فـنـدق الـسـاحـة فـي الـسـودان كـنـمـوذج لـعـمـارة بـلا حـدود
فرض مجمع فندق ومطعم الساحة نفسه كمَعلم معماري في الخرطوم لا يمكن تجاوزه. فرض هذا المجمع الواقع على الطرف الشمالي الغربي من حي (الخرطوم واحد) نفسه كتجربة معمارية بالغة التميز. قدم المعماري اللبناني المشبع بالتراث جمال مكي من خلال هذا العمل درساً مهماً لأقرانه المعماريين السودانيين.
أقبل المعماري جمال على هذا المشروع وهو متسلح بمفتاحين مهمين من مفاتيح اللعب وكلمتي سر: أولاهما التدوير، والثانية استدعاء التراث بكل ما فيه من ثراء باذخ وبراءة مشبعة بالدهشة. أروع ما في هذا العمل أن مصممه لم يتعامل مع أمر التراث بشوفينية وجهوية أو تعصب أعمى لحالة موطنه الشام، بالرغم من تاريخه المجيد. جاء للسودان فانفعل وتفاعل بتلقائية وذهن مفتوح مع تراث بلادنا، وأبحر فى بحره المترامي الأطراف واغترف من معينه. مزج بين تراثنا والتراث الشامي فصنع عمارة هجينة بالغة التمييز كانت ثمرتها هذا الزواج السعيد المتجسد في عمارة مجمع الساحة.
التدوير
اعتمد مبدأ التدوير وإعادة استخدام الساقط واللاقط من الأشياء. طفق يبحث من حوله تقوده عين فاحصة وحاسة مرهفة. وراح يستكشف بحاسة الغواص في البحر والجواهرجي، وفي منطقة شرق النيل اكتشف أن سطح الأرض البكر مطرز بالحجر الرملي الأصفر الوهاج، فجلبها واستخدمها بدون أن يعدل أو يشذب كثيراً في أشكالها. جعلها في النهاية بتوهجها المميز ذاك مادة البناء الأساسية والبصمة. فمنحت العمارة بأشكالها العشوائية غير المنتظمة مسحة من براءة وتلقائية فائقة وحميمية دافقة.
سار أشواطاً موفقة في مباريات لعبته المفضلة – التدوير. ضربة البداية كانت بتلك الشجرة العجوز الميتة التي كانت تحتل قلب موقع البناء. جعلها محور التصميم، فلف خريطة المبنى حولها ووظفها بانتصابتها الشامقة تلك بذكاء لتصبح دعامة المظلة المفضية لبهو مبنى الفندق. فأجج بذلك أجواء العراقة والقدم في المكان.
مارس لعبة التدوير مرة أخرى حين أعاد استخدام «الفلنكات» الخشبية القديمة التي كانت تستخدم لتثبيت قضبان سكة الحديد. غزل منها معمارياً بوابة الفندق الرئيسية فأرجعنا لأيام باب السنط في بيت الخليفة وبيوت أم درمان القديمة. وأعاد استخدامها بلونها البني الغامق ذاك في عروش حجرات وردهات الفندق. وزاوج بينها هنا مع أطوال البرش وقطع (الطبق) المثبتة على الحوائط فأعطى المكان مذاقا ممعنا في الخصوصية وأجواء فولكلورية مدهشة.
الحنين
كلمة السر الأساسية التي تكمن في هذا العمل المعماري البالغ التميز هي إيقاظ ذلك الإحساس الدفين بالحنين للماضي أو ما يعرف باللغة الإنكليزية بمسمى أو مصطلح «النوستالجيا». يغمرك هذا الإحساس قبل أن تطأ قدماك أرض المجمع. تحركه فيك البوابة العملاقة بإطارها الحجري ومدخلها المكلل بالقوس المدبب وبكل جزيئاتها وتفاصيلها. بابها الخشبي الضخم المصنع من (الفلنكات) القديمة ينضح بالذكريات والشجن. إحساس تؤججه مسامير الباب الحديدية البدائية الصنع المعروفة باسم (القورشيلي) والتي تستخدم في صناعة المراكب الشراعية التقليدية. عجلة حنطور خشبية وفانوس من الزمن القديم، إكسسوارات معلقة فوق مدخل البوابة، ترفع حالة «النوستالجيا» لأعلى درجاتها.
عصا الخيزران والقنا الرفيعة الرشيقة المتمددة على صفحة العمارة، لعب وتلاعب بها (جمال) بشتى الطرق. تصافحك فى واجهة المبنى عند بداية شارع أفريقيا حيث وظفها بذكاء واستخدمها لحمل الشرفات المرفرفة، وأيضاً كسياجات (درابزين). تدلف إلى الداخل فتحميك من السقوط وأنت تصعد الدرج. يستخدم تلك العصي بشكل آخر، هذه المرة على النوافذ للتأمين كبديل لذلك (القريل) الحديدي اللئيم المظهر والمنظر. ومرات أخرى تتقاطع أطوال الخيزران في نظام بديع وأشكال هندسية أمام النوافذ فتحمي خصوصية المقيمين بالغرف تماماً كما تفعل «المشربية» في بيوت أحياء دمشق القديمة.
الساحة الداخلية
تراثية المشروع البائنة لا تقتصر فقط على المعالجات المعمارية والتفاصيل الصغيرة. التخطيط العام للمجمع يعيدنا لتلك الأزمنة الجميلة. فالساحة والصحن هنا يشكلان حضوراً لافتاً يتجاوز حد استخدام هذا المصطلح كاسم للمشروع. وجود الساحة الداخلية ومكانها المرموق في التراث التخطيطي والمعماري العربي لم ينشأ من فراغ . قد أفرزته طبيعتنا ونزعتنا العارمة للتلاقي والالتفاف حول بعضنا البعض في أجواء حميمية. أجزاء المشروع المترامي الأطراف تلتف هنا وهناك لتطوق كل مرة واحدة من الساحات. تتوسط إحداهن بئر تقليدية بكل أجزائها ومشتملاتها. وجودها هنا يستدعي معه تراث لقاءات الأحبة المختلسة والمبتسرة حول هذا المكان.
تحية لمدينة ام درمان
وفي طرف قصي من هذا المجمع يرسل المعماري اللبناني تحية خاصة لمدينة أم درمان وأهلها عبر استدعاء ملامح وروح عمارتهم القديمة التقليدية. فقد أعاد صياغة عمارة الطين بعد تقويتها بإضافة قليل من الإسمنت بدون أن ينتقص من روح البراءة والتلقائية الكامنة فيها. أعاد إنتاجها بكل خشونة ملمسها الثري المترع بالحميمية والدفء. استفاد من طواعية هذه الخامة البسيطة، فتلاعب بالكتل البنائية بحرية فائقة، فجاءت العمارة في هذا الجزء من المجمع لكأنها عمل نحتي عملاق مترع بالذكريات. وعمق هذا الإحساس عيدان سيقان الأشجار المستخدمة في العروش وهي تبرز في تلقائية أمام الواجهات. طلاؤها باللون الأسود وشكلها الخام غير المنتظم، يعززان من روح العراقة والقِدم.
الوحدة
المجمع مترامي الأطراف ومكون من أجزاء عديـدة. الأمر هنا يحــتاج لمعالجة خاصة لململة هذه الأطراف. مساحات الحجر الأصفر الوهاج تلعب دوراً مهماً. أحادية الخامة هنا توحد هذا العمل الكبير في إطــار واحــد. ثمـة عنصر آخر يعزز الوحدة. وحدات عصي الخيزران الممتدة على الواجهات هي هنا كما الخيوط تربط هذا النسيج المعماري المنداح لمسافة طويلة عبر الموقع.
تتنقل في أرجاء المجمع فتحملك الأبواب الكبيرة المحاطة بعقدات (أقواس) مسننة من الخشب البني اللماع فتحملك في كل مرة من عالم إلى آخر مختلف. تلك العوالم تصنعها كل مرة مؤثرات معينة مثل الأكسسورات الفولكلورية المتجسدة في تشكيلات البلاط والطبق السوداني التقليدي وصواني النحاس والفوانيس القديمة. وظفت الأكسسوارات بشكل ذكي جداً، فقد نثرت وطرزت بها العمارة فأضحت كالبهار والبخور الذي يعطي المكان كل مرة نكهته وبصمته المميزة.
في تطوافك بأرجاء المكان، تنتظرك مفاجأة في كل ركن وعطفة. تنتقل من مكان إلى آخر مجاور له، فتحس أنك قد سافرت من بلد إلى بلد آخر جد بعيد. أو أنك قد ركبت عجلة الزمان فكرّت بك إلى الوراء لقرون قد مضت، لتحملك لعالم محتشد بالأساطير.
الدرس
درس هذا المكان يقول إن صناعة النجوم في الفنادق لا تتأتى فقط بعمارة الأبراج التي تناطح السحاب أو بالتغليف بألواح الألومينيوم الباردة وبمساحات الزجاج والمرايا الممتدة بلا حدود. أثبت لنا أن مخرجات تراثنا الثري، قادرة بما فيها من تنوع مدهش ودفق حميمي، على إنتاج عمارة فندقية مرصعة بالنجوم. ودونكم سواكن بمخزونها المذهل. وأمامكم السودان كله بمنظومته الفسيفيسائية من ذلك الزخم البالغ التنوع من أنماط العمارة المحلية، عمارة القبائل.
الخطوة الأولى في هذا الطريق الطويل تبدأ بالتخلص من عقدة الإحساس بالدونية التي تكبل خطانا. وباقي الخطوات هي التدبر والتمحيص والفحص الدقيق لمكنونات هذا المنجم والمخزون الرهيب من مكونات وجزئيات وتفاصيل عمارتنا المحلية.
أثبت هذا العمل أن العمارة المعبرة لا تتقيد بالحدود السياسية وتتجاوزها كثيرا، لتستحق لقب عمارة بلا حدود