معابد الحضارات القديمة: قمة في التعبير المعماري
قد يتساءل البعض من اهمية التنقيب في الاثار والرجوع لمئات والاف السنيين للوراء. اغلبكم يعتبر ان تمجيدها والزهو بها عمل وطني الهدف منه المباهاة مما يجعله امرا محمودا لأنه يرفع من اسهمنا بين الامم الأخرى. بالذات بعد ان تضائل شاننا نسبة لعثراتنا السياسية المتلاحقة. الإشكالية في ان ما نقوم به في هذا الإطار يتم دائما بطرق مكررة مموجة ليس فيها مجهود او روح ابتكارية. الاغاني الوطنية لا تنقطع عن الوسائط الاعلامية بمناسبة وبلا مناسبة في اغلب الاحيان. صور وافلام اثارنا الرائعة في شمال البلاد استهلكتها شاشات التلفزيون التي تعيدا باستمرار بدون شرح او تعليق مفيد. تذكرنا بقصة حال التاجر الذي افلست تجارته فطفق يبحث في دفاتره عسى ان يجد فيها اسماء بعضا ممن استدانوا منه املا في حل مشاكله المالية.
ما يحدث هنا يقودنا لظاهرة مهمة لها علاقة بما أشرنا اليه. هي طريقة التعامل مع تاريخنا وتراثنا المعماري في كليات واقسام العمارة. في اغلب الحالات يطرح الاساتذة موضوعاتها على الطلاب بطريقة تقريرية سطحية تفتقد الى العمق الذي ينفذ الى مضامينها السامية. السبب في هذا الاخفاق مرده غالبا هو تكليف اساتذة تخصصاتهم ليست لها علاقة بهذا المكون من المقررات. الطلاب من جانبهم يبادلون الاساتذة ودا بود. يحفظون تلك المعلومات السطحية عن ظهر قلب ويتقايونها على الورق يوم الامتحان فيجنون اعلى الدرجات. اهم من كل ذلك ان ينسوا كل ما تعلموه تماما لان الهدف منها قد تم تحقيقه بنجاحهم في الامتحان. تعلموا دائما ان دروس التاريخ لا قيمة لها لاحقا لان ما مضي قد فات ولا معنى للعودة اليه.
اعتقد ان هذه المشكلة سببها الاساسي قلة عدد الاساتذة المؤهلين للقيام بهذه المهام من واقع تخصصهم. اس المشكلة ان الدفعات الاولي من الأساتذة ولفترة طويلة كانت تخصصاتهم علمية الطابع. التعامل مع مقررات علوم العمارة ونظرياتها بالعمق المطلوب يحتاج لخلفيات اساسها العلوم الانسانية. هذا الوضع يبين لنا جوانب القصور الذي نعاني منه مع كامل تقديرنا للمجهودات التي بذلت وتبذل في هذا المجال. الإشكالية ان من يتصدون لهذه المهمة في الوقت الحالي من فئات الشباب كانوا هم أنفسهم ضحية هذا الواقع المعاش. عليه تظل المشكلة قائمة بعد ان تفاقمت واستفحلت.
تلقي عدد منا دروس التاريخ بشكل يفتقد الى العمق الذي ينفذ الى جوهر معانيها. ثم قام من تلقوها على ذلك النحو بنقلها لطلابهم بنفس صورتها المهزوزة. نحن والاجيال التي سبقتنا تربينا في احضان قسم العمارة بجامعة الخرطوم الذي تم تأسيسه على فلسفة ونهج الحداثة. الذي نشاء وازدهر في كنف حركة فكرية عالمية اكتسحت الغرب الاوربي بشكل تصاعدي مع بدايات القرن العشرين. جزورها ضاربة في فلسفة علمانية نظرتها للعمارة ترتكز على الجوانب المادية والبيولوجية. انطلاقا من تلك المفاهيم والرؤى صار هناك تركيز على البعد الوظيفي للعمارة برؤية ضيقة محدودة. مع تجاهل واضح للأبعاد المجتمعية والثقافية ذات الصلة بالمعاني العميقة والقيم. للأسف لم تتغير تلك النظرة عندنا بالرغم قرائن اخفاقاتها في الغرب الاوربي الذي انتجها.
تربيت على هذا النهج وكنت وفيا له الى ان بدأت دراساتي العليا ببريطانيا في بداية الثمانينيات. انفتحت امامي هناك عوالم من المعرفة دخلتها عبر بوابة الدراسات الانسانية مثل الفلسفة والأنثروبولوجيا والدراسات المجتمعية والنفسية. مجالات معرفية لم تأتي على ذكرها مقررات دراسة العمارة في بلادي بالرغم من انني درستها مرتين. افتتنت على وجه الخصوص بعالم الفلسفة فتجولت فيه بحرية. بداءً بإشراقات المؤسسين الاوائل من فلاسفة الحضارات الغربية الضاربة في القدم وتوقفت كثيرا عند افلاطون. توغلت فيها حتى زماننا المعاصر بكل تعقيداته وتحدياته.
استوقفتني على وجه الخصوص افكار الفيلسوف الالماني الحديث مارتن هايدقر. التي بلورها في توجه فلسفي يشار اليه بالظاهرية وتعرف باللغة الإنجليزية بالفينومينولوجي. اسرتني فيها النزعة الانسانية الطاغية. استوقفني فيها مخاطبته لعدد من القضايا الاساسية والملحة في مجالي العمارة والفنون. كانت هي الاساس لعدد من المفكرين والمعماريين المعاصرين المجددين الذين طوروها وانزلوها على ارض الواقع. توجهها الانساني كان خير معين لي في عملي في رسالة الدكتوراه. اعانني بشكل مؤثر في بلورة رؤية تخاطب مجتمعاتنا التقليدية بشكل معمق مفعم بالإنسانية. افتتنت بهذه الطريقة وصرت واحدا من أخلص حيرانها وسكنت المسيد وكانت لي صولات وجولات في ساحات ذكره.
نعود مرة اخري لموضوعنا الرئيس هنا الذي يدعوا لإعادة قراءة العمارة التاريخية والتراثية بشكل معمق مثمر. تبني عدد من المفكرين المعماريين المعاصرين ترجمة افكار هايدقر من خلال اعادة فهم تلك الانماط من العمارة. نذكر منهم على وجه التحديد كرستيان نوربيرق شولز و باولو بورتيقيزي. نجحوا في ذلك المسعي ايما نجاح من خلال اعمال تفسيرية معمقة. تحس بحق انهم وفقوا في انطاق الحجارة الصماء. عمل اعجازي رائع لكأنهم استخدموا وسائل التشخيص الطبي الحديثة مثل الاشعة المقطعية والرنين المغناطيسي. تابعت كتاباتهم بنهم شديد فساعدتني في بلورة فهم جديد للعمارة تحديدا عمارتنا التاريخية والتراثية. اكتشفت قصور تعاملنا معها من خلال مقرراتنا الدراسية سطحية المحتوي والمضمون.
عدت الى السودان مع نهاية الثمانينات مواصلا مسيرتي في مجال التدريس الذي نزرت له نفسي وعمري. ركزت على المواد ذات الصلة المباشرة بتخصصي. اعتقد انني قدمت طروحات جديدة من خلال تدريسي للمقررات الخاصة بنظرية وتاريخ العمارة. كنت احرص دائما على الجمع بينهما. شعرت بان الطلاب يجدون صعوبة في استيعاب بعض مفاهيم نظرية العمارة إذا قدمت لهم بشكل مجرد. فكرت في تجاوز هذه الإشكالية بطرحها عبر نماذج معمارية. انطلاقا من هذه الفكرة صرت اينما حللت بكلية او قسم عمارة احرص على ان يشتمل عبئي التدريسي على مادتي التاريخ والنظرية معا. سأحاول هنا ان ادلل على الحكمة من الجمع بينها.
سأختار حالة اعتبرها مثالية لإيضاح ما اشرت اليه هنا اذ تتجلي فيها عملية التعبير المعماري في اسمي صورها. الاشارة هنا لمعابد الحضارات الضاربة في القدم التي تعايشت جنبا لجنب في الجزء الشمالي من وادي النيل. الحضارة الكوشية وجارتها الشمالية الحضارة الفرعونية. بالرغم التباين السياسي بينهما والكر والفر الذي شاب علاقاتهما الا ان هناك ثمة قاسم مشترك مهم كان يجمعهم. هو الجانب او المكون العبادي والنظام الديني الذي ألقى بظلاله الكثيفة على مجمل عمارة الحضارتين. لهذا السبب نجد تشابه تام ان لم نقل تطابق واضح بين المعابد في الدولتين والحضارتين.
يقوم استعراضنا لمعابد تلك الحضاريتين بالتركيز على الكبيرة والمهمة منها التي تعكس عمارتها في أنصع صورها. سينصب اهتمامنا على المعالجات الفضائية التي ترتكز عليها العمارة في ايصال اسمي المعاني. معروف ضمنا دور وقيمة معالجة الفضاء باعتبارها اس العمارة. سأخضع هذا الانموذج لتفسير ولا اقول تحليل. فالتحليل يستخدم في حالة التعامل مع الظواهر المادية ونحن هنا في مقام ظواهر روحية وثقافية مجتمعية. اعترف بان طرحي هنا هو من بنات افكاري ويعتمد على قراءتي الخاصة المعززة بمفاهيم فلسفية وقناعات شكلت مجمل فهمي للعمارة.
من المهم في البدء ان نلقي الضوء على بعض اميز سمات اهل تلك الحضارات. اهم ما كان يميزهم ان نهج حياتهم كان يتسم بدرجة عالية من الطقوسية. حاولت ان ابسط معني هذه المفردة بقدر الامكان لطلابي. قلت لهم تعني ببساطة اذ تحدثنا عن مجموعة محددة ان كل حركات وسكنات حياتهم تتم وفق اجراءات تتميز بتفاصيل دقيقة ومعقدة. يزيد من زخمها بالنسبة لأهل تلك الحضارات القديمة اهتمامهم الخاص بكل يعنيهم من اشياء مثل ازيائهم بالغة التمييز. بالإضافة لكافة جوانب وتفاصيل عمارتهم الخارجية والداخلية التي تشكل الاطر لتلك الطقوس. فلنجعل هذا الجانب المحوري هو المدخل للتعرف على انموذج المعبد الذي سنبحر في فضاءات عمارته.
نظرة تلك الحضارات للعمارة كانت عميقة محمولة على اجنحة عوالم من الرمزية المترعة بالرؤي الفلسفية. تستصحب معها الكون بأكمله ومظاهر الطبيعة التي تتنزل منه فترسم خارطة الوطن وتمنحها بصمتها الخاصة. وجودهم كانت تحكمه ظواهر طبيعية مهيمنة تتحكم في ترتيب جميع اوضاع حياتهم. اهمها ظاهرتان طبيعيتان تشكلان معا اساس الحياة بالنسبة لهم. كل واحدة منهما تسير في مدار مختلف فتتقاطعان لتحددا معالم وملامح الوطن بأكمله بكافة مستوطناته ومكوناتها. هما ذلك النهر الخالد الذي يمنح بلادهم الحياة والشمس التي تسطع فوق سمائها فتكتمل معها عناصر تلك الحياة. فتشكلان معا ثنائية متكاملة الادوار. ترسمان معا في مساراتهما جوانب مهمة من تفاصيل حياتهم من ضمنها عمارتهم متفردة الملامح والسمات.
الثنائي النهر والشمس معا كان لهم دور محوري في ترتيب الاوضاع في بلادهم. الشمس كانت منذ الازل تشرق من ناحية الشرق وتواصل مسيرتها نحو الغرب لتعلن انتهاء يوم من حياتهم. النهر منذ عرفه الناس يشق طريقه من جهة الجنوب ليصل لمصبه في الشمال. كان لهذا الثنائي معا دورا محوريا له ترتيبات جوهرية استُوعبت في إطار نظامهم العقائدي. الذي يقوم بشكل اساسي على ايمانهم الراسخ بفكرة الحياتين. حياة اولي اعتبروها عابرة وليست جديرة بكثير اهتمام. رفعوا من شان الثانية التي كان لهم اعتقاد جازم بانها دائمة وسرمدية. بناءً على هذا الفهم الراسخ اولوها اهتماما فائقا تجلي في العديد من جوانب عمارتهم بالغة التمييز والتفرد.
اختلفوا عن الديانات الأخرى بان جعلوا للحياة الثانية منشاءات ضخمة اهتموا بها اهتماما كبيرا احتشدت في ما نسميه نحن مدن الاموات على الجانب الغربي. لكنهم يعتبرونها بوابات الولوج للحياة الثانية السرمدية. استوعبوا هذا النظام في إطار الظواهر الكونية والطبيعية المهيمنة التي تشكل عالمهم الكبير. استهدوا بحركة الشمس فجعلوا ما نعتبره نحن مدن الاحياء بالجانب الشرقي للنهر. في هذا الإطار خصصوا المستوطنات في الضفة الغربية لاستيعاب كل ما هو معني بالحياة السرمدية. في تشابه مع حركة غروب الشمس جعلوا مسار رفات الشخص بعد مماته يتم بانتقاله للضفة الغربية. حيث كانوا يعدون العدة هناك بتجهيز مباني ومنشئات العبور للحياة الباقية. بذلك استوعبوا فهمهم للانتقال من الحياة الاولي للثانية في إطار هاتين الظاهرتين الطبيعيتين.
نعود مرة اخري لظاهرة مجمعات معابدهم. موقع الواحد منها بالضرورة لم يكن ببعيد عن النهر. يبعد عنه عادة بمسافة معقولة تسمح بترتيبات مسيرة الحشود التي تستهدفه مقبلة نحوه في اجواء محتشدة الطقوسية. من اهم معايير اختيار الموقع ان يسيطر منظر المعبد المهيب على افق المقبلين عليه. لأنه يشكل جزء اساسي من عملية الاعداد الروحاني. مجمع المعبد عادة يتكون من عدة مكونات خارجية وداخلية. تتراص في تتابع تحكمه طقوس مقدسة تشكل مراحل من دراما روحية متتابعة الفصول. كل واحد منها يختلف عن الاخريات بشكل اساسي بناءً على اجواء مرتبطة بتسلسل درامي مرسوم بعناية. تصميمها معد بدقة فائقة لخلق الاجواء الخاصة بكل مرحلة من مراحل الرحلة الروحانية. سنوضح كل ذلك بشي من التفصيل لاحقا.
عبور النهر للضفة الغربية للوصول للمعابد ومباني المدافن له معني رمزي مهم. فهو مشابه لارتحال الشمس في ذلك الاتجاه معلنة غروب يوم. الشمس والنهر هنا يشتركان معا في تأطير ذلك الحدث المهم. عبور النهر بمراكب الشمس يصعد من دراما هذه اللحظات المحضورة. فالموقف المهيب قد يرتبط بتشييع جثمان للضفة الأخرى في مدن الاموات حسب فهمنا لها. او قد تجمع المركب مجموعة حالهم اشبه بنفرة الحجاج في زماننا تستهدف أحد المعابد بالضفة الغربية. في كلا الحالتين يصير لعبور النهر مغزى رمزي مهم يتم في اجواء طقوسية دراماتيكية. اطاره وخلفيته مراكب الشمس بتصميمها وتفاصيلها المدهشة.
رحلة التعبد على الضفة الغربية تبدأ بزيارة معبد الوادي الصغير الرابض على حافة النهر وهو اول مكون خارجي في مجمع المعبد. هي خطوة شبيهة بعملية تطهر يبتدر بها الحجيج رحلة عبادية طويلة متعددة المحطات. يخرجون منه الى صحراء تكاد تكون بلا حدود. يزيد ويضاعف من الاحساس بالفراغ المهول هنا سماء بلا معالم او ملامح. اجواء تملا افراد الحشد بإحساس غامر بالضياع والتشتت. مكونات مجمع المعبد الخارجية مصممة ومعدة بذكاء فائق للتعامل مع هذه الحالة. تقدم لنا نحن معماريو هذا الزمان الحديث دروسا عظيمة تتقزم امامها شهاداتنا العليا التي جلبناها من أعظم الجامعات الغربية. كل مرحلة فيها تنافس الاخريات.
مثل هذا المشهد في تلك الصحراء المترامية الاطراف يمكن ان تكون له اثار سالبة على حشد الحجيج وهو مقبل على مبني المعبد البعيد. حالة تخلق اجواء من شانها ان تبعثر شملهم في ذلك الفضاء الرحيب. مما قد يؤدي لتشتت افكارهم وهم مقبلون على حدث يحتاج لدرجة عالية من التركيز والتوحد تجعلهم على قلب رجل واحد. عليه تكون هناك حوجة ملحة هنا للملمة أطراف افراد الحشد وجمعهم في وضع اصطفاف. معروف بناء على شواهد عديدة تأثير الاصطفاف في بث روح الجماعة وتعميق الاحساس بوحدة الهدف. هذا هو عين ما رمت اليه فكرة مجمع المعبد من خلال تصميم واعداد المكون الخارجي الثاني.
تصميم هذا المكون وكل تفاصيله قدمت حلولا عبقرية. فهو طريق طويل محفوف على الجانبين بأجواز تماثيل لحيوانات حقيقية او اسطورية جاثية ومتقابلة. تصطف على الجانبين متباعدة نوعا ما من بعضها البعض. التماثيل عادة واحد من نوعين. قد يكون لأسد براس انسان أطلق على واحد ضخم منها يحرس أحد اهرامات الجيزة اسم ابي الهول. النوع الثاني قد يكون لكبش. ظهرت حالة ثالثة نادرة في أحد المجمعات العبادية لمملكة مروي الكوشية حيث صار التمثال الجاثي لفيل صغير. المفاضلة بين تلك الانواع تحكمها مفاهيم رمزية. اذ ترمز تلك الحضارات لكل واحد من الهتها بحيوان محدد. الواضح ان وضع التماثيل بشكل متكرر على جانبي الطريق قصد منه الحشد الروحاني لمجموعة يجمع بينهم ايمانهم باله يتوجهون لزيارة معبده.
ذكرت في بداية مقالتي ان عمارة تلك المعابد تقدم انموذجا رائعا لكيفية توظيف المعالجات الفضائية لتوصيل معاني معينة. تصميم المكون الثاني الخارجي هنا يوضح ذلك بجلاء. فأزواج التماثيل الجاثيات المصطفة على الجانبين تفعل ذلك برفق اذ تلملم أطراف حشد الحجيج وتنظمهم تماما كحبات العقد. تعمل على اصطفافهم فتزيد من توحد وجدانهم الديني. احاطتهم بالتماثيل الجاثيات التي ترمز لذلك للإله والديانة تعزز من هذه الوحدة. هذا امر مهم للغاية سعت عمارة المعبد لاستثماره في أكثر من مكون وموقع. المهم هنا ان وضع ازواج التماثيل الجاثية المصطفة على الجانبين لا يجعلها تحجب منظر المعبد المهيب هو يزين الافق.
يسير موكب الحشد لمسافة طويلة في طريق الاسود او الكباش في طقس احتفالي مهيب تضمخ اجوائه التواشيح والترانيم. يصل لمنتهاه امام مبني المعبد الرئيس فيوشك ان ينفرط عقده بعد تحرره من صفي التماثيل الجاثيات المحيطة به من الجانبين. يتلقفه هناك مكون اخر خارجي مبتكر في شكله هو ماركة مسجلة لتلك الحضارات هو زوج ما يعرف بالمسلات. الواحدة منهما تسمي المسلة وهي عبارة عن عامود طويل شاهق الارتفاع مشيد من الحجر الرملي. مربع الخارطة ومساحة الجزء الاسفل أكبر من الجزء الاعلى ويتوجه شكل هرم صغير. سطحها يحتشد برسومات منفذة بطريقة الخدش تمجد الاله في حالة اشبه بالسيرة الذاتية. تأثيرها البائن على حشود الحجيج بالإضافة لدراما منظومة التماثيل الجاثيات يعزز من عملية الشحن الروحاني.
تنتصب المسلتان على جانبي نقطة نهاية طريق الاسود او الكباش لكان المقصود بهما لملمة أطراف حشد الحجيج لكيلا ينفرط عقدهم. تعملان بطريقة غير مباشرة لتوجيههم نحو مدخل المعبد الذي يتوسط واجهته. هذان العنصران يدلان على عبقرية معماريي تلك الحضارة في المعالجات الفضائية التي تعمل بطريقة ايحائية ذكية. انتصابهما هنا في شموخ يكاد يشق عنان السماء هو خير مؤشر لمدخل المعبد الذي يبعد عنه بعدة أمتار. يلمحهما الناظر من مسافة بعيدة جدا لكأنهما تدعوان الهائم في الصحراء لزيارة هذا المكان. الرسومات التي تغطي اسطحهما ترفعان من درجة الاحساس الروحي فتهئان زائر المعبد بشكل جيد لما هو مقبل عليه.
كانت هذه الحضارات سباقة في ابتداع فكرة مثل تلك المسلات وتماثيل الحيوانات الجاثية في الفضاءات الامامية للمجمعات العبادية. اسسوا لنهج صار في زماننا الحديث تخصص قائم بذاته يعرف باسم التصميم الحضري. يشكل منطقة وسطي بين التخطيط العمراني والتصميم المعماري. وجدت المسلة اهتماما عبر العصور لم يحظ بها الا عدد محدود من مكونات العمارة الكلاسيكية. وضعها قدماء الرومان في واحد من اهم ميادين روما القديمة. زين الاتراك بزوج منها ميدان مهم في إسطنبول يتمدد امام مسجد السلطان احمد. توسطت ميدان الكونكورد وهو من معالم باريس. ارتحلت للولايات المتحدة فشمخت في ساحة بعيدة نوعا ما من مبني الكونجرس في واشنطن لكنها تقع في محوره الرئيس.
تميزت عمارة تلك الحضارات القديمة باحتفائها الكثيف بالتماثيل التي شكلت عنصرا اساسيا في مباني المعابد. ظهرت في مجمع المعبد واحتلت موقع الصدارة كواحدة من اهم المكونات الخارجية. تحرس بوابة مبني المعبد الرئيس دائما زوج تماثيل بالغة الضخامة تنهضان على جانبي المدخل. ضخامتها تجعل من يقف بجوارهما مهما كبر حجمه لكأنه أصغر من قزم. تتكرر هنا فكرة الثنائيات التي ظهرت في المسلتين وكذلك في صفي الحيوانات الجاثية الممتدة في طريق الكباش او الاسود. التمثالان هما لاحد الفراعنة، وقد يكون جالسا او منتصبا واقفا. ضخامة حجم التمثالين المهيمنين على المشهد يؤشر الى مكانة الفرعون السامية ويعزز من عملية التعبئة الروحانية.
كانت المبالغة في مقاسات وابعاد مكونات العمارة وملحقاتها فلسفة واستراتيجية اساسية اتبعها اهل تلك الحضارات. تتجلي بوضوح في احجام اعمدة المعابد والتي لم تنافسها فيها حضارة اخري. حجم تماثيل الفراعنة هنا فيه رسالة واضحة يشهرون فيها عظمة مقدارهم الذي كاد ان ينافس مقام الالهة. معروف في اساسيات التصميم المعماري ان حجم مكونات المباني يعتبر من المؤشرات التعبيرية المهمة. قد أفلح اهل تلك الحضارات في توظيفها على أكمل وجه. لكاني بهم هنا يبعثون برسالة لزملائنا ممن يتبعون نهج الحداثة ويتمسكون بالمعيار الوظيفي الساذج باعتباره الاوحد في حسم الامور. فينشدون المعلومات عن مقاسات اجزاء المباني بهمة عالية بين صفحات كتاب (نويفرت) شبه المقدس عندهم بدون اي التفات لمرجعيات اخري.
مبني بوابة المعبد من اهم مكونات مجمعه اذ يشكل حضورا طاغيا للمقبل نحوه من بعيد. تمدده بشكل كثيف عرضا وارتفاعا يجعله يكاد يسد الافق. فكرته العامة وكل تفاصيله التي لم تسبقهم عليها حضارة اخري زمانئذ تشف عن عبقرية فائقة. كان اشبه بعمارة ضخمة متعددة الطوابق. لم ترد معلومات كافية عن دواعي استخداماتها. المدهش انه لا توجد به فتحات شبيه بالنوافذ على جانبيه الامامي والخلفي. تصميم واجهته كجدار اصم اتاح لهم مساحات شاسعة استثمروها جيدا في عمل لوحات جدارية كبيرة. معروف عن هذه الحضارات انها درجت على استخدام تلك اللوحات في تدوين كافة وقائع حياتهم. تحتشد هنا بالرسومات التي كانت هي مفردات لغتهم الهيروغليفية. ورد من بعض القرائن ان الاعمال الى غطت واجهة البوابة استخدمت فيها الالوان بشكل مبهر.
موضوعات اللوحات على الواجهة الامامية والخلفية لمبني البوابة وثقت لملاحم بالغة الاهمية. بعدها الديني مستمد من تصويرها لانتصارات الفرعون الذي يظهر دائما محاطا ومحروسا بالإلهة. احتشاد بعضها بالألوان عزز من تأثير منظرها المتمدد في افق ذلك المشهد المهيب. هناك ايضا شواهد تدل على وجود ساريات اعلام على واجهة البوابة. تلك العناصر مجتمعة بلا شك رسمت لوحة بالغة الاثر على الحجيج والزوار المقبلين على المعبد. دورها كان مهما في ازكاء مشاعرهم ورفع درجة احساسهم الروحي وهم يهمون بدخوله.
الدراما الحقيقية والمكثفة تبدأ بحق عندما يتجاوز المتعبد مبني البوابة ويبدأ رحلته متنقلا في مكونات المعبد الداخلية. تستثمر هنا جانبين مهمين، المساحة والحجم بالإضافة لدرجة الاضاءة. يتم ذلك بطريقة تنازلية دراماتيكية مقنعة. واقع الحال ان هذه اللعبة المدهشة قد ابتدأت من خلال تنقل المتعبد عبر مكونات مجمع المعبد الخارجية. بارح معبد الوادي المشيد على ضفة النهر فوجد نفسه ضائعا في صحراء بلا حدود وتحت سماء بلا ملامح. تصميم المكونات الخارجية هناك ساهم في تخفيف احساسه بالحيرة والضياع والتشتت. فتماثيل الحيوانات الجاثيات وازواج المسلات والتماثيل العملاقة اخذته بحنو بالغ واحاطته برفق حتى سلمته لمدخل بوابة المعبد.
اول مكونات مجمع المعبد هو فناء الاعمدة. يخطو المتعبد نحوه صاعدا بضع درجات ليدلف الى ساحة داخلية مترامية الاطراف مفتوحة للسماء. لكنها محاطة برواقات او برندات عرشها محمول على اعمدة ضخمة طرازاتها متسقة مع عمارتهم الكلاسيكية. يدلف المتعبد لهذا المكون الداخلي الاول وهو قادم من أطراف صحراء بلا حدود كان ملتحفا فيها السماء. يدخل هنا لمكان محاط من كل الجوانب ومعروش جزئيا. تلك المتغيرات المتدرجة ترفع من درجة تركيزه وهو يبدا طقوسه العبادية. تغمره النقوش التي تحتشد بها حوائط الرواقات وأسطح اعمدتها العملاقة فتصيبه بارتعاشات روحانية. تهيئه لرحلته التعبدية التي يبتدرها بالتنقل بين الهياكل الموزعة في الفناء الداخلي.
بعد ذلك ينتقل المتعبد مرتفعا لبضع درجات ليدلف للمكون الداخلي الثاني ليعيش نقلة مميزة على الصعيد الفضائي والاضائي. يجد نفسه في بهو الاعمدة فيضيق به المكان وترتفع ارضيته وينخفض عرشه. يزيد من ضيقه ازدحامه بأعمدة شاهقة ضخمة تكاد ان تمسك بخناق المكان ومن فيه. تلامس المتعبدين هناك لكأنها تريد ان تأخذهم بالأحضان. يزيد من الاحساس بضيق المكان اختفاء منظر السماء فهذا هو اول مكون معروش بكامله. ينفصل وينعزل المتعبد هنا عن العالم الخارجي. فبهو الاعمدة شانه شان كل مكونات مجمع المعبد الداخلية ليست بها نوافذ. الواضح انها معالجة قصد منها رفع درجة التركيز لمستوي عالي جدا.
عزز المصمم معالجته الفضائية ببعد اضافي لا يقل اهمية فاستخدم عامل الاضاءة الطبيعية بحكمة وذكاء عالي. انعدام النوافذ فرض اجواء من العتمة على البهو. حيلة تصميمية في مستويات العرش سمحت بتسرب بصيص من الضوء الطبيعي. فالجزء الاوسط منه فوق الممر المؤدي للمكون الداخلي التالي مرتفع قليلا عن باقي الاجزاء بشكل يسمح بدخول بعض من اشعة الشمس. أضاءتها لمنطقة الممر لكان المقصود منها مساعدة المتعبدين في تلمس طريقهم الى باقي مكونات المعبد. الضوء الخافت المتسرب من فتحة العرش له تأثير عميق داخل البهو. يخترق العتمة فيمسح برفق على أسطح الحوائط والاعمدة الضخمة المحتشدة بالرسومات فتتوهج مضيفة اجواء روحانية على المكان.
معالجات بهو الاعمدة الفضائية والاضائية تقدم درسا بليغا نحتاجه نحن بحق وقد أصبحنا من أسرى مفاهيم عمارة الحداثة. صارت الامور عندنا تقاس بالمواصفات البيئية العامة وبالمعايير الوظيفية الجامدة. أتأمل في حالة اماكن التعبد التي يلجا اليها كبار شيوخ المتصوفة كملاذات للانقطاع للعبادة والتأمل. اهم خياراتهم الكهوف والمغارات في الاماكن المنعزلة وفي سفوح الجبال. زرت مرة مكمن أحد اهم الشيوخ في منطقة ام مرحي شمال أمدرمان. كهف ضيق موقعه في مكان عميق داخل الجبل. السمات المشتركة في الاماكن المحببة عند هؤلاء الاولياء الصالحين كانت دائما ضيق المكان مع عتمة مسيطرة داخله. مصمم بهو الاعمدة في مجمع معابد تلك الحضارات القديمة صنع مكانا بهذه المواصفات فحقق ذلك الهدف بدرجة عالية من النجاح.
تتقدم نخبة من المتعبدين لتشق طريقها الى المكون الداخلي التالي والثالث في مجمع المعبد. ترتقي بضع درجات لتلج واحد من اهم وأقدس المكونات الذي يشير اسمه لعظمة مكانته وهو قدس الاقداس. يضيق المكان هنا إذا ما قارناه ببهو الاعمدة وينخفض مستوي العرش. قاعة متوسطة المساحة قد تتوسطها طاولة لذبح القرابين. تتناثر حولها احينا حجيرات مخصصة لتماثيل الاله وللكهنة ولاستقبال هدايا المتعبدين. المكان محروم تماما من الاضاءة الطبيعية ولا حتى بصيص ضوء. يستعان عنها بالمشاعل التي تتراقص مساحات ضوئها فتؤجج من دراما المكان. مرة اخري هنا يستثمر المصمم في المعالجات الفضائية والاضائية بذكاء خارق. فيهدينا نحن معماري نهج الحداثة أسرى الفكر العلماني والمكبلين بمعايير الوظيفية الجامدة درسا بليغا.
سدرة المنتهي في خاتمة رحلة الداخل لمجمع المعبد مكون داخلي موقعه في عمق المبني ويتم الوصول اليه عبر قدس الاقداس. حجرة صغيرة نسبيا يشار اليها بالمزار. ابعاد المكان محدودة طولا وعرضا وارتفاعا. مظلم تماما اذ لا تصله اضاءة طبيعية. لا يسمح بالدخول اليه الا لفئة محدودة جدا، كبير او كبار الكهنة الذين يتواجدون فيه عادة بصحبة الفرعون او الملك. استخدامه مرتبط بمناسبات خاصة يتم فيها وضع تمثال الاله الذي تأتي به مجموعة من الكهنة محمولا على محفة. يزوره الفرعون في البدء في إطار اجراءات الموافقة على تنصيبهً. يعود اليه في مناسبات اخري لتلقي التبريكات من كبار الكهنة.
عمارة معابد تلك الحضارات القديمة بكل مكوناتها تقدم لنا دروسا قيمة في التعامل مع الفضاء بشتى السبل. تأخذ المتعبد بتؤدة وحنكة من اول مكون خارجي الى اخر مكون داخلي إذا سمح له بدخوله. موظفة كافة حيل التخطيط العام والتصميم الحضري والمعماري والعمارة الداخلية. مستثمرة في كل الحالات في التحكم في الحيز المتاح والإضاءة. وظفتهما بشكل متناقص لتحقيق اعلى درجات التركيز. معروف من واقع حياتنا وتجاربنا ارتباطه الى حد بعيد بهذين العاملين. دراسة حالة تلك المعابد وتاريخ العمارة بشكل عام بتعمق من شانها ان يساعدنا في استيعاب الكثير من الدروس. عليه، نأمل في ان تستهدي مقررات تاريخ العمارة بمثل هذه التوصيات وتسعي لإعادة صياغة اهدافها ومن ثمة مراجعة مكونات مناهجها. على ان نبدأ باختيار المؤهلين لتنفيذ هذه الاهداف والمهام.
قصدت ان اصوب جل اهتمامي هنا على البعد الفضائي لمعابد تلك الحضارات القديمة وكان هدفي من ذلك اثبات المقدرات التعبيرية المهولة الكامنة فيه. جاء ذلك على حساب جوانب اخري لا تقل اهمية اشرت اليها بطريقة عابرة. اقصد هنا بالتحديد المكون الفني الجمالي الذي تجلي في فيض لا يكاد ينقطع من اللوحات الجدارية. انتشرت كما الوباء على أسطح العمارة خارجيا وداخليا. غطت الحوائط والتفت حول الاعمدة الضخمة ورصعت أسطح العروش الداخلية. يبدو من اول وهلة كالموسيقي التصويرية المصاحبة للعمل الدرامي. وصفه على هذا النحو فيه تجني كثير عليه. لأنه في الواقع حقق حضورا طاغيا وشكل ثنائية رائعة مع المعالجات الفضائية. لعب معها ادوارا اساسية مهمة في تصعيد الاجواء الدرامية في كافة ارجاء واجزاء المعبد.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- نوفمبر 2018