مسكننا الحضري: بيوت الأفندية والمهنيين المتميزين والإنتلينجنسيا والمفكرين الأفذاذ
شكلت عشرينات القرن الماضي مرحلة فارقة في بناء السودان الحديث عندما بدأت كلية غردون التذكارية تخريج أول دفعاتها. عدد مقدر منهم أميزهم احتضنته مدينة أمدرمان عاصمتنا الوطنية. التي قضوا فيها بين أهلهم سنوات عديدة زاهية. لأن سلطات المحتل التي استوعبت عدد منهم في دواوينها الحكومية في الخرطوم لم تكن ترغب في إقامتهم فيها. إجراء كان له مردود طيب خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخ بلادنا. فأستقر هؤلاء الخريجين الجدد الأماجد في أحياء تلك المدينة الفاضلة وسط عشيرتهم معززين مكرمين. منخرطين في نفس الوقت بهمة عالية في أداء مهامهم في الخرطوم مع رؤساءهم منسوبي دولتي الاحتلال بريطانيا ومصر. مكتسبين خلال تلك الحقبة تجربة متنوعة الأبعاد كانوا في حاجة إليها في خاطرهم بالهم مستقبل بلادهم الواعد المرتجى. كأمة مستقلة متطلعة لاحتلال موقعها بين دول العالم المتحضر الحديث. تجربة كان لها مردودها الطيب علي أكثر من واحد من مناحي حياتهم مما ساعد في بلورة شخصياتهم على نحو بناء. أولها الظاهر فيها للعيان مظهرهم العام تحديداً زيهم غربي السمات والتفاصيل الذي أجبرهم عليه في البدء ضوابط العمل. لكن الواضح أنه وجد هوي في نفوسهم فمضوا فيه إلى أخر الشوط وخارج أوقات الدوام الرسمي. الذي تجلي في السترات أو بدل الثلاثة قطع three piece suitsا وربطات العنق أو (الكرافتات) الأنيقة أحيناً (البوبيون). هندام مرتب بعناية فائقة (قَشرة) أكملت أحيناً بالقبعة (الكسكتة) والغليون (الكدوس). تأثير المظهر الغربي وصل في بعض الحالات لتقليد موضات تصفيف شعر أشهر الممثلين السينمائيين الغربيين حقبتئذٍ.
ميزت تلك الأزياء والملامح والهندام المرتب هؤلاء الموظفين الصغار عن أهلهم وباقي مجتمع أمدرمان. الذين كانوا يشار إليهم فيه بالأفندية مسمي كان متداول في مصر مشتق من اللغة التركية. اكتملت صورتهم بعمارة بيوتهم التي كانت أكثر تميزاً في كل جوانبها. مُقتبسة من نماذج بيوت أعدت لكبار الموظفين في مراحل الاحتلال الأولي في مطلع القرن في منطقة الخرطوم شرق. سطعت في بعض أحياء مدينة أمدرمان في أبهي حلة تكاد تنافسها. تميزت بمكونات وتفاصيل منحتها طابعاً فريداً أضفي عليها مظهراً (بريستيجياً) بازخاً جعلها تقول بالإنابة عنهم (نحن ديل) الأفندية. عمارة تصدرتها (برندات) عرشها المائل المغطى ببلاطات (المارسيليا) تحمله برشاقة أعمدة فتانة متوجة بتيجان كلاسيكية الهوية. خير واجهة لأجمل عمارة تخبئي في مكوناتها رسالة مهمة حملت هؤلاء الأفندية لأجواء الحداثة. يسطع في مقدمتها (الديوان النظاموا كراسي) كما تقول أغنية الفنان كمال ترباس. ليحل محل الديوان التقليدي الصالون الملحقة به السفرة امتداد مخصص لطاولة تناول الطعام. نقلة مقدرة في تصميم البيت السوداني من أميز أركانها غرف النوم. من أهمها الرئيسة التي ظهرت هنا على رؤوس الأشهاد بعد أن كأنت مخبأة علي استحيا في بيوتنا التقليدية. ترتيبات جديدة مهمة في بيوت الأفندية قفزت بهم وبحياتهم المجتمعية خطوات مقدرة في حياة الحداثة.
شكلت تلك المكونات نقلة مهمة في تطور البيت السوداني الحضري خلال تلك الحقبة. جعلته يضع أمشاط أقدامه على عوالم الحداثة الرحب. عزز من عمارة تلك البيوت إطارها الذي أبرزها في أبهي حلة جعلها تشكل حالة بالغة التميز. عظمتها كانت تكمن في تنوع مكوناتها. الحديقة الأمامية المنمقة التي كانت متنفس في بيوت كانت تفتقد لوسائل التبريد الميكانيكية. تفضي لمصطبة مرصوفة مرصعة بالبلاط الحبشي بوحداته البيضاء والسوداء الشبيه برقعة الشطرنج. ممهدة السبيل لبرندة تقود إلى الصالون النظاموا كراسي. مكونات خارجية وشبه خارجية صنعت عمارة سكنية مكتملة الأركان. جادت بها عبقرية معماريون وطنيون أشاوس كانوا حقبتئذٍ في بداية مسيرتهم الظافرة. أميزهم عبقري زمانه ميرغني حمزة وإبراهيم أحمد الذي أهله نبوغه اللافت لتولي منصب وزير المالية في أول حكومات تلك الحقبة. مكونات تلك البيوت الخارجية والشبه خارجية وصالوناتها المرتبة كانت منصات زخم حياة مجتمعية وثقافية وفكرية بازخة. تدل على وعي واستنارة هؤلاء الفتية الأماجد الذي تجاوز حدود تخصصاتهم ومجالات عملهم المهنية. نوزعت بيوت الأفندية وسط أحياء أهلهم وعشيرتهم. كان عدد منها منصات ثقافية فاعلة مهدت الطريق أسست لحركة وطنية قادت البلاد لاحقاً بسلاسة لنيل استقلالها في منتصف الخمسينات. انتشارها في الأحياء أضاء أفق المدينة رصع سماءها كما الأقمار. كان مركزها وقلبها النابض نادي الخريجين الذي سطع في موقعه في الجزء الشرقي من سوق مدينة أمدرمان العامر.
خططت سلطات الاحتلال في نهاية الأربعينات أحياء سكنية جديدة جنوب منطقة عاصمتهم المركزية خصصتها للشرائح العليا. خطوة مهمة فتحت أفاقاً جديدة لبعض أفندية أمدرمان بعد أن أمنت تلك السلطات جانبهم. فأتاحت لهم موطئي قدم في تلك الأحياء التي سميت الخرطوم واحد واتنين. ليعيشوا تجربة عميقة جديدة انتزعتهم من أحياء أهلهم وعشيرتهم في أمدرمان. لتجعلهم في نقلة مؤثرة جيران لرجال مال وأعمال أجانب متميزين ومكون شبيه لهم من الوطنيين. مكون أجنبي تعود أصوله لعرب شرق أوسطيين وأوربيين من جنوب البحر الأبيض المتوسط. مما لا شك فيه أن استيعاب أفندية الأمس معهم كان له مردود مؤثر عليهم. كانوا في حوجه له لإثراء تجربتهم الحياتية خلال فترة كانت بلادهم تتأهب لمرحلة مفصلية ستقودهم لنيل استقلالها. لا يمكن أن يحجبه تماماً دور تلك الشريجة الأجنبية في ترسيخ سلطة الاحتلال. الذي لا يمكن أن ننكر تأثيرهم المحدود في نقلة حضارية كان يحتاجها هؤلاء الأفندية. جرعة ساهمت مع عوامل أخري مهمة في أدائهم الرفيع في المواقع التي استوعبوا فيها مع رصفائهم من دولتي الاحتلال. التي أهلتهم لاحقاً بجدارة لاحتلال مواقعهم عبر عملية عرفت باسم السودانية. يشهد لها أيضاً وجودهم المشرف في تلك الأحياء الجديدة ليسطروا بأحرف ذهبية صفحة زاهية في سجل في تاريخنا الحديث.
افتتاني بعمارة حي الخرطوم واحد عَبرتُ عنه بمقالة مطولة عنوانها: عمارة حي الخرطوم واحد. نشرتها في مدونتي بالفيسبوك وفي منصة أل LinkedIn واحتلت مكانها في موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط drhashimk.com. ركزت فيها على عملين معماريين مهدت لهما بسياحة طوفت فيها في جوانب عديدة عن تجربة حالة حي الخرطوم واحد. التي لا زالت تداعياتها تتري حتى الان ستظل كذلك مثل كل الحالات الشبيه. أعترف أنني لم أتطرق لم أعط حالة الخرطوم أتنين نصيبها المستحق كما فعلت مع حي الخرطوم واحد. مع أنني أوفيتها بعضا من حقها في سياق مقالات أخري سأشير لواحدة منها لاحقاً في سياق هذه المقالة. في إطار الإشارة لعمارة فيلا واحد من الإنتليجنسيا كان من أعظم الاختصاصين في مجاله الطبي. سطع نجمه في سبعينات وثمانيات القرن عندما لفت نظرنا إليه أستاذنا أستاذ الأجيال العراب الوطني لعمارة الحداثة السودانية عبد المنعم مصطفي. هذه الخواطر السريعة المبعثرة يجب أن لا تصرفنا عن موضوعنا الأساسي. هو انطلاق عمارة بيوتنا الحضرية في رحاب أرجاء حي الخرطوم واحد في نهاية الأربعينات بداية الخمسينات. الحديث عنها بالضرورة سيقودنا لمن ساهموا في صناعاتها تحديداً من صمموا تلك الفيلات بالغة التميز. الذين كان تنوع خلفياتهم واحد من أهم جوانب ثراء هذه التجربة.
أجمل ما في تجربة عمارة ذلك الحي العريق أن ساحاته منذ انطلاقتها الأولي كانت مسرحاً تنافست فيه عدد من الطرازات. نركز في سياق هذه المقالة حسب عنوانها على تلك استهدفت شريحة الإنتليجنسيا. ظاهرة تعاملت معها بشي من التفصيل في واحدة من مقالاتي سأعود إليها هنا في تطواف سريع لإلقاء مزيد من الضوء. سياحة أركز فيها على مرحلة بداياته الأولي التي لم تجد حظها من التوثيق بشكل جيد. فلنفعل ذلك قبل فوات الأوان ورحيل من تبقي على قيد الحياة من شهود على ذلك العصر المجيد. أصنف من ارتبط اسمه بتلك الأعمال الخالدات لثلاثة فئات بناءً على إسهاماتهم وجنسياتهم. علماً بانه خلال تلك الحقبة في الأربعينات لم يظهر مجال العمارة كتخصص قائم بذاته في إطار الدراسات الهندسية. إذ أن من تعاملوا معه من خريجي الهندسة في كلية غردون التذكارية وبعض الدول العربية مثل مصر لم يتخرجوا كمعمارين. إذ أنهم تخصصوا في هذا المجال بعد التحاقهم بوحدات عملهم لاحقاً. هذا هو ما كان يحدث في بداية العمل في حي الخرطوم واحد الذي ساهم فيه في البدء مثل هؤلاء المهندسين فأبلوا فيه بلاء حسناً. نضيف لهم شريحة أخري من خارج إطار هؤلاء المهندسين يجب ألا ننسي فضلهم في ظهور عمارة الحي بذلك الألق المدهش. هم أوائل المقاولين السودانيين الذين قدموا عطاءً جيداً بدون أن يتلقوا أي دراسات نظامية في هذه المجال أشهرهم محمود بكر قاسم. من أميز أعماله فيلته التي صممها شيدها ثم ألت بعد ذلك للمحامي السياسي الأريب والأديب المفوه محمد أحمد المحجوب. الذي عالج عمارتها بفنيات باهرة لتسطع في أرقي صورة إزدان بها الحي ردحاً من الزمان. من فرط إعجابي بها تغزلت فيها في أكثر من مقالة.
يجب من منطلق الوازع الوطني أن نبدأ بالسودانيين الذين لم يتلقوا دراسات نظامية في مجال العمارة. لنقف وقفة إجلال واحترام للمهندس العبقري الرائد ميرغني حمزة. الذي رفد الحي خلال تلك الحقبة في الجزء الشرقي الأوسط من حي الخرطوم اتنين بعمل معماري بيت في غاية الروعة والأناقة. توافد أيضاَ لبلادنا في تلك الفترة المبكرة معماريون سودانيون أماجد تخرجوا من مصر كان من أميزهم الباشمهندس حسن عتباني. من أهم أعماله في شارع 35 في الحي الخرطوم واحد فيلا شادية. صممها لأخيه الذي كان من أميز القانونيين صار لاحقاَ رئيس القضاء في بداية الحكم الوطني. توالت بعده دفعات من مصر أذكر منهم الباشمهندس محمد حسن بشير الذي صمم بيت الدكتور الأشهر ألمع نجوم المجتمع حقبتئذٍ عبد الحليم محمد. سطع في ذلك الحي بالإضافة لتلك الكوكبة من المعمارين السودانيين نجم المعماري اليوناني الأشهر إستيفانيدس. الذي كانت له من قبل صولات وجولات في أحياء الخرطوم وسط وشرق طرز أفقها بفيلاته المدهشة متميزة العمارة. ليضع بصمته لاحقاً في حي الخرطوم واحد والخرطوم اتنين. أميزها على الإطلاق فيلا في الطرف الغربي من شارع 33 التي صممها لطبيب من أهل بلاده. ثم ألت لاحقاً للوجيه رجال الأعمال المتميز حامد الأنصاري وحرمه الأستاذة الجامعية سعاد إبراهيم أحمد. عمل متفرد خصصت له جزء من مقالة عن ذلك الحي.
انتقال نفر متميز من أفندية أمدرمان لحي الخرطوم واحد في نهاية الأربعينات وثق لنقلة مهمة للغاية لهم وللبلاد بشكل عام. تعززت قاعدتهم الصلبة هناك بانضمام بعض أقرانهم من الخرطوم والخرطوم بحري. ليكونوا معا جبهة عريضة كانت أساس السودان في تلك الحقبة المفصلية المهمة. حيث تعززت مقدراتهم بالخبرة التراكمية ومزيد من العلم والمعرفة والشهادات. بالإضافة لتفاعلهم البناء مع فئات أجنبية أخري داخل وخارج إطار عملهم وبلادهم. ليضعوا معاً أساساً متيناً لنهضة السودان في مرحلة بالغة الأهمية. كانت بلادنا تتهيأ فيها لنيل استقلالها الذي تحقق بعد بضع سنوات من تلك الحقبة. مرحلة كانت رحاب حي الخرطوم واحد من أهم مسارحها. كان نجومها عدد من هؤلاء المهنيين والاختصاصيين الأماجد الذين وضعوا اللبنات الأولي في مجالاتهم. كانوا نجوم المجتمع الذين تغزلت فيهم الأغاني الشعبية السائدة. ممجدة الدكاترة ولادة الهنا والمهندس (الجأ ورسم البنا) لم تنس أيضاً المحامين. بالرغم من شهاداتهم العليا وإنجازاتهم العلمية المهنية المتميزة كان ترفرف فوق حييهم أجواء من الأدب الرفيع المضمخ برومانسية دافقة. كأني بهؤلاء الأفندية السابقين قد (ستفوا) معهم في حقائبهم وضموا بين جوانحهم نفس أحاسيس ومشاعر أحيائهم السابقة. المترعة بروح وطنية مشبعة بإحساس فتي رفيع ترعرع في منتديات أحيائهم هناك. لتزدهر مرة أخري تتأجج تلك الأحاسيس في الحدائق الغناء والرواقات المرتبة والصالونات الأنيقة في فيلات حي الخرطوم واحد. التي صارت مرة ثانية منصات للعمل السياسي والفكري في منعطف الأربعينات والخمسينات. حالة وثقت لها في واحدة من مقالاتي عن ذلك الحي أشرت لها من قبل. البعد الثقافي المجتمعي الفكري في حي الخرطوم واحد ظاهرة تستدعي التوقف عندها. نسبة لإسقاطاتها المهمة المؤثرة خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخ بلادنا الحديث. التي تداعت تمددت حتى عقد الستينات لتصنع جوانب مهمة من المشهد السياسي. كانت العمارة فيها كالعهد بها دائماً شاهداً على العصر ومسرحاً مهما لأخطر الأحداث. طابعها السياسي لم يخصم من جوانبها الفكرية الأدبية الأخرى. زاد من زخمها المهارات الخطابية أهم أسلحة المعارك السياسية المحتدمة حقبتئذٍ. كان فارسها الأول دائماً رئيس الوزراء الأسبق والشاعر المرموق والخطيب الأريب المفوه محمد أحمد المحجوب. الذي أعد فيلته التي طورها بعد أن اشتراها من صاحبها لتكون منصة مهمة للغاية. حقق ذلك بتطوير عمارتها بشكل غير مسبوق لم تنافسه فيه حالة أخري. أشرت لجوانبها المتفردة في وأحدة من مقالاتي عن عمارة هذا الحي. أعدها بشكل عبقري بديع كمنصة شهدت أرجاءها ونواصيها وقائع وثقت لمرحلة بالغة الأهمية في تاريخنا الحديث. أضفت أجواءها الأدبية والفكرية الرفيعة بعداً استثنائياً خفف من توترات الصراع السياسي المحتدم خلال تلك الحقبة. لم تكن تلك الفيلا وحدها في ذلك الحي إذ نافستها أخريات في إطار أجواءه المتميزة. ظاهرة جعلتني لا أتردد في أن أعدل ارفع صفة أصحاب بيوته من الأفندية. لأطلق عليهم أشير إليهم بالإنتليجنسيا المشتق من مسماه باللغة الإنجليزية. ترجمة لأسم مثل تلك الشريحة التي يشار إليها بالنخب أو الصفوة.
شهد منتصف الخمسينات ميلاد حي الخرطوم اتنين في موقعه في الجانب الغربي من رفيق دربه حي الخرطوم واحد. الذي وثق لتحولات ملموسة في تركيبة أصحاب البيوت هناك. تناقصت فيها أعداد شريحة أفندية الزمان السابق الذين صاروا من قادة الخدمة المدنية. مساهمتهم الإيجابية الفعالة لم تمنحهم نصيب وافر في هذا الحي. تقلصه جاء لصالح شريحة رجال المال والأعمال التي ظهر فيه في البدء الشق الوطني على استحياء. معلناً عن بداية منافسته لوجود أجنبي كان جله أوربي من منسوبي دول البحر الأبيض المتوسط. موثقاً لمرحلة من تاريخ المسكن الحضري خارج اهتماماتي في هذه المقالة، لكن نسبة لأهميته خصصت له مقالة كرستها لهذا الظاهرة. سلطت فيه الأضواء على مساهمة عمارة بيوت تلك الشريحة الوطنية في مسيرة المسكن الحضري. وثقت فيها لمرحلة مهمة من تحور تلك العمارة في الأزمنة الحديثة. نعود مرة أخري لسيرة الأفندية السابقين الذين أصبحوا حقبتئذٍ من قيادات الخدمة المدنية التي أدارت دولاب العمل الحكومي باقتدار. ليصنعوا مجد بلادنا في كافة مجالاتها بوضع أساسها الراسخ. نذكر منهم في ذلك الحي في مجال التخصصات الطبية علم الأمراض والمختبرات الطبية البروفيسور أحمد حمد سآتي. سطع فيه أيضاً نجم شخصيات مهمة مؤثرة للغاية في مجال الإدارة والخدمة المدنية من أمثال علي حسن عبد الله وداؤود عبد اللطيف. الثاني كان له لاحقاً سهم وافر في القطاع الخاص مؤسساً لنهضة استثمارية صناعية صارت تسد أفق تلك المجالات. بالرغم من أن عمارة بيوت تلك النخب من رموز المجتمع لم تكن الأمير إلا أن مساهماتهم المقدرة في مجالاتهم ستبقي خالدة في الأذهان.
حمل النصف الثاني من الخمسينات أخبار سارة للسودان وأهله بعد نيلهم لاستقلال بلادهم المستحق. تداعت معه بشريات ظهرت في أكثر من جانب من جوانب حياتهم. كان لمجال الخطط الإسكانية الجديدة في العاصمة نصيب وافر منها حظيت الخرطوم بواحد من أهمها. انداح في الجزء الجنوبي منها ليصبح امتداداً لأحياء الخرطوم واحد واتنين صار يعرف بامتداد الدرجة لأولي. الذي عدل لاحقاً لأسباب موضوعية ليصبح حي العمارات. لأن التطور في مجال البناء والتشييد فيه جعل التطاول في البنيان لأكثر من طابقين من أهم سمات عمارته. في هذا السياق كان يشار إليه أيضاً بغابة الأسمنت نسبة للاستخدام الكثيف لهذه الخامة البنائية ظاهرة كان بعضهم يعتد بها. تميز هذا المشروع بمنح عدد مقدر من قطعه السكنية لفئة الأفندية السابقين الذين ارتقت مقاماتهم صار عدد منهم من كبار رجال الدولة. تطور سارعت من خطاه عملية إحلال وإبدال عرفت بالسودنة. أدت لاستيعاب أعداد مقدرة من الكوادر السودانية في مواقع كانت مخصصة لمنسوبي دولتي الاحتلال. تطورات فرضت واقعاً كان لا بد من التعامل معه بخطط إسكانية جديدة تستوعب تلك الكوادر. فجاء مشروع امتداد الدرجة الأولي في زمانه ومكانه. ليمنح نصيب الأسد لتلك الشريحة التي نبؤا أفرادها مواقع قيادية في الخدمة المدنية وكافة التخصصات. في حالة شبيه بما حدث من قبل في أحياء الخرطوم واحد واتنين. خصص قدر محدود في تلك الخطة الإسكانية لشريحة رجال المال والأعمال. خلال حقبة أدت فيها تداعيات مرحلة ما بعد الاستقلال إلى تصاعد عدد الوطنيين فيها مع تناقص في المكون الأجنبي.
أنتجت عمارة حي العمارات خلال تلك الحقبة لوحة حضرية بالغة الروعة معبرة عن بداية مسيرة بلادنا بعد الاستقلال. تسيدتها عمارة سكنية متميزة زينتها بيوت الإنتليجنسيا ورجال أعمال غلب عليهم المكون الوطني. في ظاهرة تشيئ بوعي حضاري مبكر كان يبشر بمستقبل مشرق. إبداع نفر محدود من المعماريين المجيدين. دشنه أوربيون كان على راسهم مؤسس عمارة الحداثة السودانية النمساوي بيتر مولر الذي صارت أعماله هناك ذات تأثير واضح على عمارتنا لاحقا. عمارة وثقت في منعطف الخمسينات والستينات لبداية نهج الحداثة الذي تمدد بعد ذلك حتى زماننا هذا. ظهر في البدء على استحياء بدون مزاحمة فظة خشنة لأجواء الطابع الكلاسيكي. تعبير عن حالة مزاجية كانت مهيمنة على مجتمع ذلك النفر النبيل من أصحاب البيوت الأماجد. الذي جمع قيادات الخدمة المدنية مع رجال مال وأعمال وطنيين أفذاذ نهضوا ببلادنا في تلك الحقبة المفصلية من تاريخنا الحديث. نخب حضرية قمة في الرقي ولجت لعالم الحداثة متدثرة بقيمنا الموروثة النبيلة. فجاءت عمارة بيوتهم وفيلاتهم الأنيقة معبرة عن حالتهم المتفردة ومزاجهم السوداني الأصيل. ساهم في التعبير عنه بحصافة بالغة شبان معماريون نوابغ كانوا أول من تخرج من الجامعات البريطانية. أذكر منهم بكل الخير والتقدير المرحوم حامد الخواض. الذي عايشت عن قرب واحد من أميز أعماله فيلا خالي الحبيب رحمة الله عليه طبيب الأسنان حسن عبد اللطيف. الذي كان من أوائل الرواد في هذا المجال من نجوم الحي ورموز البلاد. عمل معماري وثق لحياته الثرة التي كانت معبرة عن روح مجتمع حي العمارات بكل قيمه النبيلة. استدرجتني عمارته المتفردة لكتابة مقالة مطولة وجدت طريقها لمدونتي بالفيسبوك واستقرت مع مواد موقعي الإلكتروني.
عشنا عاشت بلادنا في حالة اضطراب سياسي في عقد الستينات وصفها أحد رموز السياسة والفكر من قبل بالدائرة الخبيثة. فوضي سياسية يعقبها انقلاب عسكري لتؤدي مرة أخري لمرحلة فترة توهان سياسي. وضع متذبذب لم تسلم منه شريحة أفندية الزمان السابق. بالرغم من اجتهادات عدد مقدر منهم طور نفسه بشكل ملموس كل في مجاله. التي جعلت المتميزين منهم تحديداً أساتذة جامعات من نجوم المجتمع. بلغت نجوميتهم حقبتئذٍ لدرجة أنهم صاروا حلم الفتيات الراغبات في الزواج. حالة وثقت لها أغنية شعبية تتمني فيها الفتيات عريساً جاي من باريس شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس أي أستاذ جامعي. عاش هؤلاء النخب أحلام تلك المرحلة مضطربة الأحوال ألي أن حملت لهم نهاية الستينات أخبار سعيدة مبشرة بخير وفير. مفاجئة داويه مذللة جاءت محمولة على أسطح الدبابات لتعلن عن انقلاب ثورة مايو. حقبة سياسية استمرت لأكثر من عقد ونصف من الزمان. دفعت بصفوة من تلك النخب لتتبوأ أرفع المواقع والمناصب القيادية بناءً غلي كسبهم المتميز كل في مجاله. بدون أي اعتبار لحسب أو نسب أو اعتبارات حزبية ضيقة. كان جلهم من المتميزين المبدعين الذين أضفوا على المرحلة الأولي من تلك الحقبة السياسية ألقاً متميزاً قبل أن تعصف بها الأنواء مرة أخري. شهر عسل لم يدم طويلاً تألق فيه عدد من هؤلاء الأنتليجنسيا الذين استحقوا هذا الصفة النبيلة. برز بعضهم في هذا الإطار ليكتب اسمه بمداد من ذهب في صفحة المفكرين السودانيين الذين ستتطرق لهم لاحقاً. أجواء كانت محفزة مشجعة لظهور نجوم معماريين أكملوا هذه اللوحة الرائعة سيأتي ذكرهم في هذا الإطار.
ظاهرة جديرة بالاهتمام كان طرفيها من أتي ذكرهم من قبل، نخبة من الإنتليجنسيا مع واحد من أميز معمارينا. نصب نفسه عن جدارة عراباً وطنياً لعمارة الحداثة السودانية أستاذنا أجمعين عبد المنعم مصطفي. ليشكل ظاهرة مع تلك النخبة تستحق الاهتمام والدراسة المتأنية لمن أراد أن يوثق بعمق لمسيرة تلك العمارة. تناولت عدد من جوانبها في مقالات نشرتها في مدونتي في الفيسبوك الوصول إليها عبر الرابط drhashimk.com. عاد أستاذنا من بريطانيا بعد دراسته للعمارة في الستينات مشبع بفكر حداثي تقدمي لينخرط يجد نفسه وسط تلك النخبة من الإنتليجنسيا. صاروا من أعز أصدقائه جمعته بهم عدة قواسم مشتركة من أهمها فكر تقدمي علماني الجذور. فرش دربه بالزهور والرياحين نظام ثورة مايو مع مطلع عهده في نهاية السبعينات. نظام منح مساحة مقدرة لتلك النخب برز منهم حقبتئذٍ أعظم مفكري بلادنا في العصر الحديث سأعود إليها لاحقاً بشي من التفصيل. شراكة عبد المنعم مع تلك النخب أنتجت عمارة سكنية حداثية بالغة التميز. دشن فيها أسس ملامح عمارة الحداثة السودانية مما دعاني بلا تردد أو تحفظ أن أطلق عليه لقب عرابها الوطني الأوحد. المدهش في الأمر أنه انطلق من عالم بيوت الإنتليجنسيا لينشرها لاحقاً في فضاءات شريحة أخري مختلفة. مبحراً في رحاب عوالم رجال مال وأعمال جدد من خارج ذلك الإطار. وفدوا للعاصمة من أقاليم بلادنا بخلفية محدودة من التعليم ملأ أشرعتها طموح جامح متكئي على ذكاء متقد. تعامله الحصيف مع تلك الشريحتين المتناقضتين دعاني لتسليط الضوء على هذه الظاهرة في مقالة مطولة. عنوانها: عبد المنعم مصطفي معماري الإنتليجنسيا أيضاً الجلابة. تجدونها في المصادر التي ذكرتها من قبل.
جمعتني علافة حميمة لصيقة بأستاذنا عبد المنعم تمددت لقرابة الأربعة عقود من الزمان. سمحت لي بالتعرف على تفاصيل وخبايا العديد من أعماله منها ما له علاقة بموضوع هذه المقالة المعنية بتعامله مع شريحة الإنتليجنسيا. مسيرة طويلة معهم يبدو أن بدايتها كانت في بيت صغير صممه لاحد أصدقاءه الدكتور محمد عبد الله نور الأستاذ بكلية الزراعة بجامعة الخرطوم. موقعه في الجانب الشرقي قرب الطرف الشمالي لشارع السيد علي بالخرطوم بحري المؤدي لكبري شمبات. عمل صغير في غاية البساطة والأناقة معبر بصدق عن نبل عمارة الحداثة. لا زال محتفظ بكامل ألقه بالرغم من تقادم الزمن هذا هو سر عمارة أستاذنا عبد المنعم. شكل ذلك البيت نقطة انطلاق موفقه أبحر فيها في رحاب بيوت وفيلات ثلة أصدقائه الإنتليجنسيا. أعتذر عن هذه التشبيه، لكنني وصفت تعامله معهم هنا بأنه استخدمهم بنجاح فائق كفئران المعامل. قدم فيه من خلاله عملاً نبيلاً مثمراً وضع فيه أساس عمارة الحداثة السودانية. التي انطلقت من هناك لتجد لاحقاً درجة عالية من القبول والانتشار عند عدد من الشرائح المجتمعية. حالة يمكن أن نجد لها تفسير نابع من تقدير المجتمع وتقييمه الرفيع حقبتئذٍ للإنتليجنسيا تحديداً أساتذة الجامعة. في زمان كان فيه حلم الفتيات الطامحات للزواج عريس من الإنتليجنسيا يا حبذا أستاذ جامعي. ظاهرة يمكن ملاحظتها أيضاً في تهافت شرائح مجتمعية أخري تسابقت لاحقاً للظفر بخدمات عبد المنعم الاستشارية. إقبال منقطع النظير نجح من خلاله عبد المنعم في تطريز أفق العاصمة بروائع من بيوت وفيلات رجال المال والأعمال. ظاهرة استعرضتها في مقالة أشرت إليها من قبل.
تدفق نهر إبداع عبد المنعم في سلسلة بيوت وفيلات الإنتليجنسيا بعد بيت دكتور محمد عبد الله نور. لينتقل في منتصف السبعينات من الخرطوم بحري لموقع في الطرف الجنوبي لمركز الخرطوم التجاري الإداري. مستثمرا في علاقة ربطته بمن هو الأقرب إليه من ثلة رفاقه الإنتليجنسيا صديق عمره الدكتور منصور خالد. الذين عاشا معاً في ربوع أمدرمان منذ طفولتهم الأولي إلى أطوار متقدمة من حياتهما المرصعة بالنجاحات. مراحل متلاحقة غرست فيها تلك المدينة الفاضلة في وجدانهما إحساس بالأصالة عميقة الجذور يشار لها بال (السوداناوية). لم تزعزعها روح الحداثة التي تملكتهما لاحقاً. تألقهما اللافت كل في مجاله زاد من قربهما إلي بعضهم البعض. إنجازات منصور السياسية والدبلوماسية وسطوع نجمه كأعظم مفكره في عصره جعله يتماهى مع صديق عمره عبد المنعم. الذي تسيد تصدر المشهد المعماري منافحاً مقتحماً بعمارتنا عالم الحداثة بثقة واقتدار. ليلتقي فكر هذا الثنائي العبقري سوداناويي الجذور حداثي التطلعات في عمل معماري بالغ التميز. عكس قيمهم الموروثة و تطلعاتهم التقدمية الطموحة. في فيلا مفرطة التفرد نهضت في خيلاء وإباء وقور ملتحفة بجمال رزين. مطلة علي شارع الشريف الهندي في حي الخرطوم وسط. لم أتمالك نفسي أمام عظمة هذا العمل المعماري فتغزلت فيه في أكثر من مقالة. سطعت في مدونتي في الفيسبوك وزينت بها منصة أل LinkedIn. أعتز جداً بواحدة منها مست وتراً حساساً ركزت فيه على جانب خفي من عمارتها قل أن ينتبه إليه الناس. أشرت إليه في عنوانها: الاستدامة الثقافو- مجتمعية في عمارة فيلا منصور خالد.
واصل عبد المنعم بعد ذلك مسيرته في ضفاف عمارة بيوت الإنتليجنسيا لتنداح في أحياء العاصمة الجديدة. وثقت لبعضها كان أميزها فيلا الدكتور زاكي الدين أحمد حسين زاكي الدين الأستاذ الجامعي واختصاصي الجراحة الأشهر. فيلا فريدة في عمارتها مطلة على شارع 35 أو الماظ في حي الخرطوم إثنين. قدم فيها أستاذنا عمارة السهل الممتنع بعبارة أخري ما قل ودل. من أميز ملامحها علاقتها تعاملها الأريب مع ذلك الشارع المصطحب حركة. عمل متميز أفردت له مقالة استعرضت فيها كافة جوانبه. لم يكن عبد المنعم وحده في الساحة في نهاية السبعينات. إذ ظهر له منافس أخر بداء نجمه يسطع هو المعماري الفذ المجود الفنان كمال عباس عليه رحمة الله. الذي وزع جهده وإبداعه بشكل متوازن بين شريحتين مجتمعتين، رجال المال والأعمال ونخب من الإنتليجنسيا. ظاهرة ألقت بظلالها أيضاً على مسيرة وعطاء عبد المنعم حقبتئذٍ. تصاعدت وتيرتها مع مطلع الثمانينات لتشير لبداية انحسار وتراجع تصدر عمارة بيوت الإنتليجنسيا للمشهد المعماري. ظاهرة تعزي لعدة عوامل بعضها اقتصادي أفرزته مستجدات سنشير لها لاحقاً. نعود مرة أخري لدور كمال عباس ومساهماته المعمارية المتميزة في إطار بيوت وفيلات هؤلاء النخب. منها فيلا في حي قاردن سيتي صممها للدكتور صيدلاني علي شبيكة واحد من الرواد الذين أسسوا للاستثمار في مجال صناعة الدواء. من أروع أعماله أيضاً التي تنضح بمقدراته المعمارية والفنية المدهشة فيلا الدكتور عبد الرحمن المفتي. المطلة علي شارع رئيسي داخلي بحي الملازمين بأمدرمان. هذه بعض أعماله التي قدمها خدمة لنخب من الأنتليجنسيا المتميزين في تلك الحقبة.
مستجدات مهمة في منعطف السبعينات والثمانينات كان لها مردود مؤثر على عمارة بيتنا الحضري. له علاقة مباشرة بتداعيات في دول الخليج العربي في حقبة يشار إليها هناك بفترة الطفرة التي تدفقت فيها أموال النفط بغزارة. مردوها الإيجابي علينا أدي لنشاط ملحوظ في المجال العمراني تسيده مشهد المسكن الحضري. كانت من أهم سماتها في هذا الإطار توجه تبناه بعض المعماريين حاولوا الاستثمار في طراز سطع في أفق مدائن تلك البلاد. عمارة ذات مكونات ومفردات تراثية زاحمت طوفان الحداثة الذي استفرد بساحات عمارتنا لعقود من الزمان. عمارة بيضاء من غير سوء تكلل هاماتها عروش بلاطات (المارسيليا) المائلة معلنة عن أهم سمات هويتها. تعززها في الواجهات عقدات (أرشات) نصف دائرية في الشرفات و (البلكونات). تطرزها هنا وهناك (إكسسوارات) معمارية أعمدة صغيرة أشبه بأرجل الأسرة التقليدية (العناقريب) تسمي (البرامك). نهج دخيل استمات من تبناه من المعمارين في تقليد تلك العمارة الخليجية. جاءت في مجملها للأسف نسخة مشوه منها في حالة شبيه بذلك الغراب الذي اجتهد في تقليد مشية الطاؤوس فلم يوفق. محاولات متكررة جلها سمج وضع بصمتها على عمارتنا السكنية لفترة من الزمن بدون مردود إيجابي ملموس. إلا في حالات نادرة نجح فيها عدد محدود من المعماريين وفقوا في استثمار ذلك التراث المعماري بحصافة. نذكر منهم زميلنا المعماري السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص الذي سنشير لاحقاً لواحدة من أعماله بالغة التميز.
لم تسلم مشاريع بيوت أنتليجنسيا تلك المهاجر الذين كانوا دائماً يشكلون نسبة مقدرة من المغتربين من الوقوع في ذلك الفخ. حاول بعض المعمارين استمالتهم استدراجهم له. بطرق وأساليب بعضها ساذج أنتج عمارة لم ترق لمستوي هذا التحدي. إلا عدد محدود منهم نجح بنجاعته الفائقة في الاستثمار بذكاء في التراث بطرق راقية. أشرت لواحد منهم من قبل هو المعماري العبقري جاك إشخانيص. الذي قدم لاحقاً تجربة متفردة من خلال تعامله مع واحد من نوابغ تلك المهاجر الخليجية. نجح فيها في اختراق معماري تجاوز حدود استنساخ تلك العمارة الخليجية لما هو أسمي باستدعاء تراثنا السوداني الثري. حققه في تصميم فيلا شوقي محي الدين أبو الريش وحرمه سامية سيد محمد أحمد أسرة متميزة من مغتربي تلك المهاجر مشبعة بإرث مجوعتها النوبية. ليقدم عمارة استثنائية تجاوزت أطر التراث الخليجي لما هو أعمق و انبل مقصداً. جعلتهم يتجاوزون إحساس الغربة المزدوجة التي كانت تسيطر عليهم. حققها بالتحليق بأجنحة عمارة تراثية نوبية الملامح والسمات. حلقت في فضاءات إرث عوالم وطنهم النوبي الذي عصفت به ذوبته مياه بحيرة ناصر قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. نثرها في أرجاء فيلا تلك الأسرة التي طالت غربتها بعيداً عن وطنها الكبير والنوبي الصغير. جسدها في عمل خرافي السمات في مجمع الياسمين السكني المضجع في تخوم ولاية الخرطوم. عمارة تضج بتفاصيل عوالم تراثية أسطورية نوبية المرتكزات مستدعية تراث أزمنة ضاربة في القدم. لتضع أقدامها في روائع حقب حديثة كانت تطرز فيها عمارة بيوت قراهم الطينية المدهشة ضفاف النهر. سنشير لجوانب من عمارة تلك الفيلا بشي من التفصيل لاحقاً.
خارج إطار مثل تلك الأعمال الخالدات حملت عقود القرن الماضي الأخيرة والأولي في هذه الألفية أخبار غير سارة لشريحة الإنتليجنسيا. ظروف همشتهم دفعت بهم للصفوف الخلفية. قلصت مقدراتهم المالية مما أثر بشكل سلبي علي عمارة بيوتهم. واقع مؤسف دفع إلي مقدمة مشهده بحفنة من رجال مال وأعمال جدد أثروا ثراء فاحشاً بكل الطرق الملتوية والفاسدة. ثراء ومجد مزيف ارتد ألي نحرهم فأنعكس علي عمارة بيوتهم وفيلاتهم الركيكة لتي دنسها المال الحرام فجاءت فجة شاءه. أوضاع سياسية سيئة مختلة أصابت عمارتنا في مقتل. أقصت أفذاذ من أمثال عبد المنعم مصطفي والمرحوم كمال عباس من الصورة ليتصدرها الأقزام. تداعيات سلبية ألقت بظلالها على المشهد المعماري تحديداً مكون المسكن الحضري موضوع اهتمامنا هنا. صورة محزنة لم تخل من بعض إشراقات ساهم فيها معماريون أماجد حققوا أحلام نخب من إنتليجنسيا وخبراء المهاجر. جسدتها حالة أشرت إليها من قبل لعمل استدعي مصممه جاك إشخانيص تراثنا المعماري المحلي صنع منه عمارة استثنائية. فيلا لذلك المغترب النوبي الذي حقق نجاحات مقدرة في مهجره في بلاد الخليج عاش فيه حالة غربة عميقة مزدوجة الأبعاد. تفاعل معها بصدق بطريقة مدهشة وعاطفة جياشة المعماري العبقري الفنان جاك إشخانيص. ليصنع عمارة تفيض بالأشجان في كل جوانبها وتفاصيلها. عمل متفرد أجد له تفسير في أن المصمم نفسه كان بكل جوانحه وأحاسيسه يعيش حالة غربة متعددة الأركان. فضض بعضاً منها ليتحفنا بعمارة خرافية المعالم والملامح والتفاصيل سكب فيها كل إبداعه ومقدراته الفنية. عمل يجبرنا على التوقف عنده أشير إليه هنا إشارات عابرة علي أمل أن أتناوله بشكل مستفيض لاحقاً.
استثمر جاك في تراث النوبيين الثري البازخ بطريقة أريبة ذكية غير مباشرة أحيناً. نثره في أرجاء عمارة فيلا الأسرة التي طالت غربتها عن الوطن الكبير والصغير. حملها علي أكف الراح في عمل خرافي السمات احتل موقعاً متميزاً في مجمع الياسمين السكني في تخوم مدينة الخرطوم الشرقية. لتسطع فيه الفيلا في القطعة السكنية رقم214 في شارع 9 منطقة المجموعة الثانية- سوسن. التي قدم فيها جاك عمارة تفوق الخيال تضج جوانبها وتفاصيلها بمكونات ومفردات تراثية أسطورية أحيناً. نوبية المرتكزات أبحرت في فضاءات موطنهم الصغير مستدعية تراث أزمنة ضاربة في القدم. لتضع أقدامها في حقب حديثة سطعت فيها عمارة بيوت قراهم الطينية بزخارف مدهشة قبل أن تمحوها من الوجود مياه بحيرة ناصر. تراث استلهمه استدعاه جاك إشخانيص فخر له ساجداً لينسج على منواله درراً نثرها في أركان وجوانب الفيلا. سخر لها منظومة من أروع مواد البناء، أجمل أنواع الحجر الطبيعي والأخشاب المتوهجة الفتانة. مروراً بقطع سيراميك صغيرة طرز بها لوحة جدارية فسيفسائية مسترسلة مبهرة تستدرج الداخل للفيلا تأخذه برفق لجولة داخلها. انتهاءً بوحدات حديدية (قريلات) فائقة الجمال تحاكي أعمال (الكورشية) التي تزين قطع القماش. أفكار جديدة خرافية عمل مذهل استدعي له جاك أيقظ كوامن جيناته الأرمنية الدفينة. التي تصطرع فيها براكين الفن والإبداع مع روح حذاقة فائقة مقترنة بأنامل متعطشة لملامسة خامات البناء الطبيعية. التي تعامل معها جاك بإحساس ولمسات جواهرجي مجيد.
عمل بهرني من أول نظرة تضاعفت أججها تأمله برؤية متأنية. (شعلتتها) كما تقول العبارة الشعبية حوارات مسترسلة معه فضفض فيها بالكثير عن هذا المشروع. منذ بداية فكرته الأولي حتي نهاياته السعيدة أطلعني فيها على خبايا مراحل العمل وتفاصيله. فتجلت لي عبقريته المعمارية التي مكنته من القفز فوق حواجز ومتاريس نهج الحداثة العقيم الذي تجاوزه الزمن. محلقاً في فضاءات فكرية مناهضة له يشار لها بتوجه ما- بعد- الحداثة باللغة الإنجليزية بأل Postmodernism. اكتسح العالم الغربي الذي أسس من قبل لنهج الحداثة في النصف الأول من القرن الماضي. تنكب جاك ذلك الدرب مضي فيه بثقة من خلال العديد من أعماله. مما جعلني أنصبه عراباً لهذا التوجه الجديد في السودان. فعلها تماما كما فعل عبد المنعم مصطفي من قبل مع نهج الحداثة في مطلع ستينات القرن الماضي. في هذا السياق تتجلي عبقرية جاك في أنه اختال في رحاب التوجه الجديد عبر طرازاته المتعددة. حقق ذلك بنجاح في أكثر من جزء ومكون في فيلا مجمع الياسمين. فعلها عندما استجار بنسخة من تاج عامود كنيسة فرص. ليضع هذا العمل في إطار واحد من أهم طرازات ذلك التوجه. هو الكلاسيكية الراجعة يشار إليه باللغة الإنجليزية بأل neo-classical style. ليقفز قفزة أخري موفقة في رحاب الفيلا يضع أقدامه علي عتبات طراز أخر من هذا التوجه. بتحضيره لروح بوابات قري النوبيين التي كانت تصطف على ضفاف النهر. قدمها هنا في رداء جديد مبتكر في سياق طراز المحلية الراجعة الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بأل nonvernacular style. ليثبت جاك في تلك الحالات أنه بحق يستحق لقب العراب السوداني لتوجه ما- بعد- الحداثة.
عدة أسباب وجيهة دعتني للاهتمام بشكل خاص بعمارة بيوت الأفندية والمهنيين المتميزين والأنتليجنسيا والمفكرين الأفذاذ. من أهمها دورهم المهم المرتجى المأمول دائماً في كل مراحل بلادنا بمنعطفاتها المتعددة. باعتبارهم كانوا فيها دئماً راس الرمح من واقع تأهيلهم العالي ومكانتهم الرفيعة في المجتمع التي جعلتهم القدوة. بشكل جعلهم محط الأنظار وحلم الفتيات المقبلات علي الزواج كما أـشرنا لذلك من قبل. عوامل شكلت في مجملها في كل الحقب التاريخية تحدياً لمن يصمم لهم بيوتهم. الذي جعل طرازها من واقع المعطيات التي ذكرتها نموذج يحتذي به من شرائح مجتمعية خارج إطارهم. في محاولة للتشبه بهم بشكل أو أخر وجد ضالته في تبني طراز عمارة بيوتهم. تلك العوامل مجتمعة شكلت بلا شك تحديات للمعماريين الذين يتصدون لمهمة تصميم بيوتهم. تحديات شكل تعامل المعماريين الأفذاذ معها في كل الحقب التاريخية ً اختراقات تستدعي التوقف عتدها. لأنها صارت نقاط تحول مهمة في مسبرة عمارة بيوتنا الحضرية. مثال لذلك فيلات المحجوب في الحي الخرطوم واحد ومنصور خالد في حي الخرطوم وسط وشوقي محي الدين أبو الريش في مجمع الياسمين السكني. التي وثقت لمنعطفات مهمة في مسيرة تلك العمارة. تداعيات بالغة الأهمية هي دفعتني لتدبيج هذه المقالة.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- مايو 2022
يا رعاك الله من مؤرخ فذ لتاريخ المعمار السوداني