كاسرات أشعة شمس عمارة عبد المنعم مشربيات حديثة
ولد عبد المنعم مصطفي رائد وعراب عمارة الحداثة السودانية في بداية الثلاثينيات. ولد ونشاء وترعرع وقضى مرحلة صباه الباكر في حي شعبي بمدينة أمدرمان. عاصمة البلاد الوطنية التي ارتبطت بما يعرف بالسودانواية وهو تعبير ذو دلالة ثقافية تشير للأصالة. أرخ منتصف الخمسينيات لبداية مرحلة مهمة في حياته أثر انتقاله لدراسة العمارة ببريطانيا. كان حدثاً مفصلياً وبداية لنقلة ملموسة كبيرة في مسيرته. تم تعميده هناك وانخراطه في أجواء الحداثة التي اجتاحت الغرب الأوربي زمائذ. عاد إلي وطنه وهو مشبع بتلك الروح ليؤسس في إطارها لعمارة الحداثة السودانية والتي صار عرابها.
المتأمل في مسيرة عبد المنعم من بدايتها وحتى مراحلها الأخيرة من حيث التجربة الحياتية يشعر لكأنه قد استدار في نهايتها بمقدار مائة وثمانين درجة. ظهر في بدايتها بشخصية متشربة بالأجواء الأمدرمانية والروح السوداناوية. ليتقمص في فترة لاحقة شخصية مشبعة ومزهوة بألق الحداثة الأوربية جوهراً ومظهراً ودفقاً معمارياً. معرفتي اللصيقة المتصلة به لفترة جاوزت الثلاثة عقود من الزمان مكنتي من قرأة هذه الحالة بعمق. أسس ادعاءاتي هنا على شواهد محددة وجزئيات مهمة من عمارته التي أنتجها خلال حقب متعاقبة. بناءً على معطيات مقنعة بالنسبة لي صنفت حالته مستعيناً بتوصيفات العلوم النفسية بأنها إشكزوفارنيا. اي حالة انفصام شخصية لعلها من النوع الحميد. لدي قناعة إذ سمح لي اختصاصيو هذا المجال بإننا كلنا نعاني إلى حد ما من تلك الأعراض.
سأشير هنا لجوانب من مسيرته وعمارته تدلل على الادعاءات التي وصفت بها حالة ابينا الروحي مستعيناً ببعض الأسانيد. سنحتاج لتحقيق هذا الهدف للتوقف عند مراحل محددة من مسيرته المعمارية. تميزت كل واحدة منها بخصائص تدعم ما سقته من قبل من تنوع وتحور مهم في أسلوبه المعماري. أشرت في مقالات سابقة بشئي من التفصيل لما سوف أورده هنا لكن أجد لزاماً على أن أعود إليها بشئي من الإيجاز. سأتوقف بالتحديد عند مرحلتين الأولي أرخت لها فترة الستينيات والثانية جاءت بعدها وتمددت إلى ما بعد ذلك. الفارق الأساسي بينهما إلى حد بعيد هو نوعية من تعامل معهم من عملاء او زبائن. هذا هو حجر الزاوية ومدخلي لشرح حالة انفصام الشخصية التي أشرت إليها من قبل.
عاد عبد المنعم مصطفي لموطنه مع بداية الستينيات بعد أن أكمل دراسته للعمارة كواحد من أول من حصلوا عليها من بريطانيا. جاء مشبعا بفكر وثقافة الغرب وقد كانت أوانئذ ظاهرة مجتمعية تزامنت مع تلك المرحلة من سنوات الاستقلال الأولي. جاء في ذلك الإطار محملاً بفكر نهج الحداثة المعمارية الذي كان قد استلم الساحة تماماً في الغرب الأوربي. وجد الوضع في السودان مهيأ لاستقبال الأفكار المعمارية الجديدة. إذ كانت مجالات أخري من ضروب الإبداع تعيش في نفس حالة المخاض وتمر بتجربة مزدوجة التحدي. كانت البلاد تعيش تجربة الميلاد الجديد بعد نيل الاستقلال في منتصف الخمسينيات التي جاءت معها بالاستحقاقات الملازمة لها. تزامنت مع تحدي أخر ثقافي أفرزته تلك الفترة من تاريخ الإنسانية تجسد في اجتياح تيار الحداثة الذي أنتجه الغرب الأوربي.
عندما ابتدر عبد المنعم مصطفي مسيرته المعمارية الظافرة في بداية الستينيات وهم محمل بأفكار الحداثة الغضة لم يكن وحده في الساحة. إذ كانت حوله ثلة من أصدقائه المقربين جلهم من زملائه السابقين بجامعة الخرطوم. صاروا لاحقاً معاونوه الأساسيون الذين ساهموا في نشر أفكاره المعمارية بالرغم من أنهم لم يكونوا يعملون معه في نفس المجال. إذ كان تقريباً وحده في الساحة إلا من عدد محدود جداً من زملائه. أعانه في مسعاه لتأسيس لعمارة الحداثة السودانية بطريقة غير مباشرة زمرة من أعز أصدقائه. شكلوا في مجملهم مجموعة عملائه او زبائنه الأول الذين صمم لهم بيوتهم أو فيلاتهم.
شكلت تلك الثلة من أقرب أصدقائه جزءً من النخب يشار إيها باللغة الإنجليزية بالإنتلجنسيا اي الصفوة من المتعلمين. جلهم تلقوا دراساتهم معه في بريطانيا وبعضهم اقترن مثله بزوجة من تلك الديار. جمع بينهم بالإضافة لتلك الصداقة الفكر التقدمي والنهج الحداثي في الحياة. فشكلوا خير شريحة يمكن ان يطبق فيها أفكاره الجديدة. جلها كانت في شكل بيوت او فيلات صغيرة. مارس فيها هامش كبير من الحرية مدعوم بتقبل وترحيب أصحابها بأفكاره الجديدة. البلاد نفسها كانت في تلك المرحلة تعيش تلك الأجواء. كانت لكآنها تبحث في مجال العمارة عن طريق جديد بعيداً عن اجترار الماضي ومحاولة استنساخ عمارة المستعمرين. فجاء الاختراق الذي حققه عبد المنعم في أوانه. مثلت هذه المرحلة من مسيرته حلقة مهمة في مراحل تحور عمارة الحداثة السودانية.
ازدانت العاصمة المثلثة بعدد من بيوت وفيلات تلك النخبة من أصدقائه. نجح عبد المنعم من خلالها في تقديم نسخة سودانية من عمارة الحداثة. عبر من خلالها بعمارة البيت السوداني ووضع أمشاط أقدامها على أعتاب عصر الحداثة. أعماله في العمارة السكنية جاءت موفقة ومتوازنة من حيث الجوهر والمظهر. تصاميمها استوعبت متغيرات تلك الحقبة المجتمعية التي شَكل من صمم لهم راس الرمح فيها. كانت معالجاته من الناحية الطرازية أيضاً على قدر التحدي إذ أحدثت نقلة مقدرة في منظومتها الجمالية. الأهم من ذلك أن عبد المنعم قدم تلك المجموعة من النخب الجدد بالشكل الذي تمنوه وهذه في حد ذاتها خطوة مقدرة. مهمته لم تكن عسيرة نسبة لتوافق الفهم بينه وبين عملائه او زبائنه.
شهدت السبعينيات بداية مرحلة جديدة في مسيرة عبد المنعم تميزت بتغيرات ملموسة في نوعية عملائه. كانت أعماله التي استهدفت أصدقائه من شريحة الإنتليجنسيا المنتشرة في أرجاء العاصمة قد لفتت إليه الأنظار. عدد ممن استرعت انتباههم وأعجبوا بها كانوا زمانئذ من أثرياء المدينة الجدد الذين انتقلوا إليها من أقاليم السودان المتعددة. نسبة لاشتغالهم في البدء بالتجارة أطلقت عليهم اسم الجلابة الذي كان يعرف به التجار في جنوب السودان في الخمسينيات. وفد الجلابة للعاصمة بخلفياتهم التقليدية والواضح أن الانصهار في مجتمعها كان على راس تطلعاتهم.. فسعوا لذلك بشتى الطرق وواحد من أهمها كان عبر عمارة بيوتهم. فحققوا ذلك من خلال أعمال عبد المنعم مصطفي فصاروا بذلك من أهم عملائه اي زبائنه.
شكل تعامله معهم تحدياً جديداً. إذ أصبح يتعامل مع شريحة تختلف تماماً من الناحية الثقافية والمجتمعية عن مجموعة الإنتليجنسيا الذين بداء معهم مسيرته في فترة الستينيات. كان هنا أمام حالة على طرف نقيض من الأولي. أصبح عليه أن يتعامل مع عملاء كبار في السن لم ينالوا حظ كبير من التعليم ومع أسر كبيرة تقليدية ومحافظة. أصبح أمام تحدي جديد والواضح أن خلفيته الأمدرمانية وروحه السوداناوية أعانته في التعامل الفطن معه. لكآني به هنا قد استفاد من حالة ازدواج الشخصية فلجأ للجانب الاخر منها فأعانه في التعامل مع شريحة عملائه الجدد. درجة نجاحه دلت عليها تزايد شعبيته بينهم واجتذابه للعديد منهم مع مرور الزمن. شكلت هذه المرحلة منعطفاً جديدا مهماً في أسلوبه المعماري نتيجة للمستجدات الجديدة.
من أهم المتغيرات في هذه المرحلة هي تمدد حجم ومساحة الفيلات الخاصة بشريحة الجلابة. واقع فرضته في الأساس حجم الأسرة وهي بالضرورة ممتدة. ثمة جانب أخر لا يقل أهمية ذو صلة قوية بالمتطلبات القيمية لهذه الأسر التقليدية المحافظة. هو أهمية الفصل بين الأسرة وضيوفها وبين الرجال والنساء الأمر الذي جعل الخصوصية مطلباً أساسياً. نجح عبد المنعم في التعامل مع هذه التحديات من خلال ما يعرف بالتنطيق الأفقي والراسي. هو بلغة مبسطة تقسيم البيت او الفيلا إلى مناطق في نفس الطابق او في طوابق مختلفة. لجاء لحيلة أخري صارت واحدة من أميز سمات عمارته. إذ جعل جزءً من واجهات بيوته وفيلاته في شكل شبه شفاف فأصبح لكآنه غلالة او ستارة. نسبة لأهميته جعلته عنواناً لهذه المقالة وسأفرد له حيزاً مقدراً منها.
هذه الغلالات المنسدلة على الواجهات التي ظهرت اول مرة على صفحة العمارة في الزمان الحديث استخدمت لأغراض متعددة. زينت محيِا العمارة في البدء مع تدشين نهج الحداثة في مطلع العقد السادس في رحاب مواقع جامعة الخرطوم. ظهرت اول مرة في شكل مرائن او مدادت من الخشب مثبتة أفقياً ومتباعدة نوعاً ما لتسمح بمرور الهواء. كانت دواعي ظهورها في الأساس مناخية والغرض منها منع أشعة الشمس من التسلل لواجهات المباني. لهذا السبب يشار إليها بكاسرات أشعة الشمس. لم يكن أمر الخصوصية وارد هنا لأن جل المباني في مواقع الجامعة كانت تعليمية. بذلك صارت واحدة من أهم سمات عمارة الحداثة في ظهورها الأول هناك.
التحق عبد المنعم مصطفي بهيئة التدريس بالجامعة في المنتصف الستينيات. فانضم لزمرة الأساتذة البريطانيين وصار بذلك واحد من ضمن الكتيبة التي اسست بقوة لعمارة الحداثة السودانية. تشبع بروحها وحمل ملامحها بين جوانحه من ضمنها فكرة كاسرات أشعة الشمس. مضي يترجم وينزل فكرها في اروع الأعمال المعمارية التي توزعت في أرجاء العاصمة المثلثة. يبدو أنه ادخر فكرة الكاسرات لمرحلة متقدمة من أعماله حيث استثمر فيها بذكاء ومرونة. وظفها بشكل كثيف ومتنوع في مرحلة بيوت الجلابة إذ كان في أمس الحوجة لها هنا. سخرها على وجه التحديد لتأمين الخصوصية لأسر تقليدية ذات خلفية إقليمية فأدت الغرض بشكل ممتاز. بالإضافة إلى ذلك منحت مظهر العمارة تنوعاً وحيوية تلائم أذواقهم التي تختلف عن ذائقة الإنتليجنسيا وهو أمر مهم يجب الانتباه إليه.
أبتدأ عبد المنعم استخدام الكاسرات بشكل مبسط فوظف لهذا الغرض المكعبات الإسمنتية المجوفة. أول ظهور له بمدينة أمدرمان في منتصف الستينيات كان بيت الدكتور حمد النيل بحي العباسية المشبع بالأجواء المحافظة. حالة متفردة لا تخلو من التحديات خصصت لها من قبل مقالة منشورة في موقعي الإلكتروني عنوانها- عبد المنعم مصطفي يفجر الحداثة في العباسية. معقدة نوعاً ما، إذ صمم بيتاً في مساحة محدودة لواحد من الإنتليجنسيا في ذلك الحي ذو الطابع التقليدي. تعامل مع التعقيدات بطريقة حصيفة أشرت إليها في بالتفصيل في مقالتي السابقة لعبت فيها المكعبات الإسمنتية دوراً محورياً. وظفها على الجانب الشرقي والواجهة الشمالية الرئيسة من الطابق الأول بحساسية وحنكة بالغة. روض المناخ في السطوح ومنح من هم هناك إطلالة رائعة حرص على أن تكون بعيدة عن مرمي بيوت جيرانهم.
من الأمثلة المهمة أيضاً بيت صغير نوعاً ما من طابقين في الخرطوم بحري مطل عل شارع الزعيم أزهري ويقع غرب المستشفى الدولي. منح من هم في الطابق الأول قدر عالي من الخصوصية في جزء منه وسمح لهم بإطلالة كبيرة في الجزء الأخر. ظهر بنفس النوع من الكاسرات في بيت او عمارة صديق عمره حسن إبراهيم مالك في حي الخرطوم إثنين. موقعها في الجانب الغربي من الحي وليس ببعيدة من شارع خمسة وثلاثين او الماظ الرئيس. المكعبات الإسمنتية المجوفة المستخدمة هنا دائرية وليست مربعة الشكل. غطي بها الجانب الشمالي بكامله فمنحت العمل المعماري وحدة وتماسك. ستكون لنا عودة مرة أخري لهذه العمارة إذ أن جزءً من واجهاتها يمثل حالة خاصة جديرة بالانتباه والاهتمام.
هناك أيضاً حالة مهمة جداً وفريدة لاستخدام المكعبات الإسمنتية المجوفة. هي فيلا الوجيه صلاح عبد القادر حاج الصافي المترامية الأطراف بضاحية الصافية في الخرطوم بحري التي تقع شمال السينما. جنح فيها عبد المنعم لتحقيق قدر عالي من الخصوصية بتوزيع أجزاء الفيلا أفقياً وراسياً. أستعان لتحقيق هذا الهدف ايضاً بمساحات من المكعبات الإسمنتية المكعبة. استخدمها لأول مرة على نحو مختلف إذ لا وجود لها في الواجهات الرئيسة. لكنه تظهر بكثافة كفواصل في الطابق الأول وفي أجزاء من السطوح. وجودها هناك منح العمارة دفق من الحيوية.
في سياق التطرق لكاسرات أشعة الشمس الإسمنتية لا بد من استعراض حالة كان عبد المنعم مصطفي طرفاً فيها. كلف مكتبه الاستشاري في بداية الثمانينيات بتصميم المركز العام لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي حكم البلاد في فترة ثورة مايو. من أهم ملامح التصميم أن المبني بكامله كان من المفترض أن يتسربل بغلالة. منسوجة من شبكة مستمرة مخرمة من عناصر خرسانية تعمل ككاسرات أشعة الشمس مصممة كآنها قطعة نسيج مترامية الأطراف. تلاعب الضوء والظل على صفحتها ثرية الملامس المطرزة بالأخرام كان سيلهب جماليات الواجهة. أجهضت انتفاضة أبريل هذا المشروع. سدد له لاحقاً نظام الإنقاذ الضربة القاضية إذ شيد في مكانه مبني وزارة الخارجية. عمارة بمستوي أقل من اعتيادي لمقر مؤسسة مكلفة بلعب أدوار استثنائية. واقعة تدل على انحدار خط الرسم البياني لعمارتنا في هذا الزمان الأغبر.
في فترة لاحقة مال عبد المنعم لكاسرات أشعة الشمس الخشبية التي استخدمت فيها المرائن او المدادات المثبتة أفقياً وأحياناً راسياً. كانت قد ظهرت أول مرة في ساحات جامعة الخرطوم في نهاية الستينيات في مبني المرحلة الثانية من مباني قسم العمارة. يتميز هذا النوع من الكاسرات بالدفء المكتسب من طبيعة خامة الخشب. حلق بها عبد المنعم بعيداً في عدد من أعماله الرائعات في ارجاء العاصمة. من أجمل ما أنجزه في هذا السياق معالجة الواجهتين الجنوبية والشرقية في فيلا الوجيه المرحوم أحمد إبراهيم مالك بحي الخرطوم إثنين. ظهرت هنا في حالة نادرة مرة في شكلها الراسي المعتاد على الواجهة ومرة أخرى مسطحه اشبه بالعرش شبه المفتوح. شكلت في مجملها حالة أشبه بالسيمفونية الرائعة. من المحزن انه كل هذا الألق ازيل من جانب أصحاب الفيلا نسبة لظروف تخصهم.
وجدت أمدرمان أيضاً حظها فأكرمها بواحدة من اعماله التي توشحت بكاسرات أشعة الشمس الخشبية كان هو ظهوره الثالث في المدينة. وضع بصمته البائنة في تصميم فيلا المرحوم الوجيه الطاهر عبد الرحمن قرافي المترامية الأطراف بالطرف الشمالي الشرقي لحي الملازمين. بالرغم من أنه يتعامل مع كل أعماله بنفس الروح إلا هذه الحالة كان لها اعتبار مميز. إذ ان صاحب الفيلا كان من أهم جلابة أمدرمان زمانئذ وحرمه صاحبة الدار شقيقته. فوق ذلك وقبله كانت في العاصمة الوطنية المحافظة بطبعها. فجعل كاسرات أشعة الشمس الخشبية تتمدد في مساحات شاسعة على الواجهات. ظللت النوافذ والشرفات ووحدات السطوح وأمنت خصوصية أهل الدار ومنحت العمارة سمة مميزة.
في الفترة الأخيرة من مسيرته لجأ عبد المنعم لاستخدام ما يعرف (بالزوي) الحديدية ووظفها ككاسرات لأشعة الشمس. بالرغم من أنها افتقدت دفء خامة الخشب إلا أن تصميماته الرشيقة الأنيقة طوعت الحديد فجعلته أرق من النسيم. امتاز هذا النوع بخاصية مهمة وهي التأمين ويبدو أن اللجوء إليه كان إلى حد ما رد فعل لانتشار السرقات المنزلية. تعجبني نماذج محدده نحي فيها منحي جديداً في استخدامه لهذا النوع من الكاسرات. أعود بكم مرة اخري لحي الملازمين بأمدرمان تحديداً الجزء الشمالي منه المطل على شارع الزعيم الأزهري المؤدي إلى كبري شمبات. شكل مساحات الكاسرات وتلاعب بها أيما تلاعب. تمددت على الواجهات واستخدمها أحياناً كحوائط لوحدات السطوح فوفر فيها مساحات مظللة تنعم بالخصوصية.
من أروع ما رأيته من استخدام عبد المنعم لكاسرات (زوي) الحديد جزئية من عمارة فيلا هي مجرد شرفة او بلكونه صغيرة. تتصدر الجهة الشرقية من دارة صديق عمره حسن إبراهيم مالك بحي الخرطوم إثنين التي أشرت إليها من قبل. شرفة مرفرفة في الهواء الطلق حررها وفك إسارها بأن غطي جزء من واجهتها وعرشها بكاسرات زوي الحديد المفتحة. حجب عنها جزئياً أشعة الشمس وجعلها تصطاد النسمات الشاردة. أمنها تماماً من زوار الليل والنهار وأيضاً من نظرات المتطفلين من السابلة. استدعي هنا أفكار شرفات بيوت سواكن التراثية وصاغها بلغة عصرية في إطار عمارة حداثية الملامح والهوى. ففتح لنا الباب على مصراعيه للابتكار. نحن بحق محتاجون لإعادة النظر او فلنقل إعادة اكتشاف فكرة البلكونة برؤية جديدة.
نعود مرة أخري هنا لفكرة المشربيات التي كثيراً تطرقت لها في كتاباتي السابقة. استوردها لنا الأتراك خلال فترة حكمهم للبلاد. قدموا منها نماذج في غاية الروعة زينت واجهات بيوتهم مترفة الجمال في ميناء سواكن بشرق السودان في زمان مضي. تزهو بها ايضاً بيوت أحياء القاهرة القديمة حيث تظهر هناك في عدة صور وأحجام. بعضها يغطي اجزاء كاملة من الواجهات. تعامل عبد المنعم مصطفي مع وحدات كاسرات الشمس يبدو لكأنه يريد إعادة التاريخ. التزامه الصارم بمبادئي وضوابط فكر عمارة الحداثة لم يمنعه من استلهام التراث. فعل ذلك بمنتهي الذكاء وقدم افكاره بشكل عصري في إطار حداثي فأنتج لنا مشربيات عصرية. أهم من كل ذلك إنه أنتج عمارة مدارية بالغة التمييز روضت مناخنا اللاهب.
تناول موضوع البلكونة يقودنا لحلول وسط توافقية نطرحها في إطار مكون كاسرات أشعة الشمس. التي ثبت ان لها أدوار لا تقل أهمية منها حماية الخصوصية. استخدام الخشبية منها والمعدنية يفتح افاقاً رحبة تعود بنا لأيام سواكن الزاهية. لا أعني بالضرورة عمليات النقل الحرفي إذ يمكن استلهامها والتحليق بعد ذلك بها بعيداً في فضاءات عوالم التجريد. تتميز هاتين الخامتين بخفة الوزن إذ ما قورنت بالخيارات الأخرى وهو أمر مهم لأنها تجلس على حاقة البلكونة. بالنسبة للخيارات الأخرى اقترح إنتاج وحدات فخارية صغيرة مثل تلك المستخدمة في تصنيع الطوب الحراري. فهي خفيفة ولا تختزن حرارة النهار لتطلقها خلال ساعات الليل مثل الوحدات الإسمنتية. يمكن إنتاجها بأشكال مبتكرة جميلة لكي تساهم في تجميل الواجهات.
قد يسأل المرء عن الحكمة من كل هذا الاهتمام بأمر البلكونة. بالرغم من ان العديد منا يعتبر ان وجودها مع زميلتها البرندة قد بداء يتلاشى مع الاستخدام الكثيف للتكييف. أتحفظ على هذا الراي لأن فكرة الإطلالة العريضة على العالم الخارجي ستظل مطلباً اساسياً. سيتمسك به العديد منا مهما تغيرت الظروف وسيتشبث به الرومانسيون ومن يهوون عد النجوم لتبديد ارق الليالي الطويلة. تعالوا في هذا الإطار نعيد للبلكونات الناهضة مجدها. وصفها المعماري الإيطالي العبقري المبدع كارلو بونتي فشبهها بمراكب شراعية مبحرة في الفضاء. أبلغ دليل على ذلك أنموذج حالة فيلا حامد الأنصاري بالجانب الشمالي الغربي من حي الخرطوم واحد. أقف بقوة مع التيار الذي ينادي بعودتها فتحليقها في واجهات عمارة الحداثة الباردة سيمنحها دفق من الحيوية.
العديدون منكم قد يعجبون لاهتمامي وتركيزي على البعد الزخرفي للعمارة. مصدر إعجابهم إنني تربيت ونشأت على نهج الحداثة وقضيت سنوات عديدة من عمري في بريطانيا أنهل من علمها الغزير. هذه الجزئية الاخيرة من مسيرتي تفسر بعض جوانب هذه الاهتمامات. بحثي المضنى والدؤوب في عمارة قبائل السودان في إطار ثقافاتها المحلية أوصلني لنتائج مهمة. واحدة منها المكانة العالية للزُخرف التي تتجلي في عدة صور وأشكال على راسها العمارة. قد ينافح بعضكم بأن الأمر لا يهمنا نحن معشر المعماريين لأننا معنيون بالطبقات المستنيرة والقادرة مالياً التي تطلب خدماتنا. لكن الأمر قد تغير بعد ان احتلت شرائح من الإقليميين والتقليديين مكاناً مرموقاً في المدن وصاروا من المقتدرين فيها. فأصبحوا على راس قائمة العملاء الذين يتهافت عليهم الاستشاريون. إذاً، لقد آن الأوان لتغيير مفاهيمنا.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- يناير 2019
التحية لك وانا تبذل هذا الجهد العظيم المبارك
اشرف احمد حسن
ع