ما إن لعمارتنا أن تنفك من إسار مفاهيم توجه الحداثة
قدرنا دائماً كان منذ الأزل شأننا شأن جل شعوب الأرض أن نتفاعل مع ما حولنا بالضرورة مع من حولنا. الذي يكون لعدة أسباب في هذا الإطار مع أفراد ومجتمعات وشعوب. تفاعل تختلف أنواعه نتيجة لنوعيته. منها ما هو سلمي الطابع وأخري ناتجة عن غزوات وحروب ومعارك محتدمة. كان نتيجتها بالنسبة لنا هجرات وغزوات متتابعة. يؤرخ لبداياتها منذ الأف السنين قبل ميلاد السيد المسبح عليه السلام لتمدد بعد ذلك في الأزمنة الحديثة. تفاعل كان نتيجة لموقعنا الفريد في القارة الأفريقية الذي جعلنا معبراً أغري في العديد من الحالات العابرين بالاستقرار في بلادنا. الأمر الذي جعلنا دائماً هدفاً لشتي أنواع التفاعل مع الشعوب من حولنا من بلاد بعيدة عنا كان له إسقاطاته المؤثرة. من أهمها خلخلة التجانس العرقي الذي ميز حالتنا قبل زمان سحيق. حيث كانت جلها زمانئذٍ مأهولة بمكون أفريقي الجزور والسمات. بالإضافة لجيوب حامية الأصل في أجزائها الشمالية والشمالية الشرقية. استهدافها بالهجرات والغزوات بعد ذلك والي عهد قريب نسبياً خلخل هذا التجانس بشكل مؤثر. أفرز فسيفساء عرقية بالغة التنوع قل إن نجد لها مثيل في العالم. نتجت عنها تركيبة ثقافو- مجتمعية مفرطة التنوع. ستكون هنا واحدة من أهم محاور حديثنا في هذه المقالة مع أنها معنية بشكل أساسي بالشأن المعماري.
سيكون هذا التنوع الثقافي المذهل هو مدخل هذه المقالة أيضاً منتهاها المبرر هنا هو العمارة موضوعها المركزي. إذا استوعبنا مفهوم الثقافة بمعناها العميق الشامل بكل الصدق والنباهة. الذي سُلطت عليه الأضواء بشكل مركز كثيف في إطار ثورة فكرية اجتاحت العالم الغربي منذ نهاية سبعينات القرن الماضي. من المدهش أنها بالرغم من منشأها الغربي هناك جاءت في صالح عالمنا الثالث الذي نحتل فيها ركناً ركيناً. ثورة فجرتها الي حد كبير غضبة مضريه على توجه ومفاهيم الحداثة علمانية الجذور. التي ثبت عقم طرحها في عدة مجالات من أهمها العمارة. جاءت اختراقاتها عبر عدة مسارات كانت الطروحات الفلسفية واحدة من أسلحتها المضاءة. في مقدمتها توجه البنوية Structuralism والظاهرية Phenomenology. طروحات وضعت قيمة عالية جداً للجوانب الثقافية والمجتمعية لتحتل مكانها الطبيعي المأمول. الذي يرتفع بالعمارة ألي موقعها السامي النبيل. باعتبارها جزء أصيل مرتكز أساسي في حياة كافة أنواع المجتمعات في كل أركان الدنيا. مفهوم سيكون مدخلنا الأساسي لهذه المقالة الذي سننظر إليه في إطار تطور بلادنا عبر تاريخها الطويل. لكننا سنركز هنا على حقبة محددة أرخ لها القرن الماضي في عدد من مراحله المتتابعة. بدون أن نغفل مردود وإسقاطات حقب مهمة سابقة من تاريخنا بعضها ضارب في القدم. سيتكشف لنا كل ذلك نحن نمضي قدماً في هذه المقالة.
موضوعنا الأساسي هنا هو إسقاطات عمارة الحداثة المؤثرة على حياتنا بكل خيرها وشرها. لا أطرحه من واقع أرائي الشخصية لكن على خلفية تطورات كبيرة مهمة عاشها العالم بالذات الغربي منشئها الأساسي. حالة ظللت أتابعها أتفحصها عن قرب من واقع المشارك فيها على مستوي تعليم العمارة. أيضاً إلى حد لا بأس به لكنه مؤثر من منطلق الممارسة. بالرغم من عدم انغماسي الشديد في مجالها إلا أنني كنت قريب جداً منها باعتبار علاقتي اللصيقة بالعديد من المؤثرين فيها. علاقة أعتز بها جدا جمعتني بعدد ممن صنعوا مجدها. إذ كنت مضطلع للغاية على الكثير من خبايا أعمالهم المعمارية بالغة الأهمية. التي شكلت معالم فارقة في مسيرة عمارتنا في مرحلة مفصلية منعطف مهم من تاريخها. حقبة تمددت منذ بداية ستينيات القرن الماضي حتى الآن نحن في مطلع عشرية الألفية الثالثة. ملامح عمارة الحداثة السودانية بدأت تتضح في بداية ستينيات ذلك القرن. إلا أن جزورها ظهرت قبل ذلك في محاولات خجلي في أكثر من مبني في النصف الأول من ذلك القرن. من خلال مرحلة يشار إليها بلغة العمارة بالكولونيال ترجمة لاسمها باللغة الإنجليزية colonial architecture. أعتبر ما أوردته هنا مقدمة لاستطراد الهدف الأساسي منه رصد مراحل نشأة وتدرج ومألات مسيرة عمارة الحداثة السودانية. أملاً في تقويم تجربتها في إطارها السوداني. حتى تكتمل الصورة بشكل مفيد سنضعها أيضاً في سياقها العالمي بكل إسقاطاته المؤثرة.
لا يمكن النظر بعمق لعمارة الحداثة السودانية بدون الاضطلاع على خلفيتها التي كان لها دور مؤثر للغاية. عمق من تأثيره الدور المحوري الذي لعبه الشريك البريطاني في نظام الاحتلال الثنائي مع شريكه المصري. مشهد سياسي جسم على صدرنا بلادنا لفترة بلغت قرابة الستة عقود من الزمان. ترك من خلالها بصمة بائنة نال منها مجال العمارة نصيبه المقدر حظيت منه العاصمة الخرطوم بنصيب الأسد. التي إزدان أفقها بروائع من عمارة الطوب السدابة كلاسيكية الطراز بريطانية المنحى. وضع نيلنا للاستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي نهاية للوجود البريطاني في أراضينا. معلناً نهاية تدفق ذلك الإبداع المعماري المتميز. لكنها لم تنه دور الجانب البريطاني تماماً في مجال العمارة. الذي تحول لبضعة سنوات من دور المحتل إلي الراعي المؤثر للغاية لبضع سنوات. ملحمة كان مسرحها هذه المرة مجال تعليم العمارة. الذي دخلها أول مرة عبر بوابة التعليم الجامعي بتأسيسه لأول قسم للعمارة في نهاية الخمسينيات في كلية الخرطوم الجامعية. التي تطورت لاحقاً لتصبح قسم في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. انسحاب البريطانيين بعد نحو عقد من الزمان بعد الاستقلال كأساتذة بالقسم لم ينه دورهم المؤثر من على البعد. عزز منه ابتعاثهم لأبكار الخريجين لديارهم للتحضير للدراسات العليا. تحت الرعاية المباشرة والغير مباشرة من أساتذتهم السابقين. التركيز على وقائع هذه المرحلة لم يأت من فراغ. نسبة لتأثيره المباشر وإسقاطاته الملوسة على موضوع عمارة الحداثة السودانية موضوع مقالتنا الأساسي.
نحتاج لألقاء الضوء على خلفية مهمة قبل أن نتعرف على دور البريطانيين في إرساء والتأسيس لعمارة الحداثة. أمر يستدعي العودة إلى أوائل عهدهم في بلادنا الذي أرخت له على أرض الواقع بداية القرن العشرين. منعطف سجل ضربة بداية فتوحاتهم المعمارية التي كانت ساحاتهما في نواة كلية غردون التذكارية. حيث دشنوا في رحابها بداية سلسلة متلاحقة من روائع طوب السدابة الأحمر مازجوا فيه بين قمة تقنياته مع أعظم جمالياته. مضمخ بعبق تراثهم المعماري إعلاءً لشأن بلادهم الإمبراطورية التي بدأت شمسها حقبتئذٍ في الغروب. فقدما روائع الأعمال في أجزاء مترامية من موقع الكلية. استعرضوا فيها عشقهم ومهارتهم الفائقة في التعامل مع هذه الخامة البنائية النبيلة. في إطار تنافس محتدم مع شريكهم المصري في النظام المحتل. الذي تنكب درب الحجر الرملي خامتهم التاريخية الأثيرة التي برعوا في التعامل معها قدموها في أزهي صورها. نجاحات البريطانيين في عمارة الطوب في رحاب الكلية منحتم ثقة عالية. جعلتهم ينشرون طرازها بإهابه الكلاسيكي الفخم في أرجاء عاصمتهم الوليدة الخرطوم. استعرضوا فيها عضلاتهم في العديد من المباني المهمة التي رصعت أفق عاصمتهم حقبتئذٍ. بذلك أسس البريطانيون خلال العقود الأولي من القرن بقوة لطابع العمارة الكلاسيكية الذي جاء مرفرفاً على أجنحة طوب السدابة.
لكن شهر عسل الكلاسيكية لم يدم طويلا. من سخرية الأقدار أن بداية نهاياته جاءت على أيدي نفس الجهات التي أسست لذلك الطراز البازخ. زاد من سخرية القدر أنهم استخدموا نفس أسلحة العمارة المضأة التي تمكنوا من خلالها من نشر ذلك الطراز من قبل. موظفين بنفس النباهة والحذاقة طوب السدابة الذي استخدموه في بداية القرن لنشر رسالة طرازهم الكلاسيكي. مستخدمين إلى حد كبير نفس المنصات التي دشنوه فيها من قبل. في كلا الحالتين كان البريطانيون هم أبطال هذه اللعبة الذين أداروا دفتها ببراعة فائقة. لكن الفارق الكبير هنا هو طبيعة ونوعية دورهم في الحالتين الذي تبدل بعد الاستقلال في منتصف الخمسينيات. ليصبح المحتل مجرد راعي مع تحفظ الدولة المستضيفة على هذا الدور في بداية عهدها الجديد. سنوات مخاض عشناها بكل أبعادها وتعقيداتها المتوقعة. لم يكن من المستحب فيها قطع كافة صلاتنا مع ذلك العالم المتحضر المتقدم. واجهنا فيه تحدياً مزدوجاً بعد فجر الاستقلال. إذ كان علينا أن نظهر للعالم كأمة مستقلة ذات سيادة وشخصية اعتبارية. في نفس الوقت. في تلك الحقبة واجهنا تحدياً أخر لا يقل أهمية تسببت فيه متغيرات عالمية حضارية. جاءت محمولة على أجنحة الحداثة التي بدأت تكتسح كافة أرجائه كما الوباء. خطر كان يهددنا كبقية شعوب العالم. فواجهت أمتنا بكيانها حديث الاستقلال ذلك التحدي المزدوج. إذ كان علينا أن نظهر للعالم كأمة مستقلة مواكبة لمستجدات العالم الحديث. تحدي كبير كان يجب أن يكون لعمارتنا دور مقدر مؤثر فيه.
تحدي مزدوج كان يجب لأمتنا المستقلة وليدة حقبتئذٍ أن تتهيأ له بكل مكوناته. كان كما هو مأمول أن يكون للعمارة شأن مهم فيه أن تكون واحد رؤوس الرماح لخوض معركته. من السخرية الأقدار لأسباب موضوعية جانا الفرج من تفس ذلك المحتل السابق بريطانيا. عملية تمت بشكل سلسل للغاية لأسباب موضوعية أيضاً. كان أساسها كلية غردون التي أسسها المحتل مع مطلع القرن العشرين. الذي ساهموا بقدر رئيس في نهاية الخمسينيات في تأسيس قسم العمارة في رحاب كلية الهندسة. أسسوه خلال حقبة كان تيار الحداثة الكاسح في غربهم هناك قد أمسك بزمام الأمور تماماً في مجال العمارة. محولاً الكلاسيكية بكافة أضلاعها كما يقولون إلى مزبلة التاريخ. تحولات جوهرية كانت شبيه بما يعرف بتحول ظاهره الرحمة باطنه العذاب كما سيتضح لاحقاً في هذه المقالة. بذلك تأسس قسم العمارة في نهاية الخمسينيات على فلسفة ومبادئ الحداثة التي أحكمت قبضتها علية بيد من حديد. من الغريب المدهش أن هذا الوضع لا زال كما هو بكل تفاصيله. بالرغم من رحيل زمرة الأساتذة البريطانيين الذين أسسوا القسم في الستينيات. بالرغم أيضاً، هذا هو الأمر المهم من المتغيرات العاصفة. التي زللت أركان الحداثة في نفس ذلك العالم الغربي الذي أنشأها ورعاها من قبل. سيكون هذا الأمر هو محور حديثنا هنا.
عندما حل الأساتذة البريطانيين ليأسسوا قسم العمارة في نهاية الخمسينيات كانت الحداثة تعيش في أزهي عهودها في عالمهم الغربي. عليه كان تبني نهجها مبرراً للغاية. كانت عملية استلاب مستترة بررتها نوايا حسنة هي مواجهة التحدي المزدوج الذي أشرت إليه من قبل. لم يكتف هؤلاء الأساتذة ببث رسالتهم لطلابهم في مدراج العلم إذ قدموها في أبلغ صورها بطريقة البيان بالعمل. في حالة شبيه بما حدث من قبل من أسلافهم في مطلع نفس ذلك القرن. مستثمرين ببراعة وحذاقة فائقة في نفس خامتهم النبيلة الأثيرة طوب السدابة. ليطرزوا به هذه المرة أفق مواقع جامعة الخرطوم بدرر من عمارة الحداثة التي بشروا بها بثوا رسالتها لطلابهم. تجاوز هؤلاء الأساتذة أسوار تلك المواقع لينشروا خبرها في أرجاء العاصمة. من خلال أعمال رائعة بشرت بالرسالة الجديدة على الملاء معلنة ميلاد ذلك الطراز الجديد. كواحد من علامات ظهور بلادنا كدولة وليدة تحاول اللحاق بركب الحداثة. تلك الجرعات مجتمعة كانت كافية لتجنيد طلابهم كمريدين أوفياء لهذه الطريقة الجديدة. استمرت علاقة المتميزين منهم بأساتذتهم بعد ارتحالهم عن بلادنا بعد انتهاء مهمتهم بها. برعايتهم في دراساتهم العليا هناك مما أبقي جذوة عمارة الحداثة مشتعلة في بلادنا. إذ عادوا بعد نيلهم الشهادات العليا ليقودوا دفة العمل في مجال التدريس على هدي شيوخهم. بالرغم من تغير مجريات الأحداث الذي لم يكن في مصلحة معتقداتهم القديمة.
تضاعف في حقبة السبعينات اهتمامي بِالعمارة السودانية تحديداً تطورات بلورة شقها الحداثي. تعزز مع مرور السنوات بقربي من أهم رموزها على رأسهم أستاذي وعرابها المتميز عبد المنعم مصطفي. الذي أتاحت لي الظروف أن أكون قريباً جداً منه. ظروف مشابه جعلتني على نفس المسافة من واحد من رموزها هو المعماري الأستاذ محمد حمدي. الذي اختلفت فيه الآراء لأسباب موضوعية. الذي لا أحسب أنها تختلف في أنه كان إلى حد ما متميزاً لأسباب سأوضحها لاحقاً. في نفس هذا السياق في نهاية الثمانينات كانت لي علاقة خاصة جداً مع واحد من أهم رموز العمارة السودانية حقبتئذٍ. هو الأستاذ كمال عباس عليه رحمة الله الذي درس العمارة في جامعات شرق أوربا. ظلمته الظروف إلى حد ما وبعضاً من عنصرية خريجي جامعة الخرطوم الجميلة ومستحيلة كما يصفونها. الذين بلا مبرر مقنع لا يضعون كثير اعتبار لتك الشريحة من المعماريين. خلف المرحوم كمال إرثاً رائعاً متنوع الجوانب بالرغم من ولائه لنهج الحداثة. مما يجعلنا في أمس الحاجة للتعرف عليها عن قرب. كنت قريب الصلة جداً خلال تفس تلك الحقبة ما زلت مع واحد من أهم رموز عمارتنا الذي قدم طروحات جديدة بالغة الجرأة. هو المعماري المتميز السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص. الذي عكفت هلي تتبع تجرته بعمق بشكل متواصل. ما زال جهدي مستمر بجد ومثابرة في اقتفاء أثار عمارتنا. من خلال التعمق في أعمال أحدث رموزها من أمثال حيدر أحمد علي ومحمد المصباح ومرتضي معاذ وصلاح رحمة. الذين أنظر لأعمالهم وانجازاتهم على خلفية ما ألت إليه عمارتنا من حالة لا تسر عدو أو صليح.
أعود بكم مرة أخري لحقبة السبعينات لأتوقف على حال عمارتنا خلال تلك المرحلة. المفصلية بالنسبة لنا هنا وفي العالم الغربي الذي صدر لنا نهج وموجهات طراز الحداثة. بعد تلك البداية القوية بدأت الصورة تهتز عندنا تدريجيا نسبة لعدة عوامل لا مجال هتا للإفاضة في مسبباتها. من أهمها تدني مستوي تعليمها الذي كان بصورة مثالية عند انطلاقته الأولي بجامعة الخرطوم. من أهم مسبباتها الترهل والانتشار الكبير في ذلك المجال بدون تخطيط وأعداد جيد ومتابعة متصلة. ثم أسباب أخري مهمة في هذا السياق سأتطرق لها لاحقاً. تجعل جامعة الخرطوم نفسها بكل ميزات ريادتها وسمعتها الطيبة في مرمي النيران. عوامل كان لها إسقاطاتها المؤثرة على الممارسة في كافة مواقعها وأشكالها. الواضح أن هناك عوامل أخري خارج هذه الأطر يجب الانتباه لها ودراستها بعمق. لعل من أهمها علاقة المعماري بمن يتعامل معهم هو أمر حدثت فيه مستجدات لم تجد الاهتمام الكافي. تلك العوامل والمستجدات مجتمعة جعلت عمارتنا وتحديداً طرحها الحداثي في موقف حرج خصم من قيمتها. بالذات عندما ننظر إليها نقومها من واقع المشهد العالمي. الذي عصفت به متغيرات مزلزلة لم ننتبه لها بالقدر الكافي نأخذها على محمل الجد. لأن جل الذين يديرون العمل في مجال تعليم العمارة وفي كافة أصعدة الممارسة كانوا لا زالوا غارقين في العسل. لا يعطونك انطباع بإحساسهم بعمق الأزمة. التي أزعجت العالم الغربي الذي صدر لنا مفاهيمها مما جعلهم يجتهدون لتجاوزها. لا زلنا نحن هنا نتعايش معها في سعادة بدون إحساس بسلبياتها المؤرقة.
لا زلنا نحن هنا في جل مدراج تعليم العمارة وطاولات رسم معظم مكاتبنا الاستشارية نعيش أسرى مفاهيم عمارة الحداثة الجامدة. نحفظ مخرجاتها عن ظهر قلب لنجتر نماذج لأعمال معمارية فارغة المحتوي. نبيعها معها الوهم لأهلنا من كافة قطاعات مجتمعاتنا. يستوي مع زمرة المعماريين زملائهم المخططين الذين يستعصمون بنفس طاقم مخططات المجمعات السكنية المكررة. يجوبون بها كافة أرجاء الوطن متجاهلين تباين خلفية مجموعات أهله. مرحلة تجاوزها الغرب الذي صدر لنا تلك المفاهيم والحلول قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. استشعر هناك حجم المحنة فتعامل معها في البدء عبر قنواته الفلسفية ليعبر بالعمارة الي فضاءات أرحب مفعمة بالمفاهيم الإنسانية. في معركة كان همهما الأول تجاوز مأزق المفاهيم السائدة التي أثبتت فشلها الزريع. خاضها في إطار توجه عريض يشار إليه ب ما- بعد- الحداثة. تفرعت منه عدة مدارس استهدفت كل واحدة منها جانب من جوانب قصور وفشل توجه ذلك التوجه وطروحاته الجامدة. سلاح كل واحدة منها طراز محدد المعالم يقدم طرح معماري يتجاوز واحدة منها نقاط ضعف التوجه السائد حقبتئذٍ. فمنحنا ذلك التوجه الجديد العريض منظومة مدارسه متعددة متنوعة شبيه بقائمة المطاعم التي يشار باللغة الإنجليزية بال menu. فتحت الأبواب على مصراعيها لمرونة فائقة للتعامل مع كل حالة وفق مواصفاتها ومعطياتها. لكأنها صممت خصيصاً لحالة السودان بتنوع خلفيات وثقافات أهله المذهلة.
حللت ببريطانيا واحدة من أهم مكونات العالم الغربي مع بداية الثمانينات. كان من حسن حظي تواجدي بها عندما كان التوجه الجديد قد بداء يرسى قواعده يتمدد يبسط سيطرته. مؤسساً له مواقع أقدام ثابته إمام تراجع توجه الحداثة فكنت بحق شاهداً على ذلك العصر. شهادة عززها انخراطي في بداية التحضير لرسالة الدكتوراه في مرحلة مفصلية مهمة للغاية. استفادت استثمرت جيداً في جوانب ذلك المعترك الفكري المحتدم معماري السماتٍ. معارك اِقتحمتها متأبطاً معي حالة السودان بكل زخمه الثقافي مفرط التنوع. متسلحاً لاحقاً بإرث فلسفي بازخ أنار لي الطريق عبده فعشت في تلك الأجواء بكل أبعادها. وجودي هناك مكنني من التعرف عن قرب على كافة جوانب وتفاصيل إسقاطات ذلك التوجه الجديد. الذي أعانني عليه رؤي فلسقية حديثة وجدت لها في ذلك الموقف المعماري المازوم أرض خصبة. عوامل كانت كلها في صالحي وصالح عملي في رسالة الدكتوراه وهو في بدايته. وَضعتُ في إطارها حالة عمارة بيوت النوبيين التقليدية. التي كانت من أول متعلقاتي أنا أرتب أمتعتي لأشد الرحال لتلك البلاد البعيدة. فاكتشفت مع تقدمي في البحث في الحالة النوبية أسرار وخبايا كانت خافية على من قبل. فأحسست حينها كأنها ترقص طرباً هي تكشف لي لأول مرة مفاتنها المنداحة في كافة جوانبها. روعة اكتشافاتي الجديدة في رحاب العمارة النوبية التقليدية حفزتني للتوغل في غياهب عمارة القبائل السودانية. فاستصحبت معي حالتين إضافيتين ساهمتا بشكل مؤثر في إثراء رسالة الدكتوراه.
كل تلك المعطيات مجتمعة مهدت لي الطريق في الثمانينات لكي أمضي قدماً في التحضير لرسالة الدكتوراه. التي عززُت أبحاثي فيها بدراسات ميدانية في السودان. مستكشفاً فيها من جوانب موضوعها بالغ الثراء. لأنهي رسالتي التي نالت كثير من الرضي من الممتحنين فأجازوها الحمد لله بدون أي تعديلات أو أضافات. انتصار باهر لم يكن للنسبة لي إلا بداية لرحلة طويلة متصلة لعوالم مدهشة. لا زلت اكتشف فيها كل يوم المثير الخطر كما ورد في واحدة من أغنيات حبيبنا الفنان الكابلي. أهم من كل ذلك أنها جعلتني أعيد اكتشاف عمارتنا بكل مكوناتها وابعادها. هدف نبيل بذلت له حياتي بعد عودتي للسودان. جعلني أعيد النظر في ذلك المشهد مستهدىً بخارطة طريق استلهمتها من رؤي توجه ما- بعد- الحداثة. مستفيداً مستثمراً في البراحات الرحبة التي أتاحها لي. اجتهدت رحت استكشف ساحة عمارتنا مترامية الأطراف. أبحث في خضم ذلك الكم الهائل من عمارة عدد مقدر منها خالي من المضامين مكرر باهت السمات. اجتهدت أبحث في فضول عن اختراقات تشكل فتوحات جديدة. تزعزع ذلك الكم الهائل من مخرجات عمارة الحداثة فاقدة الهوية. طفقت أبحث عن إشراقات بعض زملاء لنا أماجد مقدامين. لأعثر على بعضهم من هم من الجيل السابق وأخرين من أجيال لاحقة من زمرة الشباب. اجتهدت فوضعت أعمالهم الرائعة في أطر مدارس ذلك التوجه الجديد العريض.
أسرني منذ وقت باكر في السبعينيات أستاذنا الحبيب محمد حمدي. قبل أن يصبح لدهشتي الشديدة لاحقاً أكثر تحفظاً وأقل جرأة. بهرني في ذلك الزمان والحداثة السودانية في قمة توهجها. ميله للزخرف متحدياً لها مغازلاً إرث العمارة الإسلامية. فعلها في جرأة بائنة في مبني رئاسة شركة كنانة المرتكز المطل على شارع عبيد ختم في حي الطائف في الخرطوم. إذ زين واجهته المطلة على الشارع بعمل مبتكر لوحة جدارية مبهرة مطبوعة على ألواح التغليف المعدنية. فعل العجب أيضاَ في بهو الدخول الفسيح. الذي ترفرف فيه لوحات جدارية مطبوعة على الواح المعدن شبيه بتلك التي تزين الواجهة. ترفرف فوق فضاءات داخلية تتوزع فيها مساحات أرضيات ومقاعد يناجي تصميمها تراث العمارة الإسلامية من طرف خفي. مفاجأة أستاذنا محمد حمدي الكبرى كانت في عمل كبير هو مسجد القصر الجمهوري. الذي يضعه بقوة في فضاءات مدرسة مهمة تشكل ركناً أساسيا في رحاب توجه ما- بعد- الحداثة. هي بعينها الكلاسيكية الراجعة التي تعرف باللغة الإنجليزية بأل neoclassical style. عمل عبر فيه أستاذنا عن أشواق روحانية إسلامية الجذور كانت تسيطر عليه في تلك المرحلة الشبابية. إنجاز أعتبره من أميز ما قدمه في العقود السابقة. مما دعاني للاجتهاد في تقديمه في عمل وثائقي عرض قبل عدة سنوات في أكثر القنوات الفضائية مشاهدة. تعميماً للفائدة ضمنته في قائمة أعمالي في موقعي الإلكتروني الرابط للوصول إليه drhashimk.com.
واقعة أخري توضح أن فضاءات توجهات توجه ما- بعد- الحداثة كان جاذبة لأكثر المعماريين السودانيين ولاءً لنهج الحداثة. الذين غازلوها من وقت إلى أخر. واحد من أهم أركانه عندنا المعماري الرائع المبدع المرحوم كمال عباس. الذي يعتبر مع الأستاذ عبد المنعم مصطفي من أهم رموزها. صلتي القوية به كشفت لي ثقافته العالية ومواكبته للمستجدات في عالم العمارة مع رغبة للتجريب. رغبة دعته ذات مرة بالرغم من ولائه المطلق لنهج الحداثة للإفلات من قبضته والسباحة عكس التيار. متنكباً طريق واحدة من مدارس توجه ما- بعد- الحداثة هو أبعد ما يكون من قناعاته الراسخة. سار فيه على خطي طراز الاستعاراتية ترجمة لاسمه باللغة الإنجليزية هو metamorphic style. نهج يؤسس فيه تصميم المبني على فكرة شكل شئي أخر ليست له علاقة مباشرة به. عليه تقوم الفكرة على الاستعارة بتصرف أريب. هذا هو عين ما فعله كمال في تصميم فيلا شيدت في الجانب الشرقي من حي أبو روف الأم درماني مواجهة للنيل. إطلالتها عليه جعلت كمال يستدعي مفاهيم ذلك الطراز ليختار شكل السفينة كأساس لتصميمها. تعامل معه بحنكة وروح ابتكار عالية ومعالجات أريبة طوعته لهذا الغرض النبيل. فجعل مثلاً حائط السور مائلاً أشبه بواجهة جسم السفينة. استكمالاً للصورة فتح في السور نوافذ صغيرة بيضاوية الشكل وثبت غي جزءه الأعلى أنابيب شبيه ب (درابزين) سطح السفينة. فمنح منظر البيت شكل قريب جداً لواجهتها. اكتمل وجه الشبه بين الفيلا والسفينة بالجزء الأعلى منها الذي جعل فيه بير السلم أشبه بمدخنتها.
شهدت نهاية الثمانينات بداية بزوغ نجم شكل إضافة مقدرة متعددة الجوانب لتوجه ما- بعد- الحداثة ما زال نجمه يتوهج. هو المعماري الفنان المجدد السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص. دخل هذا المجال ممتطىً صهوة التراث المعماري محلقًا في فضاءات الكلاسيكي الغربي مع التركيز لاحقاً على الإسلامي والعربي. استدرجته الحالتين الأخيرين بمشربياتها مترفة الجمال فوقع في غرامها أستنبط منها بتصرف نماذج فوق التصور. قدم نفسه في مرحلة من المراحل عبر بوابتين تراثيتين عمارة سواكن وبيوت النوبة التقليدية بتركيز على التجربة المصرية. أنتج على منوالهما فيلات كانت حديث المدينة خلبت قلوب أثرياها فتهافتوا عليها. لكنه بطموح الفنان المبدع لم يتوقف عند هذه المحطة. اقتحم عالم الكلاسيكيات الغربية الضاربة في القدم فأعاد إحياءها بروح أبداع عالية. تجرأ فاستنسخ نظم أعمدة كادت أن تنافس المعروفة منها مثل الدوري والأيوني و الكورينثي. فأتي بنماذج جديدة تستحق أن نطلق عليها اسمه نظام جاك إشخانيص واحد واثنين وثلاثة إلخ. هذه الطفرة الموفقة في عالم الكلاسيكيات جعلته يتجاوز مرحلة عمارة ما بعد- الحداثة فولكلورية الطابع. نجاح جعلني بلا أدني تردد أطلق عليه لقب عراب عمارة ما بعد- الحداثة السودانية. أستحقها بجدارة لأنه حلق باقتدار في فضاءات أكثر من مدرسة منه مثل المحلية الراجعة والكلاسيكية الراجعة.
هبت مع بداية الألفية موجة عاتية من مخرجات توجه ما- بعد- الحداثة مصدرها شاب امتلأت أشرعته بطموح بلا حدود. عندما انطلق حيدر أحمد علي في بداية مسيرته. بعد فترة إقلاع قصيرة في مكتب عبد المنعم مصطفي والأمين مدثر دهاقنة طراز الحداثة السودانية. ليشق طريقه بجرأة فائقة شاقاً عصي الطاعة منهياً فترة ارتهان قصير قضاها في هاذين المكتبين. ليحلق بحرية في فضاءات مدارس توجه ما- بعد- الحداثة. حملته إليها طوفت به ميزة اطلاعه الواسع ومواكبته المستمرة لكل ما استجد التي عززها بترحاله الراتب لكافة أرجاء العالم الحديث. عمق من تأثيرها نشاطه المكثف في التنظيمات المعمارية على المستوي الإقليمي والعالمي. حالة جعلته في حالة توتر دائم وقلق إبداعي حميد. انعكس بشكل مدهش في تدفق أعماله المعمارية التي تنافس بعضها البعض. التي حصد بعضها الإشادة والتقدير من جهات عالمية. تنقله بين مدارس توجه ما- بعد- الحداثة جعلني أصفه في عنوان مقالة كتبتها عته بأنه مشاغب في فضاءاتها. بداء مسيرته في هذا السياق متأثراً بعمارة الكولونيال أو المستعمرين السودانية. لينفلت منها مرات لاحقة مغازلاً براحات أخري في هذا الفضاء العريض. من أكثر أعماله التي استحوذت على إعجابي مبني مكتبه الاستشاري. المطل على شارع الشريف يوسف الهندي في حي الخرطوم شرق. عمارة موشحة بالحجر الرملي حائرة بين الكلاسيكية والحداثة لتستقر عند شط طراز الكلاسيكية الراجعة. نثر فيها بعض لمسات حداثية منها ذلك الجزء الصغير البارز الذي يغمز في دلال بمكعباته الزجاجية الملونة. المفاجأة الكبرى والصدمة الأكبر في بعد الشقة بين طراز العمارة الخارجية والداخلية. قدم فيه حيدر عمارة الدهشة والصدمة في أبلغ صورها التي تشكل واحدة من أميز مدارس التوجه الجديد.
استوعب في بداية الألفية مكتب المعماري حيدر أحمد علي إثنين من المعمارين حديثي التخرج. صار لهم لاحقاً شأن عظيم ومساهمات ملموسة في التأسيس للنسخة السودانية من توجه ما- بعد- الحداثة. متتبعين نفس الخطوات التي مشاها بنجاح حيدر في مرحلة انطلاقه من مكتب عبد المنعم مصطفي والأمين مدثر. فانطلق من هناك مرتضي معاذ ومحمد المصباح ليضعوا بصمتهم الخاصة في مسيرة هذا التوجه الجديد حقبتئذٍ. مضوا في جراءة غير مسبوقة ليقدموا نماذج متميزة منه. استثمر مرتضي في دراسته للعمارة في الفلبين التي جنبت مسيرته تنكب طريق قضيب القطر الذي يعاني منه جل من درسوا في السودان. سار على نهج تعددية الرؤي استجابة لظروف المشاريع المتنوعة التي تعامل معها. الذي جاء متسقاً تماماً مع فلسفة توجه ما- بعد- الحداثة فكانت كل واحدة من أعماله مستجيبة لمعطياتها. مما جعل منظومة مشاريعه متباينة مختلفة أحيناً في طرازها وملامحها ومواد تشييدها. استعرضت بعضا منها في عدد من مقالاتي عن مسيرته. سلك محمد المصباح نفس طريق رفيق دربه في بداية مسيرتهم مرتضي معاذ. تتبعت مشاريعه الأولي التي ظهرت فيها بوادر تمرده على نهج الحداثة. أميزها ذلك المبني الصغير في الطرف الشمالي الشرقي من حي العمدة بمدينة أمدرمان المطل على شارع الثورة بالنص. فأجاء فيه الجميع بمعالجة واجهاته المغلفة بألواح المعدن التي خبط أجزاء منها ومزق بعضها. ليعلن من هناك حالة لا ريب فيها توثق لطراز التفكيكية الذي يحتل موقعاً مهما في منظومة توجه ما- بعد- الحداثة.
طفقت بعد ذلك أبحث في فضول عن أي مؤشرات تدل على نسخ سودانية لتوجه ما- بعد الحداثة. الذي كانت أقدامه قد ترسخت في العالم بالذات الغربي الذي ظهر فيها بمدارسه المتعددة. تطورات كان من المفترض تثير اهتمام معمارينا لست متفائل بصراحة لكي أقول غيرتهم. كنت أعتقد أنها ستحدث من باب الفضول. بعض شباب المعماريين كان كما هو متوقع عند حسن ظني. أبدي بعضهم اهتماما كبيرا قلة تفاعلت معها بشكل إيجابي مثمر. أرجو ألا أكون محقاً فيما ذهبت إليه إذ أنني إلى حد ما لم أكن في الفترة الأخيرة متابع لصيق لما يحدث في الساحات المعمارية. أملي كان دائما كان في الشباب بالذات الشرائح المطلعة المقدامة المشبعة بالفضول العلمي البناء. بعضهم كان عند حسن ظني تجاسر قدم أعمالاً جديرة بالاهتمام. أذكر منهم واحد كان يتسم بالعديد من الخصال التي ذكرتها هنا. جعلته يتقدم الصفوف في المسابقات المعمارية منذ فترة باكرة من مسيرته المعمارية. هو المعماري الأريب صلاح رحمة الذي سطرت العديد من المقالات عن جوانب من مسيرته وأعماله المعمارية المتميزة. أذكر منها عملان يلامس طرحهما إلى حد ما بعض مما تطرقت له هنا في سياق الحديث عن توجه ما- بعد- الحداثة. هما مجمع قصر السلطان الذي شيد في مدينة سنار. في إطار احتفال نظمته منظمة العالم الإسلامي احتفاءً بذكري سلطنة الفونج الإسلامية. المشروع الثاني مجمع السفارة والقنصلية الهندية بحي الخرطوم واحد. يحملان مؤشرات تضعهما في إطار توجه ما- بعد- الحداثة. فيما يحمل الأول سمات مدرسة الكلاسيكية الراجعة تضع ملامح الثاني في إطار طراز المحلية الراجعة.
في عشرية الألفية الأولي قررت أن أقوم بلمسة وفاء لحاضنتي الأساسية قسم العمارة بجامعة الخرطوم. قررت أيضاً أن أوسع مظلة تلك اللمسة لتشمل الإطار الأكبر جامعتنا الجميلة ومستحيلة بكل مكوناتها ومجمعاتها. في هذا الإطار قررت أن أقدم رؤيتي في شكل محاضرة معززة بمعرض للصور الملونة من أعمالي. على أن تكون في شكل سياحة أقدم فيها مسيرة الجامعة من خلال عمارتها التي كانت وقتئذٍ تجاوزت القرن من الزمان. بناءً على ذلك اخترت لهذه الفعالية عنواناً معبراً جاذباً. عمارة جامعة الخرطوم: من كلاسيكيات طوب السدابة إلى أفاق الحداثة. على أن يغُطي هذا الموضوع من خلال محاضرة معززة بالشرائح ومعرض للصور الفتوغرافية من أعمالي. فعالية لم نجد لها مكان أنسب من مجمع قاعة الشارقة. فوجدت نفسي أمام مهمة عسيرة محفوفة بالتحديات. إذ توقعت أن تجتذب نخبة من الزملاء الأساتذة والنخب من مجالات أخري بالإضافة للطلاب بالطبع. فانكببت أعد لها مستجمعاً كماً هائلاً من المعلومات. في نفس الوقت كان على استكمال مجموعة الصور المطلوبة. بشكل منطقي قررت في اتساق مع عنوان المحاضرة أن أستعرض عمارة الجامعة حسب تسلسل مراحلها الزمانية المرتبطة بتتابع تحولاتها الطرازية.
تحقيقاً لمبدأ رد الفضل لأهله رأيت أن أبرز دور أساتذة القسم بكافة أجيالهم في هذه المسيرة الظافرة. التي رسمت لوحة مدهشة تتداعي فيها الطرازات المعمارية. إنجازاً كانوا فيه راس الرمح في تطور تحور عمارتنا عبر العقود المتعاقبة. كان الأمر بالنسبة لي سهل مقدور عليه أنا أغطي المرحلة الكلاسيكية بالذات حقبة الحداثة التي عايشت جزءً مقدراً منها. احترت للغاية أمام أخر مراحل الطرازات قوية الصلة بموضوع هذه المقالة هو توجه ما- بعد- الحداثة. رحت أجوب مواقع الجامعة فلم أعثر على مغنم مقنع. فبحثت عن ضالتي في قائمة أساتذة القسم مركزاً على شريحة الشباب. باعتبارهم الأمل المرتجى لتحقيق اختراقات تعبر بعمارة الجامعة لشواطئي ذلك التوجه. جبت كل مواقع الجامعة ابحث عن إسهاماتهم فكدت أن أعود بخفي حنين. ورطة أنقذني منها عمل يبدو صغيراً في شأنه لكنه كبير عظيم في معناه. هو السور الشمالي لمجمع الوسط المطل على شاطئي النيل الأزرق. صممه الأستاذ الشاب قبل بضع عقود من الزمان الدكتور أبو بكر حسين. أعجبت به لأنه وضع بصمة في مسار هذا التوجه في رحاب مواقع الجامعة. مواصلا مسيرة وضع أول لبناتها الأولي في عقد الثمانينات أستاذنا محمد حمدي في عمارة مسجد جامعة الخرطوم. قافزاً فوق أرث العمارة الإسلامية متحديا هيمنة طوب السدابة الذي احتكر عمارة الجامعة لأكثر من قرن من الزمان. في هذا السياق يجب أن نقف إجلالاً أمام عمل أخر لأستاذنا العظيم الدكتور سيف الدين صادق. تحية لعمله المتميز في بوابة مجمع الوسط الرئيسة على شارع الجامعة.
قد يُعجب العديد منكم من إثارة موضوع هذا المقالة بالذات الطلاب معهم عدد لا يستهان به من الأساتذة. يعجبون يستغربون من غضبتي على مفاهيم المناهج ومخرجاتها المتوارثة. فالأمور لدهشتي الشديدة تبدو مستقرة على كافة الأصعدة بشقيها التعليمي وفي مجال الممارسة. فالطلاب في كليات وأقسام العمارة بأجيالهم المتعاقبة ينكبون بهمة عالية ينهلون من معين مقررات مكررة. ورثها أستاذتهم من الأساتذة البريطانيين الأوائل. الذين رسخوها في أذهانهم مرة أخري عندما اٍبتعثوا إلى ديارهم للتحضير للدراسات العليا. تشربوا هناك في ستينات القرن الماضي بمفاهيم الحداثة علمانية الجذور معها توجهاتها المعمارية التي استفردت لاحقاً بالمشهد. حملوها معهم ليلقنوها لاحقاً لأجيال متعاقبة في بلادنا. غير عابئين بمتغيرات أساسية في نفس ذلك الغرب الذي افتتنوا بتجربته. فطفقوا يطبقون مخرجاتها وعلى رأسها توجهاتها المعمارية. زُلزلت الأرض في عالمهم فبدأت تطيح بمسلمات ومخرجات ذلك التوجه. لا زلنا نحن هنا نعيش حالة مكابرة مزعجة مستمرة. لا تقبل مبدأ المراجعات بالرغم من الموقف المتراجع الذي أفرزه التمسك بهذا التوجه العقيم. أعجب بحق إذ لم أسمع بأخبار تبشر بخير قادم. نية صادقة لطرح ومناقشة هذا الوضع المتأزم في مجال تعليم العمارة أو سياق ممارستها. أستغرب ألا يحدث ذلك نحن نري من أسسوا لهذه التوجهات في العالم الغربي يقومون بمراجعات أساسية وصلت الي حد البحث عن بدائل.
واحدة من أوضح مشاكل توجه الحداثة هو ضيق الأفق الذي كان من أهم أسباب انتكاسته. مما أدي لتراجعه في عالمهم الغربي جعلهم ينفضوا عنه يثوروا عليه. دعاهم أيضاً للبحث عن بديل يتمتع بقدر عالٍ من المرونة. فولدت فكرة توجه ما- بعد- الحداثة العريض الفضفاض الذي أنتج عدة مدارس فكرية يجمع بينها وحدة الهدف. أتاحت لهم مساحة مقدرة للحركة وتقبل الأفكار الجديدة. ثاروا على نهج الحداثة بالرغم من اختلاف حالهم الذي يتميز بقدر عالٍ من التجانس عن حالنا بتنوعه اللافت. كيف بالله يجوز أن نتعايش مع هذا التوجه نستعصم بنهجه الذي تخلوا عنه. هذه المعطيات بالإضافة لدراستي المعمقة لتوجهم الجديد بكافة مدارسها أقنعتني بملائمته لحالتنا. بناءً على مسوغات مقنعة ننظر إليها من خلال بعض من مدارسه ذات المرجعيات المتعددة. على سبيل المثال هناك مدرسة الكلاسيكية الراجعة التي ترتكز على العمارة الضاربة في القدم كمرجعية أساسية. أيضا مدرسة المحلية الراجعة الشبيه بها إلى حد ما لكنها تختلف عنها بإن مصدر إلهامها العمارة التقليدية المحلية المعاصرة. هناك أيضاً مدرسة أسميتها مدرسة البهجة تتميز باصطحاب الألوان من كل طيف. في تناقض مع حالة الحداثة محدودة الألوان المركزة على الأبيض والرمادي. إلي أخر قائمة مدراس وطرازات توجه ما- بعد- الحداثة. فلنجعل استعراضي السريع لبعض مدارسها مدخلاً لمرافعتي. التي تدعوا لمفارقة نهج الحداثة الجامد أحادي الرؤية. لننطلق إلي رحاب التوجه الجديد الذي صار قديماً مجرباً في العالم الغربي. مرافعة ستستند على مسوغات من واقعناً الماثل بدون حاجة لنظريات وأسانيد من مصدر أخر.
أتاح لي عملي في رسالة الدكتوراه بعد ذلك في جهد متصل أن ألم بالكثير عن شئون بلادنا وحال أهلها. بداءً بتاريخها المتمدد لألاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح الزاخر بالحضارات المتميزة المتتابعة. التي خلفت لنا إرثاً فخيماً مدهشاً خلب الباب العالم أشادت به جهات مختصة عالية المقام. احتل التراث المعماري فيه موقعاً متقدماً بازخ الروعة. مكنتني بحوثي ودراساتي من التعرف على جانب أخر من السودان وأهله. عرفتني بشكل واسع عميق على العديد من مجموعاتنا القبلية. التي تشكل ثقافاتهم المتميزة زخماً بالغ التنوع. تتصدره منظومة عماراتهم المحلية متباينة السمات والملامح. بانوراما توثق لتنوع مذهل في كل جوانبه يعكس جانباً مهماً من أهل السودان. حالة تجعل من الظلم والإجحاف التعامل معها بمفاهيم عمارة الحداثة جامدة أحادية الرؤية. هذا قليل من كثير جداً لم أكشف عنه هنا عن هذه الحالة. التي أود أن أجعل بعضاً مما أوردته عنها أساساً لمرافعتي التي أنادي فيها بتبني توجه ما-بعد- الحداثة بمدراسه المتعددة. التي أشرت لبعض جوانبها بشكل سريع على سبيل المثال علما بأن هناك عدد منها لم أتطرق إليه. أنادي بهذه الخطوة الجريئة بقوة وإصرار للتحرر من إسار توجه الحداثة. الذي أثبت إخفاقه وفشله في ذلك العالم الغربي المتجانس. هذه الخطوة يجب أن تسبقها أو تتزامن معها بحوث ونقاشات معمقة للنظر في جوانب إخفاق ذلك التوجه. إذ اقر بها المعنيون في مجالي تعليم العمارة وممارستها. فشل أعترف به تعامل معه تجاوزه العالم الغربي الذي أسس له في النصف الأول من القرن الماضي.
أبداء مرافعتي التي أدعوا فيها لتبني التوجه الجديد بالإشارة لواقع تراثنا المعماري التاريخي الذي أفتتن به العالم. أتأمله بكافة مراحله وتفاصيله من خلال حقبه المتتابعة. فأري فيه مخزون استراتيجي فخم ضخم متنوع السمات يقدم مكونات ومؤشرات جاذبة ثرية. تشكل مصادر إلهام مهمة لمن يتبني أسلوب مدرسة الكلاسيكية الراجعة التي يشكل ركناً أساسياً من اركان توجه ما- بعد- الحداثة. فعلها سبقنا إليها أهل الغرب منهم المعماري بي. الذي نصب هرماً زجاجياً ضخماً في باحة متحف اللوفر الأمامية والامثلة كثيرة. في نفس السياق تقدم عمارتنا المحلية المتمددة في ديار قبائلنا المتعددة نفسها طائعة مختارة. تبذل نفسها كمصدر إلهام مدهش لمن يتبني نهج مدرسة المحلية الراجعة في إطار توجه ما- بعد- الحداثة. استفاد منها من قبل المعماري المصري الرسالي حسن فتحي. فنسج على منوال عمارة التوبين التقليدية أزهي الأعمال في قريتين في صعيد مصر. تأثر بها حواره النبيه عبد الواحد الوكيل فسوقه في شكل فيلات أنيقة تهافت عليها أثرياء الخليج العربي. هو عين ما فعله المعماري السوداني الفنان جاك إشخانيص في أحياء أثرياء عاصمتنا. نماذج قدمت طراز المحلية الراجعة في أزهي وأنصع صوره. ننتقل لمدرسة أخري من مدارس ما- بعد- الحداثة أسميتها مدرسة البهجة. أعتقد أنها ستجد لها رواجاً منقطع النظير عند مجموعاتنا العرقية الثقافية ذات الجزور الأفريقانية الراسخة. تتعدد الشواهد على ما أقوله الذي يرد لعوامل لها علاقة بالمورثات او الجينات. هذه بعض ملاحظات أوردتها لأدافع بها عن دعوتي لتبني توجه ما- بعد- الحداثة. التي لم أسترسل فيها كثيراً بتناول باقي مدراسها وطرازاتها.
غاية ما أتمناه أن نفكر في تبني هذا التوجه بمدارسه وطرازاته المتعددة. تنوعها هو واحد من أهم عناصر قوتها الذي يجعله ملائم لحالة التعددية التي نعيشها. تعددية كانت إسقاطاتها للأسف واحدة من أهم مشاكلنا التي أورثتنا حروباً ضروسا. الحل يكمن في رحاب مدارسه الرحبة التي يمكن تستوعب أشواق أهلنا الطيبين المنتشرين في بلادنا. فتنوعها يتوافق تماماً مع تنوع ثقافاتهم المحلية. التعامل الأريب معها سيجد القبول والرضي منهم. نحن في أمس الحاجة لمثل هذه التوجهات نحن مقبلون على تحدي كبير. إذ تنتظرنا مهام جسيمة محفوفة بالتحديات. من أهمها استيعاب وإسكان الملايين من أهلنا في أطراف الوطن شردتهم الحروب. مجموعات تقليدية نحن في أمس الحاجة للتعامل معهم بحساسية مفرطة. كجزء لا يتجزأ من الحلول السياسية أذا نظرنا إليها بعمق ورؤية إنسانية. في هذا السياق سيكون توجه ما- بعد- الحداثة خير معين لنا في التعامل في هذه المهمة بالغة التعقيد. مستصحباً معه في نفس هذا الإطار الفلسفي الفكري مجال مجاور محيط بالعمارة هو التخطيط العمراني. ليقدما معاً حزمة متكاملة ديدنها التعامل بدفق إنساني مع قضايا مصيرية. التعامل معها بحنكة وحساسية من شأنه أن يحفظ وحدة الوطن يسد الطريق أمام العودة لسيناريوهات الحروب مرة أخري.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
امدرمان- سبتمبر 2021