عمارة الحداثة ولدت فى الغرب الأوربى فى النصف الأول من القرن الماضى فى كنف توجه علماني النزعة و وفق معايير علمية صارمة قوامها المنطق و بتركيز شديد على الجانب المادى و النفعى. قام ذلك الطراز على أنقاض و حساب كل القيم و المفاهيم الموروثة بما فيها المعمارية أى كان مصدرها أو مرجعيتها. وبعد خمسة عقود ترسخت و أنداحت مفاهيم تلك العمارة فوصلتنا عند نهاية الستينات و سادت لعدة عقود.
أفرز ذلك التحول زمانئذ عمارة على درجة عالية من الإتقان منتجة وفق قواعد محددة- الإلتزام بالخط المستفيم و الزاوية القائمة، و كان الناتج عمارة صندوقية الأشكال باردة الطابع. و زاد الإقتصاد اللونى من حالة التآزيم. المبانى رمادية بلون الخرصانة وإذا دهنت لونها غالباً أبيض. تلك الضوابط الصارمة خلقت واقعاً معماريا جافاً صارم القسمات كالح المحيأ ممعن فى التكرارية و الرتابةً.
فى نهاية السبعينات و فى الغرب الأوربى بدأت النظرة تتغير نحو التوجه الجديد. مرحلة التشكك تطورت إلى رفض ثم محاولة للبحث عن البديل كان هو توجه عريض مكون من عدة مدارس عرفت فى مجملها بإسم عمارة (ما- بعد- الحداثة). كل مدرسة سعت لتجاوز واحدة من سلبيات عمارة الحداثة. أشهرها و أهمها كانت التفكيكية و التى تعاملت مع الشكل المعمارى بمفهوم جديد. سعت لهدم و خلخلت تلك الأشكال النقية المنتجة بأعلى درجات الإتقان و إكتسبت بذلك درجة عالية من القدسية عند الحداثيين. فكرة التفكيكية تقوم على أن سر الأشكال يكمن بداخلها، و فهمها الصحيح يتم بتفكيكها و فضفضتها و الولوج إلى دواخلها بشئى من العنف. من أهداف التفكيكية إنتاج عمارة الدهشة الصادمة أحيناً. رائد هذه المدرسة و عرابها فى الغرب هو المعمارى الممعن فى الجرأة (فرانك قيرى).
و فى السودان و فى الفترة الأخيرة كان لهذه المدرسة وجود لكنه على إستحياء، و صار لـ(قيرى) حيران. بعضهم سئم من إجترار الماضى و لو إرتبط إسمه ب(الحداثة). إحتج بعضهم على طوفان عمارة الصناديق المغلفة بالألوح معدن الألومنيوم. و فى ذلك الإطار، وقف الفتى المعمارى الجرئى- محمد الفاتح المصباح- و أطلق صرخة إحتجاجية بالطرف الشمالى الشرقى من حى العمدة قبالة شارع الثورة بالنص. و فى واجهة ذلك المبنى الصغير متعدد الطوابق ثنى و حنى الواح الالألومنيم فى كل الإتجاهات. و لم أستغربها منه فقد لمست فى شخصيته و هو طالب فى التسعينات بذرة تمرد أعانته لاحقاً على إرتياد المجهول. ما لفت إنتباهى هنا أن صاحب المبنى و مصممه و مرتادوه من المداوميين على لعب البلياردو هناك، كلهم من الشباب. العمارة هنا كلها شباب فى شباب. هذا موضوع طويل و معقد و يحتاج لطرح معمق و سنعود إليه مرة آخرى و نتناوله بإفاضة.