مجمع جبل البركل العبادي : إطار طبيعي مذهل وعمارة مدهشة
بعض الحالات الكلاسيكية لأنماط التخطيط العمراني والعمارة لعصور ضاربة في القدم جديرة منا بكل الاهتمام والتقدير. إذ أن فيها الكثير من الدروس المستفادة المتدفقة حنكة وحكمة بالغة. من المفترض أن تدخلنا نحن أهل هذا الزمان الحديث في حرج بالرغم من التقدم المزعوم الذي خَرج لنا المئات بل الألاف من الاختصاصين. الحاصلين على عدد مقدر من الألقاب الكبيرة في تخصصات متعددة. في مجالات التخطيط العمراني والحضري والعمارة وما بينهما من تخصصات مثل التصميم الحضري والبستنة بكافة مستوياتها. إلا أنه من المؤسف أن المحصلة النهائية غير مقنعة. أرى أن أصبع الاتهام يشير بوضوح لتيار الحداثة الذي تأسس في العالم الغربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. ثم تمدد بعد ذلك في كل الاتجاهات من العالم. من أكبر أخطاءه عدائه السافر للتراث الكلاسيكي أو القديم. بالرغم من أن بعضاً من حكمائه حاول لاحقاً مغازلته بشتى الطرق.
تزدحم شاشات قنواتنا التلفزيونية وصفحات الصحف بلقطات ومناظر لروائع عمارة عصورنا الضاربة في القدم. التي تتنافس فيها عدة مواقع، بعضها مطرز بالأهرامات وأخريات تحتلها وتميزها المعابد. بعضها الأخر بالغ التفرد إذ تساهم الطبيعة في تعزيز وتأطير مواقعها وهي واحدة من الحالات التي سأركز عليها هنا. ساهمت ظاهرة محدودة الأثر في تسليط بعض الضوء على تلك الثروات التراثية بالرغم من أن ذلك لم يكن هو مقصدها الأساسي. إذ تم استخدامها هنا كإطار عام وخلفية. تظهر فيها على استحياء في سياق مواد قوامها أهازيج غنائية لأعمال مكررة. جاءت مساهمتها هنا أشبه بدور ما يعرف بالممثلين (الكومبارس) في الأعمال السينمائية. الذين يظهرون في الخلفية بدون أن يساهموا باي دور مؤثر أو ينبسوا ببنت شفه. اعتاد بعض المجودون ممن أعدوا تلك الأهازيج الاستثمار في الطاقات التعبيرية الكامنة في تلك الصروح التاريخية. بدون أي إشارة لقيمتها التخطيطية والمعمارية. عدا ذلك لا نجد في برامج القنوات الفضائية إلا مساهمات نادرة في هذا الشأن. تتاح فيها فرص محدودة لاختصاصيين قل إن يغوصوا في أبعاد المعاني العميقة المستبطنة والأبعاد الرمزية. عدا ذلك تظل تلك الأعمال الغنائية المعززة بلقطات أثارنا العظيمة تتكرر على مدار الساعة في كل القنوات بشكل يومي. التي تستثمر في تكرار بثها باعتبارها مادة مجانية. في ظاهرة تدل على تقصيرنا في إنتاج أعمال وثائقية جادة تعكس قيمة تلك الأعمال التراثية المعمارية فائقة القيمة.
هذا هو إلى حد بعيد ما جنيناه ونجنيه من تلك الثروات التراثية. بالرغم مما تختزنه من عبر وحكم ودروس بالغة القيمة. يتقزم أمامها ما يقدمه مخططونا ومعماريونا ممن تشبعوا بروح الحداثة التي أورثت عمارتنا الخواء. من المفترض أن يجعلهم هذا التراث الرائع المحتشد بالقيم والدروس يراجعوا مواقفهم ويستشعروا عظم المسئولية الملقاة على عواتقهم. أقدم هذه المقالة وأكرسها كمحاولة متواضعة لتجاوز هذه الحالة والموقف السلبي تجاه تراثنا الخالد. أقدمها هذه المرة باستعراض حالة محتشدة بالكثير من الدروس عالية القيمة والمعاني السامية. نستعرض فيها بعضاً من جوانب موقع جبل البركل العبادي. الذي كان واحداً من أهم مراكز مملكة نبتة العبادية الاحتفالية. أهمية هذه المملكة أنها شكلت مع مملكتي كرمة ومروي مجمل حضارة كوش التي تعتبر أقدم حضارة في تاريخ البشرية.
هناك عدد من الدروس عظيمة القيمة التي يمكن ويجب أن نتعلمها من هذه الحالة بالغة الأهمية. تتعلق بإنجازات هؤلاء القوم الرفيعة من خلال حكامهم ومعمارييهم في تلك العصور الضاربة في القدم. التي جرت أحداثها قبل بضع ألاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح في تلك المنطقة من شمال بلادنا على ضفاف النهر العظيم. في زمان لم يكن الإنسان قد ابتدع نظم تعليم العمارة وتخطيط المدن بنهجها الحديث التي نجدها الأن. التي كثرت وتفرعت وتناسلت تخصصاتها فخرجت لنا المئات في كافة المجالات المعنية بهذا الشأن. بدون ما مردود مقنع يخاطب الجوانب الروحية والدينية والإنسانية السامية. بتركيز على النفعية منها المعنية بشكل أساسي بالأمور الدنيوية والمتطلبات ذات الطبيعة البيولوجية. كنتيجة طبيعية للفكر العلماني الذي تأسس عليه نهج الحداثة في التخطيط والعمارة. في سياق أخر مختلف تماماً تقدم لنا هذه الحالة اهم الدروس والعبر. لعل من أهمها والتي سأركز عليها هنا هي حساسيتهم العالية في التعامل مع كافة جوانب وخصائص الموقع بكافة مستوياته. مع اهتمام خاص جداً بمكوناته الطبيعية. مما يدعو للاحترام هنا أن هذه الحساسية كانت مؤسسة وتحركها دوافع دينية وروحية عميقة. لا بد لنا في البدء من إلقاء الضوء على خلفية هذه الحالة التاريخية بكل مكوناتها وأبعادها.
الحالة التي نحن بصدد دراستها والتمعن في كامل جوانبها هي موقع مجمع جبل البركل الاحتفالي العبادي. الذي اختاره في البدء الفرعون المصري رمسيس خلال فترة تسيدهم على ذلك الجزء من أرض النوبة زمانئذ. الواضح إن عدة مزايا هي التي تم على أساسها اختيار في ذلك السهل المنبسط. في منطقة ليست ببعيدة عن موقع مدينتي كريمة ونوري الحاليتين. ارض مسطحة يحفها النهر من أكثر من جانب في لحظة انحناءة نادرة. القرب النسبي من النهر كان من العوامل المؤثرة لاختيار الموقع لأكبر معابدهم في ذلك الزمان. ثمة أسباب أخرى كانت أكثر إقناعاً. كم جاء في الأثر، كان حجم وشكل الجبل الأشم بكل تفاصيله واحدة هو واحد من أهمها. الجبل في حد ذاته لم يكن بالغ الارتفاع الذي يبلغ مائة متر. خصائص وسمات أخرى مهمة هي التي رشحته بقوة. من أهما جزء صغير بارز ناهض على جانبه يحاكى شكل راس ثعبان الكوبرا. الذي كان من أهم رموز ملوك وفراعنة ذلك الزمان. خاصية أخرى كانت واحدة من العوامل المرجحة. إذ كان جزءً كبيراً من قمته مسطحاً لكأنه ميدان فسيح وهي ميزة بالغة الأهمية. إذ يتيح للمتطلع منه إطلالة بانوراميه مدهشة للسهل المنبسط حوله وانحناءة النهر المحفوف بأشجار النخيل من على البعد. هذه المزايا مجتمعة هي التي رشحت الموقع ليكون أكبر مركز عبادي احتفالي خلال فترة مملكة نبتة وما قبلها.
تلك السمات والمواصفات على كافة المستويات منحت الموقع قيمة إضافية. يبدو أنها دعت الفرعون المصري الأكبر رمسيس وهؤلاء القوم زمانئذ لكي يؤمنوا بأن الجبل الرابض هناك هو مكمن آمون كبير آلهتهم. لهذا السبب اكتسب قدسية عالية لدرجة أنه لم يكن مسموح باستخدام حجارته لأي أغراض. مما دفعهم لجلبها من أماكن أخرى لتشييد المباني. لهذا السبب شيد الفرعون الأكبر رمسيس للآلة أمون أكبر معبد في المنطقة. الذي يتمدد من حافة الجبل الجاثي تحت أقدامه لمسافة طويلة متوجهاً صوب النهر المحفوف بأشجار النخيل المرفرفة. سنستعرض تصميم المعبد وكافة مكوناته لاحقاً. أهمية معبد آمون العالية نابعة من ارتباطه بطقوس معينة بالغة الأهمية. فمعابد آمون بشكل عام في ذلك الزمان ارتبطت بعملية تنصيب الفرعون الجديد التي تمر بعدة طقوس تقليدية. تبدأ بزيارة كل معابد آمون المنتشرة في أرجاء المملكة لتلقى التبريكات من الكهنة. تختتم بزيارة المعبد الأكبر الرابض تحت أقدام جبل البركل حيث يتم بعدها اعتماده ملكاً وفرعوناً. في احتفال مهيب تحتشد به الساحات في ذلك الموقع الذي يزين أفقه ويسده جبل البركل المهيمن على المكان. اللوحات التخيلية لهذا المشهد بينت قيمته (الدراماتيكية) العالية جداً التي يؤجج أوارها منظر الجبل الأشم الذي يرسم خلفية مكملة لهذا المشهد المؤثر. لهذا الأسباب يجب الإشارة لهذا المكان والساحة بأنها كانت أهم موقع عبادي احتفالي في كافة أنحاء مملكة نبتة.
الأهمية العالية لمعبد آمون الرابض تحت أعتاب جبل البركل جعلته يمثل أروع الأمثلة لذلك النوع من معابد الحضارات القديمة. إذ تفوق على أغلبها بميزات غير مسبوقة. جعلته الأميز على الإطلاق خلال فترة عصور مصر الفرعونية وممالك حضارة كوش. أعود مرة أخرى هنا لمعابد تلك الحضارات القديمة التي افتتنت بها أيما افتنان باعتبارها تمثل أعظم نماذج التعبير المعماري. تغزلت فيها كثيراً ودبجت فيها المقالات العديدة التي حرصت على نشرها عبر صفحتي في الفيسبوك وموقعي الإلكتروني. من أهمها مقالة مطولة تحدثت فيه بإسهاب نُشرت في أحد صحفنا قبل بضع عقود من الزمان عنونتها (معابد الحضارات القديمة). اختيار موقع تلك المعابد كان يخضع لعدة اعتبارات من أهمها علاقته بالنهر. يجب ألا يكون بعيداً عنه ولا قريب جداً. لان المسافة بينها تحتلها مكونات خارجية بالغة الأهمية. ذات دلالات عميقة مؤثرة تستهدف تهيئة المتعبدين المقبلين على المعبد. قرب المعبد للنهر نفسه له مبرر أخر مهم للغاية مرتبط بمراسيم طقوسية مهمة. إذ أن الوصول إليه يكون بالضرورة في شكل احتفالي مميز بمراكب الشمس بديعة التصميم. التي تحمل زمرة المتعبدين إلى موقع قرب معبد الوادي الكائن عند ضفة النهر. مبتدئين معاً هناك أول مشاعر وطقوس رحلة التعبد المرتجاة بشوق ولهفة.
يعتبر موقع معبد آمون الرابض تحت أعتاب جبل البركل أكثر من مثالي. إذ خصته الطبيعة بميزات نادرة إذا قارناه بكل مواقع المعابد الشبيه خلال فترة مصر الفرعونية وممالك حضارة كوش. فهو مثلاً يحتشد بمكونات طبيعية متناقضة ومتضادة في نوعيتها. معروف ضمناً التأثير (الدراماتيكي) لثنايات مثل الليل والنهار والعتمة الدامسة والضوء المبهر إلى أخر القائمة. من أبرز ثنايات الموقع ذلك السهل المنبسط على مدى البصر والجبل الشامخ الذي يتصدره. من أهمها وأبلغها تأثيراً أن الموقع يقع ومُحتوى بين قوسين من أهم معلمين طبيعيين. ذلك النهر الخالد الذي يغير مساره هنا لكأنه ينحني احتراماً عند وصوله لهذا الموقع عالي القدسية. من جانب أخر ذلك الجبل الأشم الذي يسد الأفق بكل دلالاته الظاهرة والرمزية المخفية. منها ما هو مرتبط باعتقادهم الراسخ بأنه مكمن إلههم الأكبر آمون. مساهمة النهر في هذه العملية عالية الرمزية أضفت أبعادها مهمة. إذ كانت مياهه النهر المنسابة بسلاسة تحمل مواكب الحجيج في مراكب الشمس رائعة التصميم. تنقلهم إلى ضفة النهر في أجواء مترعة بالطقوسية ليبدوا معاً رحلة تعبد طويلة متعددة المراحل.
تركيبة المعبد بكامل مكوناته وتفاصيله هي خير نموذج لمعابد تلك الحضارات النيلية القديمة. التي تتكون في أبلغ حالاتها من عدد من المكونات الخارجية والداخلية. هناك وصف مسهب لكل تلك المكونات في بعض مقالاتي التي نشرتها من قبل. الخارجية منها تبدأ بمعبد الوادي الذي يقود إلى ممر طويل مفتوح محفوف بتماثيل حيوانات جاثيات متقابلة. في نهايته وقرب مبنى المعبد يشخص عادة زوج مسلات شبيه بالأعمدة. منها يتجه المتعبد نحو مبنى المعبد التي يتصدره مبنى البوابة الضخم المترامي الأطراف الذي يكاد يسد الأفق. يتوسطه مدخل الصغير نسبياً محاط بتمثالين في غاية الضخامة. توجهان وتقودان المتعبد إلى رحاب مكونات المعبد الداخلية متنقلا من مكون إلى الذي يليه. بداءً بفناء الأعمدة ومنه إلى تلك الصالة المحتشدة بأعمدة عملاقة. ثم إلى قدس الأقداس الذي ينقله في نهاية المطاف إلى حجرة ممعنة في الصغر هي المزار. لا يمكن باي حال من الأحوال اختصار حالة تلك المعابد وتلخيصها في بضع فقرات. أننى وطوال فترة ارتباطي بالعمارة منذ مرحل دراستي لها كنت في حالة افتتان متعاظم بهذه الحالة. زادتها وأججتها مرحلة عملي في دراسة الدكتوراه. أزكى أوارها لاحقاً باستمرار طوال الأعوام الماضيات انخراطي في تدريس هذه المواضيع كجزء من مقررات تاريخ العمارة.
أعانتني في هذا المسعى دراستي وتعمقي في فلسفة الفيلسوف المعاصر الألماني مارتن هايدغر. مجمل أفكارها العامة وتفاصيلها هيأت لي الفرصة لتأمل حالة تلك المعابد بعمق مؤثر. أحسب أنها مكنتني إلى حد بعيد أن أراها ككتاب مفتوح ناصع المعاني عميق المضامين. هيأت لي أن استوعب الحكمة البالغة من مصفوفة مكوناتها الخارجية والداخلية. لخصتها لي بشكل أرجو ألا يكون خصماً على حساب معانيها العميقة. أمل أن يكون كلامي ولغتي هنا مفهومة إلى حد ما لشرائح كبيرة من القراء خاصة معشر المعمارين. اجتهدت في أن يكون نهجي في غاية البساطة بدون أن يخصم ذلك من قيمتها الرمزية الرفيعة. عبقرية الحلول المعمارية في هذا المجمع العبادي وهدفها الأساسي هو رفع الإحساس الروحي إلى أعلى درجاته. الذي تم تحقيقه بشكل تصاعدي سلس. موظفاً لهذا الهدف النبيل بضع استراتيجيات. جوهرها تلخص في الاستثمار بشكل أساسي في المعالجات الفضائية بمعناها المرن العميق وعلى كافة مستوياتها. تمت هذا العملية بشكل غير مسبوق في تلك الأزمنة الضاربة في القدم وما تلاها بعد ذلك من دهور حتى زماننا هذا.
الواضح أن هدف مصمم تلك المعابد الأساسي والرئيسي كما ذكرنا من قبل هو رفع الإحساس الديني والروحي لأعلى درجاته. حققه من خلال عمليات (اللملمة) بمعناها العام المتعارف عندنا بكافة معانيها وأبعادها. في المبتدأ كانت لملمة أطراف أطواف الحجيج والمتعبدين الوافدين بلهفة إلى المعبد. لا يمكن استيعاب أبعاد هذا المشهد عند حافة الصحراء بدون التوقف عند كافة تفاصيله. نحتاج في هذه الحالة للعودة بخيالنا بضع ألاف سنة فيما يشبه ما يشار إليه في العروض السينمائية باللغة الإنجليزية بال flash back. نحتاج لتأمل حالة ذلك الحشد بعد وصولهم للموقع بمراكب الشمس ومغادرتهم لمعبد الوادي عند حافة النهر. مبعثرين في فضاء مترامي الأطراف. رمال ممتدة لا يكاد يُرى لها لا نهاية وأفق خالي من المعالم وسماء في ذلك المناخ الصحراوئى بلا تفاصيل. إطار طبيعي كان بلا شك يشعر ذلك الحشد من المقبلين على المعبد بالتشتت وأفراده بالضياع. تعامل معه ومعهم مصمم المعبد عبر عدة مكونات ومراحل بحنكة بالغة. لملم أطرافهم وإحساسهم برفق وحنو مرهف في نسق تصاعدي سلس.
كان المعبد عادة يتكون من عدة مكونات خارجية وداخلية. أول الخارجية منها بعد معبد الوادي طريق طويل شبه مفتوح محفوف بأجواز تماثيل جاثيات متقابلة. لكباش أو أسود برؤوس إنسان والمفاضلة بينها تحكمها نوعية المعبد. يلملم ذلك الطريق رهط الحجيج والمتعبدين بحنو بالغ بدون أن يحرمهم من رؤية منظر واجهة المعبد المهيب في الأفق. لكأني بأزواج التماثيل الجاثيات هنا معدة لتُربت عليهم برفق وهي تقودهم في ذلك الطريق. يكاد جمعهم أن يتبعثر مرة أخرى عند نهايته فيلملم شملهم زوج مسلات شبيه بأعمدة نحيفة رشيقة شاهقة. تأخذهم بلطف لتقودهم لمبنى البوابة الضخم المتمدد بسخاء عبر الأفق. على جانبي مدخله الصغير نسبياً زوج تماثيل ضخمة لأحد الفراعنة. لكان القصد منهما لملمة شمل الرهط وتهيئتهم استعداداً لدخول أول مكونات المعبد الداخلية. عملية أشبه بما نسميه بالدارجة (لضم) أو نظم سم الخياط أو إدخال الخيط في طرف الإبرة. لملمة أطراف المتعبدين متزامنة معها عملية تهدف لشحذ وإزكاء الإحساس الديني والروحي عبر مؤثرين مهمين. سلاحهما الأعمال النحتية والرسومات التي تتم بخدش الأسطح الحجرية. الأعمال النحتية تتجسد في أزواج التماثيل الجاثيات على ذلك الطريق الطويل وتلك العملاقة الناهضة على جانبي مدخل مبنى البوابة. تبدأ منظومة النقوش على سطح المسلات وترتفع وتيرتها باحتشاد كبير زاخر بالألوان ومؤثر على سطح مبنى البوابة الذي يكاد يسد الأفق. الرسومات هنا كانت هي مفردات وكلمات لغتهم الهيروغليفية.
بعبور المتعبدين لمدخل مبنى البوابة الصغير يدلفوا لأول مكون داخلي وهو ساحة مفتوحة تتناثر فيها محاريب للتعبد. محاطة برواقات أو برندات غير عميقة عرشها محمول على أعمدة بالغة الضخامة. اسطحها واسطح الحائط الخلفي للرواقات وعرشها محتشد بشكل كثيف بالرسومات. تأخذ عملية توظيف المعالجات الفضائية هنا منعطفاً وبعداً جديداً. ناتج عن إحاطة الساحة بتلك الرواقات التي تساهم بشكل مقدر في لملمة إحساس المتعبد. بالرغم انفتاحه للسماء يجد نفسه هنا لأول مرة محاطاً بجدران عوضاً عن تلك الصحراء معدومة الحدود. تستمر هذه العملية بنسق تصاعدي عند انتقاله للمكون الداخلي الثاني بصعوده لبضع درجات ودلوفه لصالة أو بهو الأعمدة. يتم هنا أيضاَ الاستثمار في المعالجات الفضائية بشكل مؤثر. فلأول مرة يمر المتعبد بمكان معروش إلا من فتحات محدودة في العرش بعد أن كان يلتحف السماء. يضيق المكان ويفاقم من ضيق مساحته احتشاده بعدد كبير من أعمدة بالغة الضخامة تكاد تعتصر من بداخل الصالة. فلنقل إنها تحتضنه بحميمية بالغة. يلعب المصمم هنا على وتر أخر حساس بالإضافة لتحجيم المكان وهو توظيف عنصر الإضاءة. فالمكان معتم للغاية لا يصله إلا بصيص ضوء من العرش مضمخ بفيض من الرمزية. يضاف لتلك المؤثرات الاستعانة بسلاح الأعمال الفنية. فالحوائط المحيطة بالصالة وسقفها وأسطح الأعمدة بالغة الضخامة تضج بزخم مصطخب من اللوحات مترفة الألوان. ترفع معها بالإضافة لضيق المكان وعتمته الإحساس الديني والروحي لدرجات عالية للغاية.
مع تقدم المتعبد في رحلته التعبدية في أعماق المعبد تتصاعد وتيرة المعالجات التي تهدف إلى تصعيد درجات الأحاسيس الروحانية. موظفة نفس تلك الحيل التصميمية التي تصل هنا إلى أقصى غاياتها. يبرح المتعبد صالة الأعمدة صاعداً بضع درجات ليحط رحله بالمكون قبل النهائي يعرف باسم قدس الأقداس. قد أهله تصميمه بحق لحمل هذا الاسم النبيل. تتوسطه صالة بها طاوله لذبح القرابين تناثر حولها غرف صغيرة لتماثيل الآلهة وللكهنة. المعالجة الفضائية والتزينية هنا على قدر التحدي والاسم. حُجم المكان لأعلى درجة إذ رفعت أرضيته وخفض ارتفاع عرشه وضاقت مساحته. زاد على ذلك حرمانه تماماً من الإضاءة الطبيعية التي كان يستعاض عنها بالمشاعل الموزعة في أرجاء المكان. لكم أن تتصوروا معي في هذه الحالة التأثير (الدراماتيكي) العالي الناتج عن تراقص فيض ضوئها على اللوحات الجدارية محتشدة الألوان. تمت الاستعانة هنا بالإضاءة الاصطناعية بمقاييس ذلك الزمان فقامت بمهامها على أحسن ما يكون. ساهمت مع باقي المعالجات الأخرى فرفعت درجات الإحساس الديني والروحي لأعلى درجاته. كان تصميم ومعالجات قدس الأقداس خير تمهيد لأخر المكونات الداخلية أو سدرة المنتهى المزار. حجرة صغير للغاية طولاً في عرضاً في ارتفاعاً. كان الدخول إليه يختصر فقط على الملك وكبير الكهنة في مناسبات محددة. لكن بالرغم من ذلك كان له مكانة رمزية عالية جداً في نفوس جموع الحجيج والزوار من المتعبدين.
ما كنت انوى تناول حالة معبد آمون بدرجة معقولة من التفصيل لأنني استعرضتها بإسهاب في مقالات أخرى. لكن كان لا بد من الإشارة هنا بالتحديد لجوانب معينة. من أهمها الحنكة في استثمار حلول التخطيط والعمارة والفضاء الخارجي والداخلي للتعامل مع الاستحقاقات الروحية بشكل متفرد. تركيزي عليها نابع من إحساسي بتلاشي الاهتمام بمثل هذه الأبعاد التي تشكل جوهر العمارة. أو بالأحرى فلنقل إن التعامل معها لم يعد بالعمق المطلوب في العهود الحديثة. بعضهم يرد ذلك لانتشار فكر الحداثة وقد يكون مصيب فيما ذهب إليه. فعلى سبيل المثال الواضح أن هناك ثمة قصور بائن في الإدراك والفهم العميق لمفهوم الفضاء الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بال space. صار التعامل معه سطحياً بتركيز على مردوده المادي والنفعي وانعكاساته الحسية و(البيولوجية) الطابع. توجهات يردها بعضهم لارتكاز عمارة الحداثة على مفاهيم الفلسفة العلمانية التي يشار إليها باللغة الإنجليزية بال positivism. مثل ذلك التوجه قلص وهمش مفهوم الفضاء المعماري. فأفرغ العمارة من أبعادها الروحية والرمزية التي ترتقي بها لمقامات سامية. باستعراضي لحالة مجمع جبل البركل قصدت أن أنبه لجوانب محددة. من أهمها التعامل بحساسية فائقة مع المحيط الجغرافي والعناصر الطبيعية المحيطة بالموقع. ركزت تحديداً على ظاهرة توظيف المعالجات التخطيطية والمعمارية للملمة شمل الحجيج وتكثيف إحساسهم الروحي والارتقاء به لأعلى درجاته.
واقع الحال أن معبد آمون لم يستفرد لوحده بتلك الساحة والفضاء المفتوح المتمدد تحت أعتاب جبل البركل. إذ تداعت بعد ذلك بمرور الزمن ونهضت عدة معابد أصغر منه هناك. في تشكيل بديع إذ تبدو لكأنها تشع منه في إشارة رمزية لعلاقتهم به باعتباره مكمن كبير ألهتهم آمون. سأركز لعدة اعتبارات مقنعة هنا على واحد بعينه لأنه حسب علمي أخر واحد شيد في ذلك الموقع. هو أيضاً من أهمها لأن من قام بتصميمه وأشرف على تشييده واحد من أعظم وأهم ملوك أو فراعنة مملكة نبتة تهارقا. زاد عن ذلك من قبل ومن بعد ما صاغه من كلمات مذهلة كانت هي مدخله لعملية التصميم. كلمات تتضاءل أمام حضرتها قامات معماريين هذا الزمان الذين يتحصنون بأعلى الشهادات. فالمبنى رغم صغر حجمه بالمقارنة مع المعابد الأخرى يضج بالأفكار الجديدة. التي هي بلا أدنى شك ترتفع بمقام ذلك الفرعون وتقدمه كحالة استثنائية تتسامى به على كافة الحكام في كل العصور.
المبنى المشار إليه هنا هو معبد موت باللغة الإنجليزية Mutt. يعتبر الأصغر في منظومة المعابد الجاثية عند أعتاب الجبل. لكنني أعتبره لعدة اعتبارات من أعلاهم شأناً. نال علو كعبه عبر عدة خطوات ارتقت به لهذا المقام من أهمها اختيار الموقع الذي تم بحساسية فائقة. فهو يربض عند أعتاب مكان يعتبر من أقدسها في هذا الفضاء الرحيب حول الجبل. إذ يستظل بجزء بارز بخاصرته شبيه برأس حية (الكوبرا) التي تعتبر حامية الملوك. مشى تهارقا خطوات موفقة في هذا الاتجاه تقرباً أكثر للجبل وتمسحاً ببركاته. فجعل الجزء الداخلي والأخير من المعبد محشور داخله لكأنه يرضع من ثديه. لم يكتفى بتلك الخطوات المذهلة إذ فعل العجب بين مدخل المعبد وعمقه في نهاية رحلة التعبد القاصدة. إذ جعل عرش الصالة المتمدد بين تلك البداية والنهاية مكشوف. فحقق تواصل بصري مدهش مع شكل راس الحية المشرئب للسماء من خصر الجبل. في كتاباته المؤرخة ذات الصلة بتصميم المبنى قدم شروحات وأطروحات لامست هذه الجوانب خطها بأسلوب شاعري فلسفي عال. أشار في جانب منها لثنائيات مدهشة مثل السماء والأرض والسهل والجبل والذكر والأنثى. التي هي في واقع الحال ترسم أوتار عالمنا وتشكل عناصر ملامح وجودنا.
قد يستغرب بعضكم لعظيم اهتمامي بالتأثير النفسي والروحي لعناصر الطبيعة كبيرها وصغيرها. التي أمنت في أكثر من مرة على ضرورة استيعابها في مراحل التخطيط والتصميم المعماري. يستغربون لأنهم يعتبرون هذه المسائل قد عفي عليها الزمن. إذ صارت ونحن نعيش في عصر العولمة ضرباً من ضروب الأوهام والخرافات. إن وجدت حسب رأيهم فمكانها في الأرياف والبوادي بعيداً عن الحواضر مركز اهتمام المعماريين. أرد عليهم بظاهرة منتشرة في نفس تلك النواحي في عاصمتنا. نجد أطياف من كافة قطاعات المجتمع، الفقراء والأغنياء، المتعلمين والأميين، يهرعون مساءً ويتوافدون على شارع النيل. يتحلقون حول (ستات الشاي) جلوساً على (بنابر) غير مريحة. بعضهم من أثرياء المدينة الذين تركوا حدائق فيلاتهم الغناء. التي تتوزع فيها كراسي الجنينة المريحة وتكتمل جلستها بالمراجيح الزاهية من حولها. إذا كان هذا هو حال أهل العاصمة فما بالك بمن يعيشون في البوادي وأصقاع السودان النائية الموزعة في أرجاء البلاد. هناك شواهد عديدة تدل على ارتباط العديد منهم بشكل تاريخي وعضوي وحميم ببعض المكونات الطبيعة من حولهم. الساحل والصحراء والغابة والنهر والبحيرة والجبل والوادي. قد ينبري لي بعضكم فيرد على بأن مثل هذه الشرائح هي أساساً بطبيعة وضعها خارج اهتمام المعماريين.
ردى المفحم عليهم ضمنته في ورقة علمية ضافية مكتملة الأركان بذلت فيها جهداً جهيداً وعززتها الصور والرسومات والخرائط. بدليل أنها نشرت في دورية صدرت من معهد مهم من معاهد جامعة الخرطوم. أجازتها للنشر لجنة استشارية عالية المقام العلمي ونالت قدراً من التقريظ لاحقاً. نشرت في العدد المزدوج من دورية (خطاب) الفصلية التي صدرت من معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم في يناير 1913. الذي كُرس لمناقشة مشكلة دارفور العصية. العدد متوفر بعدد من المكتبات منها مكتبة دار جامعة الخرطوم للنشر في شارع الجمهورية. من أهم ما ورد في تلك الورقة العلمية لفت النظر لضرورة الالتفات والاهتمام بإسكان الشرائح الريفية المنتشرة في أرجاء البلاد بالذات الطرفية منها. بررت هذا الأمر بالأعداد المهولة من النازحين الذين يحتاجون لهذه الخدمة عندما يستتب السلام في ربوع بلادنا. الذي صار أكثر إلحاحاً مع أجواء الأخبار السارة باختراقات مهمة في مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة التي تبشر بسلام شامل. بذلك أصبحت إعادة إسكان تلك المجموعات التقليدية أمراً عاجلاً. استرسلت في مقترحي فنبهت لضرورة التعامل معهم بطريقة خاصة وحساسة بالذات عند اختيار أماكن مستوطناتهم. فنبهت لارتباط هذا الجانب ذو الأبعاد النفسية والوجدانية ببعض المكونات الطبيعية متعددة الأنواع. في هذا السياق أشرت لتلك المأساة التي نتجت عن بناء مصر للسد العالي في منطقة أسوان بجنوب بلادهم في منتصف الستينات. الذي أدى لإغراق موطن النوبيين السودانيين في أقصى شمال السودان. مما تسبب في تهجيرهم من موطنهم التاريخي هناك لمنطقة بشرق البلاد. في توضيحات مهمة أشرت لأنهم بذلك حُرموا من أهم عناصر آمنهم النفسي النيل والنخيل.
استعراض حالة موقع جبل البركل العبادي الاحتفالي بكافة بتفاصيلها يقدم دروس بليغة متعددة. قصدت هنا أن ألفت النظر إلى جوانب بعينها لعل من أهمها الاهتمام الفائق بالأبعاد الرمزية والروحية. التي اعتاد المعماريون في زمان الحداثة الغارق في الماديات ألا يولونها كثير اهتمام إن لم نقل يسفهونها. مع أنهم لو قرأوا تراث عمارة الحداثة الغربية بجدية وتوقفوا عند أفكار ومفاهيم بعض رموزها لتراجعوا عن مواقفهم. على وجه الخصوص مساهمات أحد أهم مؤسسيها وهو السويسري لى كوربوزييه. تحديداً تلك الخواطر والأفكار التي أنتجت واحد من اهم أعماله المعمارية. الإشارة هنا لتلك الكنيسة الصغيرة المحجة في ضاحية رونشامب في فرنسا. لو انهم تمعنوا فيها باعتبارها هي التي قادت مخيلته لتصميم هذا العمل الرائع لأدركوا ما أعنيه هنا. المدهش أن لى كوربوزييه وهو من ركائز حركة الحداثة الغربية أسس أفكاره المعمارية على فلسفة حضارات غربية ضاربة في القدم. ما أشير إليه هنا يعود بنا لافتتاحية هذه المقالة. فأرجو العودة لها مرة أخرى وإعادة قرأتها على خلفية ما خطه يراعى هنا.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- فبراير 2020
الاخ بروفيسر هاشم تحيه طيبه
موضوع غاية في الاهميه واتمني ان يلقى اهتمام عملى من المسئولين والمختصين يترتب عليه السعي الجاد لكشف هذه المواقع وما تحتها من اثار معابد ومنحوتات…وابرازها بمستوى ماتحمله من معلومات علميه وتاربخيه كبيرة
هنالك مساع من ابناء المنطقه لدفع الجهات المختصة والمنظمات الدوليه لتمويل كشفها واحياءها…اتمنى ان تكون موفقه
كما اتمنى ان يكون ما اوردته من معلومات جزء اساسي من دراسة طلاب التخطيط والاثار للمعرفة والتحفيز للمزيد من الدراسات والبحث العلمي
لك التحيه دوما واطبب الامنيات
م محمد عثمان