مراكز العاصمة الصوفية: مجمع ضريح الشيخ حمد النيل في أمدرمان حالة استثنائية
لدي اهتمام منذ فترة طويلة بالطرق الصوفية بالرغم من عدم انتمائي لأي واحد منها من أهم أسبابه بعدها الروحي. ضاعف من هذا الأمر ظاهرة تنوعها عندنا في السودان وهي جديرة بالانتباه والدراسة. تنامي هذا الاهتمام مع مرور الزمن الذي تركز على الموجودة الفاعلة في العاصمة لأسباب عملية منطقية. انطلاقاً من هذا الاهتمام بدأت أقراء الكثير عنها. متعمقاُ في أبعادها التاريخية وخلفيتها من هذا المنطلق متبحراً في أدوارها السياسية. ركزت أيضاً من واقع تخصصي على أبعادها الثقافية والمجتمعية بالضرورة الفلسفية. بانوراما تكشف عن تنوع مذهل بين أطياف قوس قزح الصوفي الأبعاد. انطلقت من هذه الخلفية المعمقة أدرس بعناية فائقة كافة سمات ملامح مراكزها في العاصمة. متوقفاً متأملاً في كافة تفاصيلها الموحية التي بهرتني بتنوعها المدهش. محاولاً بقدر الإمكان التعرف على العلاقة بينها وبين خلفيتها الفلسفية المعلنة والمستبطنة. مما دعاني لزبارة تلك المراكز مراراً وتكراراُ. عملية خرجت منها بنتائج مذهلة وثقتها في العديد من مقالاتي. ضمنتها في مدونتي في الفيس بوك وجد عدد منها طريقه بعد ذلك إلى منصة أل LinkedIn. تطورت علاقتي بها فوثقت لبعضها في أفلام عرضت في قناة النيل الأزق في رمضان عام 2014. كل هذه المقالات والأفلام مضمنة في مواد موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط- drhashimk.com.
في مجمل كتاباتي عن الطرق الصوفية في العاصمة ركزت على أربع منها لأسباب موضوعية. من أهمها أن محور اهتمامي الأساسي كان المراكز الخاصة بها. الذي قَدمت من خلاله تلك المجموعة المنتقاة في مواقعها في أرجاء العاصمة نماذج جديرة بالاهتمام والتوثيق. ركزت عليها لأن إمكانياتها المقدرة وشعبيتها الجارفة جعلت منها نماذج بالغة التميز. بذلت جهداً كبيراً في توثيقها تناولته على مستوي التخطيط العام ثم العمارة نزولاً لأهم وأدق تفاصيلها. فغطيت حالة الطريقة البرهانية بفيلم وثائقي عرض في قناة النيل الأزرق قبل بضع سنوات. أوفيت الثلاثة حالات الباقيات الخاصة بطائفة الأنصار وطريقتي الختمية والهندية حقهما عبر عدة مقالات مطولة. قَدمَتَ فيها كل واحدة منها نفسها في مركزها على أحسن ما يكون. من خلال اختيار الموقع وتخطيطه العام وعمارته بسماتها وتفاصيلها المتفردة. معبرة خير تعبير عن فكرها وفلسفتها وماضيها التليد مستثمرة في إمكانياتها المادية والبشرية المهولة. على غير العادة سأقدم هذه المرة حالة مغايرة تماماً لكنها تتوفر على جوانب جديرة بالاهتمام والتأمل. متواضعة جداً إذا قسناها بالمعايير المادية الدنيوية لكنها زاخرة باسمي المعاني للمتأمل فيها بعمق وروية. هي نفس الأسباب التي جعلتنني أفتتن بها. لأنها حركت في أشجان ولواعج فوق التصور كانت مختزنة في دواخلي. حملتني لملازات فلسفية ما كنت أحسب أنني سأعود إليها مجدداً فرأيت أن تشاركوني في التأمل فيها. سنأخذكم إلى الطرف الغربي من حي بانت الأمدرماني لمجمع ضريح الشيخ حمد النيل الصوفي. لنعيش معاً في أجواء عالم روحاني مدهش محتشد بالمفاجآت.
هناك روايات عديدة عن جوانب مهمة للغاية من حياة الشيخ زاخرة بالأحداث (الدراماتيكية). التي لم يضع لها مماته في أواخر القرن التاسعة عشر نهاية شأنه شأن الحالات العادية. إذ شكل قبره على ضفاف النهر بداية لدراما مطرزة بالتفاصيل عززت من حالته الأسطورية منحتها هالة روحانية متجددة. فجرتها عملية نبش قبره في محاولة لإنقاذ رفاته من خطر الفيضان. إذ أماطت بعض الروايات اللثام عن مظاهر معجزات صنعت جوانب أسطورته. تتابعت فصولها بنفس النهج الدراماتيكي لتنتهي بنقل رفاته الي موضعه الحالي. في منطقة طرفية من مدينة أمدرمان في سابق الزمان في الجانب الغربي حاليا من حي بانت. لتبدأ من هناك فصول دراما متجددة متعددة الجوانب والتفاصيل. جعلت جزوة ذكراه مشتعلة وقودها وجد صوفي زاخر متجدد. مسرحه ساحة مفتوحة للجميع بلا أسوار أو بوابات. شبيه بفلسفة ونهج شيوخهم الراسخ الذين كانوا ما زالوا منفتحون على الجميع بلا حواجز متحصنون بزهد متجذر أصيل. موقف يوثق لواحد من تجلياته مشهد دراماتيكي أسبوعي موقعه أمام مقام الشيخ. فريد تتصاعد وتيرته في يوم مشهود في الأسبوع تتابع أحداثه مرتبطة بحركة الشمس. منذ لحظة شروقها الباكر مروراً بحركة دورانها حتى لحظة مغيبها ما بعد ذلك. تتداعي تجلياته المبهرة عبر الزمان والمكان لتصنع دراماً روحانية صوفية لا نظير لها. بالرغم من مظاهر المشهد مفرطة البساطة التي لا توحي لمن لا يتعمق فيها عن معانيها المستبطنة السامية. فلنذهب معاً للتطواف فيها عبر بعديها المكاني والزماني لنستكشف خبايا وأسرار مشهد مترع بالدفق الصوفي الروحاني.
أخذت الأقدار في سالف الزمان رفات الشيخ من ضفة النهر الي مكان نائي بعيد خارج مدينة أمدرمان. منطقة مقفرة موحشة كان يهابها الناس كما كان يشير أسمها. كانت تسمي زمانئذٍ (الرجال بانت) إذ لم يكن يتجاسر بعبورها إلا الشجعان من الرجال. اسم حرف لاحقاً فأطلق على حي من أحياء المدينة أحتل نفس تلك المنطقة هو حي بانت. مما لا شك فيه أن موقع رفات الشيخ في ذلك الصقع النائي الموحش زاد من دراما أسطورته. جعل زيارة مرقدة ومقامه في بداية الأمر أشبه برحلة حج طويلة محفوفة بالصعاب. أجج منها لاحقاً عبر عقود من الزمان بعد أن تمددت فيها المدينة تزايد المقابر من حولها. بالإضافة لبعض أضرحة صغيرة تناثرت هنا وهناك تطرز الأفق. انتشرت القبور تبعثرت بشكل عشوائي بدون تحديد مسارات واضحة للمشاءة العابرين. مشهد دراماتيكي حضري خطير يقع في إطار ما يعرف في اللغة الإنجليزية بأل city scape. تأملته بعمق وروية فأوحي لي بالعديد من الخواطر جعلتني أتعامل معه بطريقة فلسفية. على نحو لا أظنه يدور بخلد العديد من مخططين هذا الزمان. لا من بعضهم الذي أضاف للقبه تخصص التصميم الحضري في أغلب الحالات بلا مبررات علمية مقنعة. فنحن هنا أمام مشهد حضري مهيب. تتناثر فيه المقابر بطريقة عشوائية تطرز أفقه أضرحة صغيرة متناثرة هنا وهناك. تطوق مقر مقام الشيخ من عدة جهات.
مشهد حضري مهيب يحيط بموقع مقام الشيخ حمد النيل. مترامي الأطراف في ذلك الجزء من مدينة أمدرمان العريقة. يضم مكونات أخري لا تقل أهمية عن مساحات المقابر المحيطة به والأضرحة المتناثرة حوله. هناك شارع ترابي يشق المنطقة يربط أحياء سكنية تقع شرقه بشارع رئيس يقع غربه شرق منطقة أم بدة السكنية. شارع زاخر بالحركة من كل الأنواع. أرتال من السيارات وعربات تجرها الدواب تتقاطع مع حركة دؤوبة للسابلة من كافة قطاعات المجتمع. تشق طريقها من تلك الأحياء السكنية إلى الشارع الرئيس غرب الموقع. مخترقة ساحة كبيرة مفتوحة تقع شرق مبني المقام أو الضريح البر غير عابئة بما يدور فيها وحولها. ستكون هذه الساحة محور حديثنا هنا عندما تصبح في عصر يوم الجمعة هي مركز وقلب المشهد النابض. بذلك تكتمل أركانه مع مبني الضريح والمقابر المحيطة به وذلك الشارع الذي لا تهدأ الحركة فيه طوال باقي أيام وأوقات الأسبوع. تستلم تلك الساحة المشهد تماماً منذ عصر ذلك اليوم حتى وقت مغيب الشمس وصلاة المغرب. لتتراجع بعض ذلك تنزوي تماماً مفسحة المجال للمركبات والسابلة من كل فج عميق. لوحة حضرية مدهشة ترسمها تلك المكونات الأربعة. لا نظير لها في مجمل (بانوراما) مراكز الطرق الصوفية في عاصمتنا المثلثة. مشهد متعدد الأركان مصطخب الحركة مترع بوجد الصوفي شعبي النزعة غارق في بحور الزهد جدير باهتمامكم. فلنطوف معاً عبر أماكنه الموزعة في أركانه المتعددة عبر مواقيت متفرقة تشهد نبضه خلال ساعات أيام الجمعة المباركة.
نظرة عن قرب وتامل في مكونات هذا المشهد الحضري متعدد الجوانب تكشف الكثير عن روعة مضامينه. حزام المقابر المبعثرة ومباني الأضرحة الصغير التي تكاد تطوق مبنى ضريح الشيخ لها دور مؤثر يفوت على فطنة الكثيرين منا. لا أحسب أن العديد ممن أضاف للقبه العلمي صفة مصمم حضري يدركونه. لا أظن أنه يحسون أن لها تأثير على المقبل نحو الضريح. أنها هي تطوقه تعمل كما أل (الفلتر). مصفاة تنقي الروح تبعدها من مشاغل الدنيا تهيئها لما هي مقبلة عليه. الدروب المعرجة التي تخترق القبور وسط طريق وعرة تزيد من فعالية هذه المصفاة. يعززها منظر مباني الأضرحة الصغيرة المنثورة في أفق المشهد. أنظر إليها هنا في إطار هذا الموقف المهيب كأنها مكونات تصميم حضري. قصد بها تعزيز المشاعر وتهيئة الشخص لما هو مقبل عليه. قادم من أجواء مدينة استولت على كافة مشاعره بمشاغلها الدنيوية المادية الضاغطة. إقباله غلي الضريح أو لزيارة قبر عزيز عليه هو حزين لفقده موقف يحتاج لتهيئة النفس بشكل معين. يحتاج لتناسى ما علق بها هي حالة يعبر عتها باللغة الإنجليزية بأل switch off. يحتاج لتجاهل مشاغل الدنيا توطئة للدخول إلى أفاق أعلي وأسمي. مشهد القبور المنثورة حوله وقباب الأضرحة الصغيرة التي تزين الأفق تعمل هنا بكفاءة عالية كمكونات تصميم حضري. بشكل أكثر فعالية من بعض نماذج غبية ينتجها الأدعياء في أنحاء مدننا. ممن أضافوا لأسمهم لقب مصمم حضري بلا مسوغات مقنعة.
عبور ذلك الحزام الواقي المكون من منطقة القبور والأضرحة الصغيرة المحيطة بمبني مقام الشيخ ينقلنا لقلب ذلك المشهد المهيب. منطقة يشكل فيها مكونان مهمان للغاية ثنائية مدهشة يتبادلان فيها الأدوار خلال أيام الأسبوع. قمة التنسيق بينهما تدور أحداثها في يوم الجمعة. ليصنعا معاً مواقف درامية تصعد بأجواء الساحة هناك إلي أعلي مراقيها الروحانية. مقدمة هذا المكان بالرغم من بساطة مظهره ألي درجة ينافس فيه أخريات مماثلة صرفت ملايين الجنيهات لتهيئتها وإعمارها. واحد من أقطاب هذه الثنائية ساحة مفتوحة بلا أسوار أو بوابات مرصوفة بالثري أو التراب العادي. يشاركها مكوناً معها ثناية مدهشة شارع طريق ترابي. تسلكه المركبات والدواب والسابلة من كافة أطياف المارة. يستضيفهم يحملهم من الأحياء المجاورة إلى شارع رئيسي يقع غرب منطقة الضريح والمقابر. يتنقلون فيه غير عابئين بما يدور حولهم من روعة المشهد المضمخ بالنفحات الروحانية. المركبات القديمة المتهالكة تقطر زيتاً راجعاً. تتجاوب معها الدواب العابرة تبعثر فضلاتها بأريحية بدون اعتبار لقدسية هذا المكان التي ستعلنها طقوس مهمة في عصر يوم الجمعة. تكتمل صورة أرضية الطريق الترابي المزرية. فيختلط الزيت الراجع وروث البهائم بمقذوف شفاه كانت مثقلة بنشوق الكيف-ا(لتمباك). أو شخص أخر لعبت بنت الحان برأسه اضطرب معها حال أمعائه هو قادم من زيارة ترفيهية في أطراف المدينة. فأفرغ ما في جوفه على قارع الطريق مضيفاً لأدران تبعثرت في مساره.
تبادل الأدوار يتم بسلاسة فائقة في ذلك المشهد الحضري المدهش في عصر يوم الجمعة. بين الشارع الترابي الرئيس الذي يشق الموقع والساحة مترامية الأطراف التي تتوسطه. التي كانت تفرد له ذراعيها في كرم حاتمي طوال أيام الأسبوع حتى صباح يوم الجمعة. إشارة معينة مرتبطة بقرب موعد صلاة العصر تمهد الطريق لمتغيرات جوهرية في ذلك المكان. يمهد لها موكب مهيب يشق طريقه بين المقابر متوجهاً نحو الساحة. على راسه بعض شيوخ الطريقة تتقدمهم جوقة قارعي الطبول. موكب تمهد لاستقباله والاستعداد لحدث مهم مجموعة نشطة في منطقة الساحة. مكلفة بتهيئة الساحة المفتوحة المخصصة لحلقة الذكر التي يسمونها الحضرة. اسم معبر فهي فعلا محضورة تشتاق لها النفوس تنتظرها في لهفة لأسبوع كامل. تنتشر في تلك الساحة مجموعة من الدراويش بجلابيهم الفضفاضة الخضراء يتحركون في كل الاتجاهات كما الفراشات. يعملون بهمة عالية ينظفون أرضها مما علق بها من أدران. يجوبون أطرافها بمباخرهم يعطرونها فيضفون أجواء روحانية تقليدية محببة. قبل ذلك يتأكدون من أن حزمة الساريات بأهلتها المبرقة وراياتها المرفرفة المغروسة في مركز الساحة منتصبة شامخة تشق عنان السماء. فموقعها هنا مهم مؤثر إذ أنها ستضبط حركة الذاكرين المنشدين الذين يدورون حولها وفق نظام صارم كأنهم موثقين منها. يبلغ الوجد أقصي الدرجات ببعضهم فيتقافذون في الهواء يطوحون بأجسادهم في كل الاتجاهات في حركات (هيستيرية). لكنهم في النهاية يعودون ألي نفس المسار كأنهم مربوطين بوثاق محكم بالمركز الذي تنتصب فيه ساريات الأهلة والرايات.
انطلاق مراسم الحضرة أو طقوس الذكر في الساحة بعد إعدادها على أحسن ما يكون وتتابع الأحداث فيها مشهد فوق التصور. ترتفع وتيرته مع مرور الوقت بعد صلاة العصر حتى موعد صلاة المغرب عندما تسقط الشمس تختفي في أفق المشهد الغربي. أحداث محتشدة بالدراما في مكان فسيح مفتوح تماماً بلا اسوار ولا بوابات وهي من أهم وأعظم ميزاته. التي تميزه عن المراكز الصوفية الكبيرة في العاصمة. تشعر فيها أنك في محفل لا تحتاج المشاركة بشكل فعال في أحداثه لهوية أو بطاقة عضوية من أي نوع. تمضي فيه الأحداث المحتشدة بالدراما الروحانية بسلاسة فائقة وتلقائية مدهشة. بشكل منتظم منظم بدون تدخل ظاهر يفسد أجواء تلقائيتها المحببة. يظهر هنا مرة أخري بشكل مختلف دور ثلة الدراويش المتسم بدرجة عالية من العفوية. بجلابيبهم الخضراء الفضفاضة التي تتزين أحيناً ب (إكسسوارات) مدهشة من أهمها مسابح (اللالوب) ألفية العدد. يتحلقون في أنحاء المشهد قلب الساحة كما العصافير المغردة. يتابعون الأحداث في لحظات سكونها يحركونها يأججون أوارها عند اللزوم. يقودون مجاميع الذاكرين المنتشين في قمة حالات الانجذاب الصوفي. يدورون بانفعال عالٍ حول ساريات المركز مبرقة الأهلة خفاقة الرايات. مهمة الدراويش هنا يمكن توصيفها بلغة خطط تكتيكات كرة القدم بأنها شبيه بدور صانع الألعاب.
مع تصاعد دراما المشهد تكتمل دائرة المشاهدين والرواد من حولهم. يأتون لمتابعة هذا المشهد الدرامي الاسبوعي من كل فج عميق. يتقدمهم أهل الطريقة وأحبابها بزيهم الأخضر المتميز. يتوافدون إليها في ذلك اليوم المشهود في شكل أسر بصحبة أطفالهم. بعد تلقوا جرعات مقوية صباحية مباركة. في إطار مشهد لن تصادفه كثيراُ في المراكز الصوفية المشابه في العاصمة. مسرحه مبني مجمع ضريح الشيخ الذي يشيرون إليه بالمقام. زرته قبل فترة طويلة كان بكافة مكوناته يتسم ببساطة محببة. تجعل من يزورونه من منسوبي الطريقة واحبابها وغيرهم يحسون بألفة شديدة كأنهم في بيوتهم. أجواء مترعة بالحميمية هذا هو كان سر اللعبة هنا الذي سأعود إليه مرة لأخري. أجواء تكملها طبيعة ما يحدث هنا في صباحات يوم الجمعة بكل تفاصيلها. قبل أن ندخل فيها نلقي الضوء على تفاصيل مبني المجمع كما رايته قبل فترة طويلة. كان من المفترض أن أطلعكم عليه من قبل. لكنني رأيت أن أؤجل ذلك حتى تتعرفوا على إطار المشهد الكبير المحيط به نسبة لإسقاطاته المؤثرة عليه.
واقع الحال أن مجمع الضريح ألي حد كبير مركز الإشعاع الذي يفيض بنوره على كافة أرجاء المنطقة. بشكل خاص ساحة الحضرة القريبة منه التي يغمرها بإشعاع روحاني في النصف الثاني من يوم الجمعة. مستمداً ذلك من مكوناته المتعددة على رأسها المقام مبني الضريح. الذي تأتيه الحشود والأفراد من شتي الأماكن يحدوها الأمل في نيل بركات الشيخ. التي يعيش الجميع في أجوائها في عصاري يوم الجمعة فتتوهج ساحة الحضرة لترتفع حالة الوجد الصوفي فتبلغ أقصي مداها. يتكون المجمع حسب معلوماتي عند زيارتي له قبل فترة طويلة من عدة مكونات. من أهمها بالطبع مبني الضريح نفسه بقبته الكبيرة الشامخة. التي طال مظهرها الخارجي تغيرات كثيرة لم تؤثر على بنيتها الأساسية وشكلها العام. هو امر يحتاج مني لوقفة تأمل متأنية أطرح من خلالها رؤيتي الخاصة. لأنه قد تكون له إسقاطات مؤثرة لا مجال لذكرها هنا إذ تحتاج لمقالة قائمة بذاتها. بجانب مبني الضريح مبني صغير إداري مخصص لشيوخ الطريقة. ليس بعيد منه مبني صغير للخدمات مطل على ساحة الأذكار الكبيرة الخارجية كان يفصل بينها حائط سور غير مرتفع. تلتف مكونات مجمع مبني الضريح حول ساحة داخلية متوسطة الحجم. تشكل هذه المكونات مجتمعة إطار ممتاز تتجلي قيمته بالتحديد تتألق في يوم الجمعة. تحديدا في الفترة الصباحية عندما تتوافد للمجمع منذ الصباح الباكر أطياف من المريدين والاحباب. مصطحبين معهم أفراد أسرهم في مشهد فريد يستدعي التوقف عنده.
طوفت بكم هنا في أرجاء ذلك الموقع مترامي الأطراف متوقفين معاً عند كل واحد من مكوناته المتعددة. متأملين في خصائصها المتميزة واسقاطاتها على ما يجاورها ومردودها على هذا الموقع المحتشد بالزخم الروحاني. كانت جولة مكانية تمهد هذه المرة لجولة مختلفة. زمانية الطابع نتأمل فيها هذه الأحداث الدرامية من خلال تتابع إيقاع الزمن. متخيرين بالتحديد أكثر أيام الأسبوع احتشاداً بهذا الزخم الروحاني هو يوم الجمعة. تمضي فيه أحداث هذه الدراما الروحانية بشكل تصاعدي لكأنها مرتبطة بقرص الشمس. الذي يغازل موقع الحدث من على البعد متحركاً من أفقه الشرقي ليأخذ دورته فوق سمائه فيسقط خلف أفقه الغربي. يصنع الأحداث المتلاحقة حلال دورته اليومية الراتبة. يدشنها يحركها مع ساعات الصباح الأولي الندية ملتحفا بنسائم الصباح المنعشة. مدشناً اولي فعاليات ذلك اليوم المبارك بأول فروض الصلاة. لتنشر بعد ذلك ضيائها برفق وحنو في الصباح الباكر فتغمر فناء مجمع الضريح. متهيئة الأجواء لدراما مجتمعية مضمخة بعبق روحاتي متدفق. تمتزج فيه العلاقات الأسرية مع الإرث الصوفي لتنسج إطار أنساني تكافلي فذ. تكلله قبة مبني الضريح الناهضة الشاهقة تنشر معها عاطر التبريكات. في مشهد مبهر تميزه تلك التفاصيل عن باقي مراكز العاصمة الصوفية.
شمس بواكير الصباح الواعدة تحمل معها أرتال من الناس لمجمع مبني الضريح. ليرسموا معاً ملامح لوحة دراما إنسانية مفعمة بالمحبة والتأخي والألفة. تساهم بشكل مؤثر في ترابط أتباع الطريقة فلتشكل حالة تماهي فريدة. تحملهم ألي ذلك المكان والزمان عدة أهداف ومرامي. لكنها في النهاية موحدة فيما تصبو إليه تجمع بينهم محبة الشيخ وإيمانهم الراسخ به. المؤسس على موفور صلاحه وظواهر كراماته التي استمدها من تقربه للخالق العظيم. يهرعون بشوق عارم لهذا المكان منذ مشرق شمس اليوم أهدافهم مختلفة لكنها متفقون على سبل تحقيقها. جلهم جاء لتجديد الولاء للشيخ والخلفاء من بعده أملاً في أن تنالهم بعضاً من بركاتهم. عدد مقدر منهم من أتي إيفاءً لوعد قطعه على نفسه. بأن يقدم نزراً إذا أستجاب الخالق العظيم لرجاء باح به من قبل في ساحة مقام ضريح شيخهم. يأتي من تحقق رجاءه أيفاءَ لذلك الوعد يحمل معه ما وعد به. مثله مثل أتراب له جاءوا لهذا المكان لنفس هذا الغرض النبيل. ليلتقوا جميعاً هنا واهبين خير ما أتوا به ليفيض خيره على الجميع فيرسموا معاً لوحة هذا المشهد البديع. فيتحول فناء مجمع الضريح الصغير لحالة متميزة اعتدنا عليها في إطار مختلف. عندما نذهب معاً كمجموعات لمكان في أطراف المدينة لقضاء أوقاتاً طيبة مع بعضنا البعض. حالة أشبه بما يسمونها في اللغة الإنجليزية بأل picnic. مع مرور ساعات الصباح تتزايد الأعداد هناك فتعمر المجالس تعمر معها القلوب تفيض بالمحبة والتأخي.
بارتفاع قرص الشمس إلى كبد السماء ما بعد ذلك في نهار ذلك اليوم تتوافد الجماعات والأفراد صوب الموقع. تجمعهم في البدء معاً صلاة الجمعة. ينضم إليهم لاحقاً عدد مقدر جاء لزيارة الأضرحة الصغيرة المجاورة. أخرين هرعوا لمواقع قبور أحباب لهم صار مالهم تحت الثري. فتعمر المنطقة يتزايد معها زوار مقر مقام الضريح. فتتفرق المجموعات هنا وهناك في ذلك الموقع الفسيح. تخترق تجمعاتهم عبر الطريق الترابي عربات مسرعة ورتل دواب ومجاميع وأفراد في طريقهم لمقصد بعيد. لتبدأ معها بوادر حالة حراك نشط غير منظم مسرحها ذلك الطريق مترامي الأطراف. يسعي من يقومون بها لفرض سيطرتها على ذلك الفضاء الفسيح الذي يفتقد لأي أسوار أو بوابات. على رأسها ثلة من المريدين (الدراويش) بجلابيبهم الخضراء المزدانة بإكسسوارات مدهشة. يبادون عملهم بهمة في حركة دؤوبة أول أهدافها وضع معالم فضفاضة لذلك الفضاء الرحيب. يرقبون المشهد عينهم تمسح كبد السماء متطلعين لقرس الشمس الذي يتوجه ببطء نحو الغرب. مرهفين السمع لصوت موكب قادة الطريقة القادم من ناحية المقابر تسبقهم مجموعة ضاربو الطبول (النوبة). مؤشرات تمهد الطريق بعد صلاة العصر لأحداث بالغة الأهمية. يجب أن يعدوا لها ساحة الحضرة أو الذكر على أحسن ما يكون. يعملون بهمة عالية ليجعلوا الطريق الترابي الضاج بالحركة جزء من ساحة مشهد دراما روحانية. تسمو في جنباتها الأرواح الهائمة في محبة الشيخ وعوالم الصوفية إلي أقصي غاياتها.
تناولت من قبل بشي من التفصيل عملية وضع (الدراويش) يدهم مؤقتاً على الشارع الترابي. تمهيداً لإعداد ساحة الحضرة لمشهد تتجلي فيها حالة الوجد الصوفي في أعلي درجاتها. عملية الاستيلاء الموقت هنا أعادت إلى خاطري ذكريات قديمة مفعمة بالمعاني الرمزية. اِختزنتها ذاكرتي في سالف الأزمان منذ سنوات التحضير لدرجة الدكتوراه. مصدرها سِفر مهم للغاية صدر في خمسينيات القرن الماضي أحدث ضجة في دوائر المهتمين بالقضايا الفلسفية. تحديدا المعنيين بالجوانب ذات الصلة بالتخطيط البيئي والعمارة. عنوانه باللغة الإنجليزية The Sacred and the Profane. مؤلفه الفرنسي Marcea Eliade عالم في مجال الأنثروبولوجيا مختص في الدراسات اللاهوتية. Sacred معناها مقدس و profane تعني عكس ذلك. طرح تعامل فيه بعمق مع قضايا فلسفية غاية في الأهمية. من أهمها أن جاز أن أختزل مضمونها أن الإنسان أينما حل بأرض أو منطقة سعي لتقسيمها. لأجزاء مقدسة أخري غير ذلك تمهيداً لاستخدامها لممارسة حياته فيها على النحو السليم. اَستهدي بتلك الأفكار لأنظر لحالة ساحة الأذكار التي يتم فيها الاستيلاء المؤقت على الشارع الترابي. لإتاحة الفرصة لاستخدامها لذلك الغرض النبيل كساحة للأذكار. يتجلى النبل هنا في أعلي درجاته في منح نفس ذلك الجزء من المساحة لتصبح مرة أخري شارع ترابي عام لباقي أيام الأسبوع. يحدث ذلك بدون ترتيب من جهة رسمية لكنه نابع من إحساس داخلي من أهل الطريقة. الذي يتميزون على العديد من الطرق الصوفية الأخرى بنهجهم الشعبي. فهم يذوبون يتماهون مع عامة الناس بمختلف مشاربهم.
يستثمر أهل الطريقة في عدم وجود أسوار أو بوابات في الساحة التي يتم إعدادها في عصر يوم الجمعة لإقامة أذكارهم الأسبوعية. فهي تمنح كل من يقترب من ذلك المشهد إحساس أنه عضو من الجماعة. بالرغم من توشح عدد مقدر منهم حول الحلقة بأزيائهم الخضراء التي تعلن عن عضويتهم. عليه، يمكن أن نفهم غياب الأسوار والبوابات كمؤشر غير معلن من فلسفة الطريقة. يظهر أيضاً بوضوح في ظاهرة نوعية من يلتفون حول حلقة الذكر. فالمجال هنا مفتوح للجميع والأسبقية في الصفوف الأولي لكل من حضر بدون أي تفرقة. كلهم مدعوين للمشاركة في حلقة الذكر الضاجة بالحركة المفعمة باعلي درجات الوجد الصوفي. التي تصل في بعض الحالات للانجذاب التام الذي يكاد يغيب فيه الوعي. المساهمة الفاعلة في حلقة الذكر متاحة للجميع. مشاهدتها صارت تجذب إليها أطياف من البشر مختلفة المشارب. إذ أصبحت للعديد من أهل المدينة مزاراً مهماً جاذباً. صارت أيضاً مستهدفة لأطياف من السياح الأجانب خاصة الغربيين جلهم من المسيحين. جذبت انتباههم لأنها تقدم صورة من صور الإسلام الشعبي مفعمة بالرؤي الفنية ذات أبعاد تشكيلية مدهشة وإيقاعات ضاجه متنوعة. بذلك ساهمت الطريقة في مد جسور أفاقها لتتجاوز حدود غير المنضمين تحت راياتها لمن هم خارج إطار ديننا الحنيف. تجتذب الدراما المحتدمة في ساحة الحضرة شرائح مهمة أخري كنت أنا شخصيا واحد منهم في فترة من الفترات. أعني بهم المصورين من كافة أنواعهم الذي توفر لهم أحداث مشاهد الحضرة المفعمة بالحركة صيداً ثميناً.
وقائع الحضرة المحتشدة بدراما الوجد الصوفي في الساحة التي أعدت لهذا الغرض تجري أحداثها بين صلاة العصر والمغرب. سقوط قرص الشمس في أفق الجانب الغربي من موقع تلك الأحداث بعد صلاة المغرب يلقي بظلاله على المشهد هناك. يضفي أجواء من الهدوء بعد سلسلة الأحداث المتلاحقة التي شهدتها أجزاء ذلك الموقع مترامي الأطراف خلال يوم الجمعة. فتتفرق الجموع هنا وهناك مشكلة مجموعات صغيرة. يتجمع بعضهم جلوساً على الأرض في جزء من الساحة أمام مبني الضريح. مكونين مجموعات صغيرة تقضي الوقت في المديح والمسامرة. تتفرق مجموعات أخري يتحلق بعضها حول الأضرحة الصغيرة المتناثرة قرب مقام ضريح الشيخ حمد النيل. تمضي تلك الأحداث في هدوء موثقة لنهاية يوم عامر بالأحداث ارتبطت دائماً بيوم الجمعة. شهدت بداياته أرجاء مبني مقام الشيخ حيث يجتمع المريدين والأحباب هناك. يتجمع بعضهم حول أطباق طعام وحلوة بذلها بعضهم وقد ستجاب المولي لرجاء له باح به هو في باحة الضريح. لقاءات تجمع الأحبة مع بعضهم البعض ليتفرق شملهم لاحقاً كل يسعي علي أمل اللقاء في ساحة الحضرة لاحقاً. التي تجمعهم معاً في أوقات مترعة بالوجد الصوفي. ليجتمعوا معاً في صلاة المغرب التي تكاد تضع نهاية ليوم حافل بالأحداث. يتفرق بعدها جلهم إلا مجموعات محدودة العدد تتجمع في أمكان متفرقة من ذلك الفضاء الرحيب.
طوفت بكم في سياحة وثقت لبعض ملامح وأجواء عالم طريقة الشيخ حمد النيل الصوفية. لم يكن مقصدي الأساسي هنا أن أوثق لهذه الطريقة بشكل مفصل ودقيق لأن هذا الأمر خارج مجال تخصصي. لكن ذلك لم يمنعني من التعرف عليها عن قرب. مما جعلني معجب لا بل مفتتن بجوانب من فلسفة نهجهم الشعبي المتوشح بالزهد الذي قربهم لقطاعات كثيرة من المجتمع. تركز إعجابي بهم في جوانب محددة اتسم بها نمط حياتهم ونهج شيوخهم. تجسدت بشكل واضح متميز في موقع مركزهم الرئيس في الطرف الغربي من حي بانت الأمدرماني. في منطقة مترامية الأطراف تمحورت حول مبني ضريح أو مقام شيخهم حمد النيل. في ذلك الإطار المكاني الرحيب اجتزأت حيز زماني محدد فاخترت بالتحديد من أيام الأسبوع يوم الجمعة. الذي يشهد حالة تتكثف في مواقيته المتعددة درجة الوجد الصوفي فتبلغ أعلي مراقيها. عليه فيجب أن أنبه إلى أنني ركزت في مباحثي هنا في أجزاء مقالتي على جوانب محددة من عالم هذه الطريقة الصوفية. الذي يحتاج سبر أغوارها لعدة مقالات إن لم نقل لكتاب كامل.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- مايو 2021