fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

عمارة بيوت عبد المنعم: الإستدامة الثقافو- مجتمعية فى فيلا منصور خالد

تناولت في أكثر من مقالة سيرة استأذنا المعماري الفذ عبد المنعم مصطفى العراب     الوطني لحركة عمارة الحداثة السودانية. تطرقت في كل مرة لجانب من جوانب عمارته باذخة الثراء محتشدة المعاني والمضامين. التي شكلت في مجملها نقطة تحول فارقة ومؤثرة في مسيرة العمارة السودانية. تمكن بالرغم من التزامه الصارم بثوابت نهج الحداثة العالمية من منحها بصمة سودا ناوية. فعل ذلك عبر أكثر من جانب من جوانب عمارته المتفردة. أشرت لواحد منه من قبل بشئى من التفصيل وهو اهتمامه البالغ بالبعد المناخي. يتجلى ذلك بوضوح في معالجاته الذكية المتجلية في توظيفه لكاسرات أشعة الشمس بكثافة. التي منحت أعماله سمت العمارة المدارية المعروفة باللغة الإنجليزية بال tropical architecture. ذكائه المفرط جعله يوظف نفس تلك الكاسرات لأغراض في غاية النبل. سنعرض لها لاحقاً بشئى من التفصيل.

 ثمة جانب أخر بالغ الأهمية يعتبر من أميز سمات عمارة عبد المنعم التي منحتها بصمتها البائنة. أهميته نابعة من تجذره وارتباطه الوثيق بأهم أبعاد المجتمع السوداني وتركيبة شخصيته. بالإضافة لعلاقته المؤثرة على المكون الثقافي الذي يلقى بظلاله الكثيفة على المنظومة المجتمعية. ستكون هذه هي محاور حديثنا هذه المرة والتي كنت قد تناولتها من قبل في عدد من المقالات. بعضها نشر في صفحة الفيسبوك والعديد    منها ضمنته في موقعي الإلكتروني تحت عنوان مقالات وبحوث. يمكن الوصول لكلاهما عبر الرابط. drhashimk.com. ارتأيت أن يكون المدخل لهذا الموضوع عبر تسليط الضوء على بعض جواب أساسية شكلت مجمل شخصية عبد المنعم. ما يبدو هنا من تناقض بين مرحلتين من مراحل حياته سيكون محور تناولنا لهذه الحالة. تعامل عبد المنعم الفطن مع معطياتهما هو واحد من مؤشرات سر عبقريه. هو الذي مكنه بالعبور بالعمارة السودانية إلى بر الأمان في هذا المنعطف المهم في تاريخنا المعاصر.

عاش عبد المنعم أولى سني حياته وبواكير شبابه بمدينة امدرمان عاصمة البلاد الوطنية. فقد ولد وشب وترعرع بحي الركابية المتاخم لسوق المدينة. لا نحتاج لان نشير هنا إلى أنه نشأ في حي شعبي لان المدينة بكاملها كانت مترعة بهذه الروح. توصف مثل هذه الأجواء عندما تصل قمة تألقها بأنها تمثل حالة تعرف بالسوداناواية. تتجسد في عدة مظاهر من أهمها التزام الناس في كافة تفاصيل حياتهم بالتقاليد المتوارثة. نشأ عبد المنعم وترعرع في كنف هذه الأجواء التي كان لها عميق الإثر في نفسه. نستشهد على تأثير مثل هذه الظاهرة بما ورد في مذكرات المفكر السوداني الأشهر الدكتور منصور خالد. الذي كان صديقاً حميماً وجاراً في الحي لعبد المنعم وزامله في مراحل دراسته الأولى. فقد ذكر بأن تلك السنوات التي قضاها في امدرمان هي التي شكلت شخصيته. يرد لها الفضل في الكثير مما أصابه من نجاح لافت في مراحل لاحقه من عمره.    

عاش عبد المنعم الكثير من جوانب هذه التجربة الحياتية مع صديق عمره منصور التي ترسبت بشكل عميق في نفسه. لم تغيرها كثيراً مستجدات حياته لاحقاً. التي ذهبت به في نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى عوالم كانت على طرف نقيض من حالة مدينته الفاضلة امدرمان. فقد اتيحت له الفرصة لدراسة العمارة في إنجلترا في نهاية خمسينيات القرن الماضي كأول دفعة من الطلاب السودانيين. في زمان كانت حركة الحداثة بكل عنفوانها تهيمن على ذلك الجزء من العالم عبر العديد من مكوناتها المؤثرة بما فيها العمارة. عاش عبد المنعم تلك التجربة بكل أبعادها العلمية والحياتية. ترجمها وهو مشحون بتلك الروح الجديدة بتفوق لافت خلال سني دراسته بشكل أشادت به صحفهم. عاد للسودان وقد تقمصته تلك الحالة بكل مظاهرها. الشعر مرسل على طريقة شبابهم زمانئذ و البِنطال (شارلستونى) التصميم. ممتطاءً بزهو سيارته (المستانق) المتشحة باللون الذهبي البراق (الميتاليك) وأمام داره يربض قاربه الشراعي (الفايبرقلاس). عاد إلى السودان بتلك الروح الوثابة وهو مدرك للمهام الجسام التي تنتظره. باعتباره   هو الأميز في تلك المجموعة التي شكلت أول دفعة درست العمارة بجامعة غربية في ذلك الجزء من العالم الذي فجر براكين الحداثة

عاد عبد المنعم للسودان مع بداية الستينيات والبلاد تعيش حالة مخاض مزدوج التحدي. إذ كانت الدولة الوليدة زمانئذ تبحث من جديد عن إثبات ذاتها بعد فترة احتلال استمرت لنصف قرن من الزمان. تزامنت هذه الفترة مع حركة الحداثة العالمية التي انبثقت في الغرب الأوربي وكنا قد أشرنا إليها من قبل. عليه، كان على أهل السودان وعلى راسهم طلائع الشباب المتعلم المستنير المتوثب أن يواجهوا هذا التحدي مزدوج الطابع. كانت الأماني معقوده عليهم لكي يبنوا وينهضوا بالسودان في تلك المرحلة المفصلية. كبلد ذو هوية متميزة وفي نفس الوقت مواكب تماماً لمستجدات العصر. المعنيون بالشأن المعماري كان يواجهون أيضا مهمة بالغة التعقيد فالعمارة بطبيعتها لها أكثر من وجه. فهي من جانب تعتبر من ضروب التقنية. معروف ضمناً أيضاً بأنها محسوبة ضمن مجالات الإبداع مثل الفنون والشعر والموسيقى. بالإضافة إلى ذلك أثبتت البحوث لاحقاً علاقتها العضوية بعدة فروع من العلوم الإنسانية مثل الأنثروبولوجيا والدراسات المجتمعية.

عند عودته سالماً غانماً للسودان في بداية الستينيات استشعر عبد المنعم عظمة المسئولية التي تنتظره. إذ كان من أوائل من درسوا العمارة في العالم الغربي مهد الحضارة ومفجر ثورة الحداثة زمائذ. عليه كان من المأمول أن يشكل راس الرمح في التأسيس لعمارة السودان في عهده الجديد. كان مطالباً بأن يضعها في مسارها السليم رغم التحديات الجسام التي كانت تجابهها. لم يستسلم تماماً لما أستوعبه من دروس في جامعات بريطانيا بالرغم من نبوغه اللافت في التعامل مع مخرجاتها. قناعتي بأن بواكير حياته المترعة بعبق السوداناوية في مسقط راسه أمدرمان حصنته من الاستسلام التام لتيار الحداثة. كنت دائماً أصف وضعه بعد عودته لحياض الوطن أنه كان يعيش في حالة ازدواج شخصية حميدة. نجح في النهاية في التعامل معها بالتوفيق بين عالمين، السوداناوية والحداثة. جمع بين راسين بالحلال فكانت النتيجة مدهشة للغاية إذ أنتج عمارة هجين. قدم نموذجا رائعاً لعمارة الحداثة سوداناوية الهوى والهوية. تعامل معها ب (استراتيجيتين) استهدفت كل واحد منها جانباً معيناً من العمارة. وفق في اهتمامه بالجانب المناخي فنجح بجدارة في إنتاج عمارة مدارية الطابع تناولتها في عدة مقالات. ارتكزت إلى حد بعيد على توظيف كاسرات أشعة الشمس التي صارت واحدة من اهم سمات عمارته. استراتيجيته الثانية كانت مواجهة بتحديات بالغة الصعوبة. لأنها تعاملت مع جوانب مختلفة عن الأمور المناخية. إذ كانت معنية بالشئون الثقافية والمجتمعية وتفاصيلها مثل القيم والأعراف. التي سنتوقف عندها ونتناولها بشئى من التفصيل لاحقاً.

على ذكر هذا الجانب نبدأ بظاهرة كاسرات أشعة الشمس التي صارت معلما بارزاً في واجهات العديد من البيوت والفيلات التي صممها. بالرغم من إنني تعرضت لها كثيراً من قبل لكن لا بأس من الإشارة إليها هنا بشكل عابر. ظهرت في أكثر من شكل وهيئة. مرة عبارة عن حائط طوبى مخرم و مرة أخرى جدار من مكعبات أسمتيه مجوفة. ظهرت مرات أخرى في الواجهات في شكل عناصر أفقية متباعدة بينها فراغات. مرائن او مدادات خشبية او أطوال من (زوى) الحديد. الواضح أن الغرض الأساسي منها كان المعالجات المناخية. منع تسلل أشعة الشمس للبرندات و الشرفات او البلكونات مع السماح بمرور الهواء لتهويتها. بالإضافة إلى ذلك تخدم تلك الكاسرات أهداف أخرى لا تقل أهمية. لها علاقة بالقيم والأعراف واحتياجات أخرى نفسية أساسية. فتصميمها يعزز من خصوصية مستخدمي المبنى وأهل الدار. إذ أنها تحميهم من نظرات المتطفلين ممن هم خارجه. لكنها في نفس الوقت لا تجعلهم أشبه بالأسرى في السجون. إذ تسمح لهم باستراق النظر للعالم من حولهم ملبيةً بذلك رغبة أصيلة لكل أنسان سوى. الواضح أن مثل هذه الملامح والمعالجات نجحت في تسويق عمارة عبد المنعم لفئات من الشرائح المحافظة من المجتمع. تعرضت لهذه الظاهرة بإسهاب من قبل في واحدة من مقالاتي. عنونتها-عبد المنعم مصطفى: معماري (الإنتليقنسيا) وأيضاً (الجلابة).

أبدى عبد المنعم مصطفى دائماً في إطار عمارة بيوته اهتمام خاص بالاستحقاقات ذات الصلة بحياة الناس المجتمعية وقيمهم. تجلى ذلك في أكثر من جانب من جوانب تلك الاعمال. استرعى انتباهي واحد منه في غاية الأهمية لأنه ذو صلة بعلاقة البيت بالشارع. يكتسب أهميته من ظاهرة يمكن ان نردها لخاصية يتميز بها جل السودانيين وهي انهم أناس ميالون للانفتاح على من حولهم. يشار إليهم باللغة الإنجليزية بأنهم. Gregarious ميالون دائما و هم في بيوتهم للانفتاح على عالمهم الخارجي بشتى السبل. نلاحظ ذلك في انتشار ظاهرة جلوس أصحاب البيوت أمامها في كرأسي على الرصيف المجاور. بشكل يسمح لهم بالتفاعل مع المارة ومتابعة نبض الشارع. عادة منتشرة في المناطق الريفية لكن لها أيضا وجود واضح في المدن. اهتم عبد المنعم بهذه الظاهرة واستوعبها بذكاء وفطنة في البيوت والفيلات التي صممها. أذكر بالتحديد فيلا صلاح عبد القادر حاج الصافي في ضاحية الصافية بالخرطوم بحري وهي مواجهة للسينما. رفع مستوى فناء البيت بشكل يسمح للجالس في حديقته الأمامية بمتابعة ما يجرى في الشارع بدون اجتراح لخصوصيته.

المثال الرائع والمعبر بحق هو حالة فيلا الدكتور منصور خالد التي صممها عبد المنعم وهو من أقرب أصدقائه. لدرجة إنهما ما كانا يفترقان خلال فترات تواجد منصور بالبلاد. تقع الفيلا في حي الخرطوم وسط وهي مطلة على شارع الشريف يوسف الهندي وعلى مرمى حجر من شارع المك نمر. تعتبر واحدة من أميز أعماله في مجال البيوت والفيلات. في سياق الإشارة لمكون محدد من تصميمها أخترناه هنا نشير لتعليق ذكي ساخر أطلقه منصور مشيرا لظاهرة محددة. معلقاَ على عادة شائعة بين العديد من أصحاب البيوت الذين بذلوا كل مدخراتهم لتشييدها.  أبدى استغرابه وهو يراهم يديرون ظهورهم لها وهم جلوس أمامها على رصيف الشارع. ثمة شواهد تدلل على ان مثل هذه الملاحظات الذكية كانت ذات أثر بليغ في تصميم عبد المنعم لفيلا منصور. إذ نما إلى علمي من بعض الذين كانوا قريبين منهما أن تصميمها أسس على عدة تفاهمات معمقة مشفوعة بمذكرات. المحصلة النهائية كانت بالغة التميز محتشدة بالأفكار الجديدة. في حالة مشابه لشخصية صاحب الدار وهو واحد من اهم المفكرين السودانيين المجددين. دبجت من قبل مقالة طوفت فيها في أرجاء هذه الفيلا. سأكتفي هنا بالتركيز على ذلك الجزء المطل على الشارع الذي صممه عبد المنعم بطريقة استفادت من ملاحظة دكتور منصور الناقدة الساخرة.

تتميز عمارة فيلا الدكتور ببساطة مبهرة تعبر عن الحالة المعروفة بالسهل الممتنع في أعظم تجلياتها. اختزلها عبد المنعم في هيكل خرصاني يؤطر لحدود مكعب نقى متطاول يطل على فناء رحب. يعبر ببلاغة عن تلك الحالة. تصميم تجسدت فيه اهم سمات عمارة عبد المنعم إذ جاء قمة في الرشاقة والأناقة. جزء مقدر من ذلك الفناء حديقة منزلية عبارة عن مساحة عشبية (نجيله). مطلة عل شارع الشريف الهندي الذي يتميز بحركة متصلة وقورة هي طابع هذا الحي الذي كان (أرستقراطي) الأجواء في سابق الزمان. فكرة التصميم بكاملها داخلياً وخارجياً تقوم على عملية التلاعب بالمناسيب او مستويات الأرضيات. تعنينا هنا على وجه الخصوص ونركز على تلك المساحة العشبية وعلاقتها مع ما يحيط بها من مكونات تحديداً الشارع الأمامي. مستوى أرضيتها يرتفع عنه بمقدار متر. جزء من طرفها المطل على الشارع يحده حائط قصير بارتفاع متر أيضا. بشكل يسمح لمن يجلسون هناك بإطلالة كاملة على الشارع. التلاعب بالمناسيب والمستويات يؤمن لهم خصوصية تامة. إذ يفصل بينهم وبين الشارع من الخارج حائط بارتفاع مترين هو نفس ارتفاع أسوار البيوت العادية. هذه فقط نصف الحكاية فالجزء الثاني هو الدهشة بعينها. فصاحب الدار الجالس هناك بإمكانه أن يمتع ناظريه بما يجرى في العالم الخارجي. يستمتع أيضا في نفس الوقت وهو يرمق مزهواً وباعتداد بالنفس صفحة عمارة فيلته مفرطة الأناقة والرشاقة. تمكن عبد المنعم بضربة لازب من التفاعل بذكاء مع ملاحظة منصور الساخرة المشار إليها من قبل. قفز فوقها فقدم حلولاً توافقية مكن من خلالها صاحب الدار من الظفر بالحسنيين.

المتأمل في عمارة فيلا الدكتور منصور وتحديداً تصميم هذا المكون الخارجي يدرك ما كنت أعنيه بحالة ازدواجية شخصية عبد منعم. فتحليقه عالياً في فضاءات فكر ومفاهيم عمارة الحداثة لم يجعله ينفصل عن واقع أهله ومطلوباتهم النابعة من قيمهم وتركيبتهم الشخصية. وازن من جانب بين نزعة السوداناوية المتأصلة في نفسه. من جانب أخر أستوعب معها روح الحداثة التي تشربت بها خلال سنوات تجربته البريطانية. فأنتج عمارة هجين، حداثية بهوية سودانية. الأخوة المعماريين وتحديداً الأساتذة منهم ومن لف لفهم مفتنون بفكرة الاستدامة. التي يشار إليها باللغة الإنجليزية بال sustainability. في حالة تعامل تتسم بالقصور نجد جلهم يفهمها بأنها معنية أساسا إن لم نقل فقط بالشأن المناخي. بتركيز على خفض درجات الحرارة. مع تجاهل يصل لدرجة التغييب لجوانب أخرى. تحديداً الاستحقاقات ذات الطابع الثقافي والمجتمعي والنفسي. منحًى يعتبر من اهم إفرازات الفلسفة والتوجه العلماني الذي ورثناه مع فكر عمارة الحداثة. تلك الجزئية عن فيلا منصور التي أشرنا إليها هنا توضح عمق استيعاب عبد المنعم لمفهوم الاستدامة. الذي مكنه من التجاوب مع مطلوبات واستحقاقات تتجاوز النطاق الحسي لتلامس أبعاد إنسانية نبيلة. قدم هنا أنموذج لعمارة هي مثال ناصع للاستدامة الثقافو- مجتمعية باللغة الإنجليزية sociocultural.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان- يناير 2020

Comment 1

  1. Beautiful article

    Reply

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.