fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

عمارة ما بعد الحداثة السودانية: تفكيكية المصباح

كان محمد المصباح واحداً من طلابي النابهين بقسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم في بدايات تسعينيات القرن الماضي. لمست فيه منذ ذلك الزمن الباكر من علاقته بالعمارة روح مغامرة مقترنة بنزعة للتجريب لا تخلو من جراءة. وهي حالة عادة ما تكون نادرة إذ أن جل الطلاب يتوخون الحذر خوفاً من ردود أفعال بعض الأساتذة وتحفظهم على الأفكار الجديدة. توجهاته خلال مراحل دراسته جعلتني أتنبى له بمستقبل مبشر بعد تخرجه.

تخرج محمد المصباح في منتصف التسعينات. لكنه بعد ذلك لم يبتعد كثيراً من الأجواء الأكاديمية إذ التحق كمساعد تدريس بنفس قسم العمارة الذي درس فيه. نقلته تلك التجربة وهو يعمل جنباً لجنب مع الفطاحلة من الأساتذة إلى أجواء فكرية عالية كان لها انعكاساتها المؤثرة عليه لاحقاً. من حسن حظه إنه في تلك المرحلة الباكرة من مسيرته العملية لم ينخرط وينغمس كثيراً في المجال الاستشاري. الذي كثيراً ما تتقاطع طبيعة عمله وقناعاته مع المفاهيم العلمية المؤسسة على عمق فكرى.    

حملتني ظروف العمل في أواخر التسعينات بعيداً عن أرض الوطن في رحلة اغتراب. فانقطعت صلاتي بما يجرى في ساحاته المعمارية. عدت إليه مع بدايات الألفية الثالثة وكلى شوق لتلمس أخر مستجداتها. واقع الحال إنني كنت ومنذ عودتي من بعثتي الدراسية لنيل درجة الدكتوراه في نهاية الثمانيات قد ركزت على هدف محدد. ذو صلة قوية بمجال تخصصي واعتبرته امتدادا عضوياً لها. كنت قد عقدت العزم على ان أركز كل جهودي للتوثيق للعمارة السودانية قديمها وحديثها.

سخرت كل ما نلته من علم ومعرفة لتحقيق هذا الهدف النبيل بشكل معمق. عززت تلك المساعي ببعض مقدراتي الشخصية الاحترافية ولعل من أهمها ما اكتسبته من خبرات في مجال التصوير الفوتوغرافي. نزرت كل جهدي ولا زلت لمتابعة مسيرة العمارة السودانية بغرض التوثيق لها. بعد عودتي من رحلة اغتراب قصيرة مع بداية الألفية الثالثة رجعت إلى البلاد وكلي شوق لمتابعة مساعيي السابقة وأعمالي التوثيقية. كنت أتحرق شوقاً لأعرف ما أستجد من أمور. طفقت أبحث في أرجاء العاصمة متسلحاً بكاميراتي أتلمس مظاهر الجديد من اختراقات.

لدهشتي الشديدة عثرت على صيد ثمين في موضع بمدينة أمدرمان لم أكن أتوقع أن أرصد فيه ملامح لعمل معماري يشكل حالة اختراق. لفتت نظري عمارة صغيرة من عدة طوابق محشورة بين عدد من المباني التسوقية في حي أمدرمان عريق ملامحها تشكل حالة جديرة بالاهتمام. موقعها بالركن الشمالي الشرقي من حي العمدة ومطلة على شارع الثورة بالنص الرئيس. المبنى أو العمارة صغيرة نسبياً مكونة من ثلاثة طوابق وارتفاعها حوالي الاثني عشر متراً وعرضها عشرة أمتار. بالرغم من صغر حجم المبنى إلا أن معالجة واجهته استوقفتني. فهي تمثل مؤشراً مهماً لكل متتبع لمسيرة عمارة الحداثة في عقودها الأخيرة.

تم تشييد العمارة واكتمالها في بدايات الألفية الثالثة وكان مصممها محمد المصباح لم يكمل بعد العقد الثالث من عمره. أنجز هذا العمل المهم في نظري بعد مرور أقل من خمسة سنوات من تخرجه. سماته العامة ومعالجاته الخارجية تمثل حالة نادرة إذا وضعناها في إطار صورة العمارة السودانية المعاصرة في تلك الفترة. أهميتها أنها تمثل ظاهرة ارتبطت بمدرسة من مدارس توجه تأسس في الغرب الأوربي في سبعينيات القرن الماضي عرف باسم ما- بعد- الحداثة.

ظهر ذلك التوجه زمانئذ في فترة شهدت تراجع أسهم تيار عمارة الحداثة الذي كانت متسيداً للموقف ونجح في الانتشار إلى شتى أرجاء العالم. عدة أسباب وعوامل أدت إلى انحساره الذي ابتداء ببعض التشكك الذي تطور لحالة من الإعراض في نفس العلم الغربي الذي أنتجه من قبل. واحد من أهم تلك الأسباب هو جمود وتكرارية مخرجاته المعمارية التي نتجت عن ضوابط فكره الصارمة. التي أصبحت في النهاية خصماً على القيمة التعبيرية التي اعتبرت واحدة من سلبيات عمارة الحداثة.

هذا الوضع المآزوم مهد الطريق لتوجه ما- بعد- الحداثة الذي اجتهد في تجاوز سلبيات فكر الحداثة ومنتوجها المعماري. اتخذ له عدة مسارات جاءت في شكل مدارس سعت كل واحدة لتجاوز واحدة من تلك السلبيات. بعضها ركز على الجانب التعبيري وتعامل معه بأكثر من طريقة وأسلوب. نركز هنا على واحدة منها لأن لها صلة مباشرة بذلك العمل المعماري الذي جسدته عمارة حي العمدة. عرفت هذه المدرسة باسم التفكيكية باللغة الإنجليزية Deconstruction school. تأسست على فكرة خلخلة وتفكيك كتلة المبنى وأحياناً تمزيق أجزاء منها سعياً لإيصال معاني معينة.

ارتكزت هذه المدرسة بشكل أساسي على أفكار عدد من الفلاسفة الغربيين. طورها وبلورها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا في النصف الأول من القرن العشرين. كانت معنية في هذا الإطار بشكل كبير بالمجال اللغوي والأعمال الروائية. لكن المبدعين في عدد من مجالات الإبداع الأخرى وجدوا في جوانب من فلسفته مصدر إلهام مهم بالنسبة لهم. رأى فيها بعض من صفوة المعماريين طوق نجاة يعينهم على تجاوز جانب مؤرق من عملهم أفرزه فكر الحداثة المتزمت بإطاره الجامدة. تبنوه فتحرروا من تلك القيود. حلقوا في أفاق فكر ديريدا فعملوا بحرية على تفكيك الأشكال المعمارية بكل الطرق سعياً لتحرير شحناتها التعبيرية.  

تلقى الفتى النابه محمد المصباح زمانئذ ف بداية الستينيات أول الجرعات من مثل هذه الأفكار خلال فترة دراسته الأساسية. أخذ الجرعة المعززة عندما أصبح مساعد تدريس بقسم العمارة يعمل جنباً لجنب مع شيخه الدكتور سيف الدين صادق حسن. فتشبعت روحه بتلك الرؤى الفكرية وأصبح حواراً في الطريقة. مع مطلع الألفية الثالثة وهو في هذه الحالة من المتقدمة من الانجذاب هبطت عليه فرصة ذهبية مكتملة الأركان. داهمته وهو غارق في أجواء أفكار المدرسة التفكيكية المؤسسة على فلسفة ديريدا فأنزلها إلى ارض الواقع. فكان ذلك العمل المعماري الذي احتل موقعه في عمارة صغيرة في الركن الشمالي الشرقي من حي العمدة.

لفت نظري ذلك العمل وأنا أجوب شوارع أمدرمان فأمسك بتلابيبي من أول وهلة وأصبت بحالة شبيه بمن وقع في الحب من أول نظرة. طفقت أسال عن المصمم فقادتني قدماي لمحمد المصباح طالبي السابق بقسم العمارة بجامعة الخرطوم. كنت قد تنبأت له آوانئذ بمستقبل باهر مختلف من واقع ما لمسته فيه من روح وثابة تهفو لارتياد أفاق جديدة. فتواصلت معه للتعرف على الجوانب التي أحاطت بهذا العمل المعماري متفرد الملامح. إلمامي بها وبتفاصيلها وخباياها زاد من تقديري لها وله هو المصمم. اقتنعت بأن الامر ليس بمجرد نزوة عابرة ومحاولة ساذجة للفت النظر. فهو في واقع الحال أعمق من ذلك كثيراً ومعبر بحق عن خصوصية حالته.

قطعة الأرض وصاحب المشروع صديق حميم للمصمم وهو مثله أيضاً من زمرة الشباب. مغترب ومقيم بالولايات المتحدة ويزور السوادان من وقت إلى أخر. تجربته هناك أوحت له بفكرة مشروع من واقع ثقافتها ونمط حياتها. طورها معه المصمم بشكل أستوعب تحولات في مجتمعات جامعاتنا التي تحيط مقرات عدد منها بموقع المشروع في ذلك الجزء من حي العمدة. فقررا معاً أن يكون مبنى المشروع المتعدد الطوابق مركزاً ترفيهياً يستهدف تلك الشريحة من الطلاب الجامعيين.

صُمم المبنى بدرجة نجاح عالية من النجاح لخدمة تلك الأغراض. خُصص الطابق الأرضي كمنطقة استقبال ومقهى مصمم بمفهوم حديث. صمم الطابقين الأول والثاني لاستيعاب أنشطة أنواع الألعاب المخصصة لتلك الشريحة الشبابية. فيما استوعب الأول منها طاولات البلياردو خصص الثاني لنشاطات تنس الطاولة- البينق بونق. بالرغم من محدودية مساحة الأرض المخصصة للمشروع نجح المصمم في توظيفها واستثمارها بالطريقة السليمة لخدمة أغراضه.        

درجة نجاح المشاريع المعمارية يمكن أن تٌقوم بأكثر من طريقة. واحد منها النظر إليه باعتبار أنه يرتكز على ثلاثة مقومات أو عناصر أساسية بالغة الأثر. واحد منها صاحب المشروع نفسه فدوره محوري لأنه هو الأساس والمحرك الرئيس. الثاني المصمم نفسه فهو الممسك من العصا من منتصفها بشكل إيجابي مؤثر بين المقوم الأول والثالث. المقوم الثالث هم مستخدمو المشروع وأهميته نابعة من ان المبنى في النهاية مسخر لخدمتهم. شرحنا وأفضنا القول في إطار استعراضنا لهذا المشروع فأشرنا لطبيعة ونوعية كل واحد من تلك المقومات الثلاثة.

أول ملاحظة عن هذه الحالة أن القاسم المشترك الأعظم بين تلك المقومات أو الأطراف الثلاثة أن المؤثرين والمستهدفين فيها هم من شريحة الشباب. هذا الأمر كان يجب أن يكون عامل أساسي ومؤثر في نوعية العمارة وقد كان بالفعل بدرجة عالية من النجاح. النجاح هنا يجب أن يقاس بدرجة تفاعل العمل المعماري وتجاوبه مع تلك المعطيات والمؤشرات، قد كان. وجد المصمم الحلول هنا في لدن توجه ما- بعد- الحداثة. فقد كان إلى حد بعيد يمثل في فترة المنعطف بين القرنين الثاني والثالث مرحلة تمرد. خرج فيها ثلة من المعماريين من إسار قوالب جامدة فرضها عليهم فكر الحداثة بقيوده الصارمة التي حدت من طاقاتهم الإبداعية.

ارتكز محمد المصباح وهو يهم بتصميم هذا العمل على قاعدة مثلثة الشكل أضلاعها الثلاثة شبابية الهوى. صاحب العمل ومصممه وزمرة مستخدميه كلهم من شريحة الشباب. فنزع المصمم ونجح في التعبير بصدق عن هذه الحالة. وجد مبتغاه في فكر وأفكار المدرسة التفكيكية وهي ركن ركين من توجه ما- بعد- الحداثة. أسست على فكرة خلخلت الشكل المعماري وأحيناً تمزيق أجزاء منه بهدف توصيل معاني معينة. برع في هذا المنحى المعماري الغربي الأشهر فرانك قيري. أقبل المصباح على هذا العمل متسلحاً بتلك المرئيات ومتأسيا بمخرجاتها فأعمل فكره وقلمه وأنتج عمارة تفاعلت بنجاح مع معطيات حالتها.

لوى وحنى ومزق أجزاء من ألواح المعدن التي تغطى واجهة المبنى. فأنتج عمارة تتفجر جرأة ولم يتردد المصمم فجعلها صادمة. عمل هنا وهو يتعامل مع معالجة هذه الواجهة بالمثل القائل- الجواب يكفيك عنوانه. فجسد من خلالها بصدق روح التمرد والبحث عن الجديد التي تعبر عن شريحة الشباب الذين يؤمنون هذا المركز الترفيهي. هو بلا شك هنا أرضى أيضاً طموح صاحب المبنى وهو يعيش في مهجره في بلاد مدنها مرصعة هنا وهناك بشطحات العمارة التفكيكية. قبل كل هذا وذاك أثبت محمد المصباح لنفسه ولغيره أنه يتفاعل بحيوية مع تحديات وتطلعات العصر بكل تعقيداتها.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان أغسطس 2018

جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (العمارة السودانية: مواقف ومشاهد)

 

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.