (البوتيكات) المبرقة.
رسمت عوالم تلك الرواقات في الحقبة بين الخمسينيات حتى مطلع الثمانينيات صورة زاهية لمجتمع العاصمة. مكتملة الأركان ذات أبعاد متعددة مجتمعية وثقافية وحضارية. أذكرها جيداً إذ تفتحت عياناي فيها على الحياة هناك بكامل معانيها وأبعادها الحضرية العصرية. ارتكزت على مواقع ومحطات مهمة. واحد منها محل الخواجة بابا كوستا الذي أدخل الخبز الفاخر حقبئذٍ فصار من أساسيات مائدتنا. كان من أهم منتجاته أيضاً المعجنات مثل (القاتو) والكيك و (الباسطة). كان قبالته على الجانب الشمالي من شارع الجمهورية (سويت روزانا). محل صغير مهم جدا لنا معشر الشباب المتطلع اوانئذٍ. عصري السمات مكتمل الأناقة رومانسي الأجواء. كنا نهرع إليه في الأمسيات لتناول المثلجات (الآيس كريم) في (ميزانين) معلق في جوف المحل. ليس ببعيد عنه محل شكل ظهوره نقلة كبيرة في عالم زينة النساء. محل (دلكة) الذي خرج بتلك العطور التاريخية التقليدية من (سحارات) وأضابير البيوت إلى محل عصري الإعداد و (الديكور). كان التنزه والتنقل عبر تلك الرواقات متعة لا تعادلها متعة وكانت أجزاء منها منتديات مسائية راتبة. واحد منها أمام محل (جنبرت) الذي تخصص في الأواني المنزلية الراقية ما يعرف عند الفرنجة بال china. حيث كان يلتقي فيه في الأمسيات في الرواق أما محله بزمرة من أصدقائه السودانيين. منهم رجل الأعمال العصامي ومؤسس مجال الطباعة محمد أحمد السلمابي. الذي كانت تجمعه به هناك جلسات مؤانسة منتظمة عامرة. سمح بها عمق الرواقات السخي مع حركة المتسوقين الدؤوبة لنشطة.
هبت للأسف الشديد رياح التغيير منذ عقد الثمانينات. فسلبت رواقات المركز من مردوها الإيجابي وما كانت تضفيه من أجواء مفعمة بالحيوية والحميمية. تحول اتساع عرضها الذي قصد منه إتاحة رحلات تسوق ممتعة إلى نقمة. حالة تسبب فيها طوفان الوافدين من الأقاليم صوب العاصمة نتيجة للتنمية الغير متوازنة. التي ظلمتهم فنزحوا إليها كان جلهم بلا عمل. تدافعوا نحوها يبحثون فيها عن موطئي قدم يمارسون فيه أي نوع من أنواع التجارة. كان للأسف واحد من أهم أهدافهم تلك الرواقات. التي تمددت بضاعتهم على أرضياتها بطريقة عشوائية معترضة طريق المتسوقين. فرسموا صورة شاءه لم تكن تخطر على بال المخططين الذين تبنوا فكرة توسعتها. فتحولت رحلات التسوق التي كان يؤمل أن تكون نزهة ممتعة إلى مهمة محفوفة بالمنغصات. صار المتسوق الذي يتجول في تلك الرواقات يتقافز بين معروضات الباعة الجائلين المفروشة على أرضها. كأنه يمارس لعبة كان يتسلى بها الأطفال في سابق الزمان. فاختلط الحابل بالنابل في رواقات مركز المدينة لتضطرب معه أجواء التسوق في أرقي مراكزها.
منح تخطيط خرطوم الحكم الثنائي شارع السردار ميزة مقدرة هي تقاطعه مع واحد من أهم شوارعها هو شارع فيكتوريا القصر حالياَ. الذي أولت الجهات المعنية عناية فائقة لكل مكوناتهً وتفاصيله. من أولها في طرفه الشمالي عند السور الجنوبي لقصر الحاكم. حتى نهايته في الطرف الجنوبي التي ينتهي عند محطة السكة حديد. طرفان شكلا أهم مكونات التصميم الحضري في بداية تأسيس تلك العاصمة الوليدة في عقود القرن الماضي الأولي. تمثال لغردون باشا ممتطاة جملاً في طرفه الشمالي. يقابله في أقصي جنوب الشارع نصب تذكاري رخامي تنهض في وسطه مسلة. عمل نحتي رائع بذُل تخليداً لذكري الجندي المجهول. بين هذين العملين المركزيين المتميزين كان يتمدد بسخاء شارع فيكتوريا الذي صار شارع القصر بعد الاستقلال. سطع كعمل حضري متكامل بكل تفاصيله. بشكل جعل أرصفته المنسقة المنمقة وصفوف الأشجار الموزعة على جانبيه من أهم مواقع التنزه في المدينة حقبتئذٍ. استهدفتها على وجه الخصوص نساء مجتمع الجاليات الأوربية المخملي بصحبة لأطفالهن على عربات اليد (البرامز). كانت أجواء شارع فكتوريا المشبعة بالرومانسية بلا شك تفيض وتتدفق على شارع السردار المتقاطع معها. فتمنح الحياة في الأروقة المحيطة به زخات من الحيوية المشبعة بالحميمية.
الرحلة باتجاه الغرب في شارع السردار الجمهورية لاحقاً متخطين تقاطعه مع شارع فكتوريا عبر الزمن تحمل معها مفاجآت جديدة. إذ ينتصب عند ركن التقاطع الشمالي الغربي مبني البنك الأهلي المصري المهيب المهاب. كما يقول إخوتنا المصريين عمارة (ملو هدومها) أي في كامل هندامها. ذات ملامح حداثية لكنها تغازل الكلاسيكية من طرف خفي. تعلن بقوة عن حضور يليق بشريك نظام الحكم الثنائي. الذي كان قد بداء يتضعضع بعد هبة سنة أربعة وعشرين التي فجرها مجموعة من الضباط الثوار السودانيين الأماجد. تُحدق في استعلاء لعمارة أبو العلا الجديدة الواقعة قبالتها على الجانب الشرقي من شارع القصر. بالرغم من أن كلا المبنيين من أعمال جهات استشارية مصرية. تنهض في ذلك الجزء من شارع السردار أو الجمهورية الذي كانت تحتضنه عمائر أخري جيدة التصميم. لكنها لا تنافس عمارة مبني البنك الذي أل لاحقاً لبنك الخرطوم فصار فرعه الرئيس. تسترسل هنا نفس رواقات الجزء الشرقي من الشارع منسابة في سلاسة خصمت منها لاحقاً مستجدات أشرنا لها من قبل. بالرغم من حيوية الحياة والحركة فيها لكنها لم ترقي لزخم ذلك الجزء. أذ أنها تفتقر لبعض مكوناته المهمة المؤثرة مثل الساحات والممرات الداخلية الرحبة وفنادق ومطاعم الطوابق العليا.
التوجه غرباُ من ذلك الموقع في شارع السردار لاحقاُ الجمهورية يقودنا إلى منطقة كانت في سالف الزمان تصطخب حركة وحيوية. تميزت بنظام تخطيط متفرد منحها ميزات تفضيلية متسقة مع طبيعة استخداماتها. إذ تتراجع حدود الشارع السردار من ناحية الشمال والجنوب بشكل مقدر. مكونة ساحة كبيرة للغاية مقسمة على جاني الشارع. هيئتها لدور مهم للغاية قامت به بكفاءة عالية منذ تأسيس العاصمة في بداية فترة نظام الاحتلال. الذي تراجع بشكل ملموس لاحقاً بعد الاستقلال تحديداً بعد حقبة السبعينيات. اكتسبت تلك الساحة اسمهما من موقعها الوسطي في مركز المدينة فعرفت باسم المحطة الوسطي. ترجمة لاسمها باللغة الإنجليزية Central Station. برزت أهميتها في زمان مضي قبل عقد السبعينيات عندما كانت العاصمة مثلثة بالفعل مكونة من ثلاثة مدن رئيسة. واحدة من أسباب أهميتها أنها كانت نقطة البداية والنهاية لأهم خطوط المواصلات العامة. بما في ذلك خطوط خدمة الترام الذي بداء خدماته في عقود القرن الماضي الأولى. عزز من أهميتها أيضاً قربها لعدد كبير من الوزارات ودواوين الحكومية المصطفة في شريط متمدد شمالها. يضاف إلى ذلك بالطبع توسطها لمركز المدينة التجاري الإداري.
جمعت مواقف المواصلات العامة في ذلك الميدان في المحطة الوسطى أطياف من مجتمع العاصمة خلال النصف الأول من القرن. جلهم من العمال وعامة الناس والطبقة الوسطي. حالة كانت تعكس وجه واحد من مجتمع العاصمة حفبتئذٍ. أجواء المحال التجارية المحيطة بذلك المشهد كان تعكس صورة أخري معاكسة لها تماماً. إذ كانت قبلة استهدفتها الصفوة من نجوم المجتمع كان جلهم في البداية من الأجانب تحديداً الأوربيين. انضم لهم لاحقاً أول دفعات من الخريجين الوطنيين. الأطباء والمحامين والمهنيين من التخصصات الأخرى الذين شكلوا نواة طبقة (الإنتليجنسيا) السودانية. ظهروا هناك في كامل هندامهم وأناقتهم بستراتهم ثلاثية القطع أل three-piece suits. ينتعلون أحدث وأفخم (موديلات) الأحذية الجلدية المستوردة. فزاحموا زبائن تلك المتاجر من الطبقات العليا من الأوربيين نافسوهم في أشهر المحلات هناك. قومشيان المختص في أفخم أقمشة الصوف الإنجليزي و (البون مارشيه) الذي يعرض أرقي أنواع الأحذية. بالإضافة لبومبي بازار وكيل أشهر الساعات السويسرية. كانت معشر الإنتليجنسيا السودانيون قادرون على منافسه الصفوة من الأجانب في رحاب محلات التسوق. لأنهم أصبحوا مثلهم عملاء لأهم البنوك الأجنبية. مثل باركليز والكريديت ليونيه التي توزعت فروعها في أركان تلك المنطقة المحيطة بشارع السردار.
الجزء الأوسط من المحطة الوسطي يحكي عبر الزمن قصة جديرة بالاهتمام. كان يتوسط الجانب الشمالي من الشارع في الستينيات مقهى كبير شعبي الطابع الي حد ما. كنا نقصده نحن معشر خريجي المدارس الثانوية الذين قبلوا بالجامعات في العاصمة. وفدوا إليها من كافة أطراف السودان يجمع بينهم وحدة الهدف. فصار ذلك المقهى مقصدهم الذي ظلوا يترددون عليه بعد عدة سنوات بعد تخرجهم من الجامعة. يجمعهم مع قطاعات أخري أكبر منهم سناً جلهم من الطبقة الوسطي. يلتقون غير عابئين بما يحدث في متاجر السلع الكمالية من حولهم. لا تهمهم كثيراَ الحركة النشطة في مكاتب الشركات في طوابق العمارات العليا التي كانت تدير اقتصاد البلاد حقبتئذٍ. إلى أن بدأ بوادر زلزال حضاري حضري تسببت فيه متغيرات كبيرة خلال عقود من الزمان. منها الانفجار السكاني في العاصمة الذي أفرز طوفان من المركبات كانت تبحث بنهم عن موطئي قدم في الشوارع لمواقف تستريح فيها. مرحلة تزامنت مع هجمة شرسة للمستثمرين في المجال العقاري الذين وجدوا ضالتهم في هذه المنطقة المركزية فبدلوا حالها بشكل جزري. فأطاحوا بذلك المقهى وادع الأجواء. ليحل محله موقف سيارات حصدت السلطات المحلية من رسوم استخدامه أموالاً وفيرة. في جانب أخر شن المستثمرين في المجال العقاري هجمة شرسة على العمارات التاريخية محدودة الطوابق. فاستبدلوها بأبراج شاهقة براقة المحيا. ذهبت معها ألي غير رجعة رواقات كان تجمع (شلل) معاشيين كانوا من نجوم المجتمع في زمان زاهي سابق.
المتوجه غربا من منطقة المحطة الوسطي عبر شارع السردار لاستكشاف مكوناتها الأساسية كان يفاجأ بظواهر يجب التوقف عندها. أولها مبني بالغ التميز يطل علينا في الجانب الشمالي من هذا الشارع. من تصميم عبقري ذلك الزمان وفق معاييره اليوناني إستيفانيدس. هو مبنى بنك باركليز واحد من أهم مصارف ذلك الزمان. الذي عصفت به المتغيرات السياسية بعد الاستقلال فصار واحد من أهم فروع بنك الخرطوم. وضع فيه إستيفانيدس بصمته وأهم سمات أسلوبه. مؤرخاً لمرحلة مهمة من مراحل تحور العمارة الحضرية في الخرطوم وفي السودان بشكل عام. عمارة خلعت عباءة طراز الكولونيال البريطاني والمصري. لتؤسس لنهج مختلف يلامس عمارة البحر الأبيض المتوسط موطن المعماري الأصلي. نهج يتسم بحيوية عالية ودفق رومانسي ينبض حميمية. يتجلى في كتل وأشكال تكاد تخاصم الزاوية القائمة والأشكال المكعبة. تسطع في مبني خارطة ركنه ربع دائرية الشكل وتتوزع في أرجائها أعمدة ذات مقاطع بيضاوية. طوفان من الأشكال والكتل تشع رومانسية تنضح حميمية. متحدية أجواء المبنى الذي تسيطر عليها الأرقام بصرامة فائقة. لكأنه هنا أراد أن يخفف منها بإضفاء بعض من روح عمارة فيلاته المشبعة بالأحاسيس الرومانسية. مؤسساً لنهج معماري جديد جرئي مبتكر. سعدت جداً أن إدارة البنك على مدي فترة متطاولة حرصت على المحافظة على معالم وسمات هذا العمل المعماري بالغ التميز.
هناك في نفس تلك المطقة مبني أخر كان لفترة متطاولة مهم للغاية لكل السودانيين. يقع غرب مبنى البنك يفصل بينهما شارع فرعي. أهميته نابعة من أنه كان مخصص لجهات وهيئات تعددت أسمائها كانت معنية بأمور مصيرية بالنسبة لهم. تغير اسمها عبر الأزمنة قبل أن تنال البلاد استقلالها. ليصبح بعد ذلك دار البرلمان بعد أن أصبح السودان حراً مستقلاً. اتسمت عمارته بقدر عالٍ من البساطة المقترنة بالأناقة والرزانة. التي منحته حضوراً معبراً عن الهيئات العليا التي استضافها عبر الزمن. أهميته الفائقة نابعة من المشاعر الوطنية الجياشة التي ارتبطت به. إذ شهدت قاعاته إعلان استقلال البلاد في منتصف خمسينيات القرن الماضي. هُجر المبني يعد ذلك بعد أن شيد في السبعينيات مبني جديد ضخم فخم بديل كمقر للبرلمان في العاصمة الوطنية أمدرمان. ليستخدم لاحقاً المبني القديم في شارع الجمهورية لغرض مشابه ليصبح مقراً لبرلمان ولاية الخرطوم. لكن للأسف الشديد لم يغفر له تاريخه المجيد وطرازه المتميز يحصنه من المساس به إذ تمت إزالته ليحل محله مبني جديد. ليس في عمارته أي إيماءة مجامله لطراز المبنى التاريخي السابق. مؤشر واضح لضعف إحساس من كانوا يتعاملون مع هذه الأمور خلال العقود الماضية. الواضح أن الجهات السياسية التي تولت حكم البلاد حقبتئذٍ كانت لها نوايا خبيثة. كانت فنجحت إلى حد ما في طمس بصمات تراث الحركة الوطنية التليدة لتسطر تاريخها الجديد المشوش. انعكس علي عمارة المبني الجديد التي افتقرت إلى أي سمات أو ملامح تعبر عن إرث مدينة الخرطوم البازخ.
شهد هذا الجزء من شارع السردار في النصف الأول من القرن واقعة ذات بعد تخطيطي في غاية الغرابة. مبنيان متقابلان على جانبيه كان من المفترض لأسباب موضوعية المباعدة بينهما بقدر الإمكان. إذ نجد في مواجهة مبني المجلس التشريعي و البرلمان لاحقاً مبني القنصلية المصرية. مبني مهم جداً يتمتع بميزة سيادية إذ يعتبر موقعه أرضاً مصرية. حالة محيرة للغاية تبادل فيها من أداروا المبنيين الأدوار عبر الزمن. إذ تبدل حال الجانب المصري الذي كان يحكم البلاد مع شريكه البريطاني قبل منتصف الخمسينات. إذ صار لاحقاً من يديرون العمل فيه مجرد بغثة دبلوماسية شأنهم في ذلك شأن باقي البعثات الدبلوماسية الأخرى. تاركين إدارة شئون البلاد لأهلها ليحكموها من برلمانهم القائم في الضفة الشمالية من الشارع. الذي تحول اسمه نتيجة لتغيرات حدثت في البلاد بعد ذلك التاريخ من شارع السردار إلى شارع الجمهورية. ليؤشر هذا الوضع الغريب علي ضفتيه لحالة متفردة زادت من أهميته.
لم يكن تواجد القنصلية المصرية في هذا الجزء الشرقي من شارع السردار في النصف الأول من القرن حالة منفردة. لم يحدث بالصدفة إذ الواضح أنه كان نتيجة لخطة محكمة مدروسة بعناية. قسمت فيها الأدوار بين شريكي الحكم بريطانيا ومصر. إذ نجد مؤسسات الحكم الواقعة تحت سيطرة الشريك البريطاني متمركزة في الجانب الشرقي من شارع السردار. تاركة جانبه الغربي للشريك المصري. الذي نثر فيه أروع أعمال عمارة الحجر لتسطع على جانبيه باتجاه الغرب حتى قرب نهايته. منحت عمارة طرفي سلطة الاحتلال التي تعرف باللغة الإنجليزية بال (الكولونيال) درراً نفيسة أثرت تراثها بشكل مقدر. واحد من أهم عناصره ثناية خامات البناء المدهشة. المتجسدة في تحصن تمترس الجانب المصري بالحجر الرملي خامتهم الأثيرة التاريخية. يقابلهم في الجانب الأخر تمسك الجانب البريطاني بشكل لا يقبل المساومة بنوع ممتاز من بالطوب الأحمر يشار إليه بالسدابة. الذي غزلوا به أروع الأعمال المعمارية. مستعرضين بحذاقة عالية كافة جوانبه التقنية والجمالية. فكنا في النهاية نحن وتراث عاصمتنا الرابحون من مردود هذه المنافسة المحتدة. تراث معماري مبهر كلنا أمل أن نعض عليه بالنواجذ.
كان واحد من أهم مغانم المنافسة بين الجانبين ما أنعم به علينا الشريك المصري من عناقيد من أروع أعمال عمارة الحجر. التي اصطفت تضئ جانبي الجزء الأوسط والغربي من شارع السردار. مبتدأ من موقع مبنى القنصلية المصرية متجهة غرباً إلى قرب نهايته. درر معمارية دشنها مبني القنصلية الذي يتدثر تماماً بالحجر الرملي شبه المقدس عندهم. تشتعل تبرته فتبلغ أقصي مداها عند موضع مبني المدخل والبوابة العملاقة المنتصبة في شموخ وإباء وشمم. معبرة عن أمة كان لها مجد متطاول منذ ألاف السنين. تعربد في واجهتها مفردات وتفاصيل معمارية مدهشة تغازل تراثهم الفخم. تلامس التراث الفرعوني لتنفلت منه واقعة في إرث العمارة الإسلامية الزاخر المضي. احتفيت من قبل في أكثر من مرة بمساهمات الجانب المصري المؤثر في تراث الخرطوم (الكولنيالي). لا أجد أي حرج في هذا العمل والتوجه المبرر. تناولته في عدة مقالات أهمها واحدة نشرتها في مدونتي بالفيس بوك أعيد نشرها هنا حتى تعم الفائدة عنوانها: عمارة الكولونيال المصرية. أودعتها ضمن مواد موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط drhashimk.com. تناولت فيها أروع الأعمال المعمارية من أهمها مبنى القنصلية وجامع فاروق ومبني كان في سابق الزمان مدرسة فاروق الثانوية. عليه لن أسترسل في الإشارة إليها هنا لأترككم تتابعون التفاصيل في تلك المقالة المطاولة.
التوجه غربا من منطقة القنصلية المصرية في شارع السردار ينقلنا لجزء منه بعض مكوناته الرئيسة تضفي عليه أجواء من الغرابة. لأنها بناءً على مجريات الأمور في النصف الأول من القرن الماضي كانت من واقع نوعية نشاطاتها وتوجهاتها متناقضة. إذ كانت أهم أماكن اللهو البري وغير البري الماجن لا تبعد كثيراً عن واحد من مساجد الخرطوم الرئيسة. على سبيل المثال ارتكز في خاصرة جانبها الشرقي (البون ما رشيه) أشهر وأفخم حانة، خمارة زمانئذٍ. كان يتناغم معها في ركن قصي في الجانب الغربي ملهي ومرقص صالة غرون للعروض الاستعراضية. الذي كان يستعين بغانيات من بلاد الفرنجة لمؤانسة مرتاديه جلهم من تلك البلاد. مكملاً مع الحانة منظومة أماكن البهجة والمتع بأنواعها المتعددة. المحير في الأمر أنه خلال تلك الحقبة في نفس المنطقة سطع مركز إشعاع روحي إسلامي مهم للغاية. كانت مقاصده النبيلة بعيدة تماماً عن أجواء أماكن اللهو العابث القريبة منه المبذولة للمتع لدنيوية. استعان على بث إشعاعه الروحي بعمل معماري ضخم فخم ينضح يضج بعبق تراثه المعماري مفرط الثراء. أنعمت علينا به مصر الشريكة مع بريطانيا في نظام الاحتلال. ليسطع في ذلك الجزء من شارع السردار جامع فاروق الذي حمل اسم ملكها في ذلك الزمان. بقي وحده كالسيف هناك بعد أن تلاشت أماكن اللهو الماجن المشار إليها هنا. إذ أقفلت أبوابها لاحقاً متغيرات سياسية مذهبية في العهود الوطنية اللاحقةً.
نهض جامع فاروق في الجانب الشمالي لشارع السردار. عند تقاطعه مع واحد من أهم شورع مركز الخرطوم سمي بشارع الحرية بعد الاستقلال. ظهر هناك كواحد من حبات عقد نضيد. طوق به الجانب المصري من سلطة الاحتلال جيد العاصمة الممثل في ذلك الشارع الرئيس. وضعوا أول حباته في مبني القنصلية الموشح بروائع الحجر الرملي خامتهم الأثيرة. ليسترسلوا يواصلوا مسيرتهم باتجاه الغرب متسلحين بتلك الخامة النبيلة. التي منعتهم ظروف قهرية خلال تلك الحقبة من الزمان من اللجوء إليها في هذا العمل المهم. لكنهم استعاضوا عنه ببديل حجر صناعي فعلوه به العجب كادوا أن ينطقوه. سخروه روضوه تلاعبوا به محلقين به في فضاءات تراث العمارة الإسلامية الرحيبة المدهشة. مستصحبين معه خامات أخري منحت ذلك التراث القه البازخ المترف. فشهدت ساحة هذا العمل المعماري الرائع منافسة محتدمة بينها. كان أطرافها أعمال خشب لمشغول بعناية وفن عالي وألواح نحاس ملتمعة براقة ومنظومة قطع زجاج معشق مبهرة. في عمل كشفت فيه عمارته الإسلامية كلاسيكية الهوى والهوية كافة مفاتنها المشروعة. فطغت بِدفقها الروحاني المرفرف على أجواء الأماكن المجاورة له المبذولة للهو بكافة أنواعه. أهم من ذلك أن الجانب المصري هنا رد بقوة على مشروع كنيسة القصر التي شيدها شريكه البريطاني. ظلت عمارة جامع فاروق تشع هناك لقرابة القرن من الزمان بدون منافس يذكر. تصدي له أخيرا عمل معماري حداثي مفرط التميز. سطع في عمارة بنك السلام في الركن الجنوبي الغربي من ذلك التقاطع.
مضت إبداعات الشريك المصري ودرر عمارة الحجر الرملي متجهة غرباً. انسابت مسترسلة على الضفة الجنوبية لشارع السردار قبل أن يصبح شارع الجمهورية. لتعبر شارع كتشتر حقبئذ الذي صار شارع علي عبد اللطيف بعد الاستقلال. وصولاً لتخوم مركز المدينة التجاري الإداري لمنطقة ذات طبيعة مختلفة. استفرد فيها الشريك المصري هنا بالموقف. بعيدا عن حضور شريكه البريطاني الطاغي الذي هيمن على أجزاء شارع السردار الشرقية. فأفرغ ما في جعبته من كنوز وروائع الحجر الرملي. الذي تعامل معه هنا بنبرة هادئة ولهجة كلاسيكية مخففة. توجه نابع من نوعية المباني والمنشآت التي كان جلها تعليمي أكاديمي الطابع بالإضافة للمباني السكنية. أهم المكونات هنا ارتبطت بمؤسسات تعليمية كانت ذات أثر عميق تجاوز حدود أهدافها الرئيسة. الإشارة هنا لحالة بعينها متفردة في نوعها واحد من أسباب تفردها مقرها بالغ التميز. مؤسسة تعليمية بدأت مسيرتها كمدرسة ثانوية في النصف الأول من القرن. تأسست باسم مدرسة الملك فاروق إشارة ملك مصر حقبتئذ. لتُطور فتصبح جامعة بعد الاستقلال هي جامعة القاهرة فرع الخرطوم. في كلا الحالتين كان لهما دور مؤثر للغاية ومردود ملموس على عدد كبير ممن تخرج فيهما. لن نخوض في تفاصيله لأنه خارج إطار موضوعنا هنا الذي سنركز فيه على مخرجات هذه التجربة المعمارية.
تمددت مدرسة فاروق في موقع مترامي الأطراف احتل موقعاً (استراتيجياً) مطل على شارع السردار. مطل أيضاً متقاطع مع شارع كتشنر الذي أصبح علي عبد اللطيف بعد الاستقلال. زاد من هيبة و (برستيج) مبني تلك المؤسسة توشحه بالكامل بالحجر الرملي المٌنتقي بعناية فائقة. مطرز بتفاصيل صغيرة مدهشة كلاسيكية السمت زينت أجزاء من واجهاته. تبرق مثل فواصل العزف (الصولو) المنفرد على آلة القانون التاريخية. التي تمنح أعمال فرق الأوركسترا السيمفونية المصرية زخات من الحيوية. قمة الأداء هنا وتاج عمارة الواجهات مبني المدخل الرئيسي والبوابة الضخمة. التي يصل فيها التعامل مع الحجر الرملي إلي أعلي القمم مجسداً حكمة الجواب يكفيك عنوانه. معالجة تتنافس فيها مكونات وتفاصيل تستدعي تراث حضارات كانت لها صولات وجولات بأرض مصر. تجدون مزيد من التفاصيل عن هذا العمل الكبير بمقالتي التي أشرت إليها من قبل. لم يكتف الجانب المصري بهذا العمل الضخم. إذ تدفقت روائع أعمال عمارة الحجر الرملي منسابة في حي المقرن الواقع في الطرف الغربي من شارع السردار. أكثر ما أعجبني فيها مبني مطل على ذلك الشارع غرب مبني الجامعة. صار الان مقر مكتب مدير جامعة النيلين التي حلت محل جامعة القاهرة فرع الخرطوم. عمل معماري صغير نوعاً ما لكنه تحفة بحق. غازلت فيه العمارة النهج الكلاسيكي من طرف خفي بنبرة منخفضة ماكرة. تفاصيل أوفي عنه في المقالة المشار إليها من قبل.
بعد استقلال بلادنا وعبر عقود متعاقبة من الزمان أبت الحداثة إلا أن تطل برأسها هنا على ضفاف الطرف الغربي من شارع السردار. مزلزلة عرش الكلاسيكية التي نجحت في بسط نفوذها في باقي أجزاءه متسيدة الموقف ممتطاة صهوة جواد سلطة الاحتلال. من أعظم إطلالات الحداثة هنا مبني إداري صغير نوع ما خاص بمؤسسة إقليمية في غاية الأهمية هي هيئة مياه النيل. حمل أروع سمات الحداثة الأنيقة مدارية الطابع بالإضافة لحضور بازخ رزين وقور. أعظم ما فيه صحنه أو فناءه الوسطي المبرر الذي يمثل أنسب الخيارات لمناخاتنا الحارة الجافة. ملائم جدا في حالة هذا المبني الذي شيد في ستينيات القرن الماضي. خلال حقبة تاريخية لم تكن أجهزة تبريد وتكييف الهواء واسعة الانتشار. قدم هذا العمل المعماري نفسه باعتداد واعتزاز بالنفس طارحاً طراز الحداثة كخيار يعتد به. قدمه بثقة كمنافس للطروحات الكلاسيكية التي زينت أفق المدينة لأكثر من نصف قرن من الزمان. أدعوكم لزيارته هناك في موقعه جنوب مبني السفارة المصرية. فهو يمثل حالة جديرة بالملاحظة، والمتابعة، والاهتمام والاحترام.
أبت نفس واحد من أهم رواد عمارة الحداثة السودانية إلا أن يقدم إفادته المعمارية في منطقة الطرف الغربي من شارع السردار. الذي أصبح شارع الجمهورية بعد الاستقلال. كان من ثمراته تخرجه كواحد من أميز طلاب أول دفعة من قسم العمارة بجامعة الخرطوم في نهاية الخمسينيات. هو أستاذنا الباشمهندس الأمين مدثر الذي تعلمنا منه الكثير عبر العديد من أعماله بالغة التميز. واحد من أهم إنجازاته تأسيسه لأول مكتب معماري استشاري. لعب من خلاله دوراً محورياً أساسياً في رفد هذا المجال بعدد مقدر من أميز المعماريين. سيرته الذاتية المرصعة بالإنجازات قادته لوضع بصمته في ذلك الطرف الغربي من شارع الجمهورية. في عمل بالغ التميز قفز فوق صيغ عمارة الحداثة السودانية النمطية المكبلة بشبكة إنشائية خرصانية تمسك بمساحات من الحيطان الطوبية. ليحلق بها في فضاءات كتل شبه صماء من نفس هذه الخامة تعاملت مع المبني كأنه قطعة نحت عملاقة. فقدم في مبني رئاسة البنك الزراعي بحي المقرن عمل متفرد نترك تقويمه لكل واحد منكم ليحكم عليه من واقع رؤيته الشخصية. لكنه تبقي في النهاية كلمة حق أطلقها أستاذنا في نهاية التسعينات هو يمر بمرحلة أشبه بالاعتزال. أجبرته عليها ظروف خارجة عن إرادته هو في قمة مراحل العطاء والإبداع. أرسل إليه من هنا أجمل التحايا فجمائله علينا وعلي عمارة السودان في عهوده الحديثة لا تحصي ولا تعد.
التوقف والتأمل في الروائع المعمارية المشعة على ضفاف شارع السردار او الجمهورية لأحاقا له عدة فوائد. فهو تقدم لنا دروس مجانية نحن في أمس الحاجة إليها مع تواضع حال عمارتنا الحالية. لا نعول على البكاء على الأطلال ولطم الخدود وشق الجيوب. هناك أكثر من خطوة إيجابية يمكن القيام بها تحتاج لمقالة قائمة بذاتها ليس هنا موضع استعراضها. لكنني سأشير لحالة معينة تستحق التوقف عندها. ذات صلة بالخواجة باب كوستا الذي أسس محله الشهير قرب الطرف الشرقي لمركز المدينة كنت قد أشرت إليه من قبل. كان زمانئذٍ يقطن في منزل يقع خلفه مطل على شارع فرعي جنوب شارع السردار موازي له. حدثت لاحقاً في عقد الستينيات تطورات سياسية أجبرته على مغادرة البلاد فأل محله ومنزله لمالك سوداني. استأجرته منه أسرة سودانية مستنيرة. تتحدر من والدين كان لهم دور سياسي نضالي مشهود ساهم في صناعة استقلال السودان. فاثبت أسلافهم أن هذا الشبل من ذاك الأسد. حولوا منزل الخواجة الذي حافظوا على حاله وملامحه لمطعم ومقصف شهير حمل نفس الاسم. جعلوا الدخول إليه عبر دهليز من نفس ذلك الرواق التاريخي الشهير. أسسوا في رحابه لمجتمع العاصمة محفل كان في أمس الحاجة إليه. وفر أجواء أسرية حميمة شكلت أروع إطار لفعاليات فنية وثقافية متدفقة رفيعة المستوى تميزت بحضور شبابي مشرق زاهي. فقدموا أروع مثال للتعامل الذكي مع عمارة الخرطوم الكولونيالية. ألف تحية وسلام لأسلاف يحي ومحمود الفضلي ومخير من كافة الأجيال على مشروعهم الوطني الرائع المتميز.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أبريل 2021