عمارة عقائدية روحانية لامست مشاعرنا رسخت في وجداننا

عمارة العصور الضاربة في القدم كلاسيكية النزعة زاخرة بمعاني وحِكم تنتظر من يفك شفرتها. تجاوزت أفاق عمارة الحداثة فطيرة المحتوي ضحلة المضامين. كانت شامخة المعاني لامست أجواز فضاءات الإبداع. أشير هنا لبعض أجزاء داخلية صغيرة في أكبر أهرامات حضارة مصر الفرعونية. أشبه بالأنابيب تتوزع داخلها صعودا في اتجاهات متعددة. الواضح أن القصد منها كان إدخال الهواء النقي إلى تلك الأجزاء. ظاهرة وجد لها بعض من درس حالتها بعمق تفسير يشير لعبقرية من صمموها. لافتا النظر ألي أهداف نبيلة تجاوزت تلك المطلوبات الدنيوية الفيسيولوجية. موضحاً بأن اختلاف توجهاتها داخل جسم الهرم له صلة بمسارات مجرات سماوية ارتبطت عندهم بمعاني سامية. أهداف نبيلة جعلت عمارة الهرم الداخلية تسمو لرحاب فضاءات روحانية سامقة مرفرفة. شواهد أخري كانت تشير لجوانب مشابه متميزة في عمارة معابد تلك العصور الضاربة في القدم. تشير لتفاعلهم مع العالم من حولهم محلقين خارج إطاره الضيق المباشر المحيط بهم. إذ كانت تدير حوارا مستمراً مع الشمس التي تدور حولهم. في عمارة داخلية كانت تغازلها في غدوها ورواحها وهجرتها السنوية. لا نقول بمفاهيمنا الاستعلائية محدودة الأفق أنها كانت تروض أشعتها. إذ كانت تنتظر بلهفة ميقات قدومها الموسمي في يومين محددين في السنة تنتظرها بشوق عارم لتأخذ أشعتها في أحضانها. لتجدد البيعة لفرعونهم الأعظم الذي ينتصب تمثاله في عمق المعبد. مشهد أسطوري كان مسرحه معبد رمسيس الثاني المرابط في واجهة الجبل الأشم. عمارة عبادية فذة كانت تستدرج أشعة الشمس في غدوها ورواحها مرتين في العام. لتؤرخ مرة ليوم مولد الفرعون مرة أخري ليوم توليه للعرش. هكذا كانت عمارتهم العبادية كونية الطابع والأبعاد. توثق لحالات دراماتيكية تتقاصر تتواضع أمامها في استحياء عمارة حداثة هذا الزمان.

لم تتخلف عمارتنا عن ركب تلك الأزمنة الضاربة في القدم. إذ قدمت نفسها في ثوب وشكل تجاوزها في بعض مراحل حضارة كوش العظيمة الخالدة. حالة يزيدني الزمان افتتان بها وثق لها المجمع العبادي الأهم في حقبة مملكة نابتا الثانية في سلسلة تلك الحضارة باقية الأثر. في موقع أهم معابدهم معبد الهمهم الأكبر أمون. الجاسي عند أعتاب جبل البركل الأشم مقدماً نفسه باعتداد كبرياء بازخ. منافساً للمواقع العبادية في كل العصور في أرجاء العالم وفق معرفتي المعمقة بها. حالة وضع فيها التاريخ والجغرافيا بصمتهما البائنة. فعلت فيه الطبيعة نفس الشي، بل نافستهم بقوة في إطارها العريض. عطاء كان كله مبذول لخدمة روح إلههم الأكبر أمون. التأمت كل تلك العناصر والمكونات الطبيعية مجتمعة متكاتفة في أريحية فائقة في موقع بالغ التميز. يغير عنده النهر مساره كأنه ينحني جاثيا تقديساً لموقع كانوا يؤمنون بأنه مهبط إلههم الأعظم على أرض مملكتهم نابتا. زاد عزز من قدسيته عندهم منافسة محتدمة بين أهم مكوناته الطبيعية. جبل البركل الأشم الذي يقدم نفسه هنا في حالة استثنائية ينافس فيها الجبال في كافة أرجاء الدنيا. سطح مستوي تماماً كأنه ميدان معد لأغراض احتفالية طقوسية. بالإضافة لجزء صغير مشرئب بارز في واجهته. شكله أشبه براس ثعبان الكوبرا الذي كانوا يعتبرونه حارس حامي الملوك. في ذلك الموقع المقدس ليس بعيد عن ضفاف النهر كان يتمدد أهم معابدهم معبد إلههم الأكبر أمون. الذي كانت تنداح مكوناته تتمدد بسخاء تربط تصل بين أهم مكوناته الطبيعية. ذلك النهر المتدفق بسخاء والجبل الأشم المرفرف في أفقه.  لكأني بالمعبد هنا كان يلعب دور الوسيط بين تلك المكونات الطبيعية. يربط بينها في وثاق تتجلي فيه روعة عظمة الإبداع الإنساني المعماري. في أكبر اهم معبد لألهمهم الأعظم أمون.

في ذلك الموقع المترامي الأطراف على ضفة النهر كانت تتنافس تتكامل عمارة معبد أمون مع إطارها الجغرافي والطبيعي. عمارة تقدم نفسها في ملحمة رائعة مؤسسة على شراكة ذكية مع عدد من ضروب الفنون مثل أعمال النحت واللوحات الجدارية. مشهد دراماتيكي كانت تتهادي فيه مكونات عمارة المعبد المتعددة. من شاطئي النهر لتلامس أطراف جبل البركل الأشم. في ملحمة زاخرة باسمي المعاني. جذبتني مضامينها الثرة فتغزلت فيها في عدد من مقالاتي. كان عنوان أهمها التي ضمنتها في مدونتي في الفيسبوك- مجمع جبل البركل العبادي: إطار طبيعي مذهل وعمارة مدهشة. عمل كبير جداً يقدم دروس مجانية لكل مهتم بالعديد من المجالات والتخصصات. أركز فيها هنا بالتحديد على مجال التصميم الحضري. الذي يتجنى عليه عدد من الزملاء زوراً وبهتاناً بإضافته لتخصصات تعقب أسمائهم. في حالة شبيه ببضع صحفيين نكرات يشار للواحد منهم زوراً وبهتاناً أيضاً بأنه صحفي ومحلل سياسي. أدعوكم وأدعوهم في هذا السياق لتأمل حالة معبد أمون بتركيز على الجزء الخارجي المتمدد بين النهر ومبني المعبد. فيه دروس مجانية لا تقدر بثمن لمن يريد التعرف بعمق عن معني التصميم الحضري. أعظم الدروس التي استشفيتها من تصميم هذا المعبد ارتكازه على عاملين رئيسين. نجح فيهما في تحقيق أعلي درجات الإحساس الوجداني بشكل تصاعدي أريب للغاية. أولهما تكثيف الفضاء تدريجياً من صحراء بلا حدود مروراً بعدة مراحل إلى حجرة صغيرة بحجم (كشك). عملية مقترنة متزامنة أيضاً مع توظيف درجة الإضاءة بذكاء خارق وعبقرية متميزة. من صحراء ساطعة الشمس مروراً أيضاً بعدة مراحل داخل المعبد. إلى صالة قرب نهاية المطاف بلا نوافذ أو فتحات تضيئها مشاعل متراقصة الضوء.

منذ ثمانينات القرن الماضي كان لي ولع اهتمام خاص متصاعد الوتيرة بطرقنا الصوفية. أكثر ما جذبني إليها تلك التي كانت في عاصمتنا الخرطوم متنوعة الخلفيات متباينة الجذور. الأمر الذي جعلني أكثر حرصاَ على التعمق في توجهاتها التعرف على أبعادها الفلسفية الظاهرة المعلنة منها والمستبطنة. مشهد مدهش في رحاب العاصمة يرسم صورة روحانية أشبه بقوس قزح. تنوع يوفر لسكانها والوافدين إليها ما يشبه أل (مينيو) menuأي قائمة الطعام. منظومة روحانية الطابع متنوعة متباينة في خلفياتها بشكل مدهش تمنح من يطوف في عوالمها خيارات مذهلة. ظاهرة جديرة بالاهتمام جعلتني أتأمل أتعمق فيها متنقلا كالفراشة بين أرجاءها ونواصيها. أتنقل بحرية غير مقيد بالالتزام بأي واحدة من جوانب هذا العالم الصوفي المدهش لعدم انتمائي لأي واحد منها. الذي تأملته بحيادية فائقة من منطلق تخصصي كمعماري معني بالجانب الفلسفي الفكري للعمارة. مركزا بشكل خاص علي عمارة منظومة مكونات ذلك (المينيو) الصوفي متسلحاً بنهجي المحايد. فانطلقت مرتكزاً غلي رؤيتي المعمارية فلسفية الأبعاد أتأمل بعمق حالة عينات من الطرق الصوفية اخترتها بعناية فائقة. عملية خرجت فيها في النهاية بلوحة فسيفسائية مذهلة المكونات والتفاصيل. معبرة بجلاء عن واقع ذلك العالم الصوفي المدهش. الذي يكشف في كل حالة عمارة تشكل على كافة مستوياتها حالة عشق وعواطف صوفية متأججة. حملتني عوالمها المذهلة أليكم لأفضفض ما بدواخلي عبر هذه المقالة الواضحة من عنوانها. لنطوف معاً في أجوائها نتوقف عند جوانب منها مركزين على أميز حالاتها.

سأستعرض تلك الحالات بالتتابع بناءً على تاريخ تأسيسها وبداية نشاطها الفاعل المؤثر. مبتدئاً بحالة الطريقة الهندية العريقة التي ارتبط اسمها بأسماء أول من أسسوها. بداء اهتمامي بها منذ فترة طويلة في إطار أكثر من مناسبة كانت العمارة فيها حاضرة. لم تكن بمعزل عن تفاصيل سيرة أحد أهم رموزها زعماءها الشريف يوسف الهندي علية رحمة الله. التي جذبتني إليها مواقف صوفية الجزور غارقة في حب الوطن بنبل بازخ. عزز منها بالنسبة لي ارتباطها بإنجاز معماري كان له فيها سهم وافر أنتج عمل معماري مفرط التميز. عرف باسم السراية الصفراء هو الآن جزء من مجمع أساتذة جامعة الخرطوم قرب مدخل مدينة الخرطوم من كبري بري. عوامل متعددة في سيرته شحنتني بدوافع قوية. استثمرتها في التأمل في مركز الطريقة في ضاحية بري الشريف أو اللاماب في الطرف الشرقي من مدينة الخرطوم. الذي غمرني بأحاسيس متدفقة فضفضتها في مقالات زينت بها صفحات مدونتي في الفيسبوك لتنتقل منها لمنصة أل LinkedIn. كان عنوان الأولي التي وجدت طريقها إليهما في أبريل 2020: مجمع الطريقة الهندية الصوفية في بري اللاماب عمارة تقليدية مدهشة. مقالة شافية وافية بدأتها بخلفية عامة عن الطريقة. لأنتقل بعدها مستعرضاً التخطيط العام لمركزهم مسلطاً الضوء على ما ينضح به من قيم سامية نبيلة. ممهداً السبيل لتطواف يستكشف روائع مكوناته المعمارية. مركزاً علي أهمها التي أنهيت مقالتي بالتأمل في أهم جوانب عمارتها. التي أسرتني أجبرتني للعودة إليها بعد بضع سنوات. في مقالة عن عمارة طوب السدابة نشرت في مدونتي ومنصة أل LinkedIn وجدت صدي واسع من القراء. تغزلت فيها في عمارة مبني التكية في مركز تلك الطريقة الموشح بذلك الطوب.

تناولت من قبل بشي من التفصيل عمارة مكونات مركز الطريقة الهندية. سأركز هذه المرة أتوقف معكم لنتأمل إطاره العام داخل موقعه بكافة جوانبه ومكوناته الرئيسة بأجوائه الحبلى بالمعاني النبيلة. الذي تم تخطيطه بدون تدخل من الجهات الرسمية المعنية بمثل هذه المهام. انتزعت سلطات الاحتلال في عقود القرن الماضي الأولي الشريف يوسف الهندي من موطنه في الجزيرة المروية. التي تنامت فيها شعبيته المؤسسة على رؤي وطنية عارمة. لتنقله تنفيه لمنطقة على ضفاف النهر شرق مدينة الخرطوم لم تكن تربطه بأهلها علاقة من قبل. لكنها نمت لاحقاً عبر المصاهرة وروحه الصوفية الجذابة فصاروا له بمثابة الأهل. بالرغم من بعض تباين في خلفية مرجعياتهم الصوفية التي لم تنتقص من الود بينه وبينهم. ليخوض الشريف هناك تجربة روحانية جديدة متعددة الأبعاد. شهد عليها لا زال يشهد عليها في عهده وعهد من أتوا بعده مركزه المتضع بوداعة على ضفاف النهر في تلك الضاحية. تجربة تجاوز عبرها الشريف بحكمته وحنكته وذكاءه المفرط هذا الموقف والمطب التاريخي. كان من أهم أدواتها مركزه بتخطيطه المتميز ومكوناته المؤثرة. الذي صار منصة مهمة منذ عقود القرن الماضي الأولي حتى حقبتنا الحالية. انطلق منه يشع بوهج صوفي مستنير معزز بحس سياسي وطني نابض مواكب. عبر موقعه المتفرد وتخطيطه العام المتميز وعمارة مكوناته التي تنافس بعضها البعض.

تتوزع مكونات مركز الطريقة الهندية في جزئيين رئيسين. الأول الأكبر متضع على ضفاف النهر في الجانب الشمالي مطل على الحي من جانبه الغربي الذي يوجد به مدخله الرئيس. الجزء الثاني الأصغر في الجانب الجنوبي فيه مدخل يدخل منه الشيخ يفضي لجزء مخصص له. تخطيط يشيئ بالكثير من رؤي الشريف يوسف صارت نبراساً للطريقة تتجلي في تلك المداخل. تحديداً الرئيس منها في الجانب الغربي الذي يقود إلى الجزء الأكبر من الموقع. مفتوح على مصراعيه طوال العام واليوم انفتاح ينضح بمعاني سامية نبيلة متجذرة في فلسفة الطريقة. الذي يقود عبر ساحة ألي أهم جزء في المركز مبني التكية بمفهومنا العصري بيت الضيافة. المبذول لأتباعها المقيمين بالعاصمة والعابرين الوافدين من ديارهم في الجزيرة المروية. تتوفر للمقيمين فيها على ضفاف النهر مزرعة ترعي فيها دواب التكية. مؤسسة لحياة متكاملة تكاد تغنيهم بمواردها الذاتية عن الاعتماد على العاصمة. فتصبح بتجهيزها بتلك الطريقة همزة وصل بين أهل الطريقة من الشريحتين المشار إليهم من قبل. يفصل بين الجزء الشمالي والجنوبي من المركز سور تربط بينها بوابة كبيرة دراماتيكية التصميم. تفضي لساحة صغيرة تشتعل نشاطاً في أمسيتين من أيام الأسبوع تقام فيها طقوس دينية روحانية. تحيط بها تطوقها جزئياً ثلاثة مباني هي الأهم في المركز. المسجد في الجانب الشرقي منها بجانبه الضريح في الناحية الجنوبية ومبني متعدد الأغراض في الجانب الغربي. ثلاثة مباني مخصصة لأهم أركان زخم الطريقة الصوفي وحراكها السياسي الوطني. مدخل الموقع الجنوبي يلج منه شيخ الطريقة متوجها صوب مبني متعدد الأغراض. يلتأم فيه مع رموز طريقته يستقبل فيه أيضاً ضيوفه. تأجج من أجوائه إطلالة عبر فتحات أقواس (أرشات) رواقه كلاسيكية التصميم على الساحة الصغيرة المخصصة للأمسيات الدينية.

تركيزي هنا على مراكز الطرق الصوفية لم ينشأ من فراغ. لكن لان تخطيطها وعمارتها تعبران بحق عن ملامستها لمشاعر من يتعاملون معها من واقع وجدهم الصوفي. بذلك تشئ بالكثير ما هدفت لتسليط الضوء عليه في هذه المقالة. الذي سيتجلى لنا نحن نتوقف هذه المرة عند حالة مركز ضريح الشيخ حمد النيل. الذي يتمدد يسطع منذ تأسيسه قبل نحو قرن من الزمان في الجانب الغربي من مدينة أمدرمان. ليقدم لنا هناك حالة بالغة التميز. تزخر بالعديد من المفاجآت عند مقارنتها باخري مشابه لها في أنحاء العاصمة المتعددة. تعلقت بها نفسي عند زياراتي لها المتتابعة قبل عدة عقود من الزمان توقفت عندها متأملاً في إطارها العام ومكوناتها وتفاصيلها. عبرت عنها في مقالة مطولة ضمنتها في مدونتي في الفيسبوك في مايو 2021. عنوانها – مراكز العاصمة الصوفية: مجمع ضريح الشيخ حمد النيل في أمدرمان حالة استثنائية. جذبتني إليها جوانب محددة جعلتها متفردة متميزة عن رصيفاتها في إطار منظومة المراكز الصوفية في العاصمة. الأكثر الأهم من ذلك أنها جعلتني أعود إلى الوراء لعقود ماضية. أتأملها من خلال مفاهيم في عالم الفكر والفلسفة طوفت فيها خلال فترة تحضيري لدرجة الدكتوراه.  وجدتها تتجسد في أبسط صورها في حالة مجمع ذلك الضريح في أطراف مدينة أمدرمان. حالة متفردة الملامح عادت بي لسفر مؤثر للغاية مؤلفه المفكر المرموق والأنثروبولوجي المتميز Mircea Eliade. أصدره في خمسينيات القرن الماضي عنوانه باللغة الإنجليزية -The Sacred and the Profane ترجمنها المقدس والغير مقدس. زاخر بمفاهيم ورؤى فلسفية تجسدت في طقوس أساسية لمريدين الشيخ حمد النيل. تستحق التوقف عندها لكننا سأعود إليها لاحقاً.

أكثر ما كان يسترعي انتباهي في مركزهم إطاره العام في ذلك الجزء الذي كان طرفيا في المدينة فيما ما مضيٍ. إطار متمدد تتناثر فيه المقابر بشكل مكثف عشوائي تتخلله بعض أضرحة قبابها تطرز الأفق. تمنح مركرهم بضريحه الشامخ ميزة مهمة. لمن يتأمل ذلك المشهد من خلال رؤية فلسفية مشبعة بنزعة صوفية. إطار يبدو كأنه filter مصفيً يصفي النفوس هي مقبلة لهذه المنطقة لأغراض متعددة. كما يمكن من خلال تلك الرؤي أن نعتبر قباب الأضرحة المتناثرة في الأفق كأنها (بطاريات) حماية. أشبه بتلك التي تنصب تستخدم لحماية المواقع العسكرية المهمة من الصواريخ الموجهة في حالات الحروب. مشهد مهيب بشكل عام في مجمله قابل لتأويلات متباينة حسب رؤية كل من يزور يعبر تلك المنطقة. إطار حضري مترامي الأطراف يقود لمجمع أو مركز ضريح الشيخ حمد النيل الصغير في الطرف الغربي للمنطقة. موقع مساحته صغيرة نوعا ما زرته قبل عدة عقود من الزمان. كان محاط بسور غير مرتفع بوابته صغيرة مقارنة بحالات مراكز الطرق الصوفية في العاصمة. مبني الضريح أيضاً عندما زرته في تلك الفترة بالرغم مما بذل فيه من جهد. لم يكن منافساً لمباتي أضرحة مجمعات الطرق الصوفية الأخرى في العاصمة. كلها سمات ومظاهر لا أعتقد أنها ناتجة عن عدم اهتمام أو تقصير. أردها إلى حد بعيد إلى نهج مؤسس على الزهد والتواضع تتسم به هذه الطريقة على كافة مستوياتها. يلاحظه المرء هو يتأمل بعمق مظاهر عديدة تتجلي في فعاليات تجمعاتهم في عدة مناسبات في منطقة ضريح شيخهم. سأتطرق لبعضها لاحقاً في سياق هذه المقالة.

مشهد أخر في جزء من منطقة ضريح الشيخ حمد النيل يشيئ بالكثير مما يميز هذه الطريقة عن رصيفاتها في أنحاء العاصمة. مسرحه مجمعه صغير المساحة بسيط الملامح والسمات. زرته أكثر من مرة قبل عدة عقود من الزمان. مكون من مبني الضريح ومبني صغير إداري بالإضافة لبعض مرافق الخدمات. مجمعة حول فناء محدود المساحة سوره منخفض مدخله مفتوح دائماً للجميع. مشهد مظهره كل تفاصيله معبرة عن فلسفة الطريقة انفتاحها على الجميع ونهج شيوخها وتواضعهم الجم. سمات معاني سامية نبيلة تعبر عنها عمارة مبني الضريح منخفضة النبرة. أكثر ما استرعي انتباهي عندما كنت أزور المجمع في تلك الفترة تجمعهم في فنائه في صباحات يوم الجمعة. التي كانوا يلتامون فيها في توادد كرم فياض يؤلمون الجميع من ذبائح نحرت إيفاءَ لبعض نذور. فيتحول المشهد هناك يصبح كأنه رحلة ترفيهية لزمرة من أهل وأصدقاء. ترفرف في أجوائها عمارة مبني الضريح بملامح تتسم عمارتها بعفوية متسقة مع أجواء ذلك المشهد. يضفي عليه بتلك الروح زخم من بركات الشيخ المشعة من ضريحه. تمنح من يلتأمون عند أعتابه أوقات سعيدة جميلة يقضونها معاً في صباحات الجمعة ونهاراتها. يكون ختامها مسك لاحقاً عندما يتأهب عدد مقدر منهم في شوق ولهفة لفعالية ينتظرها الجميع لاحقاً. يلتأمون فيها تجمعهم فعالية بعد صلاة العصر في ساحة متمددة أمام مبني الضريح مع رهط كبير من الناس. بصحبة رفاق لهم من الطريقة وفدوا إليها من بعيد مع أطياف أخري ليست لهم بها علاقة مباشرة.

فعالية مسرحها منطقة مفتوحة مترامية الأطراف بلا أسوار تتمدد بسخاء أمام مجمع ضريح الشيخ.  موقف متسق مع فلسفة الطريقة وقياداتها المنفتحة على الجميع تكاد تذوب فيهم من فرط تواضعهم الجم. فلسفة تضع بصمتها البائنة على كل أجزاء منطقة ضريحهم في ذلك الفضاء الرحيب هناك. أبرز ما فيه منطقة أشرت إليها من قبل يتبدل حالها في عصر كل يوم جمعة. باحتشاد مجموعات يرتادونها تجمع بينهم أشواق ترتقي بهم لأعلي درجات النشوة الصوفية في أجواء مصطخبة الإيقاعات. يضعون بصمتهم في ذلك الجزء من الفضاء مقدمين أروع مثال لما ورد في سفر Eliade Mircea الذي أشرت إليه من قبل. منطقة مفتوحة هناك يخترقها طريق عام لا تتوقف فيه حركة المركبات والدواب والناس طوال أيام الأسبوع. لتتوقف لبضع ساعات من يوم الجمعة من موعد صلاة العصر حتى مغيب الشمس عندما ينادي المنادي لصلاة المغرب. بضع ساعات تتحول فيها لساحة أذكار تضج بالحركة على قرعات الطبول وصيحات المنشدين. تبدأ خطوات إعداد تلك الساحة المفتوحة بسارية عامود طويل يثبت في مركزها على راسه هلال. له دور مؤثر للغاية إذ تلتف تدور حوله جوقة الذاكرين بعضهم فرادي بشكل يجعلك تحس بأن موثقون به. ارتباط يبدو وهميا لكنك تحس أنه حقيقي. بدليل أنه لا يتأثر بحركات انفعالية يطوحون فيها بأجسامهم في كل الاتجاهات هم في أعلي درجات انجذابهم. أتأمل هذه الدراما الروحانية التي يتحول فيها فضاء يضج بحركة الراجلين والمركبات والدواب إلى ساحة أذكار. أتأمل تفاصيلها (الدراماتيكية) فأتمني لو بعث كان بيننا شاهداً عليها الفيلسوف العبقري Eliade. لأصابته الدهشة غمره السرور والغرور هو يري رواه النيرة تتجسد في ذلك الفضاء الرحيب. فضاء يتمدد عند أعتاب ضريح الشيخ حمد النيل بضاحية بانت تمنحه تلك الطقوس قدسية خاصة.

من موقع طريقة الشيخ حمد النيل في غرب أمدرمان ننتقل بعيدا عنها لأجواء طريقة أخري على طرف نقيض منها. تباعد جغرافي يفصلنا عنها سيذهب بنا إلى أطراف مدينة الخرطوم الغربية. لحالة بعيدة جدا أيضاً عن أجواء بساطتها الفائقة وتواضع مظهرها العام. لنلج لعالم على طرف نقيض منها فرضته ظروف موضوعية لا مثيل لها بين طرقنا الصوفية. عندما نحل هناك بمركز الطريقة البرهانية مترامي الأطراف. قرب ما كان يعرف بالسوق الشعبي في الجزء الغربي من مدينة الخرطوم. مركز متعدد المكونات بشكل غير مسبوق في سياق مراكز طرقنا الصوفية العاصمية. فرضته معطيات تراكمات من أهمها تركيبة المريدين. التي تضم في حالة نادرة أسر من أكثر الدول الأوربية ثراءً وتحضراً مع حضور مقدر من أهل الخليج العربي. شاءت أقدارهم السعيدة أن يتعامل مع حالة مركزهم واحد من أميز معمارينا هو العبقري المرحوم كمال عباس. الذي تجلت عبقرية في التعامل مع مركزهم وكل مكوناته بشكل استثنائي بالغ التميز. متجاوباً بتفوق عالي مع تعقيدات وتحديات هذه الحالة. عمل كبير ممتاز للغاية جذب انتباهي شدني للغاية. سلطت عليه الأضواء في أكثر من واحدة من مقالاتي في مدونتي في الفيسبوك. ذهبت أكثر من ذلك تعاملت مع هذا العمل الجبار في إطار فيلم وثائقي. قمت بإعداده وتقديمه في قناة النيل الأزرق مع ثلاثة أفلام مشابه بثت في شهر رمضان في عام 2014. يمكنكم الاضطلاع عليه في الجزء الخاص بالأعمال التلفزيونية في موقعي الإلكتروني عبر الرابط drhashimk.com. جهد توثيقي أعتز به عن هذا المعماري العبقري عليه رحمة الله أعانني عليه فيه علاقتي الحميمة به.  

عظمة هذه الحالة أن المعماري كمال عباس نجح في توازن تام في مخاطبة كافة شرائح أتباع الطريقة ومريديها. السودانيين أيضاً الأجانب من الخليجيين والأوربيين من شمال تلك القارة. تلك الشرائح الأجنبية التي تحرص دائماً على حضور احتفالات الطريقة السنوية بصحبة كل أفراد أسرها. ظاهرة متفردة في إطار طرقنا الصوفية شكلت بلا شك تحدياً بالغ الأهمية للمصمم.  التي نجح كمال في التعامل معها بكفاءة عالية في كل جوانب مركز الطريقة كما سنوضح لاحقاً. نجاح لم يكن علي حساب أغلبية من استهدفهم من مريدي الطريقة السودانيين. الذين كانوا الي حد ما يتميزون على مريدي الطرق الأخرى بخصال متفردة لفتت انتباهي. لا أقول أصفهم أنهم الأكثر تحضراً لأن كل مجموعات الطرق الصوفية الأخرى تتمتع بحس حضاري عالي مدوزن وفق مفاهيمهم الخاصة. لكن فلنقل إن البرهانية هم الأكثر انضباطاً في الكثير من مظاهر لقاءاتهم في رحاب مركزهم العام. على وجه الخصوص تجمعات طقوس احتفالاتهم السنوية التي يحتشد فيها ألاف المريدين على أنغام الطبول والدفوف. انضباط لاحظته مثلاً في الالتزام بزي واحد أهم ما يميزه بالإضافة للجلباب الأبيض غطاء رأس (طاقية) برتقالية اللون. حالة في مجملها كل تفاصيلها تقف على طرف نقيض من حالة مجموعة الشيخ حمد النيل. التي تتسم بقدر عالي من التلقائية التحرر من القيود الصارمة في الأزياء وحركة المنشدين هم في غمرة انجذابهم.  ظاهرة تتداعي تظهر في العديد من ملامح عمارة مباني أضرحة مسيدهم بكل تفاصيلها.

الدرجة العالية من الرقي والتحضر ترجمها كمال عباس في أبلغ صورها في الجزء الأهم من مركز البرهانية. المجمع متعدد الأغراض الواقع في الجزء الغربي من المركز أهم مكوناته المصليات المتعددة. الذي قدم فيه عمل استثنائي للغاية ينافس الأعمال المشابه له في أرقي البلدان. مبني واحد مترامي الأطراف يجمع كل مكونات المجمع تحت سقف واحد في بيئة مكيفة الهواء. أعظم ما فيه أنك لن تجد كما هو الحال في مجمعات المساجد أي مكونات خدمات خارجيه. مثل الحمامات ومرافق الوضوء ومولدات الكهرباء ووحدات التكييف. كلها هنا بالداخل تحت سقف واحد مضاف إليها سكن مرافق العمال والعاملين بالمبني بمن فيهم الإمام والمؤذن. عمل معماري كبير مشرف للغاية رفيع المستوي يليق بأتباع الطريقة الوافدين للمركز من أرقي بلدان الخليج والشمال الأوربي. يليق أيضا بمقام مريديها السودانيين الذين يتوافدون لمركزهم في أبهي حلة وكامل هندامهم لتكتمل الصورة علي أزهي ما يكون. في حالة تتنافس فيها مكونات العمارة التقنية والخدمية مع جمالياتها وقيمتها الطرازية التعبيرية.  مشروع مترامي الأطراف يمتد التنافس فيه بين جانبيه الغربي والشرقي. مجمع المصليات في الغربي منه مع الشرقي الذي يهيمن عليه مشهد مبني الضريح. مشروع مزدوج التحديات تجلت فيه مقدرات كمال عباس المتفردة في أهم أركان العمارة. جانبها التقني المعقد وافاقها الفلسفية الفنية فكرية الأبعاد المحمولة على أجنحة طرازيه متميزة..

أفتتاني بهذا المشروع دفعني للتوثيق له بشكل استثنائي يتجاوز مرحلة تدبيج المقالات وكتابة البحوث. فتعاملت قدمته في فيلم وثائقي مكتمل الأركان نجحت فيه إلى حد كبير بشهادة من أعتد برأيهم في هذا المجال. أعترف أن من أهم دوافعي لإنتاجه كانت التركيز على مبني الضريح في مركز الطريقة البرهانية. غاية حرمتني من تحقيقها ظروف استثنائية في خواتيم عشرية الألفية الأولي. كانت من إسقاطاتها حظر تسليط الضوء على مثل هذه المباني في الأجهزة الإعلامية. فحرمتني من تغطية ذلك المبني في فيلمي الوثائقي. أجمل ما في عمارته كما هو الحال في مجمع المصليات تعامل كمال الذكي مع كافة شرائح مريدي الطريقة. الأغلبية السودانية معها أيضاً من يتقاطرون لحضور احتفالات الطريقة السنوية من الأمارات والشمال الأوربي. فعمارة مبني الضريح تتميز بدرجة عالية من البساطة والنقاء في شكلها العام وجل تفاصيلها متبعة نهجا حداثياً واضحاً. مظهر عام سرعان ما يتغير عند ما يقترب من يطوف داخل المبني يصل لمركزه منطقة التابوت الخشبي. حيث يتبدل الحال تماماً عندما يشتعل المشهد تصطحب فيه الزخارف معززة بثراء لوني مذهل. بداءً بالتابوت الخشبي صعوداً إلى القبة الشاهقة التي تغازل فيها أعمال الزجاج المعشق ضوء الشمس المسرب من عٌلي. معالجة ترضي غرور المريدين السودانيين وتثير دهشة وإعجاب من وفدوا للمركز من الأمارات والشمال الأوربي. نهج أتبعه كمال في مبني مجمع المصليات في الجانب الغربي من المركز. الذي استلهم تصميمه بتصرف من سمات العمارة الفاطمية واحدة من منظومة تراث العمارة الإسلامية بمصر. طراز يغازل الحداثة بالرغم من جذوره الكلاسيكية. الواضح أن كمال اختاره بذكاء أملاً في إرضاء ذائقة شرائح الطريقة البرهانية السودانية أيضاً الوافدين من الخليج والشمال الأوربي.

سياحتنا في عوالم طرقنا الصوفية تطوف بنا هذه المرة في رحاب عمارة سطعت تطرز عدة مقرات ومواقع. ارتبطت بالطريقة الختمية في شرق بلادنا. ستأخذنا من ضواحي كسلا واحد من عواصم ذلك الإقليم. الي أحياء سواكن التي تلاشت من الوجود أجزاء كبيرة منها. ثم إلى سنكات واحدة من أهم مدن ذلك الإقليم الشرقي. ستأخذنا سياحتنا تطوف بنا في ملحمة صوفية المضامين سياسية الأبعاد شهدتها ربوع ذلك الإقليم. تداعت لأكثر من قرن من الزمان لازالت بعض إسقاطاتها تسعي بيننا بكل عنفوانها. ستأخذنا إلى ضفاف رحاب تلك الطريقة في شرقنا الحبيب مركز ثقلها الأهم. الذي كان لهم فيه قبل بضع عقود من الزمان شأن كبير للغاية. وثقت فيه العمارة بكافة صورها أعظم مشاهد وجدهم الصوفي في أنصع صوره. حالة للأسف الشديد كاد بعضها أن يزول من الوجود نتيجة لضعف همة الجهات الرسمية وتقاعس رموز تلك الطريقة الصوفية. بعضها الأخر لم يتبق منه إلا أطلال على أروع ما يكون هي ترقد في دعة عند أعتاب جبل يضفي عليها مهابة بازخة. لننتقل لحالة ثالثة تجسد أعلي حالات الوجد الصوفي. يوثق لها مشهد موقع مسجد وضريح شيخة من أميز من قدمتهم هذه الطريقة قل إن يجود الزمان بمثلها. يحتشد فيه الألاف في كل عام في يوم مبارك أول خميس في شهر رجب الأغر. ثلاثة نماذج تباينت فيها حالة العمارة إلا أنها في كل تلك الحالات كانت هي المحور الأساسي. كانت خير شاهد علي أعلي حالات وجد صوفي كان قوامه اساسه دائما أهلنا البجا.  

سآخذكم معي في البدء هذه المرة لنقف أمام حالة نادرة أسست وثقت لها الأطلال بكل خلجاتها وتفاصيلها. في ظاهرة تستحق التوقف عندها التأمل في أطرافها الثلاثة. هذه الطريقة بتاريخ مؤسسيها الاماجد ومريديها البجا الهائمين بحبها. تجمع بينهم كطرف ثالث أطلال مجمع ضريح باذخة الحضور بالرغم من تواضع مظهرها. الطرف الأهم بالنسبة لي في هذا السياق هم هؤلاء البجا بتاريخهم المجيد المنسي المهمش. الذين صارت علاقتهم بالطريقة عصب حياتهم مركز وجدانهم النابض. قوم علاقتهم بإقليمهم ضاربة في القدم، عصور مواسم متلاحقة من الجفاف والتصحر خلفت أثارا من فقر مدقع. صار جزءً أساسياً من حياتهم. جبلوا عليه ترك بصمته البائنة في طبعهم الذي يتميز باعلي درجات الزهد. تغلبوا عليه بعدة طرق من أهمها قربهم من تلك الطريقة الختمية في علاقة تميزت باعلي درجات العشق. تَجسد جزءً منه في تمسحهم بأهداب أطلال ذلك المجمع وأجواءه المترعة بالدفق الروحاني. بالرغم من تواضع بساطة مكوناته وافتقادها لأبسط مقومات مثل هذه المجمعات. تواضع يبدو أنه هو الذي جعله أقرب إلى نفوسهم المشبعة بالزهد في حالة جديرة بالتأمل. مشهد أطلال تركت عاديات الزمن على عمارته الطوبية بصمتها البائنة لترفع من دراما المكان لأعلي درجاته. تبلغ قمتها في فيما تبقي من مبني الضريح الذي فتح غياب عرشه أبواب السماء بأريحية ليصل بالتعبير المعماري لأقصي درجاته. مشهد تغازل فيه أطلال المجمع من على البعد هامات جبال التاكا المشرئبة بين أقواس (أرشات) تلاشت عروشها. تكتمل أجواءه الروحانية بتمسح هؤلاء البجا بأرجائه. هم يذوبون فيه بزهدهم المترع و (دمورية) أزياءهم و (سديرياتهم) كالحة الألوان. لتكتمل جوانب هذه الدراما الروحانية تعانق أجواز الفضاء.

نرتحل من موقع ضريح سيدي الحسن الميرغني بضواحي مدينة كسلا لسواحل البحر الأحمر لنعايش مواقف أخري شبيه به. تشارك فيها بشكل أو بأخر نفس تلك الأطراف الثلاثة. السادة زعماء الطريقة الختمية برفقة أكثر أهل السودان حباً ووفاءً لها ولهم أهلنا البجا. توثق لأعلي حالات العشق الصوفي فيه عمارة مشابه إلى حد ما لحالة ضريح سيدي الحسن الأولي. حالات متباينة واحدة بلا شك تلاشت تماماً الثانية موجودة لكنها تحتاج لمتابعة واهتمام. أما الثالثة فهي في قمة توهجها ما زالت في كامل ألقها. رصدت الحالتين الأولي والثانية عايشتهما عن قرب في زيارة لي لميناء سواكن في منتصف عقد الألفية الثاني. عشت تجربة الأولي في بيت صغير نسبياً لواحدة من فضليات نساء الأسرة الميرغنية. صغير في حجمه لكنه يحمل ملامح قصر منيف. تحديداً واجهته المطلة على ساحته الداخلية الأمامية التي كانت في جانب منها (خلوة) مدرسة قرانيه للأطفال. الخلوة التي جعلتني أدرج حالة هذا البيت كواحد من نماذج اخترتها لموضوع هذه المقالة. لكني أعترف بأنني في البدء شدتني لهذه الحالة واجهة ذلك البيت الأنيق بجمال تفاصيلها. بنفس القدر من الإعجاب حزنت لحالها التي كانت يرثي لها إذ كانت في مهب الريح. بشكل جعل الجهات المعنية بالحفاظ على التراث المعماري تضعها علي راس قائمة ما يجب صيانته المحافظة عليه. نوايا مجهودات للأسف الشديد لم تكلل بالنجاح.  فتسرب ذلك العمل المعماري الرائع وخلوته الصغير وأختفي من الوجود. إنني والله أحزن للغاية أنا لا أري مجهودات تبذل من قبل أهل الشأن المعنيون بهذه الأمور السادة المراغنة.

سمحت لي تلك الزيارة لسواكن أن أقف على جوانب محزنة من تاريخ عمارتها الرائعة المجيدة. التي شهدت تدهوراً مريعاً أصبح أغلبها يلفظ أنفاسه الأخيرة. أشرت لجانب منها في حالة ذلك البيت الشبيه بالقصر الصغير. أكثر المشاهد هناك التي رسخت في خاطري أضرحة صغيرة ملحق بها مصلي في نفس حجمها في حالة لا تسر. بالرغم من تميز عمارتها فائقة البساطة بألق تاريخي مترف محمول على أجنحة تراثية روحانية مشعة. دراما يرفع من وتيرتها تَحلق مجموعات أهلنا البجا حولها تمسحهم بأهدابها. تحتضنهم في حنو بالغ تمنحهم إحساس غامر بالأمان النفسي. بالرغم من حالتها المزرية التي تحتاج لمزيد من العناية والاهتمام أحسست أنها بالنسبة لهم أشبه بالملازات الأمنة. على ذكر أضرحة المراغنة يجب أن نتوقف عن حالة مغايرة تماماً استثنائية الملامح والسمات. ارتبطت بواحدة من أميز شيخاتهم تستحق التوقف عند سيرتها العطرة التي تجعلها واحدة من أعظم نساء بلادي. هي الشريفة مريم الميرغنية التي لا يتسع المجال هنا لذكر جوانب سيرتها أسطورية المواقف. عُرفت اشتهرت بعلاقاتها الحميمة وخدماتها للبسطاء والمحتاجين من أهلها وممن حولها. مقدمة أنفسها كأعظم مثال لما يجب أن يكون عليه الدعاة من هذه الزعامات الدينية الصوفية. معزتهم لها بعد وفاتها تتجلي في توافد حشود شبه مليونيه حول ضريحها في مدينة سنكات متزامنة مع أول خميس من شهر رجب الأغر. مشهد ضاعف من عظمته الحالة المشرفة الممتازة لمجمع الضريح والمسجد المجاور له. مقدمة أروع نموذج للعمارة هي تسطع في قلب ذلك المشهد المهيب موثقة لأعلي حالات الزخم الوجداني الصوفي.

الحديث عن الطريقة الختمية وإسهاماتها المعمارية لن يكتمل بدون التعرف على ما أنجزته غريمتها التي نافستها في هذا المجال. الإشارة هنا لطائفة الأنصار التي ظهرت في شكلها الحديث منذ بدايات القرن الماضي. كند منافس لها على الصعيد الديني الصوفي والسياسي أيضاً. منافسة انداحت تقدم نفسها بثقة موظفة العمارة كما هو متوقع في مثل هذه الحالات. التي قدمتها بشكل مشرف راقي متطور مواكب للزمن كما سنوضح لاحقاً. اكتسبت الطائفة اسمها من نشأتها الأولي كمنظومة ارتبطت بحركة إسلامية صوفية فكرية وطنية. أسس لها الإمام المجاهد محمد أحمد المهدي في النصف الثاني من القرن قبل الماضي. عبر انتفاضة عارمة سعت لتحرير البلاد والعباد من قبضة الاحتلال التركي. التفت حولها في حالة استثنائية نادرة أطياف من عموم أهل السودان صار يشار إليهم بأنصار المهدي. حركة وطنية فريدة أعلنت قيام العهد المهدوي الذي انطلق من عاصمته الجديدة مدينة أمدرمان. ساحبة البساط من الخرطوم عاصمة العهد التركي. لكن شاءت الأقدار أن يرحل قائد المسيرة الإمام محمد أحمد بعد بضعة أشهر من تأسيسه لدولتهم الإسلامية الجديدة. تولي زمام الأمور من بعده الخليفة عبد الله التعايشي ليمضي قدما بالمسيرة في رحاب عاصمتهم الجديدة. مركزا بالطبع على قلبها النابض الذي التفت حوله أحيائها المتعددة. ململة شمل أطياف من أهل السودان جذبتهم مبادئي الحركة الوطنية الإسلامية الجديدة.

تربعت في قلب تلك العاصمة الوليدة حقبتئذٍ مكونات أساسية نابعة من توجه وروح الدولة المهدية. كانت مركز إشعاع أساسي بالرغم من تواضع حال مظهرها نسبياً مقارنة بما شابهها في حالات أخري. خلال تلك الفترة الباكرة من نشوي مشروع الدولة المهدية. مكونات ثلاثة في قلب نلك العاصمة الوليدة أولها مسجد مفتوح كبير في شكل ساحة. أعد بمساحة تسمح باستيعاب كافة رجال المدينة معا لأداء كل الصلوات. في صلاة الجماعة بناءً على تعليمات صارمة من الجهات الرسمية. اكتسبت أهميتها أبضا من أنشطة أخري مهمة للغاية. منها تنفيذ بعض الأحكام على رؤوس الأشهاد بما فيه الإعدام. زاد من أهمية تلك الساحة في منطقة المدينة المركزية مجمع صغير مجاور لها توسطه مبني ضريح الإمام المهدي. الذي شيد في موقع حجرة من الطين كان يقيم يتعبد فيها الإمام مما أكسب مبني ضريحه لاحقاً قدسية وأهمية خاصة. استثمر الخليفة عبد الله في أهم المصادر المتاحة له لتشييد ذلك المبني في أبهي حلة كواحد من أهم معالم عاصمته الوليدة. اكتملت أهمية منطقة أمدرمان المركزية بمكون ثالث بالإضافة للمسجد المفتوح ومجمع الضريح. مجاور لهما مبني من طابقين كان جزء منه مخصص كمكاتب لمجلس الشورى. كان ملحق به مبني صغير نوعاً ما هو منزل الخليفة عبد الله. الذي كان مرتبطا بباقي مكونات بيته الكبير على الجانب الشرقي من هذا المجمع. من هذه المنطقة المركزية كان الخليفة عبد الله التعايشي يدير شئون حكمه. التي كانت أهم مركز إشعاع روحاني إسلامي وسلطوي.

لم تستمر حقبة الخليفة عبد الله التعايشي علي راس الدولة المهدوية أكثر بكثير من عقد من الزمان. إذ جاءت نهاياتها بهجوم كاسح كان على رأسه قوة بريطانية مدججة بأحدث الأسلحة الفتاكة. اكتسحت مدينة أمدرمان عاصمة ذلك العهد المهدوي بعد معركة ضارية عاست فيها فساداً. كان من أهم أهدافها ضريح وقبة الأمام المهدى الذي حاولوا تدميرها بمدافعهم.  لتؤرخ في نهاية القرن قبل الماضي لبداية فترة احتلال ثناية بريطانية مصرية لبلادنا استمرت لستة عقود من الزمان. عاشت فيها قطاعات عريضة من شعبنا تجارب مريرة. بمن فيهم من تبقي من أنصار المهدي الذين مروا بمراحل حرجة متقلبة الأطوار. كان على رأسهم الفتي حقبتئذٍ عبد الرحمن واحد من أبناء المهدي أهله الأقربين الذين نجوا من إبادة وبطش القوات المحتلة الغاشمة. شاءت أقداره أن يضطلع هو في سنه الباكرة بدور مفصلي في تلك الحقبة من تاريخ السودان الحديث. قام فيها في النصف الأول من القرن العشرين بحنكة فائقة وكفاءة نادرة وذكاء خارق بأدوار متعددة الجوانب. بالرغم من أنه لم ينل قصد وافر من التعليم النظامي. متحصنا بمورثات والده الأمام المهدي وفيض فكره الصوفي. فانطلق من تلك القاعدة المتينة يشق طريقه خلال عقود ذلك القرن الأولي مبحراً بسفينة من تبقي من أنصار والده المهدي. متنكبا طريقاً انداحت فيه العقيدة الأنصارية لاحقاً لتلامس بحنكة عوالم الاقتصاد والتنمية ثمة السياسة. لتذوب فيها بشكل جديد مبتكر جعله دائما يخرجها من رداء الطرق الصوفية لرحاب أشمل وأعمق. مشهد رائع في مجمله سطعت فيه العمارة في أعظم أجمل صورها. ظهرت فيه في أطر جديدة مبتكرة جذبتني إليها بشدة. بالرغم من جذوري الواضحة من اسمي الثلاثي المفترض أن تناي بي عن هذا الطريق.

كانت العمارة هي التي شدتني في البداية لعالم الإمام عبد الرحمن المهدي متعدد الأبعاد. استدرجني لها في البداية تواجدي في خضمها قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان. عندما كنت أقيم في حي رصعت أفقه في منزلي بحي الملازمين بأمدرمان. أذكر جيداً عظيم افتتاني بمبني ضريح الإمام المهدي الذي كنت في تلك الفترة الباكرة من عمري أداوم على رسمه من كل الزوايا. تطور الأمر لاحقاً عندما دخلت عالم التصوير الفوتوغرافي الذي صار فيه واحداً من أهم أهدافي. تعلقت به لدرجة أنني كنت أتربص به قبل شروق الشمس. لكي (أنضم) قرصها لحظة شروقها في الهلال المنتصب في الجزء الأعلى من القبة. تطورت علاقتي بذلك المبني في مراحل لاحقة من عمري عندما صرت معمارياً. مسيرة متطاولة في مجالها ذهبت بي بعيداً إلى شواطئي التوثيق المعماري. الذي أعادني مرة أخري إلى من حيث بدأت قبل عقود عديدة من الزمان. أعادني لضفاف عمارة أمدرمان التراثية في ربوع حينا. التي استهوتني من قبل وقعت في حبها من النظرة الأولي بالتحديد ما ارتبط منها بالإمام عبد الرحمن المهدي. فاستدرجتني صارت مدخلاً بدأت من خلاله أبحث بعمق في مسيرته وسيرته. فأنفتح أمامي عالم مدهش الجوانب والمكونات لن يتخيل المرء أن مصدره شخص لم يحظ إلا بقدر يسير جداً من التعليم النظامي الحديثً. كانت بداية حياته متواضعة جدا بمعايرينا ممعنة في البساطة لكنها مترعة بزخم أيماني صوفي بازخ. مشبع بمورثات جينات والده الزعيم المُلهًم المُلهِم الإمام محمد أحمد المهدي. التي عززتها أجواء تلك الدولة في سني نقائها الأولي بعد وفاة والده عندما كان مقرباً من خليفته عبد الله التعايشي.  

أرخت خواتيم ذلك القرن لنهاية صفحة مشرقة عاشها الفتي عبد الرحمن المهدي في رحاب الحقبة المهدوية. ليفتح لاحقاً صفحة جديدة عانى في بداياتها الأمرين من سلطات الاحتلال تحديداً جانبها البريطاني. باعتباره أبن المهدي واحد من القلائل من بين أهله الذي نجوا من تصفيتهم. التي وضعته تحت المراقبة ضيقت عليه الخناق في بداية عهدهم هناك. لتغير تعاملها معه لاحقاً إلى حد ما كجزء من مناورات كانت بينهم وبين شريكهم المصري. مساحة استفاد منها في البدء في تفعيل الحركة الأنصارية بقدر معلوم سمحت به سلطاتهم. في إطار نهج اتبعه نابع من اقتناعه بعدم جدوى العمل المسلح خلال تلك الحقبة. جعله يميل لاتباع نهج النضال السلمي الذي قرر أن يمضي فيه عبر مسارات متعددة. مستفيداً من تدابير سمحت له بتجميع أنصاره في منطقة الجزيرة أبا نقطة بداية الثورة المهدية قبل نصف قرن من الزمان. فعمد على الاستثمار في تواجدهم هناك بطريقة ماكرة تنم عن دهاء خارق. استثمر فيهم بكامل رضائهم موظفاً حشودهم الأنصارية لتصبح واحد من أذرع النضال السياسي السلمي مستثمرا في تلك القاعدة المؤثرة. ليقدم معهم بهم تجربة رائدة في مجال الاستثمار الزراعي والصناعي. تجربة إسلامية التوجه صوفية الجذور ليست لها علاقة بالعمل العسكري الذي يستفذ سلطات الاحتلال. إنجاز مهم خطوات إيجابية لم تكن خصما على التوجهات الأنصارية. بل أنها على العكس من ذلك جاءت معززة لها إذ حققت إنجازات مهمة للغاية. مهدت الطريق لاحقاً لقيام مؤسسة اقتصادية ولدت عملاقة أحرزت نجاحات باهرة في زمانها هي دائرة المهدي. التي عبرت بالأنصار إلى شواطئي مهمة جعلتهم يضعون أمشاط أقدامها بثقة على أعتاب الحداثة. يلامسون معها بثقة عالم السياسة بمعاييره الحديثة. في إطار الحلول السلمية التي ساهمت لاحقاً في استقلال السودان.       

تلك الخطوات المهمة في الجزيرة أبا جعلت سلطات الاحتلال تطمئن لمقاصد الإمام عبد الرحمن المهدي السلمية. فمنحته موطئ قدم راسخة في عاصمتهم الخرطوم الكبرى. مهدت له الطريق هناك مع تداعي العقود في النصف الأول من القرن الماضي. فمضي قدما وظفها بنفس الحنكة والذكاء الوقاد في توجهات جديدة حداثية النزعة. كان من أولها التأسيس الجيد لدائرة المهدي لتشكل ذراعاً اقتصادياً مضاءً يقوي من عضد كيان الأنصار. مضي في نفس النهج الحداثي السلمي بإضافة ذراع أخري فعالة تقوي من كيانهم بشكل غير مباشر أريب. ففي خطوة مفاجأة تدل على ذكاء وفطنة متقدمة سعي لتأسيس حزب سياسي هو حزب الأمة. فكرة لم تنشا أو تأتي من فراغ إذ كان أساسها نوابغ من مستشارية معززين بأمثالهم من خارج الإطار والخلفية الأنصارية. خطوة جريئة فتحت الباب على مصراعيه بدون حرج لاستقطاب كوادر من أميز السودانيين لحياض حزب الأمة الجديد. ليشكل ذراعاً إضافية قوية مع مؤسسة دائرة المهدي الاقتصادية التنموية. رؤي جديدة جريئة كانت من بنات أفكار الإمام عبد الرحمن المهدي بإيعاز من صفوة ممن كانوا حوله. إذ كان من أهم صفات ذهنه الوقاد انفتاحه على قطاعات عريضة من المجتمع. بلا حواجز مؤسسة على أي نوع من الحساسيات. إذ كان من أهم صفاته ما يميزه أنه بني له جسور مع كافة شرائح المجتمع. حتى الذين كانوا على الضفاف الطائفية والسياسية الأخرى البعيدة عن توجهاته الدينية والأيديولوجية أي الفكرية. نهج إيجابي متميز تشهد عليه العديد من مواقفه الشهيرة المشرفة.

أميز ما في شخصية الإمام عبد الرحمن المهدي أنها تبدو ملوكية الطابع لنكتشف أنها مظاهر خداعة. لأن بعضاً من جوانبها تدل على أنه شعبي التوجه يجد نفسه أحينا يسعد جداً هو في معيه أبسط طبقات المجتمع. على ذكر ذلك الطابع الملوكي أنه مرة في سالف الزمان بداء في تشييد قصر منيف سراية في أمدرمان مطلة على النهر. ليستضيف فيها الملك سعود ملك السعودية عند زيارته له في السودان. أمنية لم تتحقق لأنه المنية وافته قبل أن تتم تلك الزيارة المرتقبة. لكن من المفارقات ذات الدلالات المختلفة على شعبية توجهه أنه كان يجد نفسه متعته في استقبال أطياف من عامة الناس. أقلهم مقاماً بمعايير الجاه والسلطة والمال الذين كان يرحب بهم بأريحية فائقة في سراياته. منهم عدد من الشعراء الشعبيين مثل العبادي الذي كانت تربطه به علاقة حميمة. كما كانت له علاقة خاصة في نفس ذلك الإطار مع ود نفاش هو من أشهر ظرفاء المدينة حقبتئذٍ. معروف متداول بين الناس طرفة له لها قالها بعد لقاءات له مع السيد علي الميرغني والامام عبد الرحمن المهدي. عندما زارهما طالبا منهما دعما يستعين به لتجاوز ظروف مالية حرجة مر بها. فبره الميرغني بدعوات صالحات مصحوبة بفاتحة فيما نفحة المهدي مبلغاً مقدراً من المال. فعلق على ما حدث بمقولة صارت متداولة بين الناس. بأنه صرف فاتحة أبو علي نقداً من أبو عبده يقصد الإمام عبد الرحمن كما يصرف (الشيك) من البنك. هكذا كان الإمام يقابل يستقبل بأريحية فائقة عامة الناس والبسطاء في رحاب سراياته الفخمة ملوكية الطابع.

كان الإمام عبد الرحمن يستقبل في تلك السريات بأريحيته المعهودة أحباب له وأصدقاء من أميز نجوم المجتمع لم تكن لبعضهم خلفية أنصارية. قائمة طويلة ضمت أجانب من بلاد الشام ومسيحيين وأوربيين من أميز رجال أعمال ذلك الزمان. نخب شكل بعضهم لاحقاً نواة حزب الأمة في خطوة جريئة ظاهرة جديرة بالاهتمام. منظومة منتقاة متعددة الخلفيات هيأت الإمام منذ بداية الربع الثاني من القرن للعب أدوار مهمة مرتقبة. قاعدة عريضة ثلاثية الأضلاع. حشود أنصارية متدفقة معززة بحزب الأمة واجهتهم السياسية ودائرة المهدي داعمها المالي. منظومة مكتملة الأركان سعي الإمام لكي يهيئ لها أطراً تليق بمقامها مستعيناً باميز معاونيه. الذين كانوا خير عون له في مرحلة مفصلية حساسة فرضها عليه دوره السياسي في منعطف حرج من تاريخ بلادنا. أعانه عليه أيضاً مردود رحلات خارجية لعواصم دولتي الاحتلال مصر وبريطانيا. ساهم بشكل كبير في إثراء تجربته تحديداً أبعادها السياسية والحضارية. التي انعكست بشكل واضح على كافة جوانب شخصيته أضفت عليها بعدها الملوكي. جعلته يكاد يكون نداً لمن كان يتعامل معهم ممن كانوا يمثلون سلطات الاحتلال. توجه كانت العمارة فيه حاضرة بقوة بشكل مشرف للغاية ظاهرة تعيدنا لموضوع هذه المقال.

بدـأت علاقة الإمام عبد الرحمن الجادة المثمرة بالعمارة مع تحسن علاقاته مع سلطات الاحتلال. التي أثمرت أول خطواتها بمنحه موطئي قدم في أمدرمان واحدة من مدن عاصمتهم الثلاثة. مسيرة معمارية كان من البديهي أن يبدأها بمشروع سكني له ولأسرته. اختاره في أمدرمان في حي الأمراء شرق شيد فيه أول بيوته الضخمة سراياته. لكن كان أكثر ما يشغل باله في تلك المرحلة مشروع كبير مهم للغاية. هو ترميم إعادة بناء قبة والده الإمام محمد أحمد المهدي بشكل مشرف. بعد أن دمرت أجزاء منها مدافع قوات الغزو الأجنبي. مشروع أقنع بذكاء ودهاء فائق سلطاتهم بمردود إيجابي متوقع بالنسبة للجميع. بمساهمته في تخفيف حدة غبن ترسب في نفوسهم نتيجة لفعلتهم الشنعاء. موافقتهم على اقتراحه مهدت له الطريق لبداية عمل كبير تجاوز طموح ترميم بناء مبني الضريح. مشروع مترامي الأطراف متعدد المكونات تجلت فيه عبقرية الإمام عبد الرحمن. عكس فيه الكثير من جوانب فلسفته ورواه المستقبلية الطموحة. متجاوزاً مهمة ترميم وبناء الضريح ليؤسس مركز ضخم متكامل الأركان. متميز للغاية بشكل يصعب معه الإشارة إليه بأنه مجرد مركز. لعل أصدق اسم عرف به لفترة طويلة من الزمان هو بيت الأمة لأنه معبر بحق عن هذا المشروع. الذي لم ينشأ من فراغ إذ أن كل جوانبه كانت تجسد هذا المسمى. ابتدأ بموقعه الرمزي التاريخي مروراً بكافة مكوناته انتهاء بطرازه المتميز. جوانب سمات متفردة كانت مرآة صادقة لفلسفة الإمام. أنزلتها العمارة إلى أرض الواقع بسماتها وملامحها وخلجاتها وكافة تفاصيلها. بما أن هذا المشروع صمم وأنشاء كمركز لكيان الأنصار فهو يقع في صميم موضوع هذه المقالة. لا بل أته يقدم أعظم نموذج للأعمال المعمارية التي ركزت عليها فيه.

اكتسب مجمع بيت الأمة قيمته الأساسية من موقعه كطرف ضلع ثالث مؤثر. في منظومة أضلاعها الثلاثة من أهم مكونات مدينة أمدرمان التاريخية. الضريح بقبته الشامخة وساحة مسجد الخليفة المفتوحة. على خاصرتهما الجنوبية مجمع مبني مجلس الشورى السابق وبيت الخليفة عبد الله التعايشي. موقع استراتيجي أبتدأ فيه الإمام عبد الرحمن تأسيس أعظم أميز مراكز الطرق الصوفية في العاصمة والبلاد بأسرها. مشروع حضاري نظلمه إن قلنا إنه كان مواكباً لزمانه أذ أنه سبقه بمراحل. إنجاز خرافي في مرحلة مفصلية من تاريخ بلادنا الحديث في أربعينات القرن الماضي. كانت ضربة البداية فيه ترميم إعادة بناء ضريح الإمام محمد أحمد المهدي مشروع خرافي الملامح حقبتئذٍ حتى الآن. استثمر في تأسيسه تشيده الإمام عبد الرحمن أميز الموارد والخبرات والفنيات المتاحة في ذلك الزمان ليسطع في ذلك المكان كما الجوهرة. التي زاد من تألقها حرمها ساحة مسجد الخليفة المفتوحة الجاثية متمددة بسخاء تحت أقدامها   لتمنح تلك المنطقة ألقاً متجدداً. لكأني بالتاريخ هنا يعيد نفسه في نهاية حقبة أربعينات القرن الماضي. عندما كانت البلاد تهيئي نفسها لانتفاضة تنتزع فيها استقلالها من احتلال جسم على صدرها لستة عقود من الزمان. فسطعت قبة الضريح هناك في أوانها لتضيء أفق ذلك الجزء العزيز من عاصتنا الوطنية أمدرمان. تَشهر من هناك مولداً جديداً لقيام كيان الأنصار. الذي كان تاريخياً واحد من أهم روافد الكفاح الوطني النبيل. ليعلن من هناك عبر ذلك المشروع الطموح توحد الحركات الصوفية مع الكيانات الحزبية الوطنية. التي سعي الإمام عبد الرحمن في التأسيس لها في مشروع حضاري وطني حديث التوجه. يضع الوطن دائما في مقدمة أهدافه السامية بدون نظرة حزبية ضيقة. هذه كانت بحق واحدة من أهم أهداف الإمام في هذا المشروع الرائد. في تلك البقعة التاريخية الطاهرة في أمدرمان عاصمة النضال الوطني.

أعظم ما في فكرة مركز بيت الأمة أن الإمام عبد الرحمن أنزل فيه إلى أرض الواقع العديد من جوانب فلسفته وأهدافه النبيلة. سعي فيه نجح في بناء جسور تواصل بين كيان الأنصار وذراعه وواجهته السياسية حزب الأمه برؤاه الحديثة. بالإضافة إلى ذلك نجح في أن يكون ذلك المركز مُعبراً بحق عن اسمه. بسعيه لإزالة الحواجز بين حزبه والأحزاب الأخرى. بما في ذلك تلك التي تقف على الضفة الأخرى سياسياً وفكرياً. توجه تشهد عليه العديد من مواقفه واحدة منها كان طرفها الأخر حزب يساري يعادي التوجهات الإسلامية. عندما أبدي استعداده ذات مرة للسماح لهم بإقامة حفل استقبال لضيوفهم حلفائهم الأوربيين في رحاب بيت الأمة. واحدة من مواقف الإمام النبيلة تكشف سعة أفقه السياسي رحابة صدره. التي جعلته هو ومشروع بيت الأمة يقدمان أنموذج يحتذي به في إطار مراكز طرقنا الصوفية. أضيف إلى جوانب هذا المشروع جانب أخر طرازي تم التعامل معه بذكاء وحساسية عالية. فطراز عمارته متفرد للغاية يتميز بتفادي النقل الحرفي من طرازات التراث الإسلامي. أكثر ما أعجبني فيه نأي معالجاته الطرازية إلى حد بعيد من عمارة الضريح. لكأن القصد هنا كان الاعتراف بفضل فكر من ترقد رفاته في ذلك المبني باعتباره هو الأصل مصدر الإشعاع.  ثمة جانب أخر لفت نظري في سمات عمارة مجمع بيت الأمة الطرازية. هو إحساس بالحميمية بالرغم من ملامح مظهره الملوكي. بشكل يجعل البسطاء من مرتاديه يشعرون هناك بأنهم في رحاب بيوتهم. كما تقول العبارة الإنجليزية feeling very much at home. بذلك تكون العمارة قد حققت جزءً مهما من أحلام الإمام عبد الرحمن.

لعبت مكونات مركز بيت الأمة كبيرها وصغيرها دوراُ أساسياً في تحقيق تلك الأهداف النبيلة. يجب لا أن نقلل من دور الثانوية منها خارج إطار المبنية والمقفلة لأنها كانت مؤثرة للغاية كما سنوضح لاحقاً. نعود مرة أخري هنا للمبني الرئيس في المركز، مجمع ضريح الذي ينهض كأنه مركز إشعاع. الذي وفق رؤيتي الشخصية لم تقلل محدودية مساحته من تأثيره على المريدين والزوار. لا بل أنني أعتقد أنه كانت عاملاً إيجابياً مهماً للغاية. لاحظت ذلك أنا أراقب تطوافهم داخله حول المبني الذي يكاد يأخذهم في حضنه. إحساس تلاحظه في محياهم هم يجوبون في أرجائه يتمسحون بذلك المبني. من نفس المنطلق أعتقد أن حجم مبني الضريح الصغير بالمقارنة بحالات شبيه أخري كان له أيضاً ذو دور إيجابي. إذا أخذنا في الاعتبار المعالجات الزخرفية في القبة الكبيرة والأربعة الصغار المحيطة بها. أري أن صغر حجمهما كان له أثر إيجابي في إظهار تلك الزخارف. التي انداحت تنشر بعضاً من ملامحها الزخرفية على باقي مكونات المركز. تماما كما تفعل إسراب النحل المرفرفة هي تحمل حبوب اللقاح لباقي أزاهير البستان. بعض سمات مبني الضريح المعمارية مثل طراز العقدات أو الأقواس تتكرر في مكونات المركز المتعددة.  فتضفي علي عمارة هذا المشروع الكبير وحدة متميزة. انسجام اتساق معماري معبر عن وحدة توجه من يرتادونه الذين تجمع بينهم عقيدة راكزه.

تأمُل مشروع مركز بيت الأمة يبدأ بالضرورة بسماته التخطيطية العامة. فموقعه في ذلك الجزء المتميز في مدينة أمدرمان أرتبط ببداية العهد المهدوي أزهي مرحلة مذهبية صوفية سياسية في تاريخنا الحديث. موقع منحته ساحة متمددة عند قدميه زخما قدسيا بازخاً صارت له حرماً مثالياً. اكتسبته من كونها حالة نادرة لمسجد مفتوح أرخ لمرحلة مفصلية خلال تلك الحقبة. عزز من قدسية الساحة قبة ضريح الإمام محمد أحمد المهدي المهيمنة تماماً على المشهد. بالرغم مما طالها من هدم تدمير جزئي في نهايات القرن قبل الماضي. ليعيد الإمام عبد الرحمن المهدي لتلك الساحة ألقها بعمل كبير عظيم إعجازي بمقاييس بمعايير عقود ذلك القرن الأولي. بإعادة بناء ترميم مبني الضريح بشكل مشرف مدهش للغاية سنستعرض معالمه   الرئيسة لاحقاً. بذلك شمخ ذلك المجمع بقبته الملتمعة ليزين أفق المدينة يصبح واحد من أهم معالمها متحدياً الزمن. ارتكازه شامخاً في الركن الجنوبي الغربي من موقع بيت الأمة منحه زخماً دينياً بازخاً. كان بالنسبة له كالمنارة التي تستهدي بها السفن في عباب بحر مضطرب الأمواج. مكملا لأدوار باقي مكونات المركز التي تستهدف رواده من الأنصار منسوبي حزب الأمة ومعشر الأحباب من طوائف أخري. يتواصل مجمع الضريح مع ساحة جامع الخليفة بحميمية دافقة عبر بوابة متعددة الأجزاء مصممة بعناية فائقة. لتؤكد توثق لعلاقة مؤثرة بينهما تداعت عبر الزمن هي تتحداه. العلاقة هنا بين الساحة والضريح لم تكن خصماً على تلك التي تربطهما بباقي مكونات بيت الأمة. إذ تتواصل عبر مسارات أخري تؤكد عمق معناه باعتباره بيت للأمة بحق وحقيقة.

تتواصل تلك المكونات مع مجمع الضريح عبر باب جانبي صغير نوعا ما. لكنه فعال للغاية أشبه بالجبل السري الصغير الذي يغذي الجنين في بطن أمه. علاقة متأججة تستشف روحها أيضا من بريق قبة الضريح التي تزين أفق مركز بيت الأمة. تتزود بها تبثها في رحاب باقي مكونات ذلك البيت الكبير الذي تحتل جزء مقدر من مساحته مترامية الأطراف. يتربع في وسطها صالون كبير فخيم المحيا والملامح تطوقه رواقات برندات تضفي عليه المزيد من الأجواء الملوكية. أضيفت له لاحقاً مساطب رحبة من الناحية الشرقية تطوقها من ثلاث جهات حدائق غناء. مكملة لأجواء فخامة (بريستيج) كادت أن تكون بلا نظير في عاصمتنا. هناك أكثر من حكمة لموضع الصالون الرحب الفخيم في قلب موقع المركز. فهو من جانبه الغربي متصل متواصل مع ساحة جامع الخليفة التي تستضيف كل مناسبات احتفالات الأنصار. متصل أيضاً من جانبه الشرقي عبر المصطبة ببواباته المركز في ذلك الجانب التي يدخل منها ضيوفه من كل أطياف مجتمع العاصمة. سمات تصميمية تدل بوضوح على انفتاح الإمام عبد الرحمن علي عوالم متباينة تعكس جزء أساسي من شخصيته وفلسفته. انفتاح تدل عليه ساحات المركز الخارجية وحدائقه الغَناء. التي كانت دائماً مفتوحة على مصراعيها للجميع على مدار الساعة. في حالة تبدو متناقضة مع أجواء صالوناته ملوكية الأجواء. ظاهرة تدل لمن ينظر إليها نظرة سطحية بأنها مؤشرات لحالة ازدواج شخصية. لكن من يتعمق فيها يجدها تشير لعبقرية تفرد شخصية الإمام. التي تجمع بين طبعه الملوكي ونزعته الشعبية التي تجذب إليه أبسط الناس.

اختطفت العمارة القفاز من التخطيط العمراني في مركز بيت الأمة لتكمل إيصال مضامين معاني رسائله المستبطنة النبيلة. كانت ضربة البداية الفعالة المؤثرة في مبني الضريح، عمل معماري إبداعي يستحق كل التقدير. قدم طراز إسلامي متميز نجح فيه إلى حد بعيد في الإفلات من فخ النقل الحرفي من تراثه البازخ. سطع في الكثير من جوانبه ارتجال حميد تحديداً في القباب وتفاصيلها. توجه معبر عن أصالة الفكر المهدوي قدم طراز إسلامي ببصمة (سوداناوية) متميزة. مر طراز بيت الأمة لاحقا بمنعطف طرازي مهم مختلف نوعا ما عما سطع في مبني الضريح. كنتيجة حتمية لمياه كثيرة مؤثرة جرت تحت الجسر أشرت لبعضها من قبل. عايشها الأمام عبد الرحمن استوعبها تفاعل تعامل معها بحساسيته الفائقة وذهنه الوقاد. انعكس بشكل واضح على مكونات بيت الأمة التي شيدت فيما بعد أشرت لها من قبل. تركت بصمتها الواضحة في طرازها المعماري. ظاهرة تعكس الي حد بعيد سعة أفق الإمام الذي اكتسبها من تجاربه المتعددة داخل وخارج السودان. طفرة طرازيه سطعت في أهم مكونات المركز تحديداً ذلك الصالون الفخيم. طراز بالغ التميز قفز متجاوزاً تراث دولتي الاحتلال ليحلق عالياً في أفاق بديل كلاسيكي غربي أخر ضارب في القدم. تهويمات طرازيه أبت إلا أن تستصحب معها بعضا من ملامح تراثنا المعماري الإسلامي. فسطعت تختال في زهو بائن في واجهات رواقات الصالون أعمدة (أيونية) التيجان. تجثو قرب قدميها في خشوع صفوف (برامق) أعمدة صغيرة قصيرة شبيه بأرجل أسرتنا التقليدية (عناقريبنا). واجهات زينت جبينها سلسلة أقواس مستلفة من كنوز عمارتنا الإسلامية الكلاسيكية. ملامح طرازيه مبهرة منحت ذلك الصالون أجواء ملوكية بازخة. نجح الإمام عبد الرحمن في كبح جناحها بتواضعه الجم ونهجه الشعبي الذي أشرت للعديد من جوانبه من قبل.

كان كيان الأنصار وحزب الأمة منذ نهاية خمسينات الفرن الماضي مستهدفاً من عدة نظم عسكرية حكمت البلاد لعدة حقب. أحدثت أضراراً بليغة فقدت فيها أرواح أعداد كبيرة منهم.  حملات مضريه طالت كافة ممتلكات أسرة المهدي لم يسلم منها للأسف الشديد تراثهم المعماري بالغ التميز. الذي تعرض في حالات عديدة لتدمير وتشويه أفقده الكثير من قيمته التي لا تقدر بثمن. روائع معمارية من أميزها بيت الأمة وسرايات الإمام عبد الرحمن المهدي في العاصمة والجزيرة أبا. التي طالها العديد من أنواع الأذى. ما سلم منها تضرر من الإهمال عدم الاهتمام بصيانتها مما جعل عدد مقدر منها في حالة مزرية للغاية. في هذا الإطار تعرضت بعض مراكزهم المهمة لأنواع أخري من الأذى. نتجت عن إضافة مباني جديدة خصمت بشكل مؤثر من تناسق انسجام إطارها المعماري العام. على سبيل المثال مسجد شيده نظام سياسي مناوئي للأنصار وحزب الأمة في مركز بيت الأمة. جاءت عمارته بلا هوية مشكلة حالة نشاز طرازي لا علاقة له بمنظومة المركز المعمارية الرائعة. أحداث أخري تطورات مهمة ليست لها علاقة مباشرة بالعمارة. كان لها مردود سلبي عليه ضاعف من تأثير النظم السياسية التي استهدفته. تسبب فيه خلافات حادة عميقة سياسية الأبعاد بين أطراف من أسرة أل المهدي. كانت لها إسقاطات سلبية مؤثرة. خصمت من دور مركز بيت الأمة الذي كان يعتبر واحداً من أهم رموز وحدة من ينتمون إليه. تسبب فيه الصراع بين أجنحة العائلة عندما قرر واحد منها أن يمارس نشاطه في مركز بديل بعيدا عنه. خطوة كارثية كان لها مردود سلبي غلي ألقه القديم الذي تلقي من قبل ضربات موجعة. فقدنا معها الكثير من قيمة عمارة واحد من أميز مراكز الطرق الصوفية.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أبو ظبي-أغسطس 2023