fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

مكون التصميم الحضري عندنا طفل لقيط مجهول الأبوين

هناك عدة تخصصات معنية بالتعامل مع البيئة المبنية من حولنا. منها التخطيط العمراني الذي يتعامل مع مستويات كبيرة منها ما هو حضري الطابع و أخر ريفي الإطار. هو معنى في كلا الحالتين بتخطيط المدن و القرى. ننزل لمستويات بيئية أقل حيث يتم التعامل مع كل مبنى على حدة من خلال تخصص العمارة. هناك مجال و تخصص لا يقل أهمية عنهما الاثنين له صلة قوية بهما. أهميته نابعة من أن موضعه يقع بين هذين التخصصين التخطيط العمراني و العمارة ويشار إليه بالتصميم الحضري. حالة كما تقول قصيدة الشاعر العربي الأشهر نزار قباني تشكل منطقة وسطى. لكنها هنا لا تقع ما بين الجنة و النار. لكن بين جنتين إذ اٌحسن التعامل مع مجمل هذه الحالات الثلاثة بحنكة مؤسسة على رؤية علمية سديدة. نال هذا المجال و صار معترف به كتخصص قائم بذاته في زمان لاحق بعد هاذين التخصصين المشار إليهم هنا. أهميته نابعة من موقعه على ارض الواقع إذ أنه يشكل منطقة تماس و وصل بين مستوى التخطيط العمراني و العمارة.

جاء الاهتمام و الاعتراف بمجال تخصص التصميم الحضري متأخراً بالمقارنة برصيفيه التخطيط العمراني و العمارة. لم يكن هذا الأمر مقتصراً علينا نحن هنا في السودان و العالم الثالث الذي لم يجد فيه حتى الأن تقديره المستحق. إذ أنه ينطبق أيضاً على العالم الغربي مهد التقدم في العديد من ضروب العلوم الحديثة. تأخر الاعتراف به ككيان و تخصص مستقل قائم بذاته لا يعنى أنه كظاهرة مهمة كان غائباً طوال تلك المدة الطويلة. واقع الحال أنه شكل حضوراً باذخاً و مؤثراً من منذ عصور حضارات ضاربة في القدم. سطع فيها بقوة في عدة أشكال ربطت بشكل ذكي بين رصيفيه التخطيط العمراني و العمارة. لم يكن فقط مكملاً لمجالاتهما لكنه دخل معهما في واقع الحال في منافسة محتدمة. ظهر فيها في البدء محمولاً على أكف واحد من أهم ضروب الفن التشكيلي هو فن النحت. قدم نفسه فيه في البدء في أشكال لأشخاص من البشر و الحيوانات. لكنه في بعض العصور القديمة ما لبس أن تحرر من تلك القيود و انطلق في فضاءات التجريد مقدماً أروع آيات التعبير.

بعضاً ما أشرت إليه هنا من إنجازات مدهشة غاية في الروعة جرت أحداثها قبل بضعة ألاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. في إطار حضارات نشأت في الجزء الشمالي من نهر النيل هي مصر الفرعونية و كوش السودانية. في ذلك الزمان الضارب في القدم قُدمت أروع الأمثلة للمساهمة الفعالة المؤثرة لمكونات التصميم الحضري. نجحت جنباً لجنب مع منظومة التخطيط العمراني و العمارة في التعبير عن أسمى الغايات والمعاني. أعظم ما في هذه النماذج أنها استصحبت معها مكونات أخرى لا تقل أهمية من لدن الطبيعة المحيطة بمواقعها. أنصع الأمثلة و النماذج المبهرة لما أشير إليه هنا قدمتها مجمعات معابد تلك الحضارات العظيمة خالدة القيمة. دَبجت فيها العديد من المقالات الغزلية التي دَشنت بها بداية ظهوري في الصحافة السودانية. تجدون منها نماذج عديدة متنوعة في ثنايا مواضيع موقعي الإلكتروني عبر الرابط- drhashimk.com. أجد نفسي مضطراً لاجترار بعضاً مما ورد فيها لإجلاء العديد من المعاني بالغة الأهمية.

سأستصحب معي هنا نماذج محددة من أهم أعمال تلك الحضارات المعمارية هي معابدهم و مدافنهم. واحد من أهمها معبد آمون أهم ألهتهم الرابض عند أعتاب جبل البركل الأشم في موقع ليس ببعيد من النهر الخالد. كان هو الأكثر قدسية خلال عدة عهود من تاريخ تلك الحضارات الضاربة في القدم. أشرت لتلك الحالة في أكثر من مقالة نشرت في عدة صحف خلال الثلاثة عقود الماضية. أخرها واحدة مطولة تعاملت مع هذه الحالة بشئى من التفصيل نزلت في صفحة الفيسبوك في شهر فبراير الماضي. عنوانها-مجمع جبل البركل العبادي: إطار طبيعي مذهل و عمارة مدهشة. وجدت طريقها بعد ذلك ضمن مواد موقعي الإلكتروني. أشرت فيها لهذه الحالة بالغة التميز التي أسست لمفهوم جديد عميق لمكونات التصميم الحضري الذي ظهر هنا في أكثر من صورة مبهرة. كان الهدف الأساسي من تلك المكونات المتعددة المتنوعة تهيئة الزائر للمعبد على أحسن ما يكون و هو مقبل نحوه. بطريقة عبقرية تصاعدية متسلسلة بطريق فائقة السلاسة. لا يمكن استيعابها بعمق بدون الإلمام ببعض الجوانب بالغة الأهمية التي أحاطت بهذه الدراما. من أهمها التفاصيل المراسيمية الطقوسية التي جعلت تلك الزيارات العبادية بمثابة محجة. رفع من قيمة أجوائها الروحانية الإطار الطبيعي الذي طوق تلك المواقع العبادية.

لأسباب مقنعة لأهل تلك الحضارات الضاربة في القدم كانت مواقع مبانيهم العبادية مرتبطة بعلاقة خاصة بالنهر. فلم تكن بعيدة عنه لكنها ليست مشيدة مباشرة على شاطئه. ميزة موقعها هناك أنه كان يهنى الفرصة لرحلة متطاولة طقوسية الطابع يزين أفقها منظر المعبد المهيب المهاب. على ذكر تلك الأجواء الطقوسية من المهم أن نشير أنها كانت تهيمن على كل مراحل تلك الرحلات التعبدية. بداءً بموكب الحجيج و رحلته النهرية بمراكب الشمس بديعة التصميم. التي تعقبها بعد الوصول لشاطئي النهر مسيرة طويلة على الأقدام تنتهي عند مدخل مبنى المعبد عبر مراحل متعددة. تعامل المصمم مع كل واحدة منها بشكل مدهش لعبت فيه مكونات التصميم الحضري دوراً أساسياً مؤثراً. واحد من اهم أهدافه المحافظة على اصطفاف رهط الحجيج لكيلا يتفرق جمعهم في بداية رحلتهم العبادية القاصدة. التي سنشير لمراحلها بشئى من التفصيل.

أول مرحلة في تلك المسيرة كانت درب طويل تحفه تماثيل لحيوانات جاثيات متقابلة متباعدة نوعاً ما. بعضها لحيوانات عادية معروفة و نوع منها يمثل حالة أسطورية. العادية منها كانت لكباش ظهرت معها حالة نادرة خارج هذا الإطار. في سياق عمارة معابد مملكة مروي أخر حلقات ممالك حضارة كوش السودانية ظهرت فيها حالة نادرة. تماثيل لأفيال جاثيات تحف بالطريق المؤدى لواحد من المعابد. شواهد عديدة تشير لأن تلك المنطقة كانت في زمن سحيق غزيرة الأمطار كثيفة الغابات بشكل سمح بتواجد مثل تلك الحيوانات. واحد من أنواع تلك الحيوانات الجاثيات أسطوري الطابع كان لجسم أسد براس إنسان يعرف باسم أبى الهول. عليه كان ذلك الطريق الطويل الذي يقود إلى المعبد يشار إليه حسب نوع التماثيل الجاثيات التي تحفه. مثلا طريق الكباش أو الأسود في أرض مملكة مروي طريق الأفيال. كانت لتلك التماثيل متعددة الأنواع دلالات رمزية مقترنة بنوع المعبد و هو أمر بالغ الأهمية سنشير إليه لاحقاً.

أعتقد جازماً أن مكونات التصميم الحضري في هذه الأطر قدمت حلولاً عبقرية. لعبت فيها دوراً أساسياً جوهرياً في تجميع و تهيئة رهط الحجيج و هم في طريقهم لزيارة المعبد. بناءً على طبيعة ذلك المكان الرحيب بكل معطياته الطبيعية التي أشرنا إليها من قبل. التي تجعلهم يحسون بالضياع وسط في صحراء تكاد تكون بلا حدود و سماءً بلا ملامح. كان هناك بلا أدنى شك حاجة كبيرة للملمة شملهم و تركيز إحساسهم. الذي يساهم فيه بشكل كبير اصطفافهم في إطار ذلك الطريق الذي ينتظرهم. معروف ضمناً أهمية الاصطفاف في توحيد الهدف و الرؤى. وحدات التصميم الحضري متمثلة في تماثيل الحيوانات الجاثيات التي تحف بالطريق كانت تؤدى ذلك الغرض بشكل مثالي. إذ تقودهم بلطف و حنو بالغ نحو هدفهم النبيل كأنها تَربُت برفق على جنباتهم. بدون أن تحجب عنهم رؤية منظر المعبد المهيب المهاب الذي يزين الأفق. من جانب أخر تلعب نوعية التماثيل الجاثيات المحيطة بالطريق دوراُ إضافياً مؤثراً. بدلالتها الرمزية التي تساعد في تهيئة رهط الحجيج و رفع درجة إحساسهم الروحاني بشكل تدريجي سلس.

تستمر تجليات المصمم الحضري في المرحلة التالية في المنطقة التي تفصل بين ضفة النهر و المعبد بشكل أكثر ابتكارية. فلا زال هناك احتمال تشتت رهط الحجيج في نهاية ذلك الطريق الطويل. عليه كان من المهم أن تتكفل بهم واحدة من مكونات التصميم الحضري لتكون في استقبالهم هناك. ينتظرهم فعلا و يأخذهم بالأحضان نوع أخر مبتكر منها. ينتصب هناك شامخاً في إباء و شَمم و رشاقة عند نهاية مسيرتهم زوج (جوز) مسلات. مرحباً بهم مفسحاً لهم الطريق ليعبروا من خلاله لمواصلة رحلتهم القاصدة. المسلة ابتكار جادت به قريحة مصممو تلك الحضارات الضاربة في القدم هو عامود مشيد بالحجر الرملي. رشيق شاهق فارع الطول مربع المقطع قاعدته أكبر من الجزء الأعلى المتوج بهرم صغير. اختلاف مساحة المقطع و ذلك الهرم الذي يتوجه لها تأثيرات ملوسة و دلالات رمزية مؤثرة. أذ يقود البصر إلى أعلى و معه تسمو الروح و تتسامى فتمنح العابرين بين جوز المسلات نفحة إيمانية مهمة. يعززها تأثير المخطوطات المحفورة على أسطحها. لزوج المسلات ميزة أخرى لا تقل أهمية. فارتفاعها الشاهق يجعلها معلماً مهماً و مؤشرا يلفت الانتباه من مسافات بعيدة لمدخل المعبد.

زوج المسلات يحمل رهط الحجيج برفق ليسلمهم لمنطقة مدخل المعبد الذي تسد أفقه بوابة مفرطة في الضخامة عرضاً و ارتفاعاً. تتلقفهم هناك في تلك المنطقة الأمامية على جانبي مدخل للمعبد زوج تماثيل لبعض فراعين أو ملوك ذلك الزمان. التماثيل هي واحدة من أهم معينات مكونات التصميم الحضري في تلك المعابد. مثل تلك التي أشرنا إليها و هي تحف بالطريق الطويل المؤدى للمعبد. حجم التماثيل هنا على درجة من الضخامة يتقزم أمامها كل من يتعامل معها فيشعر بضالة حجمه و معها مقداره. المبالغة في الأبعاد و المقاسات كانت واحدة من الأسلحة المضاءة لمصممي تلك الحضارات. التي نجحوا من خلالها في تحقيق أهداف بالغة الأهمية. وظفوها على كافة المستويات في أعمالهم العظيمة في مجالات التصميم الحضري و العمارة. باعتبارها من أهم أدوات التعبير عن عظمة آلهتهم و مقدار ملوكهم بالغ السمو.

ذلك الطريق الطويل و أزواج المسلات و التماثيل بالغة الضخامة المحيطة بمدخل المعبد شكلت منظومة مهمة من مكونات المعبد الخارجية. تسلسلها في منطقة موقع المعبد و هي صحراء تكاد تكون بلا حدود لعب دوراً مؤثراً في تهيئة الحجيج لزيارته. وضعت بذلك أول الخطوات في التأسيس لمجال و تخصص احتل مكانه لاحقاً بين تخصصات أخرى مثل التخطيط العمراني و العمارة. قد أشرت لذلك الأمر من قبل هنا بشئى من التفصيل. بعض مكونات و تفاصيل مثل هذه الحالات المتفردة صار في ذمة التاريخ مع زوال زمان هؤلاء الملوك و الفراعنة. ففقدت تماثيلهم بالغة الضخامة و تماثيل الحيوانات ذات القيمة الرمزية قيمتها بتداعي الزمن. تبقت وحدها تتحداه تلك المسلات فريدة التصميم التي يشار إليها باللغة الإنجليزية باسم الأوبليسك (1) obelisk. صمدت لقرون و أزمان عبرت خلالها المحيطات مرتحلة لعدة قارات.

أول الأحداث كان انتقال مسلتين من تراث الأزمنة الفرعونية إلى إسطنبول عاصمة تركيا. تنتصبان في خيلاء في ساحة متطاولة أمام واحد من اهم مزاراتها السياحية مسجد السلطان احمد. في زمان لاحق لم تتخلف فرنسا عن الركب. إذ إزدان مركز ميدان الكونكورد بمسلة فرعاء تشق عنان سماء باريس عاصمتهم و عاصمة الثقافة في العالم. كان للولايات المتحدة التي كانت دائماً الدولة الأعظم في العالم نصيبها من المسلات التي خصصت لها مكاناً بالغ الأهمية و الرمزية. وعيهم المتقدم بأهمية فعالية عناصر التصميم الحضري جعلتهم يتعاملون معها بحساسية مفرطة في إطارها العام الكبير. فاختاروا لها موقعاً بالغ التميز يربط بين أهم مبنيين في عاصمتهم واشنطن. احتلت مكاناً في خط المحور الوهمي المنصف لميدان عام متطاول للغاية و حديقة تعرف باسم المول. تربط بين مبنى الكابيتول مقر مجلس النواب و صرح تذكاري شيد لتخليد ذكرى رئيسهم السابق أبراهام لِنكون. وُظف التصميم الحضري هنا ليربط التخطيط العمراني بالعمارة بحصافة و حنكة عالية. معالجة تدل على علم وافر و حس حضاري متقدم مرهف جداً. أجتاز الحدود الزمانية و المكانية مستفيدا من مجمل مخرجات عناصر الحضارة الإنسانية بدون حساسية أو عقد.

الحال عندنا هنا مختلف تماماً متخلف حسب رائي و رؤيتي الشخصية. ظهرت المسلة أول مرة في العصور الحديثة في حالة مبهرة للغاية. خلال العقود الأولى من القرن الماضي في فترة الاحتلال الثنائي البريطاني المصري. سطعت في قلب نصب تذكاري بديع التصميم تحفة مغلفة بأجمل أنواع الرخام الأبيض. أقيم في الطرف الجنوبي لشارع فكتوريا القصر حالياً. تخليداً لذكرى الجندي المجهول بدون إشارة لهوية مرجعية ذلك الجندي. سطعت كأعظم أنموذج لأعمال التصميم الحضري. قبع في مكانه لعدة عقود من الزمان متعايشاً مع أنظمة سياسية متنوعة بعد الاستقلال التي تقبلته بروح سمحة خالية من العقد. لقى حتفة خلال فترة مراهقة نظام الإنقاذ السياسية العقائدية على يد واحد من رموزها. دمره و كنسه بدعوى انه من رموز الاستعمار و الدلالات الوثنية. من سخريات القدر أننا تخلصنا من هذا الصرح التحفة لحساسية نحو المسلة. لنقيم في زمان لاحق واحدة من الصاج الرخيص عند تقاطع شارع الجامعة مع شارع عثمان دقنه. نصبت تخليداً لذكرى شهداء ثورة اللواء الأبيض و نالها ما نالها في البدء من الإهمال. فصارت زمانئذٍ هدفاً و خلفية مثالية لملصقات الحفلات الجماهيرية لمغنين زمان الوهم الفني.

عندنا بشكل عام حساسية نحو التماثيل ارتبطت لاحقاً بوجه خاص بموجة من الهوس الديني. ظهرت عندنا وارتبطت في البدء بواقعة إعادتنا لتمثالي غردون و كتشنر لموطن شعبيهما بريطانيا بعد نيلنا للاستقلال. تحفظ البعض على هذا القرار و رأى انه كان من الأوفق الاحتفاظ بهما في متحف يؤرخ للحقب الاستعمارية. لان تبنى مثل هذا التوجه المتطرف الغير حكيم كان بالضرورة سيحرمنا أيضاً من بيوت سواكن الرائعة تركية و مصرية الطراز و المنشأ. التي كان عملاً بهذا المبدأ يجب أزالتهما فوراً باعتبارهما رموزاً لعهود استعمارية. الحساسية نحو التماثيل ظهرت في أبشع صورها خلال أزمنة حديثة في عهد الإنقاذ البائد. كان من أول ضحاياها تمثال نصفي في منتهى الروعة للشيخ الجليل العبقري بابكر بدري مبتدر و رائد حركة تعليم البنات ببلادنا. الذي كان يحتل مكاناً مرموقاً في فناء مباني جامعة الأحفاد بأمدر مان. انتزعته بليل أيدي خفافيش النظام الأثمة خلال أولى سني فترة حكمهم المظلمة فأختفى تماماً من الوجود.

تطورت مفاهيم التصميم الحضري منذ أزمنة قديمة يعود بعضها لعصر النهضة في إيطاليا. البلاد التي تسيدت فيها التماثيل المشهد و شكلت حضوراً طاغيا و مؤثراً. لا غرو في ذلك فقد أنجبت بلادهم مايكلأنقلو أعظم مثال في تاريخ البشرية. إضافة العناصر المائية لمكونات التصميم الحضري منحتها بعداً مؤثراً عبر الزمن أضاف إليها زخماً مترفاً. النقلة المقدرة في حياة المدن في الأزمنة الحديثة صنعت واقعاً جديداً مكتمل التفاصيل. ألقى بظلاله الكثيفة على ساحاتها و طرقاتها. تزايد حركة المركبات و زيادة سرعتها ضاعف من الاهتمام بالطرق الخاصة بها بكل تفاصيلها. مثل التقاطعات التي يشار إليها باسم دوارات المرور و عندنا بالصواني. امتد الاهتمام بالطبع بأرصفة الطرق بكل ما فيها من مكونات و تفاصيل. من أهمها محطات انتظار خدمة المواصلات العامة. بالإضافة لمكونات صغيرة أخرى لا تقل أهمية. مثل وحدات الإضاءة و اللوحات الإرشادية و الاعلانية التي تطورت و تنوعت أنواعها. هناك أيضاً تفاصيل صغيرة مؤثرة مثل سلال المهملات. تلك المكونات و التفاصيل الصغيرة الخاصة بالطرق و الساحات العامة رسمت اللوحات الخارجية للمدن.  التي يشار إليها باسم أثاث الطريق و باللغة الإنجليزية street furniture.  

مقارنة مشهد مجال التصميم الحضري العالمي و الغربي بالواقع عندنا ليس في صالحنا البتة. التقدم و التطور هناك يقابله للأسف الشديد تراجع مضطرد عندنا. نستدل على ذلك بعدة شواهد أرخت لها مسيرتنا عبر ألاف السنين و عقود من الزمان. يحدث كل ذلك بالرغم مما ندعيه من تقدم علمي يفترض إننا اكتسبناه عبر السنين. بداياتنا المشرقة المشرفة تشهد عليها معابد حضاراتنا الضاربة في القدم التي أشرت إليها هنا من قبل. من أهمها مكونات التصميم الحضري التي تقود رهط الحجيج برفق و حنو و هي تساهم في حقنهم بجرعات روحانية متصاعدة. مساهمات أجدادنا في هذا السياق موثقة في أهم الأعمال مثل معابد آمون أكبر أله تلك الحضارات. منها بالتحديد الأعمدة التي أضافها تهارقا أهم ملوك حضاراتنا القديمة. في الكَرنك في مصر و مجمع جبل البركل أقدس مواقع مملكة نبتة. بالإضافة إلى الأعمال المعمارية الرائعة التي تسطع في المجمعات العبادية في حواضر مملكة مروي أخر سلسلة ممالك حضارة كوش.

تفاجئنا مرة أخرى بقفزة و نقلة نوعية مقدرة في مجال التصميم الحضري في سياق تاريخنا الحديث. تحديداً في النصف الأول من القرن العشرين الذي أرخ لفترة الاحتلال البريطاني المصري. كان مسرحها الخرطوم الكبرى، الخرطوم و امدرمان و الخرطوم بحري، التي اختارتها سلطة الاحتلال عاصمة لها. في ذلك الإطار كان من أول أسبقياتها تخطيطها و أعمارها بناءً على أحدث المناهج حقبتئذٍ. وزعت اهتمامها في مركز المدينة بشكل متوازن متكافئ بين الشأن التخطيطي والمعماري. فأنتجت عملا رائعاً على كلا الجبهتين بمقاييس ذلك الزمان. حُظيت المساحة الواقعة بينهما التي أشرنا إليها من قبل بمجال التصميم الحضري في العديد من الحالات بنفس القدر من الاهتمام. فأنتجت فيها أعمالاً متنوعة في غاية الروعة. تُثبت لنا بعد أكثر من قرن من الزمان أننا نتراجع إلى الوراء بالرغم مما أحرزناه نظرياً من تقدم علمي.

استثمروا في حالتين أسستا على أعظم أعمال النحت و التماثيل لأهم شخصيتين بالنسبة لبريطانيا أحد شريكي نظام الاحتلال. غردون باشا الذي نحره أنصار المهدى على درج قصر الحاكم الذي ظهر في تمثاله ممتطاً جملاً.  أما اللورد كتشنر الذي هزم جيوشهم عند أعتاب جبل كررى شمال امدرمان فقد انتصب تمثاله هو على صهوة جواد. زاد من تأثير هذين العملين من روائع أعمال النحت إطارها الحضري الكبير و المباني بالغة الأهمية المحيطة بهما. فتمثال غردون انتصب في منتصف شارع الخديوي الرئيس شارع الجامعة حالباً الذي يقع جنوب قصر الحاكم. جاء موقعه في نفس المحور الذي ينصف شارع فكتوريا أو القصر حالياً الذي يبدا من الجانب الجنوبي للقصر. تمثال كتشنر حُظى بموقع رفع من قيمته كاميز مكون تصميم حضري في المدينة. إذ أنتصب شامخاً في مركز ساحة خضراء تقع غرب قصر الحاكم مطلة على النهر. زاد من أهميتها أنها كانت حرماً أمامياً لمبنى الحكمدارية أو قصر الحكم حالياً مقر وزارة المالية. بذلك شكلت مواقع هذين التمثالين بكافة تفاصيلهما أهم مكونات التصميم الحضري في خرطوم كتشنر. سر عظمتها أنها رسمتا صورة رائعة للحظة تكامل و تعاضد رائعة أطرافها التخطيط العمراني مع التصميم الحضري و العمارة.

لم تكتف إدارة الحكم الثنائي تحديداً شريكها البريطاني بهاذين العمليين الجليلين من أروع أعمال التصميم الحضري. فنثروا في حاضرة نظام حكمهم روائع أخرى في هذا الإطار لا تقل أهمية. صغر حجمها لم يمنعها من أن تصبح نصب تذكارية بالغة التميز. نهض واحد منها في الطرف الجنوبي لشارع فكتوريا كتحفة رائعة متوسطة الحجم متدثرة بالرخام الأبيض أشرت لها من قبل. انتصبت في مركزه مسلة شبيه بتلك التي ابتدعتها بعض الحضارات الضاربة في القدم.  زاد من أهمية ذلك النصب أنه شكل ثنائية مع تمثال غردون حددت طرفي شارع فكتوريا. تقبلته عدد من نظم الحكم الوطني بعد الاستقلال بروح سمحة بالرغم من أنه شيد تخليداً لذكرى الجندي المجهول و تتوسطه تلك المسلة. إلا أنه استفز لاحقاً أحد الأنظمة السياسة عرفت بتطرفها الديني الذي وصل درجة الهوس فأزالته من الوجود تماماً. العمل الثاني كان من نصيب مدينة امدرمان. صغير الحجم كبير في قيمته الفنية شيد بالحجر الطبيعي الرائع كنصب تذكاري مهم. احتل مكانا جانبياً في فناء مجمع مبنى المجلس البلدي زمانئذٍ. بالرغم من أنه أقيم ك (سبيل) يشرب منه رواد المجمع إلا أنه سطع كقطعة نحت فريدة في نوعها. شيدته سلطات الاحتلال كنصب تذكاري تخليدا لذكرى سلاطين باشا الذي لعب أدواراً مشبوه خلال حقبة العهد المهدوي.

أرخ منتصف خمسينيات القرن الماضي لميلاد فجر جديد لبلادنا بعد نيلها للاستقلال الذي شكل نقطة فارقة في تاريخها الحديث. تعاقبت بعده في حكمها و إدارة شئونها عدة نظم سياسية. تباينت بين ما يشار إليها بالنظم بالديمقراطية و أخرى عسكرية حاولت لاحقا التدثر برداء الديموقراطية. تمتع النوع الثاني دائماً بفسحة من الزمن وقدر كبير من الاستقرار سمح له بتحقيق العديد من مرئياته و بعضاً من أهدافه. ما يعنينا هنا في هذا السياق حال المدينة تحديداً مكونات التصميم الحضري فيها. أكثر ما يستوقفني في هذا السياق اهتمام العسكر الواضح و المؤثر دائماً تاريخيا بهذا الشأن خلال نظمهم المتتابعة. مع تركيز دائماً على الجوانب التجميلية الجمالية. نجاحهم في هذه المساعي يُعزى بالذات في عهودها الأولى و الوسيطة لإيكال مهام التعامل في هذ المجالات لأهل الاختصاص.

بعد فترة قصيرة من حكم الأحزاب الديموقراطي انقض على السلطة زمرة من العسكر ليدشنوا أول فترة حكم عسكري يشار لهم بمجموعة 17 نوفمبر. حكموا البلاد لعدة سنوات تميزت بالاستقرار النسبي. بالرغم من بعض الإخفاقات إلا أنهم حققوا إنجازات مقدرة على مستوى تنمية البلاد. غطت عدة أصعدة تعنينا منها هنا على وجه الخصوص تلك استهدفت التنمية الحضرية بتركيز على مكونات تصميمها الحضري. كان هناك بالطبع تركيز عل العاصمة القومية. انعكس بشكل خاص على الحدائق العامة و الميادين و الساحات. اللافت للنظر هنا ظهور أعمال النحت و التماثيل مرة أخرى في العاصمة. بعد غياب طويل منذ فترة أيام تمثالي غردون و كتشنر التي تمت إزالتهما. فظهر تمثال نصفي للرئيس عبود زمانئذٍ في دوار مرور في ركن موقع مجلس أمدرمان البلدي الشمالي الشرقي. ثم أخر نصفي أيضاً في دوار في ركن مجمع مستشفى أمدرمان للمهاتما غاندي على راس شارع سمى باسمه. أهم التماثيل حقبتذٍ ضخم كبير مكتمل لشخص منتصب في خيلاء. ارتكز وسط ساحة سميت ميدان الحرية تقع شرق مبنى مكتب بريد مدينة أمدرمان الرئيس. لم يشفع للتمثال أنه حمل اسم ذلك الميدان إذ أزيل بعد فترة من الزمن. لاقى تمثالي عبود و المهاتما غاندي نفس المصير لأسباب مختلفة فاختفت معهما أهم مكونات التصميم الحضري.  

عاشت البلاد في نهاية الستينات سيناريو شبيه بالذي شهدته قبل بضع عقود من الزمان. نظام عسكري وضع نهاية لفترة ديموقراطية قصيرة الأجل. ليستمر في حكم البلاد ملتحفاً لاقحاً برداء الديموقراطية لمدة ستة عشر عاماً. المأخذ و الأخطاء الجسيمة التي رصدها أعداء هذا النظام لا يمكن أن تحجب الإنجازات المقدرة التي تحسب له. تضاف لمشاريع التنمية العملاقة إنجازاته الملموسة المؤثرة في مجال التطوير الحضري. على وجه الخصوص ما أنجز في مجال التصميم الحضري في عاصمة البلاد. أعتقد أن سر نجاحه في كل هذه المجالات هو استعانته دائماً بأهل الاختصاص الذين اختارهم من أكفأ الكوادر. مهما اختلفنا مع الرئيس السابق المرحوم جعفر نميري و تحفظنا على سياساته و توجهاته لا يمكن أن ننكر فضله في جوانب سنشير إليها هنا.

مفاتيح نجاح نظام ثورة مايو في هذا المجال كما أسلفت القول يمكن تلخيصها في عدة نقاط. في البدء اختيار الأهداف بطريقة علمية سليمة بناءً على أسبقيات محددة. ثم بعد ذلك التعامل معها باحترافية عالية مؤسسة على اختيار أكفأ الجهات و العناصر للتعامل معها. نبدأ هنا بواحد من أهم مشاريعها التي للأسف الشديد لأسباب لا أعرفها لم يتم تنفيذ كل مكوناتها على أرض الواقع. المحزن إن ما لم ينفذ منها هو الجزء الأكبر و الأهم. كان ذلك المشروع الكبير الطموح معنى بتجميل العاصمة. الذي أوكل أمره لبيت خبرة استشاري إيطالي مرموق مختص في مجال تخطيط و تنمية المدن. قوامه عدد مقدر من الاختصاصين من ذوي الكفاءات العالية في تلك المجالات. الذي استعان بأهم و أبرز الخبراء في هذا المجال على مستوى العالم الغربي زمانئذٍ في منتصف السبعينيات. بالإضافة إلى ذلك استصحب معه للعمل في هذا المشروع عناصر وطنية منتقاة من المختصين في هذه المجالات. فأقبلوا كلهم يعملون بهمة و روح انسجام و تنسيق عالية في مرحلة استنباط و تطوير و بلورة الأفكار بشكل معمق. فأنتجوا دراسة تعاملت مع كافة جوانب تلك المشاريع بما فيها الأبعاد التاريخية و الفلسفية و الإنسانية المتعددة. التي تعتبر واحدة من أهم المرجعيات في هذا الشأن.

سار عمل الجهة الاستشارية في اتجاهين يسعيان لنفس تلك الأهداف النبيلة. الأول استهدف ما يعرف بأثاث الطريق أو عناصر التصميم الحضري التي تحف بالشوارع و الطرقات و أيضاً الساحات العامة. الثاني صوب سهامه لمكون أخر لا يقل أهمية و قيمة رمزية. هو النصب التذكارية التي تشكل نقاط ارتكاز مهمة في العاصمة الخرطوم الكبرى. مضت مساعي الجهة الاستشارية بهمة عالية في بلورة الأفكار و تجهيز المقترحات في كلا المسارين. فحُضرت دراسات معمقة تعاملت مع كافة جوانب تلك المكونات و أبعادها التاريخية و الفلسفية. لم يحالف الحظ مقترحات المسار الأول إذ لم تجد تلك الأفكار النيرة طريقها للتنفيذ. لكن كان عزائنا تلك الدراسة القيمة التي نشرت في سفر ضافي وافى صدر في النصف الثاني من السبعينيات. أعتقد أنه مرجعً ممتاز يمكن الاستنارة به في أي مشروعات مستقبلية شبيه بالرغم من تقادم الزمن. كان المسار الثاني أكثر حظاً إذ وجدت بعض مقترحاته طريقها للتنفيذ. من نتائجه المثمرة نصبين تذكاريين في منتهى الروعة انتصبتا في موقعين غاية في الأهمية و الرمزية. لكن للأسف لاحقهما بعض النحس فيما بعد لأسباب مختلفة.

قدمت المجموعة الاستشارية حلولاَ مبتكرة عملية للغاية لمنظومة من مكونات أثاث الطريق. قامت أفكارها على نظام تنفيذ عملي رائع جداً. فكل واحد منها مكون من عدة أجزاء خرصانيه جاهزة سابقة الصب. خيار راجح لأنه يسرع في عمليات التشييد. التي تتم باستخدام تلك الأجزاء المصنعة مسبقاً في المصنع و تركيبها معاً في الموقع لتصبح واحد من مكونات أثاث الطريق في زمن قياسي. صممت كل واحدة منها بكافة أجزائها و تفاصيلها بشكل عملي للغاية أنيق حديث حضاري. متسق تماماً مع واجهات منظومة عمارة العاصمة حداثية الهوى. تكرارها على امتداد الشوارع كان سيضفي على ذلك المشهد الحضري متنوع الطرازات و الملامح وحدة محببة. يجعل مكونات تلك المنظومة المسترسلة تبدو كالخيط الذي يربط حبات العقد النضيد. يخفف من وقع خيبة الأمل الناتجة عن عدم تنفيذ ذلك المشروع الطموح الكتيب الذي يوثق له بشكل ضافي و شافي ممتاز. كنت أتمنى أن تطبع منه أعداد كبيرة نسبة لما فيه من مادة قيمة. لأنه يستعرض تجربة عمل استشاري مثالي اُجهض للأسف الشديد في مهده فلم يرى النور كأنموذج رائع جدير بأن يحتذى به.

الجزء الثاني من عمل هذه المجموعة الاستشارية كما ذكرنا من قبل صوب نحو النصب التذكارية. بحسبانها من أهم مرتكزات العواصم المهمة. جاءت أفكارها النيرة المحتشدة بالقيم الرمزية العالية محمولة على أشرعة أفكار ورؤى فلسفية عميقة. أسس لها رموز الحركة الفكرية في مجال العمارة حقبتئذٍ.  على راسهم المعماري الإيطالي الأشهر بالو بورتيقيزى. الذي حلق بالعمارة في أفاق رحبة من فضاءات توجه ما- بعد- الحداثة. كان من ضمنهم واحداً من شيوخي الذين أضاءوا لي الطريق و أنا أتحسس مسيرتي البحثية في التحضير لدرجة الدكتوراه المعمارية في أول و أهم بداياتها. المعماري الفيلسوف الرصين المفكر المؤثر كرستيان نوربيرج شولز. الذي كرس فصلاً من فصول أهم مؤلفاته لحالة السودان متغزلاً في حالة مستوطنة جزيرة توتي. كان حال هذه الأعمال أحسن من تلك المظلات الرائعة التي لم تر النور. حسب علمي أن عدد ما نفذ من تلك النصب التذكارية لم يتعد الاثنتين. لكنهما كانتا بحق أعمالاً في غاية الروعة شكلتا اختراقاً مؤثراً في هذا الجانب المهم من جوانب التصميم الحضري.

واحد من هذين العملين هو الأكثر تميزاً اكتسب جزءً كبيراً من أهميته الفائقة من موقعه. القريب من الموقع الذي كان يحتله من قبل تمثال غردون الذي تمت إزالته من هناك. انتصب في منتصف السور الجنوبي لمجمع القصر الرئاسي المطل على شارع الجامعة. في خط المحور الوهمي الذي ينصف المجمع ثم يمتد جنوبا بامتداد شارع القصر. سمى هذا النصب التذكاري صرح الوحدة فعكس تصميمه بشكل تجريدي إيحائي ذكي هذا المعنى النبيل. الذي كان يعبر عن أشواق الأمة زمانئذٍ في السبعينيات في استدامة الوحدة بين شعبي شمال البلاد و جنوبها. الصرح عبارة عن هيكل من الخرصانة المسلحة مغلف بالرخام الأبيض المبهر يرتكز على بركة ماء صغيرة. نهض في شكل لوح شامخ يقف في خيلاء يشق أجواز الفضاء. الجزء الأسفل مغطى بلوحة من عمل نقشي بارز معبرة عن فكرة النصب و اسمه. ينهض فوقه ذلك اللوح المقسم رأسياً لثلاث أجزاء ناهضة شامخة. الجزء الأوسط منه مصمم بشكل بديع إيحائي بالغ التعبير. يرتفع في منتصف المسافة صعوداً يلتف حول نفسه في شكل شبيه بكفين متصافحين. تعبيراً عن فكرة الوحدة و الوئام التي يرمز لها هذا الصرح و النصب التذكاري.

سطع تصميم هذا العمل النحتى المتفرد معبراً بحق بأسلوب تجريدي إلى حد ما عن القيمة العالية التي يحملها اسمه. فجاء مضمخً بأشواق الأمة و املها في ديمومة وحدة شطري البلاد. فالجزء الأسفل الذي يمثل جنوب البلاد ينهض مرتفعاً ليتصل بالجزء الأعلى الذي يمثل شمالها. يعبر عنها بطريقة إيحائية ذكية الجزء الأوسط الراسي من اللوح الناهض يشق أجواز الفضاء. الذي أشرت إليه من قبل و هو شبيه بكفين متصافحين بحميمية فائقة. معبراً عن أشواق الأمة في أن تتحقق هذه الحالة على أرض الواقع التي تعبر عن قوة الصلة بين شطري البلاد. تعزز فكرتها لوحة نقش بارز في الجزء الأسفل من جسم النصب. صممها و أشرف على تنفيذها النحات الرقم الأستاذ أحمد حامد العربي. يصطف فيها رتل شخوص تعكس ملامحهم كافة سحنات أهل بلادنا. تُكمل رسالة هذا العمل المحتشد بالإيماءات التي ترمز للوحدة بركة الماء التي يجلس عليها جسم النصب الشامخ. إذ تحاكى بحركتها المسترسلة ذلك النهر الخالد. الذي ظل يجمع في محبة و إلفه منذ عصور ضاربة في القدم بين شطري جنوب البلاد و شمالها. واحد من جوانب عظمة هذا العمل العبقري تكمن في تنوع مكوناته و أساليبه التي تجمع بين المنحى التجريدي و الواقعي. بالإضافة لروعة تناغم الكتل الرخامية الصلبة مع المسطح المائي في الجزء الأسفل من النصب التذكاري.

في إطار عملهم الكبير الرفيع في مجال النصب التذكارية قررت تلك الجهة الاستشارية أن تعبر النهر لمدينة امدرمان عاصمتنا الوطنية. جاءت بأفكار لم تختلف كثيراً عن تلك التي بلورت نصب الوحدة في الخرطوم لكنها لم ترتق لقيمته العالية. عمل نحتي يحمل الكثير من سمات صنوه هناك لكنه موغل أكثر في المنحى التجريدي. اختارت له لسوء الحظ موقعاً في قلب ساحة جامع الخليفة عبد الله المفتوح وأحداً من أكثر مواقع طائفة أنصار المهدى قدسية. التي ناصبتها نظام ثورة مايو العداء و استهدفتها بأعمال عسكرية حصدت منها أرواحا عديدة غالية. أنتصب النصب التذكاري في مركز الساحة في زهو و خيلاء متوشحاً برداءه الرخامي الصقيل الجميل. متجاهلاً المرارات السياسية و الحساسية الدينية الناتجة عن التحفظ على الأنصاب و الأزلام. أنتصب هناك لردح من الزمان حتى دارت دورته و ارتحل معه نظام ثورة مايو عدو الأنصار الأول. فانقضت عليه حشودهم بعد ليلة سياسية عاصفة في دار حزبهم المجاور لميدان الخليفة. في محاولة مستميته لهدمه قاومتها بنيته الخرصانية لكن لم يسلم منها غلافه الرخامي. فتبقت لنا من ذلك النصب التذكاري شواهد تدل على عمق تبايناتنا المذهبية السياسية و تحفظاتنا الدينية. نفس المصير الذي لقيه بدرجة أقل صرح الوحدة بعد انفصال الجنوب.

يبدو أن النذر اليسير الذي تم تنفيذه من أفكار تلك الجهة الاستشارية قد حرك ساكناً. جعل الجهات المحلية المعنية بالجوانب الحضرية و سماتها الجمالية فيما بعد تتحرك بهمة عالية. كان من نتائجها المثمرة تكوين جهة مختصة تابعة للسلطات المحلية معنية بتجميل العاصمة. حدث ذلك كما أشرت من قبل في إطار اهتمام النظم العسكرية بشكل عام بتنظيم و تجميل المدن. عاظم من الاهتمام بها تطورات سياسية ذات أبعاد قارية بالغة الأهمية في نهاية السبعينيات. أدخلت البلاد و حكومتها في تحدى كبير هو استضافتها لأول مؤتمر لمنظمة الوحدة الأفريقية. فاستنفر له النظام و سخر كل وحداته المعنية بهذا الأمر بكافة إمكانياتها و طاقاتها و مقدراتها الإبداعية. وجدت السلطات المحلية على راسها تلك المعنية بتجميل العاصمة نفسها كما يقولون في المثل الشائع في (وش) المدفع. كان عليها أن تجعل من عاصمتنا واجهه أو (فترينه) بلغتنا العامية (بترينة) مشرفة تليق بهذه المناسبة الكبيرة.

كان هذا الحدث الكبير فرصة ذهبية لواحد بعينه عضو فعال مؤثر في فريق العمل المعنى بتجميل العاصمة. هو الفنان التشكيلي الحاذق المهندس الروائي المفكر المتميز سيف الدين حسن بابكر. الذي ولد و شب ترعرع في موطنه في شمال البلاد المشبع بتاريخ و تراث ممالك حضارة كوش الضاربة في القدم. في مدينة صغيرة تحفها مغارات تاريخية جاب دهاليزها و سبر أغوارها في طفولته. موطن تطوقه أهرامات مملكة نبته و يزين أفقه و يسيطر عليه جبل البركل الأشم بكامل قدسيته و حضوره الباذخ. عزز تلك الخلفية المترعة بالذكريات لاحقاً بعد انتقاله للخرطوم لدراسة الفنون الجميلة بجرعات مؤثرة من الفكر. التي انغمس في حياتها الثرية المحتشدة بأخر تجليات نهاية الستينيات. تعرفت عليه أول مرة أوانئذٍ من خلال تأمل ثنايا تفاصيل مشروع تخرجه المدهش. ففوجئت بحالة طالبَ خريج غير اعتيادي صقل مواهبه الفنية العالية بزحم فكرى عميق. تتبعت مسيرته الظافرة بعد ذلك عن قرب. التي نجح في أحد مراحلها في تطوير مقدراته المتقدمة مستثمراً في بعثة دراسية بفرنسا بلاد النور و الاستنارة. التي وضعت أقدامه بثقة في الفضاءات الهندسية. فرفعت إحساسه بتخصص عمله في السودان لأفاق سامية. أهلته و أعدته بشكل جيد فأقبل بثقة على تحديات إعداد و تهيئة العاصمة لاستضافة فعاليات مؤتمر القمة الأفريقي.

اهتبل سيف تلك السانحة فقدم مساهمات مقدرة بإنتاج مكونات تصميم حضري رصينة مؤثرة برؤية ابتكارية خلاقة. في شكل مجسمات عملاقة ترتقي لمقام النصب التذكارية. احتلت بعض دوارات المرور في مواقع مهمة و تقاطعات رئيسة. سطع أميزها في دوار قرب ركن مجمع قاعة الصداقة الشمالي الشرقي قبالة النهر. اكتسب قيمته العالية من ذلك المجمع الذي استضافت أروقته مناشط مؤتمر القمة. اصطفت أخريات على أرصفة أهم شوارع العاصمة. تجلى سيف في تلك الأعمال الرائعة التي تأسست على الأشكال النقية الرئيسة مثل الكروي. تأسياً بمفاهيم أفلاطون فيلسوف حضارة اليونان القديمة الأشهر. جاءت معالجاتها متوازنة بين النهج التجريدي والواقعي المباشر. تألقها و عمق تأثيرها شفع لها فجعلها تبقى ساطعة في مكانها بعد إزاحة نظام ثورة مايو في ثورة شعبية عارمة. كانت من أهم شعاراتها إزالة كافة أثار ذلك النظام الذي كانت تلك النصب واحدة من أميزها. حدث لها أمر مؤسف خلال فترة حكم نظام عسكري في زمان لاحق. يحمل دلالات واضحة تشير لتراجع محزن في فهمنا لقيمة مثل تلك الأعمال. سنشير لها لاحقاً بالتفصيل عندما نستعرض حقبة ذلك النظام.

اجتهد نظام مايو في مجال الطرق في إطار التنمية الحضرية. ففتحت دوارات المرور الشهية لأعمال فتية تزينها امتداداً لمجهودات دشنها من قبل سيف حسن بابكر. تصدى لهذه المهمة المحفوفة بالتحديات بعضاً من كبار التشكيليين من قيادات العمل الأكاديمي بكلية الفنون الجميلة. فقدموا أروع الأعمال في مجال النصب التذكارية. اختيرت لهم دوارات مرور على شوارع رئيسة و تقاطعات مهمة في مركز الخرطوم الإداري التجاري. ظفر أستاذ الأجيال المرحوم البروفيسور حسن الهادي بدوار عند تقاطع شارع الجامعة مع شارع المك نمر.  منحه أهمية خاصة موقعه في الركن الجنوبي الشرقي لمقر رئاسة الاتحاد الاشتراكي الحزب الحاكم الوحيد زمانئذٍ. إكراماً للحزب جاء النصب معبراً عن فكره فجسد فكرة تحالف قوى الشعب العاملة. العمل الثاني بالغ الأهمية كان من نصيب واحد من أهم النحاتين السودانيين. الأستاذ أحمد حامد العربي رئيس قسم النحت بكلية الفنون الجميلة حقبتذٍ. انتصب العمل الذي لم يكتمل لسبب ما عند تقاطع شارع الجمهورية مع شارع الحرية. جاء طرازياً تجريدي المنحى قمة في الروعة و أية في التعبير. من المؤسف أن هذه الأعمال بالغة التميز و التفرد كان مصيرها محزن للغاية في زمان لاحق سنستعرض تفاصيله فيما بعد.

شهدت نهاية الثمانينات سيناريو تكرر من قبل مرتين. استولت على السلطة مجموعة عسكرية بعد فترة حكم ديمقراطي لم تتعدى الثلاثة سنوات. في إطار حركة أطلقوا عليها اسم ثورة الإنقاذ الوطني.  التي سرعان ما كشفت عن توجهها الإسلامي المتسم بدرجة عالية من التطرف و التشدد. قضى هذا النظام الذي حاول لاحقاً كعادة الأنظمة العسكرية تبنى نهج ديموقراطي زائف أطول فترة حكم بلغت الثلاثة عقود من الزمان. عاش سنوات صعبة في البداية إذ شَلت مقدراته حروب أهلية داخلية و حصار محكم من دول الجوار. أنفرج بعدها الوضع بشكل ملموس تحديداً lلاقتصادي نتيجة لإيرادات سخية من عائدات النفط. وظف فيها جزءً مقدراً للتنمية بشكل عام. شأنه شأن النظم العسكرية أولى اهتماماً خاصاً للجانب الحضري و أبعاده الجمالية بتركيز على عاصمة البلاد. الذي أبلى فيها بلاءً مقدراً لا زالت بعض أثاره شاخصة حتى الأن. قبل أن يقل الصرف عليه و تتضاءل التنمية لاحقاً نتيجة لضمور كبير في عائدات النفط بعد انفصال الجنوب. انعكست تلك المتغيرات ارتفاعاً و هبوطاً على التنمية الحضرية في العاصمة بشكل عام. يعنينا منها هنا على وجه الخصوص جانب مكونات التصميم الحضري.  

بعد سنوات من تفجر ثورة الإنقاذ و تعافى الاقتصاد و أنتعاشه التفت النظام لأمر التنمية الحضرية و أولى عاصمة البلاد اهتماماً خاصاً. تجلى في عمل متصاعد في بناء الجسور والكباري الطائرة التي نشأت جنباً لجنب مع شبكات الطرق الحديثة التي غطت أرجاء العاصمة. في هذا السياق أولى اهتماما خاصاً لأمر الساحات و الحدائق العامة. مما أحدث نقلة جبارة في مجمل صورة و مشهد العاصمة الخرطوم الكبرى الحضاري. لم يكتف النظام و سلطاته المحلية بما أنجزوه إذ أبدو اهتماماً خاصاً للأبعاد الجمالية. قد كنت لفترة من الزمان شاهداً على العصر و جزءً من الحدث لا بل في قلبه. من خلال عملي كعضو فعال نشط ضمن جهة استشارية كونت منذ أمد بعيد معنية بأمر تجميل العاصمة. تم اختياري لها من قبل كلية الهندسة باعتباري ممثلا لجامعة الخرطوم. كانت بحق تجربة ثرة حاولت جهد طاقتي أن أكون عضواً مؤثراً. لكن للأسف لم يكن مردودها على قدر التحدي لأسباب سأوضحها لاحقاً.     

هناك امر بالغ الأهمية يجب إيضاحه هو ذلك الفرق الأساسي بين النظامين العسكريين الذين حكموا البلاد نظام ثورة مايو و نظام ثورة الإنقاذ. الذي انعكس بشكل مؤثر على أداء الجهات الحكومية المعنية بالتطوير الحضري و جمالياته على كافة المستويات. يحمد لذلك النظام العسكري الأول ظاهرة تكاد تكون الأولى من نوعها في نظم الحكم في بلادنا. هي الاستعانة بأكفاء العناصر في إدارة شئون البلاد على كافة المستويات بدون محاباة أو اعتبارات سياسية. تغير الأمر في حالة نظام الإنقاذ إذ كانت الأفضلية في المرحلة الأولى من فترة حكم النظام للعناصر العسكرية. بتركيز على من اشتركوا في انقلابه العسكري. تغير الأمر قليلا في فترات لاحقة إذ صار المعيار هو الولاء السياسي بدون اعتبارات أخرى. كلا الحالتين كانت لها نتائج سلبية أدت لاختلالات كبيرة سنستعرض انعكاساتها السالبة على مجالات التصميم الحضري.

نعود مرة أخرى لفترة عملي كعضو ممثل لجامعة الخرطوم في اللجنة الاستشارية التي كونت لتجميل الخرطوم. التي تراسها نائب المعتمد أحد صغار الضباط و أصغر واحد في المجموعة التي قامت بالانقلاب العسكري. ميزة قربته للغاية من السيد الرئيس منحته صلاحيات واسعة بسط فيها سيطرته على شئون الولاية لعقود من الزمان. وضع فيها بصمته البائنة الشائه الساذجة في الكثير من الحالات في عدة جوانب من الولاية. بدأها بإدارة شئون لجنة تجميل العاصمة بطريقة عجيبة نابعة من ثقته الكبيرة بنفسه بدون مسوغات مقنعة. التي جعلته منذ البداية و لاحقاً ينفرد باتخاذ قرارات طائشة أدت لنتائج سلبية. أعانه على تحقيق نتائجها الكبيرة المؤسفة حركته النشطة الدؤوبة المدمرة في كثير من الأحيان. التي اُطلق عليه بسببها اسم (رامبو) أحد أبطال السينما الغربية الشعبيين. تلك الثقة العالية للغاية بنفسه قلصت دور اللجنة و شلت من فعاليتها فجعلته لاحقاً يعمل منفرداً. يجوب نواحي و جنبات العاصمة المثلثة يفعل فيها ما يشاء بدون حسيب أو رقيب. مخلفاً نتائج كارثية هنا وهناك سنحاول رصد بعضها.

كان لذلك العقيد في إطار عمله في مجال التصميم الحضري ولع خاص بدوارات المرور أو الصواني. من الماسي أنه تجرأ مرة بكل ثقة أكمل عمل نصب تذكاري أشرنا له من قبل   فكانت النتيجة كارثية. بدأه و لم يكمله حتى النهاية لأسباب نجهلها أستاذ الأجيال في مجال النحت الأستاذ أحمد حامد العربي. أكمل العقيد ذلك العمل الفني الذي كان سيصبح تحفة فنية فحوله للأسف الشديد إلى ما يشبه المزحة أو النكتة. لو فعل فعلته تلك في بلد يحترم الفن و أعمال رواده لنصبت له مشنقة في نفس ذلك المكان. من الأعمال الإجرامية التي قام بها إزالة نصب تذكاري تحفة موشح بأجمل أنواع الرخام أشرت إليه من قبل. شيدته إدارة الحكم الثنائي في الطرف الجنوبي لشارع القصر. كان يمكن استبقائه مع بعض التعديلات أو استبداله بأخر يحمل نفس تلك القيم و المعاني. مشكلة العقيد الذي كان بيده القلم لوحده التي أدت إلى مثل هذه الكوارث كانت محدودية فكره و رؤيته و انفراده باتخاذ القرارات.

مشاكل نظام الإنقاذ و قصور نظره و محدودية أفقه لم تقتصر فقط على ذلك الضابط المشار إليه هنا. الذي حملته مسيرته لاحقا لمواقع عمل أخرى بعيدة عن مجال التصميم الحضري.  يبدو أنها ظاهرة لازمت لفترة طويلة نوعية من يديرون العمل في تلك المجالات. الذين كانت تتحكم في اختيارهم معايير ليست لها صلة بالتخصص أو المقدرات الفنية المتميزة. أدلل على ذلك بواقعة أخرى مخجلة مأساوية الأبعاد. كان مسرحها أيضاً موقع نصب تذكاري لواحد من ركائز الفن التشكيلي في زمان مضى أشرت له من قبل. الذي كان يحتل موقعاً مفتاحيٍ عند تقاطع شارع الجامعة مع شارع المك نمر من أعمال الراحل الأستاذ حسن الهادي. تطلب الأمر إزالته في فترة سابقة في إطار سياسة عامة لإدارة المرور و الحركة. قَصدت منها فتح الشوارع لتسهيل سلاسة حركة المركبات التي تزايد عددها بشكل كبير للغاية. هو أمر مقبول مبرر لكن الغير مقبول على الإطلاق هو المصير الذي أل إليه ذلك العمل التذكاري المتفرد. لم أسمع على الإطلاق أنه قد تم التعامل معه بطريقة خاصة بهدف الاحتفاظ به بطريقة لائقة. أغلب الظن أنه عومل لكأنه مخلفات أدمية تم التخلص منها بالطرق المتبعة في مثل هذه الحالات.

من مخازي فترة الإنقاذ في مجال التصميم الحضري أنها حاولت في العقود الأولى من الألفية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. رجعت تجتر أمجاد السبعينيات تماماً كما يفعل الصبية من المغنين بأغاني الحقيبة و رواد الغناء الحديث من أفعال تشويه ممنهج. عادت لأعمال التشكيلي سيف حسن بابكر و نصبه التذكارية الرائعة. التي كانت تزدهى بها دوارات المرور و ارصفه الشوارع الرئيسة في عاصمتنا في ذلك الزمن الجميل. عادوا إليها في عمل غاية البلادة و الفجاجة. تعاملوا مع بعضاً منها فقسموا أجزائها و وزعوها في مناطق متعددة بعيدة عن بعضها البعض. غبائهم الفائق لم يسعفهم لأن يدركوا أن مثل هذه الأعمال المتفردة لا تقبل القسمة على أثنين دعك من تقسيمها لعدة أشلاء. فعلوا فعلتهم النكراء تلك و الرجل العظيم القامة سيف حسن بابكر كان زمانئذٍ موجود بينهم ينتج و يبدع. كان و لا زال يبدع لا بل أكثر أبداعاً محلقاً في أفاق ليس فيها مجال لفهمهم المحدود وذائقتهم الضحلة.

نرصد أيضاً عملية اجترار فجة أخرى عاشها مجال مكون التصميم الحضري في الخرطوم مع بداية عقد الألفية الثاني. تذكرني بواقعة عشناها نحن صبية نتابع بشغف في بداية السبعينيات أفلام رعاة البقر (الكاوبوى). التي كانت تحظى بشعبية عارمة حقبتئذٍ تركزت حول بضع أبطال أسطوريين أهمهم (ديجانقو). عندما حصد منتج فلمه ثروات هائلة منه أراد أن يعيد التجربة مرة أخرى طمعاً في المزيد من المال. فأنتج فيلماً أخر جديد أطلق عليه اسم: عودة ديجانقوا. بناءَ على هذه التجربة صار الناس زمانئذٍ يشيرون لكل من يعيد فكرة مشروع ناجح أملاً في تكرار النجاح بأنها حالة عودة ديجانقو. هذا بالتحديد ما فعله نظام الإنقاذ خلال تلك الفترة. بعودة (رامبو) ذلك العقيد بعد أن ترقى عدة درجات في سلك العسكرية مرة أخرى إلى دائرة الضوء. أعيد بعد عقدين من الزمان ليتسنم جهة ابتدعوها له. لا أذكر اسمها بالتحديد لكنها من نوع تطوير البيئة الحضرية الحلم الأزلي الذي لم يتحقق نسبة لإيكال أمره لمن لا يفهم فيه شيئاً. فهيأوا له مرة أخرى موقعاً متقدماً منحه إمكانيات و صلاحيات واسعة مؤثرة.

انطلق رامبو يجوب شوارع مركز الخرطوم الرئيسة مرة أخرى بحرية مطلقة و همة عالية و حماس لا يفتر. بصحبته عدد من التشكيلين الذين كان يبحثون عن عمل و رزق في زمان ضاقت فيه مصادر كسب العيش. صوب سهامه نحو منطقة مركزية فأخطأت أهدافها لأسباب موضوعية. ركز على جانبي شارع المك نمر بين شارعي البلدية و الطابية أو المهدى في منطقة بداية حي الخرطوم واحد في الجهة الجنوبية. استهدف هناك جدران المباني المحيطة بالشارع فغطاها بلوحات جيدة لكنها وضعت في المكان و الزمان الخطأ. في مواقع يكون السائق فيها و من معه كل همهم تجاوز الاختناقات المرورية. هم فيها في مواقف ليس فيها مجال لتأمل الأعمال الفنية المحيطة بهم. عاد بنا (رامبو) هنا عقوداً من الزمان إلى الوراء. عاد بنا إلى مرحلة ما تحت الصفر و المربع الأول أيام (الإنقليز) و أوائل سنوات مايو. استمر (رامبو) في ذلك الموقع ردحاً من الزمان تحميه وتحصنه فيه محبة الرئيس له.

لم تنل امدرمان عاصمتنا الوطنية الحبيبة و مدينتي الفاضلة الأثيرة حظاً مماثلاً لغريمتها الخرطوم في الاهتمام بمكونات التصميم الحضري. لكنها بالرغم من ذلك للأسف الشديد لم تسلم من الأذى الذي أصابها في مقتل في أعز مواقع فيها في مكامن تراث الفترة المهدية. زاد من حسرتي لما أصابها أنى عايشت عن قرب هذه التجربة الأليمة بكل أبعادها. إذ عشت في خضمها لفترة قاربت النصف قرن من الزمان. في حي الملازمين صرة تلك المنطقة آثاريه الهوى و الهوية المضخمة بعبق ذلك التاريخ المجيد. انطلق بعض الأدعياء الجهلاء الذين منحهم القدر القلم و القرار بسخاء في فترة مظلمة من مسيرة التنمية الحضرية. ليفعلوا بهما ما يشاؤون في أعز منطقة تاريخية في عاصمتنا الوطنية. فجابوها برعونة فائقة و فعلوا بها كما يفعل الثور في مستودع الخزف. حز في نفسي هذا المشهد الأليم فسطرت فيه مرثية و مناحة في مقالة مطولة. عنوانها: تراث مدينة أمدرمان في مهب الريح. زينت بها صفحة الفيسبوك ثم استقرت مع مواد موقعي الإلكتروني و الرابط لكليهما- drhashimk.com. 

نحتاج لجرعة من الخيال لنضم لمكونات التصميم الحضري عناصر غير مألوفة مثل تلك التي  طرزت هذا الجزء التاريخي من مدينة أمدرمان. على سبيل المثال بوابة عبد القيوم الرابضة عند واحد من مداخل المدينة في حي الموردة العريق بالقرب من ضفة النهر. تنافسها بالقرب منها التحصينات الطينية أو الطوابى جمع طابية المضجعة في دلال في تلك الواجهة النهرية. التي تحصن خلفها الثوار المهدويين من قذائف العدو الغاشم المصوبة من سفنه العابرة. مثل هذه النفائس الإثارية تحتاج لعناية خاصة و تعامل بحساسية مفرطة. يحافظ عليها بطريقة بعيدة عن عملية (الميكآب) و المساحيق الزائفة. إذ أنها تستمد ألقها من أثار العراقة و القِدم النبيلة. من أهم متطلبات مواقعها توفير حرم حولها خالي من المباني و كل ما يشوش عليها مهما صغر شأنه. مثل سياج معقد التصميم ينافس مشهدها المهيب. القصد هنا ألا نفسد على من يزورها متعة تأملها من بعد بعمق و روية. كان حظ البوابة وفيراً إذ استضافها دوار مروري صينية حركة فسيحة و احتضنتها شوارع واسعة. حظ افتقدته الطوابى التي كتمت على أنفاسها أفيال بيضاء وهي ترجمة لتعبير باللغة الإنجليزية توصف به الأعمال المعمارية الخرقاء. مباني ضخمة شبه مصمتة، مول و مطاعم و صالات أفراح. تحدت بوجودها في تلك الواجهة النهرية كل قوانين و أعراف التخطيط العمراني.

الصورة المستفزة لرتل الأفيال البيضاء التي تصطف بهمة في تلك الواجهة النهرية في طرف حي الموردة و الملازمين أضاءت فيها نقطة مشرقة. فجوة أخطأتها سهام المستثمرين الجشعين. مشروع بسيط الشكل عظيم المعنى تعامل بلطف و ذكاء مع تلك المنطقة البكر بدون أن ينتهك عذريتها. مسرح مكشوف تنساب مدرجات المشاهدين فيه احتراماً في توافق تام مع تضاريس الأرض. تَسيد المواد الطبيعية فيه جعله يذوب تماماً في إطاره العام المضجع في حضن النهر و الخضرة. الاحترام الكامل لذلك المنظر المدهش يتجلى في عدم وجود منشاءات تحجب رؤيته من شارع النيل. العمل بكامله ينسجم تماما مع روح المكان المشبع بعبق التاريخ الذي تشي به طوابى المهدية الطينية الأثرية. اكتملت تلك البانوراما التاريخية المدهشة باستجلاب ما تبقى من باخرة صغيرة قديمة من بقايا فترة التركية السابقة لترسو على ضفة النهر هناك. علمت أن هذا الجهد المقدر كان على راسه معتمد امدرمان السابق مجدي عبد العزيز الفكي. هو امر غير مستغرب من شاب ولد و نشاء و ترعرع في حي الملازمين المجاور للموقع. فأقدم على هذا العمل الرائع و نجح فيه في محاولة لرد الجميل لتلك البيئة التي تربى في حضنها.  

منحت ساحة جامع الخليفة المفتوح في قلب مركز أمدرمان فرصة ذهبية لأعمال التصميم الحضري. باعتبارها كانت و ستظل هي ميدانها الرئيس. فرصة تحتاج لتعامل حصيف نسبة لحساسية المشروع المرتكز على تاريخ قديم مجيد و أخر أكثر حداثة محتشد بالصراعات السياسية. تعاملت معه الجهات المعنية بسذاجة لا تخلو من المكايدات السياسية. التي كان قد ابتدرها الرئيس نميري من قبل خلال فترة حكمه بإزالة السور القديم. الذي تم استبداله زمانئذٍ بأخر لم يخرج شكله كثيراً مما حوله من مشهد معماري. سقطة أخرى كبرى خلال فترة حكمه أشرنا إليها بالتفصيل من قبل هي إقامة ذلك الصرح في مركز الميدان. جماعة الإنقاذ أضافوا للساحة (طبزة) أخرى فعلوها في إطار خدمة قدمها صديق جاهل. حسن نيته لا يمكن أن يغفر له سذاجة توجهه. فقد أستبدل سور الميدان باخر جميل جداً عصري الملامح. لكنه ضل طريقه فمكانه الصحيح في فيلا من فيلات أثرياء المدينة في أحياء الخرطوم الجديدة. فمشهد بيت الخليفة و ملحقاته و مجمع قبة المهدى الذي يظهر من خلال سياج سور الساحة يوثق لحالة نشاز بائنة. أتمنى كما قال الطيب صالح من قبل عن أهل الإنقاذ أن أعرف من أين أتى هؤلاء الذين يصممون مثل هذ السور؟ أما المآذن التي انتصبت في أركان الساحة فأمرها يحتاج لمقالة كاملة. تجدون الكثير عنها في مقالتي عن عمارة أمدرمان التراثية التي صارت في مهب الريح.

تعرضت ساحة جامع الخليفة المفتوح و محيطها لعمليات استهداف متلاحقة تاريخياً نالها على أثرها كثيراً من الأذى. ابتدأتها جيوش كتشنر الغازية التي ضربت قبة المهدى بمدافعها. ثم توالت بعد ذلك مظاهر الاستهداف والانتهاكات من شتى الأنواع خلال عدد من مراحل الحكم الوطني. بسوء نية و احيناً بحسن نية نتيجة لضعف تأهيل و كفأه من تعاملوا مع هذه الحالة. أشرت للعديد ما اعنيه هنا بشئى من التفصيل. في كل تلك الحالات كانت النتيجة واحدة و كارثية مع اختلاف درجاتها. تشكل حالة ساحة جامع الخليفة وصمة عار في جبيننا أجمعين. لكن لا داعي للتباكي على اللبن المسكوب فنحاول تكفير بعضاً من ذنوبنا بعمل بناء نتدارك فيه الموقف و نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. عليه أقترح تكوين لجنة قومية تنظر في الأمر برمته و تقومه من كافة جوانبه.  تضم من بين أعضائها بالإضافة للمختصين بهذا الشأن أطراف من خارج ذلك الإطار. باعتبارهم ذوي علاقة تاريخية بالميدان مرتكزة على أسس شرعية مثل أحفاد الخليفة عبد الله. عليه، الأمر هنا بالغ التعقيد تحتاج معالجته لتعامل خاص.

في نهاية المطاف بعد فراغ تلك اللجنة الاستشارية من عملها سترمى بالكرة للجهة التي ستحدد طريقة التعامل مع هذه الساحة. محددة بالتفصيل كيفية تطويرها بالطريقة السليمة مستصحبة معها كل رؤى اللجنة الاستشارية. التي يجب أن يتم اختيار فريق العمل فيها بطريقة سليمة تستصحب معها كافة الاستشاريين و المختصين بهذا الشأن. أتوقع أن يكون راس الرمح فيها من مجالات التخطيط العمراني و التصميم الحضري و العمارة. خروجاً عن المألوف يجب ان يضم الفريق مختصين من مجالات أخرى ذات صلة بالموضوع مثل علماء و خبراء في مجال الأثار و التاريخ و الأنثروبولوجيا. على أن يكون دورهم مؤثر ليس كما يقول المثل السوداني (تمومة جرتق) أي مجرد ديكور. خارج ذلك الإطار العلمي و التخصصي يجب أن يضاف للفريق كل من اهتم بدراسة حالة أمدرمان بشكل خاص.

أتخيل أن يكون عمل هذه الفريق صعب معقد للغاية إذ تعامل معه بالعمق المرتجى و بنظرة شمولية و افق واسع. مستصحباً كافة مراحل تاريخ تلك الساحة القديم و الحديث في إطار الوطن الكبير. فهي بالرغم من ارتباطها التاريخي النضالي بأنصار المهدى في النهاية مبذولة لكل أهل أمدرمان و العاصمة المثلثة و زوارها. بدليل أنها تكون قبلة للجميع في مناسبات مهمة مثل صلاة العيدين والاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة و السلام. بالإضافة لمناسبات الأخرى ذات طابع عام. أستدل على مضمون ما أسوقه بطبيعة بانوراما إطار الساحة المعماري الذي يؤرخ لمسيرة لبلادنا عبر عهود متتالية. تحكيها أعمال معمارية متميزة، مباني سيادية و عبادية و إدارية و تجارية و سكنية. تسترسل فيها عمارة متعددة الطرازات تتنوع خاماتها من الطين إلى الطوب و الحجر الطبيعي إلى أخر صيحات عالم البناء. تنوع مذهل يعكس طبيعة امدرمان و أهلها. التي كانت دائما هي البوتقة التي تنصهر داخلها مكونات و عناصر أهل السودان. حالة بالغة التميز لا يسع من يكلف بمهمة ضمن هذا الفريق إلا أن يتجاوب معها بروح مسئولية عالية و حساسية مفرطة. تماماً كما فعل من قبل المعماري العبقري شارلس مور في مشروع متنزه دا إيتاليا في مدينة نيو أورلينز الأمريكية. عندما وضع بصمته في عمارة المشروع مستهدياً بمؤشرات حلم الجالية الإيطالية التي تبنته و رعته. تجربة استعرضتها بشكل وافى من قبل في هذه المقالة.

 نلاحظ في بعض حالات غياب مكونات التصميم الحضري أن أجزاءً من الأعمال المعمارية تسيدت المشهد في محاولة لسد تلك الفجوة. الإشارة هنا لبوابات و أسوار المباني بالذات في حالة المجمعات المهمة. نشير هنا تحديداً لحالة مجمع مجلس امدرمان البلدي المطل على شارع الموردة الرئيس. التي تقدم مثالاً جديراً بالدراسة للاستفادة من تجربته منعاً لتكرار أخطائها. ستبقى عمارة المجمع التي تم تشييده في أخر سني فترة الحكم الثنائي معلماً بازخ العمارة فريد الطراز جدير بأن نعض عليه بالنواجذ. جمع فيه المصمم في حذاقة فائقة بين الطراز الكلاسيكي و الحديث. انتاشته للأسف الشديد السهام عبر سوره المطل على ذلك الشارع الرئيس. إذ خصم تصميمه بالتحديد بوابته الكثير من جلال هذا المشهد المعماري البديع المهيب. عمل ركيك بالرغم محاولات مستميته لإضافة لمسات جمالية بأسلوب لا يخلو من الابتذال. الطامة الكبرى هي بوابة مدخل الموقع. عمل طفولي النزعة فيه محاولة ساذجة لاستجداء التراث الإسلامي السوداني بتركيب قبة خرصانية فوق المدخل. أنظر لهذا المشهد فيخطر ببالي موقف مرعب أن يصحى أحدكم من نومه فيكتشف أن هناك راس إنسان قد نبت في واحد من أصابع يده. أكرر نفس السؤال مرة أخرى، من أين أتى هؤلاء الذين يصممون مثل هذه الأسوار؟ لو كان الأمر بيدي لأقمت عليهم الحد في نفس ذلك الموقع في المدينة ليصبحوا عظة و عبرة لكل مدعى ارعن.  

نظرة عامة لمجمل صورة مجال التصميم الحضري في بلادنا بتركيز على عاصمتنا لا تسر عدو أو صديق. تراجع واضح رغم تقادم الزمن و التقدم المهني العلمي المفترض. الذي يبدو انه مجرد وهم ليس إلا و هو أمر مهم سأعود إليه لاحقاً. فلننظر لحال المدينة و نركز على مكونات مهمة مثل مظلات انتظار محطات المواصلات العامة دعك من باقي تفاصيل أثاث الطريق الصغيرة. فشل زريع و رسوب متكرر في استنباط نماذج متميزة مشرفة. في هذا السياق نرفع القبعة لشركة دال مشيدين بمجهوداتها الثرة إذ قدمت و نفذت نماذج رائعة لتلك المظلات. لكنها للأسف الشديد محدودة الانتشار. حالة الميادين العامة و المتنزهات يغنى عن السؤال و يا حليل أيام حديقة القرشي و عبود و حدائق مايو. لا جديد في الصورة بل تراجع و أعمال جلها في غاية السذاجة. النوافير اختفت ما هو موجود منها يخلو من لمسات الأبداع ما أحوجنا إليها في مناخاتنا اللاهبة.

انظر حولي فيما فعله و انجزه الغرب في مجال التصميم الحضري قبل عقود من الزمان فأدرك مدى خيبتنا و الأمثلة لا تحصى و لا تعد. أشير لحالة واحد منها نسبة لأهميتها في استلهام التراث بطريقة فائقة مبتكرة خلاقة. الذي لدينا منه مخزون استراتيجي فائق القيمة. الإشارة هنا لمتنزه (دا إيتاليا) بمدينة نيوأورليانز الأمريكية الذي صممه المعماري العبقري شارلس مور نفذ في عقد الثمانينيات. قدمته الجالية الإيطالية و جلهم من أهل جزيرة صقلية هدية للمدينة و أهلها. في موقع مجاور لمتحف خصص لروائع عصر النهضة الإيطالي. تشرب مور بكل تلك المعطيات المؤثرة التي سكبها في تصميم غاية في الإبداع. استلهم فيه ذلك التراث القديم الخالد مترف الفخامة. وظفه بشكل لامسه بحنكة و ذكاء فائق نجح فيه في الإفلات من فخ النقل الحرفي. تتمدد في الجزء الأوسط الكبير من المتنزه و تضجع خارطة إيطاليا التي تبرز في طرفها الأعلى شكل جزيرة صقلية. تنساب من حولها بلطف و تلامسها مياه رقراقه. تطوق ذلك الجزء الأوسط بحنو عدد من البوابات الزائفة تصميمها مستوحى من لدن تراث عمارة عصر النهضة بازخ الجمال. تفنن مور هنا بعدة طرق في الهروب بذكاء فائق من مصيدة النقل الحرفي. الذي نلمسه في عدة جوانب و تفاصيل تحديدا تلك الأعمدة الكلاسيكية.

كان ذلك العمل الخالد دائماً في خاطري يسيطر على كياني المؤرق بحالنا المتراجع في العديد من الجبهات. تحديدا مجال التصميم الحضري الذي بذلت له هذه المقالة. الأهمية الفائقة لعمل شارلس مور هنا تكمن في أنه في ذلك الزمان في مطلع الثمانينات دشن و أسس لمدرسة و طراز مهم للغاية. سطع في الغرب في إطار صحوة معمارية تمردت على فكر و نهج الحداثة. طراز الكلاسيكية الراجعة الذي انبثق من توجه عريض عرف باسم ما- بعد-الحداثة. ارتكز على الإرث الكلاسيكي منطلقاً منه مرفرفاً في فضاءات الإبداع الرحبة. هذا هو عين ما فعله مور في متنزه دا إيتاليا. السبب الأساسي للإشارة إليه هنا بالتحديد هو بواباته الزائفة. إذ انتشرت عندنا هنا في مطلع الألفية في بعض أرجاء العاصمة بوابات شبيه مستوحاة إلى حد ما من بوابة عبد القيوم. سطعت واحدة منها في الركن الجنوبي الغربي المسنن من موقع حديقة الموردة بأمدرمان. شيدت كنصب تذكاري في إطار حملة ترويج لكلية خاصة أسست زمانئذٍ. كانت بداية لظاهرة إعادة استنساخ فكرة البوابات التاريخية التي ظهرت جلها لاحقاً كمباني و ليست في شكل نصب تذكارية.

هذه الفكرة التي ماتت في مهدها كنواة لمشاريع نصب تذكارية تدعونا للتساؤل ببراة. عن عدم استثمارنا في مخزون عمارة حضاراتنا الضاربة في القدم. تساؤلي المشروع مؤسس على مؤشرات تدل على تقصير من جانبنا. تشهد عليه حالات في مجمل الصورة على المستوى العالمي و الغربي. التي طُرزت هنا و هناك بأعمال معمارية متميزة ارتكزت على روائع من تراث حضاراتنا القديمة مثل الأهرامات. الأمثلة كثيرة من أهمها ذلك الهرم الزجاجي الرابض في الفناء الأمامي لمتحف اللوفر بباريس. عندنا هنا على بعد بضع ساعات بالسيارة من الخرطوم مركز الإبداع المعماري الخرطوم كنوز من تلك الروائع الإثارية. إذ تزين أفق حواضر مملكة مروي خاتمة حضارة كوش نفائس معمارية لا زالت تثير الإعجاب و الدهشة رغم تقادم الزمن. من أهمها أهرامات مملكة مروي الشهيرة التي خلبت الألباب و العقول بشكلها الجذاب و حضورها البازخ. فصارت اسماً لصحيفة يومية مشهورة و شعاراً لقناة تلفزيونية و لاتحاد المقاولين السودانيين.

تزين أفق حواضر تلك المملكة درر معمارية تاريخية مدهشة تتحدى الزمن. تتسيد الموقف في واحد منها أهرامات بالغة التميز فريدة التصميم. في موقع أخر ينافس معبد الأسد بواجهاته الموشحة برسومات إله المملكة أبادماك الكشك الروماني فريد عصره و كل العصور الذي حير الآثاريين. تتضجع تلك الدرر المعمارية هناك في دلال بائن. لكأنها تحاول إغواء المبدعين لكي يستلهموا منها ِأعمالا في عدد من المجالات. ففيها نواءه مبشرة بخير وفير لمشاريع نصب تذكارية و مكونات تصميم حضري و مشاريع معمارية. استلهام عمارتها بقدر من التصرف من شأنه أن يصنع أعمالاً غاية في الروعة و الجاذبية. التي ستُكَسر دنيا كما يقول إخواننا المصريين.

في تصاميم الأهرامات ثنائية الوحدات مبذولة بسخاء للعديد من تلك الأغراض النبيلة. فالمعبد الجنائزي الرابض أمام الهرم ملائم تماماً كمكون ثانوي يمهد السبيل للمبنى الرئيس. مبنى الهرم الرئيس بحجمه المتميز الضخم بقدر من التصرف يصلح لعدد من الاستخدامات المتنوعة. معبد الأسد حالة متفردة استثنائية. مبنى البوابة الذي يعتبر مكوناً ثانوياً شاهق الارتفاع بالغ الضخامة يتضاءل خلفه مبنى المعبد الرئيس صغير الحجم نسبياً. حالة تشكل ميزة مهمة جاذبة تشجع في استثماره. تحتاج لمصمم وقاد الذهن جامح الخيال ليحسن توظيفها لعدد من الأغراض. الحالة الثالثة في عمارة مملكة مروي العبادية التي تشكل ظاهرة بالغة الفرادة هو الكشك الروماني. نادرة فريدة أشك في أنها تكررت في أي مجمع أثاري في تلك الأجزاء من العالم إذ حيرت العلماء التاريخيين والآثاريين. تقدم نفسها بسخاء تطرحها للاستنساخ بتصرف لعدة استخدامات. أتخيلها في حجم أصغر قليلا كنصب تذكاري تحفة منفذ بمواد مختلفة تماماً كما فعل شارلس مور في أعمدة متنزه دا إيتاليا. أو في شكل وحدة منفصلة بعرش خفيف (بيرقولا) كما يسميها الفرنجة كجزء من متنزه كبير مفتوح. يمكن أيضاً أن تكون جزءً منعزلاً نوعا ما شبه مفتوح في صالة مطعم كبير تتمتع بأجواء من الخصوصية. ملاءمة الكشك لتلك الأغراض المتعددة تستثمر في شكله المتفرد المنمنم الأنيق الفتان بازخ الحضور.

موقف حالة مجال تخصص التصميم الحضري الراهن يدعونا بشدة لمراجعة كافة جوانبه. بداءً بالتعليم و التدريب مروراً بالممارسة انتهاءً لا أقول بالتوعية لكن رفع درجة التذوق الشأن الذي أجتهد بالمساهمة فيه. أمر الدراسة و التخصص محير و محفوف بالغموض الذي يدعو للتوجس. في الثمانينيات سعدت في مدينة إدنبرا ببريطانيا أثناء تحضيري لدرجة الدكتوراه في جامعتها برفقة إثنين من الزملاء الأعزاء المتميزين. رموز العمارة الأن خديجة محمد عثمان و على محمود مادبو اللذان حازا لاحقا على أعلى الدرجات العلمية. كانا زمانئذٍ يحضران دراسات عليا في مجال التصميم الحضري في جامعة هيروت وات فأصبحا رواداً في هذا المجال على درجة عالية من التأهيل. أشهد للدكتورة خديجة بدورها المؤثر لاحقاً في التأسيس لدراسات عليا في هذه المجال ساهمت معها أكثر من مرة بقدر محدود. علمت أيضا أن بعض جامعاتنا المؤثرة تقدم مساهمات مقدرة في هذا المجال. لدى بعض تحفظات محدودة عليها لكنها ذات أثر مزعج. إذ لاحظت فيها ظاهرة سالبة بالمقاييس العلمية. هي إشراف بعض الأساتذة تخصصاتهم لا صلة لها بمجال التصميم الحضري على رسائل علمية في هذا التخصص. خلل أن كان يبدو طفيفاً لكنه غير مبرر يجب تداركه إذ لا يليق بجامعات عريقة نعول عليها كثيراً.

نحن بشكل عام مطالبون في كليات و أقسام العمارة و التخطيط العمراني أن نرفع درجة الوعي بتخصص التصميم الحضري. بزيادة الجرعات و تكثيفها على المستوى الدراسة الجامعية أو البكالوريوس. بالإضافة لمحاولة التأسيس للدراسات فوق الجامعية التي تحاول استقطاب و استيعاب دارسين من خارج تخصص العمارة. هذه العملية ستكون ذات فائدة ملموسة في أكثر من جانب من جوانبها. من أهمها خلق التقارب بين المختصين في مجالات مختلفة قريبة لبعضها البعض. أملاً في التعاون المثمر بينهم مستقبلاً في مشاريع و أعمال بحثية مشتركة. هذه الرسائل الموجهة في شكل مقترحات تستهدف كليات و أقسام خارج إطار تخصصي العمارة و التخطيط العمراني. لكنها ذات صلة و علاقة مؤثرة على مجال التصميم الحضري. مثلاً أقسام التصميم الصناعي و تصميم الأثاث و أعلم أن بعضها أثبت اهتمامه بهذا الأمر قبل فترة طويلة. أقسام البستنة في كليات الزراعة معنية جداً أيضاً بهذا الشأن. التي نرجو أن تهتم أكثر بالمكونات و المنشأت ذات الصلة بهذا التخصص. مثل المائية منها متعددة الأنواع كالنوافير و البرك و الشلالات الاصطناعية. هم أعلم منى بأهمية التركيز عليها لتخفيف تأثير مناخاتنا اللاهبة.

 

من المفترض أن يكون لمجال البستنة وجود فاعل في إطار العمارة. من خلال مكوناته الرئيسة الثلاثة، الخضرة و الماء و الصخور أو الحجر الطبيعي. لدرجة أنى حرفت المثل الشائع، الخضرة و الماء و الوجه الحسن فعدلته ليصبح الخضرة و الماء و العمارة البهية. في هذا الإطار من خلال هذه الكوة من واقع علاقة العمارة بالتصميم الحضري أدخله هنا في هذه المعادلة. شئنا أم أبينا يصبح مجال البستنة شريك أصيل في فضاءات التصميم الحضري. الأمثلة لا تحصى و لا تعد و دونكم حالة متنزه دا إيتاليا الذى صممه شارلس مور. إذ فيه تضجع خارطة إيطاليا في بركة ماء مكونين معاً أهم عناصر المتنزه. ثمة أمثلة أخرى معبرة جداَ تساهم فيها مكونات الخضرة تحديداً الأشجار. بعضها يمكن أن يوظف ليعلب دوراً شبيه بأدوار التماثيل الجاثيات و المسلات التي كانت تمهد الطريق لزوار معابد الحضارات القديمة التي أشرنا إليها من قبل. تحديداً أشجار النخيل الملوكي التي تسمى باللغة الإنقليزية بالرويال بالم و الأشوكا و كليها تتميز بالطول الفارع. التي يمكن أن توظف لتلعب أدوار شبيه. اصطفافها على جانبي الطريق المؤدى للمباني المهمة يحاكى حالة قرقول الشرف الذي ينظم عند زيارة الشخصيات السيادية و الاعتبارية. الأمثلة لما أعنيه عديدة من حولنا. من أبلغها أشجار النخيل الملوكي التي تصطف حول الطريق المؤدى للمدخل الجنوبي الرئيس لمبنى كلية غردون التذكارية.

 

تقصيرنا في أدائنا في مجال مكون التصميم الحضري يتجلى في أكثر من صورة تحديداً في إطار عاصمتنا. التي حظيت دائماً بنصيب الأسد على مستوى القطر بكامله. يظهر بشكل واضح في الواجهة النهرية التي منحها الخالق العظيم بسخاء لعاصمتنا المثلثة.  قصور الجهات الرسمية في أداء دورها المأمول لتنميتها للصالح العام لا يحتاج لمرافعة. تقابله للأسف همة عالية جداً في منح قطع الأرض هناك بكرم حاتمي و مقابل خيالي لجهات استثمارية. بدون ضوابط صارمة تحكم و تحدد نوعية المنشاءات و طريقة تصميمها. التي يجب إن سمح بوجودها هناك أن تكون من النوع الشفاف او شبه الشفاف. النتيجة الحتمية المتوقعة إذا استمر الحال على ما هو عليه ستكون بمرور الزمن كارثية. ستسد المباني الشامخة و القلاع الخرصانية المصمتة الأفق و تحرمنا من رؤية الأنهر المنسابة من حولنا. مما يحيرني أن جل تلك المباني من يرتادونها بطبيعة أنشطتها غير معنيين بمشاهدة المناظر الطبيعية من حولهم. لماذا إذاً نذهبهم إلى مثل تلك المواقع؟ أمور أخرى تزيد من أحزاني و أنا أتأمل ما يحدث في ذلك الشريط النيلي العزيز علينا. تلك الهمة العالية في بيع المواقع في الواجهة النهرية تتزامن معها همة عالية أيضاً في ظاهرة غير موفقة تستهدف الكادحين من أهل العاصمة. حملات لا تنقطع تطارد فيها الجهات الرسمية باعة الفاكهة شبه الجائلين و (ستات) الشاي الذين يلقطون رزقهم هناك.  

كان بإمكان نفس تلك الجهات الرسمية أن تسعى لإقامة وحدات لهؤلاء الباعة و (ستات) الشاي صغيرة أنيقة متباعدة. من نوع ما يعرف باسم العمارة شبه الشفافة التي لا تحجب منظر النهر و تمنح واجهته الق إضافي. بذلك أيضاً نهى فرص تسوق لذوي المداخيل المحدودة ما أكثرهم. يمكن إضافة مكونات أخرى تضفي مزيداً من الحيوية و جرعات ثقافية حضارية لأجواء تلك الواجهات النهرية. وحدات بسيطة متنقلة تستخدم لعرض الأعمال الفنية في أيام الجمع و العطلات. فالمدينة تعج بشرائح التشكيلين الذين يتفجرون فناً و إبداعا يتحرقون شوقاً لإيصال أعمالهم لأكبر شريحة من الناس. أثبتت مثل هذه التجارب جدواها من قبل في مواقع من الواجهة النهرية قبالة مركز الخرطوم التجاري الإداري. يمكن أن نضيف لتلك المعارض المتنقلة نقاط أخرى شبيه لبيع أصائص الزهور. مثل هذه المواقع التسويقية الصغيرة الموقتة ستشكل إضافة مهمة مدهشة لمشهد التصميم الحضري في تلك الأجزاء المهمة من العاصمة. شريطة أن تخضع عملية اختيار تصميم الوحدات لمعايير فنية علمية صارمة. إنه من حسن حظ مقترحاتنا هنا أنه لا زالت هناك بعض فجوات في الواجهة النهرية المؤثرة لاستثمارها في هذه الأغراض والأهداف النبيلة. تحديداً الممتدة من كبرى المنشية في الخرطوم حتى كبرى الحلفايا في امدرمان.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

امدرمان-أغسطس 2020

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.