جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (تاريخ البيت الحضرى فى السودان)
كمال عباس على خطى عبد المنعم برؤية مختلفة نوعاٌ ما
شهدت نهاية الستينات ميلاد نجم جديد فى سماء عمارة الحداثة السودانية شكل إضافة ملموسة. قدمها فى ثوب جديد بدون إنحراف عن مسارها الأساسى أو كثير مساومة فى مبادئها الراسخة. بداْ مسيرته لكآنه يسير على خطى عبد المنعم الذى سبقه بعدة سنوات، لكنه سرعان ما إختط له نهجاً مميزاً. إختلف كمال عن زملائه المعماريين فى تلك الفترة بأنه كان واحد من عدد محدود ممن تخرجوا فى جامعات شرق آوربا. لعل ذلك واحد من أسباب تفرد عمارته.
كنت قريباً منه للغاية فى فترة محددة ثم بعد ذلك ظللت متابعاً لمسيرته من على البعد حتى موعد رحيله من دنيانا الفانية فى عام 2016. إمتاز بمقدرات و مواهب و خصال عالية نادرة. كان معمارياً مجوداً أولى إهتماماً خاصاً للجانب التقنى بالذات المكون المعدنى. كان يؤلى إهتماماً خاصاً للتفاصيل قد يرد ذلك لخلفيته العلمية و دراسته للعمارة بشرق آوربا. كان أيضاً على درجة عالية من الثقافة، قارئى نهم متطلع و متابع و مواكب لمستجدات حركة العمارة على المستوى العالمى.
بالإضافة إلى ذلك تمتع برؤية و مقدرات فنبة عالية جدا. كان ملوناً لا يشق له غبار مما ساعده فى تطوير تصاميمه عبر دراسات فى شكل (إسكتشات) و لوحات سريعة بالألوان المائية. يتجلى إحساسه الفنى العالى بتلك الجرأة اللونية المحسوبة بدقة التى تتميز بها العديد من أعماله المعمارية. تستهوينى بعضاً منهاً بمنظوماتها اللونية المدهشة، تتدرج و تنساب بنعومة و يسر من البيج إلى درجات من ( الشوكولاتى) مع ومضات من الذهبى.
المعروف ضمناً إن المعمارى فى السودان ينتهى دوره بالقيام بالتصميم المعمارى تاركاً المجال لغيره للتعامل مع التصميم الداخلى مما قد يؤدى أحيناً لإهتزاز الفكرة المعمارية نتيجة لعدم التجانس. كمال عباس وجد الفرصة فى عدد من أعماله للمساهمة بشكل موفق فى صياغة العمارة الداخلية. فى الفيلا القصر الخاصة بالوجيه إدوارد أسعد أيوب فى مربع إثنى عشر بحى الرياض الخرطومى تسلل إبداعه إلى الداخل. إنساب بنعومة فى الصحن الداخلى الوسطى المسقوف المحاط بطوابق الفيلا الأربعة. تمدد فى تصاميم الأرضيات الرخامية البديعة. أكمل مشروعه الزخرفى بتصاميم قطع المرايا الملتمعة البراقة التى غلف بها الأعمدة الناهضة فى أرجاء الصحن. عمارة الفيلا الداخلية دخلت فى منافسة قوية مع عمارتها الخارجية.
إحتلت البيوت و الفيلات المساحة الأكبر فى عمارة المعمارى أعمال كمال عباس. تنوعت من حيث الحجم، من البيوت الصغيرة إلى الفيلات مترامية الأطراف. تمدد التنوع إلى خامات البناء الرئيسة، من طوب الواجهات (السدابة) إلى الطوب الآلى إلى الحجر الطبيعى و التغليف بأرقى أنواع الرخام. كانت فى مجملها ملتزمة بنهج عمارة الحداثة التى سعى لتخفيف حدة صرامته بلمسات فنية محببة. فى هذا السياق كانت بعض أعماله أشبه بطبق غربى شهى معزز ببهار محلى.
كانت لكمال عباس بعض أعمال مميزة خارج إطار عمارة الحداثة. إنحرف عنها أحيناً لأسباب موضوعية. واحدة من هذه الحالات حدثت قبل فترة طويلة. قام بعملية تجديد لبيت قديم من بيوت أحد خلفاء السيد على الميرغنى فى الطرف الجنوبى لحى بيت المال الأمدرمانى. إشتراه شخص أخر فرغب فى تجديده. قام كمال بهذه المهمة بحساسية مفرطة. جائت كل الإضافات و التعديلات المشيدة بالمواد الحديثة متسقة إلى كبير مع عمارة البيت التقليدية المحتشدة بالأقواس. كانت هناك حالة أخرى بالإضافة لهذا البيت خرج فيها كمال عن طوره تماماً و إنحرف كثيراً عن مسار عمارة الحداثة. إنجرف مع تيار مدرسة من طراز (ما بعد الحداثة) فصمم بيتاً على ضفاف النهر فى الطرف الشرقى من حى أبو روف الأمدرمانى على شكل سفينة.
حمل كمال عباس راية عمارة الحداثة من عبد المنعم مصطفى الذى سبقة على هذا الدرب و عمل على نشرها و التأسيس لها فى مجال العمارة السكنية. توزعت أعماله الرائعة هنا و هناك فى أرجاء العاصمة المثلثة. فلعب دوراً أساسياً فى التأسيس لهذا الطراز و ترويجه فى حالات كثيرة خارج أطر المهنيين و الصفوة. تماماً كحالة عبد المنعم مصطفى صارت عمارته جاذبة لشريحة تقليدية من التجار. مثال لذلك، صار معمارى العائلة لمجموعة من أسر آل كمبال صمم لهم عدد مقدر من البيوت و الفلل الرائعة فى الطرف الشرقى من الحارة الرابعة بضاحية الثورة الأمدرمانية.
تعامل كمال عباس مع أطياف من العملاء تنوعت درجة مقدراتهم المالية. بعضهم كان من كبار أثرياء المدينة فأتاحوا له فرصة قيمة لإستعراض عضلات مقدراته المعمارية. واحد منهم المرضى محى الدين الذى صمم له الفيلا القصر التى شيدت فى السبيعينات عند مدخل مدينة أمدرمان ناحية كبرى شمبات فى موقع مطل على النهر. المبنى الهرمى الشكل شرفاته العميقة مدرجة و كل واحدة مفتوحة للسماء فتبدو لكأنها أجزاء من شلال متدفق. بذلك تتيح للجالسين فى كل واحدة منها بانوراما رائعة مطلة على النهر. واجهة الفيلا تصطخب بالإيقاعات، تفاعل بين عناصر النظام الإنشائى الرئيسة- أعمدة و أبيام- و تفاصيل اخرى. تضج بإيقاعات عديدة متنوعة مركبة شبية بال counter point فى موسيقى الجاز الكلاسيكية.
أتيحت لكمال عباس فرصة آخرى شبية فى نهاية الثمانينات فى موقع أخر من العاصمة- مربع إثنى عشر بحى الرياض بالخرطوم. فيلا مترامية الأطراف صاحبها واحد من أهم أثرياء العاصمة زمانئذ الوجيه إدوارد أسعد أيوب الذى خصص لها ميزانية و إمكانيات مفتوحة. أحسن المصمم إستغلالها فأنتج عمارة فى غاية الروعة. كانت بالنسبة لكمال تجربة جديدة ونادرة إذ تعامل لأول مرة مع أسرة مسيحية فقدم أفكاراً جديدة مدهشةأستوعبت خصوصية هذه الحالة.
أسس كمال التصميم على فكرة الصحن الوسطى المعروش. جعل كل طوابق الفيلا الثلاثة تطل عليه لهذا السبب إجتهد فى أعمال التصميم الداخلى. جعل أرضية الصحن الفسيح متعددة المستويات بنظام ال split levels لإضفاء بعض الحيوية فى أرجائه. أجج الحيوية هنا بتعامله مع الأرضيات المرصوفة بأجمل أنواع الرخام الأيطالى إذ زينها بأروع التصاميم شرقية المنحى. إكتملت مظاهر الجمال و الدهشة فى أجواء الصحن بمعالجة أسطح الأعمدة التى تحمل عرش الصحن و بعضها يستوعب أنابيب التكييف. فى فكرة مبتكرة مدهشة عمد إلى تكسيتها بقطع صغيرة من المرايا و الزجاج مشكلة تصاميم و تكوينات مدهشة. فى هذا الجزء الداخلى رائع الأجواء قدم كمال عباس نفسه بقوة كمصمم داخلى حازق أريب.
المتأمل فى الشكل العام و ملامح عمارة كمال عباس يلاحظ ثمة تحور حدث فيها. كانت معالجة الواجهات فى البداية تغلب عليها العناصر الطولية linear elements- الأعمدة و الأبيام. وظفها لخدمة أكثر من غرض بجانب وظيفتها الإنشائية- حمل المبنى. إستخدمها لتظليل الواجهات و الرواقات- البرندات. بالإضافة إلى ذلك كما ذكرنا من قبل أستخدم تفاعل تلك العناصر الطولية كجزء أصيل من المعالجة الجمالية فى إتساق مع مفاهيم عمارة الحداثة. أبلغ مثال لهذذه المعالجات فيلا المرضى محى الدين القصر التى أشرنا إليها من قبل. تصطخب على واجهتها متراجعة الشرفات سيمفونية من الأبيام و الأعمدة و العناصر الطولية الثانوية المتقاطعة.
ظهر بعد منتصف الثمانينات تحور ملحوظ فى الشكل العام و معالجة واجهات عمارة كمال عباس. بدائت تتخلى إلى حد كبير عن ظاهرة العناصر الطولية التى أشرنا إليها من قبل. حلت مكانها فى العديد من اعماله نمط العمارة الملفوفة wrapped architecture. عمارة تهيمن على شكلها الخارجى المسطحات الراسية- الحوائط. قد نجد بعض المبررات المقنعة لهذا التحول منها إتنتشار طاهرة تكييف المبانى مما يقلل من الحوجة للرواقات- البرندات.
ثمة نماذج عديدة من عمارة كمال عباس السكنية لهذا النوع من العمارة الملفوفة. من أهمها فيلا الوجيه إدوارد أسعد أيوب بحى الرياض فى الخرطوم. غلافها الخارجى المرمرى- الرخامى- يلفها بإحكام و يكاد يخلو من الروقات و الشرفات- البلكونات. الوضع معكوس هنا لأسباب موضوعية دينية قيمية إقتضتها حالة أسرة الدار المسيحيبة. البلكونات و البرندات داخلية مطلة على الصحن الوسطى المعروش بديع الإعداد و التصميم و المصطخب حيوية. إذاً، تبنى كمال عباس هنا لفكرة العمارة الملفوفة لم يكن مجارأة للموضة و لكن لأسباب موضوعية مقنعة.
تعامل كمال عباس خلال مسيرته الطويلة و إبداعاته فى مجال العمارة السكنية مع عدد من خامات البناء و مواد تشطيبات المبانى. فى بداياته الأولى إعتمد على الطوب الأحمر و طوب الواجهات- السدابة. فى مرحلة لاحقة إستخدم أنواع أخرى من الطوب، الأسمنتى و الآلى المعروف بإسم طوب السكة حديد. فى الثمانينات لجاء لنوع من التشطيبات يسمى بالساندتكس أكسب الأسطح منظراً بهياً. فى زمان لاحق و عندما تيسرت له الميزانيات السخية لجاء لأجمل أنواع الحجر الطبيعى مثل الرخام الإيطالى. فى كل تلك الحالات و خلال مسيرته الطويلة أنتج كمال عباس أروع نماذج العمارة السكنية. كان فى هذه الحالة أشبه بأديب او شاعر متمكن من عدة لغات يجيد إستخدام كل واحدة منها بطلاقة و فصاحة.
الدكتور معمارى/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان فبراير 2018