fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

مقالة هي جزء من كتاب يعد له الدكتور/ هاشم خليفة بعنوان (العمارة السودانية: مواقف ومشاهد)

     

مبنى البرلمان: الجوهرة في تاج عمارة أمدرمان

قد نتفق أو نختلف في تقييم ما قدمه نظام مايو لكن من الصعوبة بمكان أن ننكر إنجازاته في مجال التنمية. نذكر منها ما تم في مجال الإنشاء والتعمير وعلى وجه الخصوص الصروح المعمارية والعديد التي طرزت أفق العاصمة المثلثة. نركز هنا على واحد منها أعتبره من أميز ما قدمه النظام طوال سنواته الستة عشر. الإشارة هنا لمبنى البرلمان الرابض عند مدخل مدينة أمدرمان العريقة من ناحية كبرى النيل الأبيض الذي يربطها بمدينة الخرطوم. المبنى حسب تقويمي الشخصي له المؤسس على مسوغات علمية متعددة الجوانب اقترب من تحقيق درجة الكمال المعماري والكمال بالطبع لله وحده.

فلنبدأ بنبذة أو فذلكة تاريخيه تهيئ القارئ لتناولنا لهذا العمل المعماري المجيد البالغ التمييز. شيد المبنى خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي في مرحلة بلغ فيها نظام ثورة مايو أوج مجده. المشروع كان نتيجة لثمرة صداقة ومعزة شخصية نشأت بين الرئيس السوداني جعفر نميري ورئيس دولة رومانيا شاوسيسكو. اهتمام الرئيس الروماني بهذا المشروع يتجلى في عدة جوانب. من أهمها اختيار واحد من أميز معماريو بلاده لتصميم المبنى وهو معماري بدرجة أستاذ- بروفيسور. عظمته وعلو كعبه أهله خلال تلك الفترة لتصميم مبنى البرلمان الإسرائيلي- الكنيست.  

سأتناول هذا العمل المعماري من عدة جوانب تمثل إلى حد بعيد الأضلاع التي يمكن أن تقوم عليها عملية التقويم في هذه الحالات. فلنبدأ بالموقع الذي تم اختياره بعناية وتوفيق. العاصمة المثلثة كانت زمان إذ تربط بين مدنها الثلاثة الموزعة على ضفاف أنهرها الثلاثة عدد محدود جداً من الجسور. من أهمها جسر أو كبرى النيل الأبيض الحديدي الذي يربط مدينة أمدرمان العاصمة الوطنية بمدينة الخرطوم العاصمة الرسمية. تم اختيار الموقع المترامي الأطراف عند مدخل كبرى النيل الأبيض الذي كان بمثابة بوابة المدينة مما أكسبه قيمة رمزية عالية.

تم اختيار موقع المبنى بعناية فائقة وبناءً على عدة معايير مهمة. فهو مطل على النيل الأبيض وليس ببعيد عن نقطة ملتقى النيلين الأبيض والأزرق التي تحملهما معاً مندمجين في توادد ليكونا نهر النيل. موقع المبنى محتشد بالرمزيات. بداءً باختيار مدينة أمدرمان وهي ليست العاصمة الرسمية إقراراً بدورها التاريخي في صناعة مجد الوطن في تاريخه الحديث. إذ شكلت القاعدة الصلدة التي حررت البلاد من المستعمر التركي المصري في ثمانينات القرن التاسع عشر. انطلقت منها جحافل جيش المهدية لتؤسس لدولة الحكم المهدوي الذي اختارت مدينة أمدرمان عاصمة لها.

عدة مؤشرات تدلل على اهتمام نظام نميري الفائق بهذا المشروع. من أهمها اختيار موقعه والمساحة الشاسعة التي خصصت له. تجاوز شرف منح العاصمة الوطنية فضل استضافة المشروع فكرمها أكثر بأن قرر أن يكون عند مدخلها. المبنى هنا يحرس بوابة المدينة ورمزية الحراسة لها صلة بدور المؤسسة التي يستضيفها. فالهيئة التشريعية العليا التي خصص لها المبنى والمشروع هي المؤتمنة على حراسة كيان الأمة. 

جغرافية الإطار العام لموقع مبنى البرلمان منحته مزايا أخرى بالغة التمييز. تحيط به من الجانب الشرقي واجهة نهرية مفرطة التفرد. فهو مطل على النيل الأبيض في منطقة ليست ببعيدة من نقطة التقائه بالنيل الأزرق حيث يلتحمان معاً ليكونا نهر النيل المتجه شمالاً إلى مصر. الجانب الجنوبي والغربي للموقع له ميزات أخرى مهمة. يكاد يلتف حوله أهم شارع في مدينة أمدرمان وهو شارع الموردة الذي يخترق كوبري النيل الأبيض متجهاً إلى مركزها.

اهتمت الجهات الرسمية اهتماما كبيراً بمشروع مبنى البرلمان كما وضحنا من قبل. المصمم من جانبه كان سخياً فرد لها الجميل بأكثر منه. استثمر جيداً في كل مزايا الموقع. حقق ذلك من خلال الخطوات التخطيطية الممتازة. تعامل أيضاً بمسئولية وحساسية فائقة مع الشق المعماري. ختم عمله الصالح بأن غلف العمارة وكساها بمنظومة لونية رائعة ذابت في الفضاءات الأمدرمانية. عزز ارتقائه بالعمارة لأعلى مداركها بتجويد الحلول التقنية بكافة تفاصيلها التي واكبت أخر المستجدات زمان. انساب داخل المبنى واهتم بشكل خاص بالعمارة الداخلية التي أضفى بعداً بستانياً مائياً أكسبها حيوية فجاءت أية في التفرد.

وظف المصمم كل خواص ومزايا الموقع. المساحة الشاسعة سمحت له باستثمار فكرة المبنى النيرة الذي جعله في شكل كتلة واحدة. موضعه في قلب الموقع محاطاً بمساحات خالية من كل الاتجاهات جعله يتألق ويفرض حضوره الطاغي. بالإضافة إلى ذلك ومن الناحية التخطيطية تعامل بحنكة بالغة مع إطار المشروع الطبيعي. خطط له بأن يتفاعل بحيوية مع العناصر الحضرية التي تجاوره وتحيط به. واجهته النيلية البديعة من الجانب الشرقي والشارع الرئيس المهم الذي يكاد يلفه بذراعيه من الناحيتين الجنوبية والغربية. لكن للأسف الشديد ما حدث يعبر عن مقولة ليس كل ما يتمناه المرء أو المصمم في هذه الحالة يدركه كما سنشرح بشيء من التفصيل لاحقاً.

واحد من أهم الملامح التخطيطية في هذا المشروع الساحة الفسيحة على الجانب الغربي للمبنى المطل على شارع الموردة. من أساسيات تصميم مثل هذا المبنى بالغ الأهمية أن يكون له وأمامه حرم معتبر في شكل ساحة. من المفترض أن تخطط وتصمم وتعد كميدان احتفالي تتناثر فيه عناصر البستنة مثل أشجار النخيل الباسقات والنوافير. قدم نظام الحكم الثنائي المحتل من قبل نموذجا مشرفاً هو تلك الساحة الحديقة المطلة على النهر والواقعة شمال مبنى الحكمدارية – وزارة المالية حالياً. لكن للأسف الشديد ولانعدام الحساسية لمثل هذه الأفكار الراقية واللمسات الحضارية لم يتحقق هذا الأمر في مشروع مبنى البرلمان. انتهى أمر الساحة الأمامية بأن صارت موقفاً للسيارات. هكذا نحن دائماً نهزم باللمسات الأخيرة روعة مثل هذا المشروع العظيم.

حسن نوايا المصمم التي أجهضت في مهدها ولم ترى النور يمكن أن نستشفها من بعض ملامح وعناصر صغيرة. من أهمها ملامح في الواجهة الغربية محيطة بالدرج الاحتفالي الخارجي العريض الذي يرتفع بمقدار طابق كامل. تحيط به فوانيس حديقة كبيرة بديعة التصميم وغاية في الاناقة. خفتها ورشاقتها توحى بإحساس دافق لكأني بها هنا وهي تحيط بالدرج تحتفى بالداخلين إلى المبنى وتحملهم على أكف الراح.  مثل هذا العنصر الخارجي يقع في إطار أكثر من تخصص. فهو يعتبر من أعمال التصميم الحضري وتحديداً جزئية تعرف باسم أثاث الطريق. من جانب أخر يقع في إطار تخص أعمال البستنة. تضاف هذه الجوانب لعمل مصمم مشروع مبنى البرلمان لتجعل إنجازه العظيم هنا متعدد الأبعاد.

تعامل المصمم مع الجانب الشرقي للموقع المطل على النهر اتسم بنفس ذلك القدر من الحس الحضاري. قرر بأن يكون امتدادا طبيعياً لعمارة المبنى. الجزء الشرقي منه مخصص للشخصيات الهامة وكبار الزوار. ففيه جناح للسيد رئيس الجمهورية بالإضافة لمجمع مكتب رئيس البرلمان. جاءت فكرة عناصر الموقع الخارجية الشرقية مكملة لطبيعة مكونات واستخدامات هذا الجانب من المبنى. فقد خطط وصمم ليكون مرفأ لليخوت الرئاسية وتلك المخصص لنقل كبار الزوار. للأسف الشديد لم ترى تلك الأفكار البديعة النور. ماتت في مهدها تماماً ما حدث لفكرة الميدان الاحتفالي المقترح بالجانب الغربي للموقع.  

كما أشرت من قبل أحسن المصمم استثمار رحابة مساحة الموقع بوضعه للمبنى المصمم على شكل كتلة واحدة في منتصفه. منظره هنا كان بحق في منتهى المهابة. يحاكى إلى حد بعيد معابد الحضارات الضاربة في القدم مثل البارثنون درة عمارة حضارة اليونان القديمة. خلو المساحات من حوله سمحت له أن يشكل حضوراً طاغيا بالغ الرزانة. الجغرافيا منحت لكل مقبل على مدينة أمدرمان من كبرى النيل الأبيض فرصة نادرة أن يكحل مقلتيه برؤية هذه الدرة المعمارية. التفاف شارع الموردة الجزئي حول الموقع والمبنى منح من يرمقه من هناك فرصة إطلالة بانورامية رائعة.

مخصص

عزز المصمم فكرة تصميم المبنى على شكل كتلة واحدة ترمز للوحدة بعدة قرارات تصميمية إضافية مهمة. اختار شكل عام لا يخلو من النقاء هو أشبه وأقرب من شكل المكعب. أفلاطون أهم فلاسفة حضارة اليونان الضاربة في القدم كان قد عبر عن افتتانه بمثل هذه الأشكال النقية نسبة لما لها من عميق أثر على العين والروح.  لهذا السبب صار يشار إليها بالأشكال الأفلاطونية. عزز المصمم من تأثير شكل المكعب بنوع معالجة واجهات المبنى الأربعة. جاءت كلها متشابه فلفت الكتلة والمبنى كله بإحكام داعمة لفكرة وتأثير المكعب القوى الذي يعتبر مؤشراً ورمزاً للوحدة.

 توحيد نوعية معالجة واجهات المبنى في كل جوانبه الأربعة كان يمكن أن يكون له تأثير مناخي سالب. طفقنا دائماً ننبهه الطلاب بأن يجعلوا الواجهات الشرقية والغربية مصمتة وأن يتفادوا فتح نوافذ فيها منعاً لتسلل أشعة الشمس داخل المبنى. مصمم مبنى البرلمان كسر القاعدة لأنه أراد أن يمنح طوابقه إطلالة على النهر والشوارع الرئيسة. لأنه كما أشرنا لذلك من قبل أراد أن يقوى من يقوى فكرة وإحساس المكعب النقي. تحسب المصمم بفطنته العالية للجوانب المناخية السالبة المترتبة عن توحيد معالجة الواجهات الأربعة. ثبت أمام تلك الواجهات الزجاجية منظومة مستمرة متشابه من وحدات كاسرات أشعة الشمس مبتكرة التصميم.

تشكل الأعمدة الخرسانية الرفيعة الناهضة أمام واجهات المبنى الزجاجية جزءً مهماً من منظومة كاسرات أشعة. تلعب هنا دوراً مزدوجاً إضافياً سنشير له لاحقاً. باقي الكاسرات الأخرى أشكالها مبتكرة تشكل عنصراً حيوياً يثرى هذا العمل المعماري المميز. تثبيتها بعيداً نوعاً ما من الأسطح الزجاجية يسمح بمرور الهواء الساخن من حولها فيقلل من تأثيره السالب. هذا البعد جعلها تبدو مرفرفة فمنحت العمارة خفة ورشاقة. حركة مساحات الظل من خلفها خلال ساعات اليوم أضفت أجواء من الحيوية. جعلت الواجهات تبدو كما المزولة التي كان يقاس بها الوقت قبل اختراع الساعة. معالجة الواجهات المميزة منحت العمارة طابعاً مدارياً بائناً.

جانب أخر من تصميم مبنى البرلمان يتوفر على قيمة تعبيرية عالية. رفع المصمم الطابق الرئيس للمبنى بمقدار ثلاثة أمتار وجعله بارز أكثر من الطابق الأسفل. هذه المعالجة المعمارية بالإضافة لكاسرات أشعة الشمس في الجزء الأعلى من المبنى جعلته يبدو لكأنه يهم بالتحليق. التعامل مع الطابق على هذا النحو حمل العديد من المعاني العميقة. فمقامه قمة في الرفعة والعمارة هنا في حضرة جمع منتقى بعناية من أبناء الوطن التأموا للتشريع لصياغة مجده. فكرة المبنى المصمم على شكل كتلة واحدة معبرة عن أمنية غالية هي أن يلتقي المشرعون هنا ليكونوا على قلب رجل واحد.

عمارة مبنى البرلمان تحتشد بالعديد من آخر مظاهر الحداثة زمان اذ. إلا أن روحها العامة والعديد من ملامحها تحمل نفساً كلاسيكياً لا يخفى على عين المتفحص الأريب. من أهم مظاهرها تصميم المبنى على شكل كتلة واحدة مهيمنة تستدعى روح وإحساس معابد الحضارات الضاربة في القدم. سبق المصمم بتلك الأفكار النيرة الجديدة زمانه ببضع سنوات. استلهام التراث الكلاسيكي لصياغة عمارة حداثية ظهر في إطار توجه عام اجتاح الغرب الأوربي وأمريكا في خواتيم عقد سبعينيات القرن الماضي. انبثقت منه مدرسة يشار إليها بالكلاسيكية الراجعة. مصمم مبنى البرلمان بأمدرمان كان سباقاً فقدم أنموذجاً باذخاً قبل أن تتبلور أفكار تلك المدرسة الغربية.

واضح منذ البداية أن مصمم مبنى البرلمان كان عاقد العزم على منحه بعض السمات الكلاسيكية بدون ما نقل حرفي. يظهر ذلك بوضوح في شكل المبنى العام في التزامه الصارم بجانب التماثلية أو التناظرية. تظهر عادة في معالجة وتصميم الواجهات بجعل الشق الأيمن مماثل أو مشابه تماماً للشق الأيسر. المصمم هنا وصل في هذا الأمر إلى منتهاه. إذ جعل الواجهات الأربعة للمبنى متشابه متماثلة تماماً.

ثمة جانب أخر مهم ميز العمارة الكلاسيكية في عصورها الذهبية التي زينت مجد الحضارات الضاربة في القدم. كثفت اهتمامها بالواجهات باعتبار أن الجواب يكفيك عنوانه. في هذا الإطار ركزت بشكل خاص على مكون منظومة الأعمدة التي أخضعت تصميمها لدراسات مؤسسة على تحليلات مضنية. فأنجبت عدة نظم أو طرازات ما زال بعضها يرفل في زهو ليزين الواجهات ونحن في الألفية الثالثة. مصمم مبنى البرلمان بأمدرمان سار على نفس ذلك الدرب. استشف نفس تلك الروح بدون ما نقل حرفي إذ ابتدع نظاماً مبتكراً حقق به نفس تلك الأهداف السامية.

المتأمل بعمق في واجهات المبنى يحس بأن هناك عمل كبير نابع من نفس تلك الرؤى والروح الكلاسيكية. جوانب عديدة أشرنا إليها من قبل تعتبر مؤشرات واضحة. فلنمعن النظر ونركز تحديداً على منظومة كاسرات أشعة الشمس التي تسبح على الواجهات بسلاسة ونعومة في اتساق بائن. الراسية الناهضة منها والمرفرفة والتي تكلل هاماتها. تتناغم وتتحاور مع بعضها لتعزف سيمفونية بديعة من النسب والتناسب. المصمم ابتدع هنا نظاماً بديعاً تأسيا بنهج معابد حضارات اليونان وروما القديمة المؤسسة على حسابات صارمة. أتبع نفس النهج بروح ابتكارية عالية فاستحق كل الاحترام.

الولع المفرط بالتراث الإنساني العالمي ومحاولة استلهام روحه لم تكن تعنى بالنسبة لمصمم مبنى البرلمان الارتهان تماماً للماضي. فالحاضر بكل زخمه زمان في بداية سبعينات القرن الماضي كان حاضراً بقوة في أكثر من جانب من هذا المشروع. ظهرت بجلاء وفي خطوة جريئة آخر مستجدات التقنية وتحديداً في مجال إنشاءات المباني. بعض جوانبها وملامحها ظاهرة للعيان وبعضها الأخر مخفى عن النظر. لكنها في النهاية صارت واحدة من أهم علامات تميز هذا المشروع.

المكونات الإنشائية structural components هي واحدة من أهم جوانب تفرد مبنى البرلمان. على وجه التحديد الجزء الذي يشكل قاعدة وأرضية قاعة البرلمان الرئيسة. تجلس على كتلة كبيرة مكعبة صماء من الخرسانة المسلحة مشيدة في طابق القبو- البدروم. يرتفع وينهض الجزء الأعلى منها متفرعاً على شكل أكمام الوردة أو ما يعرف باسم البتلات petals. ترتفع من طابق القبو لمستوى قاعة البرلمان فتصبح هي المدرجات التي تثبت عليها مقاعد أعضاء البرلمان وكل من يحضر جلساته. حل تقني وإنشائي في غاية الروعة والإبداع فأرضية القاعة المنحدرة هنا لا تحتاج لأعمدة ضخمة لتحملها. فهي محمولة على نظام إنشائي متكامل أساسه تلك الكتلة الخرسانية الرابضة في القبو.

تتداعى جوانب أخرى تشي بأخر مستجدات التقنية والحلول الإنشائية. تتجلى في العروش طويلة البحور في قاعة البرلمان الرئيسة وفي بهو الدخول والاستقبال الفخيم المترامي الاطراف. ترفرف فوق تلك الأجزاء الداخلية الرئيسة عروش نظامها يعرف باسم الإنشاءات الفضائية space structures. محمولة على شبكة من الأنابيب- المواسير- المعدنية تلتقي وتتفرع في نقاط أشبه بالعُقد لتنطلق في كل الاتجاهات. تم استثمار جمالياتها بذكاء شديد في عرش بهو الدخول. يقودنا استعراض هذا الجانب من مبنى البرلمان للعمل الكبير الذي أنجز في مكونات العمارة الداخلية أو التصميم الداخلي كما يشار إليه.

تتوج عرش ذلك بهو الدخول الرحيب أنابيب شبكة الإنشاءات الفضائية التي تنداح مكونة أشكال هندسية ثلاثية الأبعاد بديعة الشكل. لهذا السبب لم تثبت طبقة سقف- تلقيم- تحت أجزاء نظام عرشها الإنشائي. فقد تم استثمار جماليات أشكال شبكة الأنابيب كجزء مهم وأساسي من العمارة الداخلية لهذا البهو. أضيفت لها عناصر أخرى عززت من روعتها بتركيب وحدات الإضاءة عند نقاط تلاقى شبكات الأنابيب. بذلك خطى المصمم المعماري خطوة مهمة ارتفعت بعمله إلى درجات عالية. إذ نجح بضربة لازب في الجمع بين المكون الإنشائي والجمالي في وحدة عضوية مدهشة.

قدم المصمم من خلال هذا العمل بالغ التميز لمسات أخرى تعاملت مع الجانب التقني بطريقة عبقرية. وظف نفس العنصر من المبنى لخدمة أكثر من غرض واحد. الأنابيب التي تصرف مياه الأمطار نزولاً إلى الأرض كثيراً ما تشوه منظر واجهات المباني. تحايل المصمم وتعامل مع هذا التحدي بذكاء. استوعب تلك الأنابيب داخل وحدات كاسرات الشمس الراسية الناهضة في مقدمة الواجهات. صممت بحيث تستلم الأنابيب الموجودة داخلها مياه الأمطار من العرش وتنزل بها إلى أحواض زهور أنيقة صغيرة موزعة أمام المبنى.

لم يكتف المصمم وهو يغازل العمارة الداخلية لبهو الدخول باستعراض جماليات نظام العرش الإنشائي التي تتوجه. نزل من عليائه ففرض وجوده في ساحته الداخلية التي تمدد فيها فنثر أعظم آيات الجمال والإبداع. مازج فيها بمهارة فائقة بين فنون العمارة الداخلية وشقها البستاني. طوع مكونات العمارة الأساسية ففجر فنياتها وجعلها تذوب رقة وهي في حضرة فنيات الديكور وأجواء البستنة المنعشة. الاهتمام المفرط ببهو الدخول لم يأتي من فراغ فالمثل الشائع يقول الجواب يكفيك عنوانه. يزيد من أهمية البهو أنه محاط وتطل عليه شرفات عدد من طوابق المبنى. مما جعله محط أنظار عدد مقدر من العاملين بالبرلمان ومن يتعاملون معه.

مركز العمارة الداخلية لبهو الدخول زوج من درجين- سلمين- عريضين طائرين. متباعدان في بداياتهما لكنهما يلتقيان في الجزء الأعلى منهما ليفضيان معاً إلى الطابق الأعلى المحيط بالبهو. روعة المشهد هنا في أن بداية زوجي الدرج تلتف حول بركة داخلية من المفترض أن تتقافز فيها النوافير. بذلك تشكل هذه المنطقة بديعة التصميم مركز الانتباه والاهتمام للعابرين صعودا وهبوطاً في الدرجين ومن هم في الطوابق العليا المحيطة بالبهو. تكتمل الصورة هنا بلوحات جدارية مقابلة للدرجين. تزداد حيوية منطقة البركة بتسلل بصيص من أشعة الشمس من خلال فتحات زجاجية صممت بعناية كجزء من العرش.

الاهتمام الخاص بمنطقة البهو وتزيينها بالعناصر الجمالية ومكونات البستنة الداخلية لم يأتي من فراغ. بالإضافة لكونها بهو دخول واستقبال فهي منطقة تلاقى مهمة لنواب البرلمان ومن يرتادون جلساته. مفهوم أن هذه اللقاءات تشكل فرصة طيبة لتبادل الآراء والأفكار التي قد تكون مؤثرة أحيناً. مثل هذا البهو يسمى باللغة الإنجليزية ال lobbyو تنطق لوبي. صرفت الكلمة باللغة الإنجليزية فصار يشار لما يحدث فيها بال lobbying. تناولناها في اللغة العربي بمزيد من التصرف فصرنا نشير إلى مثل المجموعات المؤثرة الملتئمة هناك باللوبيهات. عليه من الواضح أن اهتمام المصمم المتعاظم بهذا البهو مرده استيعابه لطبيعة القاءات المؤثرة التي تضمها جنباته.

قد يكون من الأوفق قبل أن نختتم تطوافنا في أرجاء وأنحاء هذا العمل المعماري بالغ التميز بنظرة أخيرة من ساحته الأمامية الغربية. بلا شك ستستوقفنا منظومته اللونية الخارجية الرائعة. متسقة تتدرج فيها في سلاسة درجات من اللون البيج والبنى مع ومضات من اللون الذهبي. يهوم مبنى البرلمان في أفق فضاءات مدينة أمدرمان التي تتضجع عمارتها الطينية والطوبية على بساط ممتد من تربة محمرة. فتذوب عمارته بكل ألقها الحداثي في إطار المدينة الحضري مقدمة بذلك أروع صور التواضع المعماري.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان يونيو 2018

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.