مناهج أسلمة النوبيين تركت بصمتها البائنة علي عمارتهم التقليدية
أبحاثي المعمقة في رسالة الدكتوراه كشفت لي الكثير المثير عن النوبيين النيلين الذين شكلت حالتهم جزء مفصلي مهم منها. من أميزها جوانب أساسية عنهم كنت أجهلها من قبل. جهل شاركني فيه للأسف ممن كانوا معنيين بالتعامل معهم في تجربة مصيرية تتعلق بحياتهم ومستقبلهم كما سنوضح لاحقاً. أمر بالغ الأهمية سأسلط عليه الضوء لاحقاً في إطار تجربة زللت كيانهم. النوبيين محور اهتمامنا هنا مجموعة سكنت عمرت قراهم المتمددة على شواطئي النهر في أقصى شمال بلادنا منذ زمان ضارب في القدم. تجمع بينهم حضارة متجذرة في التاريخ وثقافة محلية بالغة التميز من أهم سماتهم لغتهم المحلية. منظومة ثقافية ثرية احتلت فيها عمارتهم التقليدية ركناً أساسياً. تركت أثراً عميقاً لا زالت أصدائه تتردد في أرجاء حواضرنا حتى زماننا الحالي ستظل. تزهو تزدان بسماتها الأخاذة فيلات أثرياها بعضهم ليست له علاقة بهذه الحضارة العريضة وثقافتها المحلية بازخة الثراء. تعامل في العديد من حالاته لا يخلو من السطحية بالرغم من مظهره الأسر أمر سيشكل محور هذه المقالة. عمارة محلية تقليدية اِفتتنت بها منذ بداياتي الأولي أنا خريج جديد بعد مرحلة دراستي الأولي للعمارة في مطلع السبعينات. خلال حقبة كان المعماري المصري الرسالي حسن فتحي قد كشف كنوزها المعمارية بالغة الأهمية. كانت كامنة في ثنايا عمارة قري نوبيي بلاده أبناء عمومة فرعهم في بلادنا. كانت أعماله المستوحاة منها بالنسبة لي الشرارة الأولي لحالة حب من أول نظرة متجدد بشكل تصاعدي. أصابتني بحال زغللة أحمد الله أنني لا زلت أعاني منها أستمتع أتلذذ بإحساسها السرمدي.
عبرت عن إعجابي وعشقي لعمارة قري النوبيين التقليدية في عدة مقالات وجدت طريقها للنشر في مجلة الخرطوم. التي تصدرت الساحة الثقافية في السبعينات عندما كانت في قمة عافيتها وعنفوانها. كنا نحن على أعتاب طريق نتلمس عبر خطواته الأولي مسيرة الولوج لتلك العوالم بازخة الأجواء. ارتحلت في الثمانينات بمشاعري الجياشة نحو عمارة النوبيين التقليدية قاصدا مدينة أدنبرا في إسكتلندا لأبداء عملي في رسالة الدكتوراه. فاحتضنني قسم العمارة في كلية الدراسات المجتمعية بترحاب وأريحية غامرة تفيض علماً ومعرفة. وفر لي في بضع سنوات قاعدة فكرية مكنتني من التعامل بعمق مع عدد من قضايا بحثي الأساسية. قاعدة رحبة تمددت في فضاءات عدد من مجالات الدراسات الإنسانية، علم النفس والدراسات المجتمعية والأنثروبولوجيا. التي لَملمت أطرافها في إطار توجه فلسفي مفعم بالرؤي الإنسانية. مكنني من التعامل بعمق مع الحالة النوبية وعمارتها المبهرة. التي احتلت موقعاً متقدماً في رسالة الدكتوراه مما مكنني من فتح ملفها من جديد في محاولة جادة لسبر أغوارها. عمل هيأت لي رحاب تلك العلوم الإنسانية في إطارها الفلسفي الراسخ منصة انطلاق ممتازة. مكنتني من التعمق في حالتي النوبية كشف العديد من خباياها المدهشة. أتاحت لي الغوص في أعماق عمارتها بشكل تجاوز مظهرها الخارجي المبهر الفتان. مستعيناً بمخزون مفاهيم العلوم الإنسانية المحمولة على أجنحة فلسفية مفعمة بالدفق الإنساني. الذي حققت من خلاله اختراقات مكنتني من اكتشاف تنوع مدهش بين مكونات هذه المجموعة النوبية. كانت لها إسقاطات مؤثرة علي عمارة بيوتهم التقليدية التي طرزت ضفاف النهر.
نبدأ تناولنا لهذا الموضوع بالنظر تاريخياً في حالة النوبيين في موقع تواجدهم علي ضفاف النهر. منذ عصور ضاربة في القدم حتى أزمنة حديثة نوعاً ما. العديد من الشواهد من أهمها نتائج حفريات أثارية تدل على أنهم شكلوا في الأزمنة القديمة منظومة واحدة يمكن أن نسميها الحضارة النوبية. شواهد دلالات تاريخية جغرافية لم تمنع طوائف من أخوتنا في الجنوب قبل انفصاله من الإشارة لانتمائهم لهذه الحضارة. بدليل اقتراح بعضهم أن تسمي دولتهم الوليدة كوش إشارة لتلك الحضارة النوبية الضاربة في القدم. نعود مرة أخري لبعض تلك الشواهد التاريخية لنتبين منها تطورات مهمة لاحقة. حدثت أثرت بشكل مقدر على مجموعة نوبية استوطنت في الجزء الأوسط من موطنهم على ضفاف النهر في القرون السابقة. لعبت فيها دوراً مؤثراً أرتال عربية مرتحلة من البدو جذبتهم لهذه المنطقة عشب منطقة السافنا الموسمي الوفير. تداخلت تمازجت تزاوجت مع المجموعات النوبية هناك لينتج عن هذا التفاعل مجموعات ذات طابع هجين. أنتجت عدد من القبائل الحالية هناك منها الشايقية والجعليين والرباطاب والمناصير. عملية تحور مهمة فقدت فيها تلك المجموعات القبلية النوبية سابقاً العديد أهم خصائص هويتها وسماتها الثقافية. منها اللغة المحلية النوبية بالإضافة لمكونات ثقافية مادية الطابع مثل العمارة النوبية متميزة المكونات والسمات. أمر نلاحظه بوضوح إذا تنقلنا في رحلة على ضفاف النهر من أواسط السودان حتى أقصي شماله مع الحدود مع مصر. ستلفت انتباهكم بلا أدني شك العمارة النوبية التقليدية في الجزء الشمالي ببصمتها الواضحة. كحالة متفردة ذات مكونات وملامح بالغة التميز سنشير لها لاحقاً في سياق هذه المقالة.
بقت تلك المجموعة من النوبيين متمسكة بهويتها المتميزة عن جيرانها المنتشرين في الجزء الجنوبي من ضفاف النهر في ذلك الإقليم. هوية كانت اللغة من أهم مكوناتها التي لململت أطرافهم بالرغم من بعض تباين بين أفرعهم. بالإضافة إلى ذلك كانت عمارتهم التي اتسمت بثراء بازخ واحدة من أهم مرتكزات هويتهم التي ميزتهم عن جيرانهم الجنوبيين. ليضاف الدين والعقيدة لتلك العوامل في القرن الرابع عشر الميلادي عندما وجد الإسلام طريقه عبر ديارهم لباقي أرجاء السودان. عوامل متعددة جاءت كلها في مصلحة هويتهم التي صدحت عبر القرون لتكون واحدة من أهم مكونات تراثنا في عدد من جوانبه. لكن التاريخ لم يترك تلك المجموعة النوبية تهنأ كثيراً بتوحدها تحت راية واحدة. إذ تضافرت عدة تداعيات لاحقاً لتقسمها لثلاثة كيانات ثانوية فرعية تحتاج منا لمجهود للتعرف على سماتها. في حالة كانت للعمارة فيها بالذات السكنية منها كما هو متوقع في قلب الحدث. واقع يحتاج منا لقدر كبير من التعمق لاكتشاف خبايا تبايناته التي ستكون من أهم محاور هذه المقالة. أكثر مما لفت انتباهي لهذه الحالة أنها معبرة جداً عن مقولة شعبية متداولة تقول إن المظاهر (كضابة) أي خادعة. كما سأوضح لاحقاً بشي من التفصيل في سياق هذه المقالة. لكن قبل أن نصل لتك المرحلة يجب أن ألقي الضوء على خلفية تداعيات مهمة للغاية. كان لها دور مباشر فعال في تقسيم هذه المجموعة النوبية إلى عدة كيانات فرعية بعد أن كانت موحدة متماسكة. قبل أن تهب عليهم رياح التغيير من كل حدب وصوب. تحولات لعبت فيها عملية أسلمتهم دوراً مؤثراً انعكس علي عمارة بيوتهم.
تحولات تداعيات مهمة يرجع بعضها لبضع قرون من الزمان كان لها دور فعال في تقسيم النوبيين في منطقتهم على ضفاف النهر في شمال بلادنا. قَسَمتهم لثلاثة فروع يشار إليها بداءً بالشمالية منها ثم الوسطي فالجنوبية بالنوبيين الكنوز والفديجا ثم المحس. تمركز الكنوز في المنطقة بين مدينة أسوان حتى الأجزاء الشمالية من أرض النوبة في بلادنا. أما الفديجا فقد كانت منطقتهم في مدينة ميناء وادي حلفا النهري والمناطق والقري المحيطة بها. فيما تمدد المحس في الجزء الجنوبي من مناطق النوبيين في ذلك الجزء الشمالي النيلي. لعب موقع المجموعات الثلاثة عبر الزمن دوراً مؤثراً للغاية. كانت له تداعيات أثرت على جوانب مهمة من حياتهم. واحدة من أهمها تقسيمهم لتلك الثلاثة مجموعات بناءً على سمات متميزة في ثقافتهم المحلية. المدهش في الأمر أن نفس الدين الإسلامي الذي وحد بينهم كانت توجهاته المتعددة واحدة من عوامل تميزها عن بعضها البعض. مشهد عقائدي ثقافي احتلت فيه عمارة بيوتهم موقعاً متقدماً. إذ شكل تنوع أنماط وطراز بيوت تلك المجموعات الثلاثة واحد من أهم عناصر التمايز بينها. ظاهرة يحتاج سبر أغوارها لتطواف في عوالمهم يعود بنا لبضع قرون من الزمان.
بدأت قصة النوبيين الكنوز قبل بضعة قرون من الزمان بمجموعة من العرب البدو كانت تجوب صحاري قريبة من مواطن النوبيين النيلين. يعود اسمها لواحد من أهم رجالها كان له دور مقدر في مصر فسمي بكنز الدولة. اسم أطلق على مجموعة منهم تداخلت لاحقا تزاوجت انصهرت مع بعض النوبيين كانوا مستقرين على ضفاف النهر. في المنطقة الواقعة جنوب مدينة أسوان حتى الأجزاء الشمالية من مناطق أهلهم في الجزء الشمالي من السودان. تفاعلهم تزاوجهم معهم أنتج مجموعة النوبيين الكنوز. الذي كانت له إسقاطات ملموسة على كافة مناحي حياتهم ميزتهم بشكل واضح على بقية أهلهم النوبيين. واحد من أهم نتائجه المؤثرة نشرهم لتوجهات دينية متميزة. نسخة يشار إليها بالإسلام الشعبي ترجمة لمسماها باللغة الإنجليزية popular Islam. مؤسسة إلى حد بعيد على أولياء الله الصالحين مما جعل موطن النوبيين الكنوز يحتشد بالأضرحة والقباب. التي كانت من أهم مراكز حياتهم الدينية الروحية والمجتمعية الثقافية والترفيهية. نهجهم العقائدي الديني الصوفي تجلي في العديد من مناحي حياتهم. التي أسست على أعراف مجتمعات الوافدين الجدد في بلادهم الإسلامية والعربية. المستمدة حسب رؤيتهم من أسس دينهم الحنيف من أهمها حرصهم البالغ علي خصوصية نسائهم. الذي منح عمارة بيوت النوبيين الكنوز تميزاً لافتا مقارنة بنماذج المجموعات النوبية الأخرى التي سنستعرض حالاتها لاحقاً.
هناك جوانب كثيرة جديرة بالاهتمام عن حالة قري وبيوت النوبيين الكنوز في موطنهم في الجزء الشمالي من منطقة القبيلة. تكتل تلاصق البيوت في مستوطناتهم له أكثر من مغزى. الواضح أنه يعبر إلى حد بعيد عن إحساسهم القوي بالانتماء للقبيلة وجذورها القديمة الراسخة بتاريخها المجيد. أما تصميم بيوتهم ففيه الكثير من المؤشرات التي تشيئ بعظيم اهتمامهم بخصوصية أسرهم. يتجلى مثلاً في المباعدة بين ضيوفهم من الرجال والجزء الخاص بالأسرة ونساءها. الذي كانوا يؤمنونه بتخصيص مدخلين منفصلين متباعدين للفصل بين هاتين الشريحتين. إمعاناً في تأمين أعلي درجات الخصوصية للأسرة كانوا أحيناً يستقبلون الضيوف من الرجال خارج البيت أمامه. في (دكة) أو(كنبة) طينية خارجية قرب المدخل الخاص بهم. أما استقبالهم داخل الدار كان يتم وفق تحوطات تصميمية صارمة. في صالة مفتوحة قرب المدخل لا تتيح لهم إطلالة على الجزء الخاصة بالأسرة. اهتمامهم الفائق بتأمين أعلي درجات الخصوصية للأسرة يتجلى في حالة تبدو غريبة نوعا ما. لها صلة بترتيبات حياة أبناءها وبناتها المقبلين على الزواج. الذين كانت تحتم أعرافهم أن يبدؤوا حياتهم الزوجية في بيت منفصل تماماً عن بيت الأسرة. حتى لو أستدعي الأمر أقامتهم في موقع بعيد عنه. مثل هذه الضوابط المستمدة من أعراف أساسية متأصلة في حياة النوبيين الكنوز كانت تحدد ملامح وتفاصيل بيتهم المثالي. في منطقتهم في الجزء الشمالي من موطن النوبيين على ضفاف النهر في شمال السودان.
حالة النوبيين الفديجا المحشورين في ذلك الشريط النيلي بين ديار الكنوز في الشمال والمحس في الجنوب ترسم صورة مغايرة تماماً. تتجلي في عمارة تقليدية مدهشة للغاية مسحتها من الوجود ذوبتها مياه بحيرة ناصر. وثقتها العديد من الأعمال وبقايا ذكريات شهود من ذلك الزمن الجميل. من أهمها شواهد عن تخطيط قراهم التلقائي وعمارة بيوتهم المحتشدة بالزخارف والنقوش. إرث يضج بمخزون وافر من المعاني والأسرار يشيئ بالكثير المثير عن واقعهم المدهش الذي ذهب أدراج الرياح. أول حكايتهم حسب تقييمي لها يبدأ بتفاعلهم مع زمرة من الإداريين المحليين الأجانب عرفوا باسم الكُشاف. أتت بهم سلطة الحكم التركي الذي جسم على صدور بلادنا خلال فترة حكمه في القرن التاسع عشر. جاء بهم من دول جاورت بلاده في ذلك الجزء من أوربا ساهموا في نشر الإسلام فيه مثل مقدونيا والمجر. تأثير المجريين وثقت له عدة شواهد منها ظهور مجموعة من النوبيين تسمي المَجراب. واقع الحال يشير لمساهمة هؤلاء الكُشاف في نشر الإسلام بين النوبيين هناك. لكنها كانت إلى حد كبير مختلفة عن تجربة الكنوز التي أشرت من قبل لانعكاساتها عليهم. يمكن أن نلمسها نستنتجها من شواهد عديدة من حالة هذه المجموعة تتجلي في عاداتهم وتقاليدهم المتميزة. أن نستشفها نجد لها تفسير في تخطيط قراهم المصطفة بشكل تلقائي على ضفاف النهر. أيضاً من سمات عمارة بيوتهم متميزة المكونات والعناصر الضاجة بالزخارف والكتابات. ملامح وسمات سأتناولها بمزيد من التفصيل مع تفاسير من عندي أسستها على شواهد مقنعة من واقع حالتهم المتفردة.
خلفية النوبيين الفديجا المتحدرين من دول أوربية مختلفة قد تفسر لنا جوانب متميزة محددة في تخطيط قراهم وعمارة بيوتهم. تتجسد في أكثر من جانب تخطيطي ومعماري منح هذه الحالة تميزاً لافتاً. مثل بيوتهم التي كانت تصطف على شاطئي النهر كحبات عقد أو مسبحة متباعدة إلى حد ما عن بعضها البعض. يقف بعضها منفردا أخري ملاصقة مع جار واحد فقط. لم تكن بشكل عام مجمعة متكتلة كما هو الحال في قري الكنوز الذين كان تعود أصولهم لقبيلة واحدة. خاصية كان يفتقدها الفديجا بجذورهم الموزعة في عدة بلدان من ذلك الجزء الشرقي من أوربا. اصطفاف بيوتهم المواجهة للنهر ببواباتها الشامخة أوحي لي بخواطر معينة مقنعة إلى حد ما. ترتيبات تخطيطية معمارية وجدت لها تفسير من إرث وخلفية تركيبة هؤلاء القرويين النفسية في منتصف القرن الماضي. النابعة من أيمانهم الراسخ في بركات ملائكة البحر أي النهر الأخيار. التي قد تفسر اصطفاف بيوتهم توجهها نحوه لاستدراجهم. في هذا السياق هناك أيضاً ظاهرة أخري مجتمعية الطابع تميزهم عن النوبيين الكنوز. هي الحضور القوي الطاغي المهيمن لكيان الأسرة الممتدة المكونة من الجد والجدة، وأبناءهم، وبناتهم، وأحفادهم. واقع فرضته عمقته ظروف اقتصادية ضاغطة في منطقتهم كانت تذهب بالأزواج الشباب بعيداً من ديارهم واسرهم لمهاجر نائية. أفرزت حالات زوجات شابات يقمن مع والديهم مكونين جزءً من أسرتهم الممتدة. واقع استوعبته خارطة بيوتهم النموذجية المتميزة. المؤسسة على صحن أو فناء وسطي تحيط به حجرات الدار المخصصة لمكونات تلك الأسرة الممتدة. الذي شكل وعاءً إطاراً مثالياً جمع شملهم منحهم إحساساً طاغياً بالأمان والألفة والحميمية.
كان بيت الفديجا ينهض في كثير من حالاته وحده كالسيف في منظومة قراهم المتمددة على ضفاف شاطئي النهر. يشمخ في خيلاء معبراً بالطرق المعمارية المباشرة والرمزية عن الأسرة الممتدة التي يضمها بين جوانحه. يحتضنها بين أضلعه بإحكام ليمنحها الأمان والحنان معاً هم محاطون بصحاري تكاد تكون بلا حدود. تصميمه مستلهم بذكاء من معابد حضاراتهم الضاربة في القدم التي تطرز أفق موطنهم. مثال لذلك بيوت تشهق في أركانها عمدان طينية رفيعة تمنحها هيبة وحضور طاغي بالرغم من بساطة مادة بنائها. تثبتها تعزز وجودها الراسخ لكأنها المرسىَ أو (الهِلبِ) الذي يمسك بزمام مركب في بحر متلاطم الأمواج. تعزز أجواء بيت الأسرة الممتدة بوابة عملاقة تصدح في جبينها جماجم تكاد قرونها وأنيابها تشق عنان الفضاء. تتوسط جدار البيت الأمامي محدود الفتحات المسترسل بسخاء موشيً مطرزاً بزخارف وكتابات تتخللها تمائم صغيرة متعددة الأنواع. لتشكل مع البوابة حائط صد خط دفاع أول يحرس أهل الدار من كل المهددات والمنقصات الحقيقية والمتخيلة. تروض أيضاً مناخ متقلب المزاج عدائي في كل فصول العام. بالإضافة إلي ذلك تحميهم من أخطار غير مرئية تحتل حيزاً مقدراً من أحاسيسهم ومشاعرهم. يطوف يسيطر عليها ملائكة يطمعون في خيرهم وشياطين يهابونهم يسعون لاتقاء شرورهم. يتعاملون معها بطرقهم الخاصة هم يفتقدون قباب أولياء الكنوز الصالحين وفقهاء المحس المرابطين في ديارهم. يتعاملون معها بطرقهم و (مكنيزماتهم) الخاصة. مستثمرين في مكونات وتفاصيل عمارة بيوتهم. (إكسسوارات) واجهاتها المصطخبة بالزخارف والتمائم المحروسة بالبوابات الشامخة.
بيوتهم الشبيهة بالقلاع ونمط حياتهم المتمركز في إطار الأسرة الممتدة داخله تعطي انطباع خادع بأنها معزولين عن العالم من حولهم. لكن واقع الحال كان يرسم صورة مختلفة تماماً. فهم في الواقع كانوا قوم (عُشريين) للغاية بيوتهم مفتوحة الأبواب طوال العام والوقت تكاد تكون بلا أقفال تصد القادم إليها. تصرفات نابعة من أنهم كانوا قوم مسالمين في غاية الوداعة. يتميزون بخصال مختلفة عن باقي النوبيين هناك فمجتمعهم منفتح للغاية. قد يرد ذلك لخلفيتهم المختلفة وأسلافهم الكُشاف أوربي الجذور. وضع كان مختلف تماماً عن حالة من كانوا مرتهنين بإرث بنو كنز المثقل بالتقاليد العربية الإسلامية المحافظة للغاية. مختلف جداً أيضاً عن واقع جيرانهم المحس بتاريخهم المحتشد بسلسلة متواترة من أميز الدعاة الأصوليين السلفيين. حال الفديجا المختلف يرد الي حد بعيد إلي أن معرفتهم بالكثير من أمور دينهم تمت عبر مسلمين من عالم مغاير أوربي الخلفية. عمق فيهم أضفي على حياتهم نزعة التحرر والانفتاح المنضبط على الأخر. في لقاءات كانت يستضيفها صحن أو فناء دارهم الوسطي الرحيب. بنهج منفتح يجمع أفراد الأسرة مع أهلهم والجيران ومعشر ضيوفهم. يقضون فيه أمتع الأوقات يتخللها رقصهم الشعبي المختلط برعاية من الأسرة. في مشهد غير متصور أو متوقع بهذه الكيفية داخل الدار في قري المجموعات النوبية الأخرى الكنوز والمحس.
كان الحال مختلف للغاية في قري المحس في الجزء الجنوبي من أرض النوبيين النيلين. اختلاف نتج عن تداعيات ساهمت في سالف الزمان في نشر الدعوة والدين الإسلامي هناك عبر مراحل سلسلة متتابعة. وضع أساسها في البدء نفر أريب من الحجيج من خلال رحلاتهم من غرب أفريقيا إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج. فترة الرحلة المتطاولة ومعاناتها كانت ترغمهم علي التقاط أنفاسهم لفترة من الزمان في غدوهم ورواحهم في ديار المحس. كانت تتمدد فتسمح لهم بتقديم خدمات دروس دينية مستفيضة لأهلها جعلت بعضاً منهم من رموز المجتمع. الذين ساهموا عبرها في نشر الوعي لدرجة جعلت تلك المنطقة مركز إشعاع مهم حقبتئذٍ. متبعين توجه سلفي النهج مؤسس بصرامة على الكتاب والسنة النبوية. يشار إليه باللغة الإنجليزية لدهشتنا بال orthodox. Islam. مختلف يقف في الجانب المنهجي الأخر للإسلام الشعبي popular Islam الذي أشرت إليه من قبل في سياق استعراض حالة النوبيين الكنوز. بذلك فرض ذلك النهج السلفي نفسه على العديد من جوانب حياة النوبيين المحس لفترة طويلة من الزمان. تداعيات كانت العمارة فيها في قلب الحدث ممهدة الطريق لبلورة نموذج بالغ التميز لبيوتهم. سطع جنباً لجنب مع نماذج بيوت النوبيين الكنوز والفديجا المختلفة إلي حد كبير عن بعضها البعض. لينضم لهم نموذج بيت المحس فيزيد الأمور تعقيداً. ظاهرة ستجلى لنا التباينات الأساسية بينها عندما نميط اللثام عن جوانب أساسية في نمط هذا النموذج الأخير.
إعجابي بعمارة قبائلنا باقٍ متجدد قناعة نابعة من نماذج عبقرية تتداعي في ربوع بلادنا. كانت تتصدرها دائماً بالنسبة لي عمارة النوبيين النيليين. ترسخت عندي زادها الزمن وحصولي علي أعلي الشهادات العلمية في العمارة التي كان لها القدح المعلى في حيازتها. لَفتُ إليها انتباهكم في هذه المقالة باستعراض نماذج من عمارة بيوت مجموعتي الكنوز والفديجا. هانا أتوقف هذه المرة عند حالة مجموعة المحس رفقاء دربهم في ذلك الشريط النيلي الضيق في شمال بلادنا. الذين جاءت عمارة بيوتهم خير معبر عن حالتهم المتميزة عكسوا فيه بشكل مدهش مفاهيم روح نهجهم السلفي. في تصميم تشي كل جوانبه وتفاصيله بعبقرية معمارية. تتقزم أمامها عمارة الحداثة سطحية المحتوي التي أسلمت قيادها تماما لفكرها العلماني مركزة اهتمامها بالجوانب البيولوجية الفسيولوجية. متجاهلة قيماً سامية تتجاوز تترفع على تلك المغانم الدنيوية. جوانب أساسية تنضح بها العمارة التقليدية هي من أهم أسباب افتتاني ببيوت المحس. التي تجاوبت بشكل أريب للغاية مع مضامين ثقافتهم المحلية بكل خصوصياتها. قدمت لي درساً بليغاً في كيفية التعامل بحساسية فائقة مع تفاصيل دقيقة لا نلقي لها كثير اهتمام. مقدمة نموذجاً موفقاً لكيفية التعامل مع فوارق في النهج الإسلامي تغيب عن عدد مقدر منا. قَدمته في إطار عمارة سكنية متوافقة تماماً معبرة للغاية عن نهجهم السلفي الذي ميزهم عن بقية المجموعات النوبية الأخرى. لتمنحنا فرصة ذهبية للتعرف على تأثير تنوع تلك المناهج الإسلامية علي عمارة المسكن.
أعداد المجموعات الأجنبية التي توافدت على منطقة المحس تفاعلت معهم كانت محدودة وقليلة العدد إذا قارناها بحالتي الكنوز والفديجا. إلا أن ذلك العدد المحدود الذي استضافته ديارهم في سالف الزمان كان جله من المتفقهين في الدين كان له أثر عميق عليهم. بالرغم من أنه لم يكن ذو مردود جيني مثل حالة الكنوز والفديجا إلا أن تأثيرهم الأهم الأكبر كان دينيا عقائدياً. وضع بصمته البائنة في نهجهم الإسلامي سَلفي الهوى والهوية. ارتكز بشكل كثيف على الكتاب والسنة بقدر أقل أضعف أثراً على أولياء الله الصالحين. تداعت أفكار دعوتهم السلفية فأثرت على كافة مناحي حياتهم العامة والأسرية. تجلت في تصميم بيوتهم الذي أنزلت روح وتعاليم النهج السلفي علي أرض الواقع بشكل متوازنً. أساسه الحفاظ على خصوصية الأسرة وفق المبادئ الشرعية. لكن امتثالا لنفس تلك القيم النبيلة لم يجعلها معزولة عن عالمها الخارجي. أتاح لها تصميمه العبقري التواصل مع أقاربها وأهلها والغرباء بطرق تصميمية فريدة في نوعها. تم كل ذلك في منطقة يتنافس فيها المناخ الشبه صحرائي مع الصحراوي بتحدياته ومنقصاته المعروفة. عمارة واجهتها بمقدرات أناس بسطاء محدودي الدخل بإمكانيات ومعينات متواضعة كحال أهلنا في الريف. بالرغم من كل ذلك عبرت بهم مرفعيي الرؤوس لتقدم نموذجاً رائعاً نافس نماذج عمارة بيوت أندادهم النوبيين الكنوز والفديجا.
كما هو الحال بالنسبة للعمارة التقليدية في تلك المناطق استنجد المعماري المحسي التقليدي بالصحن أو الحوش الوسطي. تماماً كما فعلت مجموعات قبيلتهم النوبية الأخرى الكنوز والفديجا في ديارهم. لكنه ظهر هنا بشكل مغاير للغاية بالرغم من أنه اقترب إلى حد ما من نموذج بيوت الكنوز. تصميم عبقري يجعلك تحس بأن المعماري التقليدي هنا أشبه بجراح زاخر العلم فائق المهارة يتعامل مع حالة حرجة للغاية. بداءً بصحن الدار المقسم لقسمين إمعاننا في توفير أقصي درجات الخصوصية للأسرة توافقاً امتثالاً لنهجهم السلفي. أحدهم مخصص لنسائها وزوارهن والأخر لرجال الدار وضيوفهم من الأهل والغرباء. لكل واحد من الجزئيين مدخله الخاص به مع تباعد ملحوظ بين مدخل الرجال والنساء في جانب أخر من البيت. عبقرية التصميم تظهر بالتحديد في تصميم منطقة مدخل النساء وعلاقته بالجزء الخاص برجال الأسرة. مصمم بحيث يتيح لرجالها هم يؤانسون ضيوفهم متابعة ما يجري في منطقة ذلك المدخل عن كثب. بشكل وطريقة لا تسمح باستراق النظر لحوش النساء والأجزاء الداخلية المخصصة للأعمال المنزلية. تصميم عبقري يسمح لنساء الأسرة بهامش مقدر من الحرية والتواصل مع أهلهن وصويحباتهن من النساء. مع إتاحة قدر من المتابعة من رجال الأسرة يوفر لهم الحماية عند اللزوم. حلول عبقرية استثمرت في فكرة الصحن الوسطي المزدوج. قدمت نموذج تفوق على تصميم بيوت الكنوز التي أشرت إليه من قبل. التي تتسم بدرجة عالية من العزلة والتباعد بين عالم النساء والرجال في البيت.
قدم صحن بيوت المحس النسخة الثالثة من روائع بيوت المجموعات النوبية الثلاثة هو أعظمهم بلا أدني شك. لعب دوراً محوريا في كلا جانبي البيت أولها المخصص لنساء الأسرة والثاني خاص برجالها. يفصل في حوش نساء الدار بين الجزء الأمامي والخلفي. الأمامي الذي توجد فيه منطقة المدخل وغرف الدار والخلفي المخصص لمرافق الخدمات. بذلك يمنح الصحن درجة أعلي من الخصوصية لمنطقة الخدمات في عمق الدار الذي تتخفف فيها نساءه من ثيابهن لأداء أعبائهن المنزلية. يلعب الصحن أيضاً دوراً مهماً في جانب البيت المخصص للرجال. فهو يستقبل الوافدين إليه يقودهم لباقي مرافقه أهمها الرواق أو البرندة الرحبة. يفصل الصحن هنا بين تلك المكونات ومنطقة مدخل النساء. مؤمناً درجة عالية من الخصوصية يزيدها تأميناً تصميم منطقة مدخلهن العبقري. بذلك يلعب مكون الصحن بشقيه الخاص بالنساء والأخر المخصص للرجال أدواراً بالغة الأهمية. حالة يضبط إيقاعها في تناغم أريب منطقة مدخل النساء بتصميمه الفريد. يبدو تصميم بيت المحس بصحنيه الاثنين من أول وهلة مشابه لحالة بيوت الكنوز. لكأنه يتفوق عليه بأنه يسمح بتواصل بين شقي البيت بدون اجتراح لخصوصية نساء الدار. مهمة تفوقت فيها بجدارة عمارة بيوت المحس بفضل تصميمها العبقري لمنطقة مدخل النساء.
كان صحن الدار كما أشرنا من قبل يفرض نفسه بقوة من واقع الظروف المناخية لبيوت تلك المجموعات النوبية الثلاثة. لكن يدهشني جداً تعاملهم المختلف معه في إطار عمارة بيوتهم. فوارق واضحة بالرغم من قواسم عديدة مشتركة بينها. المحير أن واحد من تلك القواسم المشتركة هو الدين الإسلامي الذي كان النوبيين النيلين في ديارهم سباقين في اعتناقه. بحكم موقع موطنهم الجغرافي كبوابة أساسية لبلادنا جعلتهم أول من استقبل تباشير تلك الرسالة. تداعيات مهمة جعلت لنفس ذلك الدين الوافد دور مؤثر في العديد من جوانب حياتهم. من أهمها تقسيمهم لثلاثة لمجموعات فرعية أشرت إليها من قبل. دور مؤثر للغاية ساهم إلى حد بعيد في بلورة ثقافات محلية متميزة لكل واحدة منها. كان من أهم مخرجاتها ثلاثة نسخ متباينة نوعاً من العمارة المحلية بالرغم من بعض أوجه تشابه بينها. ظاهرة تجلت في بعض مكونات عمارة بيوتتهم. واحدة من أهم مؤشرات التباين بينها كان صحن الدار. ظاهرة أفضتُ في إلقاء الضوء عليها مقدماً شروحات وتفسيرات متعددة تحاول تبرير ذلك التباين. التي نسبتها إلى حد كبير إلى التباين في توجهات تلك المجموعات الدينية في إطار دينهم الإسلامي. الذي عزيته لخلفيات تاريخية عاشتها كل واحدة من تلك المجموعات النوبية الثلاثة. خلاصة الأمر هنا أن مثل هذه الخصائص الدينية العقائدية يحب النظر إليها بعمق وروية نسبة لإسقاطاتها المؤثرة على البعد المعماري. بالذات إذ كان الأمر معتي بأمر المسكن والمكون الإسكاني بشكل عام.
لفتت نظري عمارة بيوت المجموعات النوبية الثلاثة لأثنين من الأمثلة الشائعة تبدو متناقضة بالرغم تعاملهما مع ظاهرة واحدة. تأملتهما بعمق فوجدت فيهما الكثير مما ينطبق على حالة عمارة بيوتهم. يقول المثل الأول الجواب يكفيك عنوانه بينما يذهب الثاني في اتجاه معاكس يفتي بأن المظاهر خداعة. أقراء المثلين فأخرج باستنتاج معبر عن حالة عمارة تلك البيوت. نظرة سريعة عجلي غير معمقة لمظهرهما الخارجي توحي بأنها عمارتها متشابه تماماً. تغوص في أعماقها مبتدأ بذلك الصحن الوسطي فتتفاجأ باختلافات جوهرية. نابعة من تباينات أساسية في خلفياتهم عميقة متجذرة في جيناتهم المتحورة. مؤشرات تدل على أن في الكثير من الحالات لا يمكن أن نكتفي من محتوي الجواب بقراءة عنوانه. لأننا ببساطة سنكتشف لاحقاً في مثل هذه الحالات أن المظاهر كانت خداعة. لم أصل لمثل تلك القناعات بالصدفة لكن من خلال رحلة طويلة طوفت فيها في رحاب العديد من مجالات العلوم الإنسانية. أوصلتني إلى قناعات ثابته بأن العنوان في مثل هذه الحالات لا يكون معبراً بدقة عن فحوى ومضمون الجواب. أيضاً أن التشابه في العديد من الملامح الخارجية قد يكون خداعاً. بدليل أن التعمق فيما وراها يكشف لك عن تباين ملموس. هذا هو عين ما فعله المعنيون بتهجير وإسكان هؤلاء النوبيين في موطن جديد بعد أن غمرت مياه بحيرة ناصر موطنهم التاريخي القديم. تعاملوا معهم كمجموعة واحدة بدون اعتبار لتباينات مجموعاتهم الفرعية. أمر يحتاج منا لوقفة تأمل للنظر في تفاصيل هذه التجربة عميقة الأثر التي جرت أحداثها في منتصف ستينات القرن الماضي.
وقعت في غرام عمارة بيوت قري النوبيين التقليدية من أول نظرة في منتصف السبعينات. قصة غرام لعب فيها المعماري المصري الرسالي حسن فتحي دور الخاطبة. من خلال أعماله الخالدات في قريتين في صعيد مصر استوحاهما من ذلك التراث المدهش. مرحلة أعطتني لاحقاً قوة دفع مقدرة أنا أبداء عملي في الثمانينات في رسالة الدكتوراه بجامعة إدنبرا. أكثر ما حفزني في المضي قدماً في ذلك الدرب فيض متدفق من المعلومات عن تلك المجموعة السودانية لم تحظي به أي مجموعة قبلية أخري. كان دافعه الأساسي في مطلع الستينات قرب موعد إغراق منطقتهم بمياه سد العالي. الذي كان سيمحو من الوجود كنوز من تراثهم علي راسها عمارة قراهم المشيدة من الطين. جهد توثيقي مقدر غَنمت منه الكثير وظفته اجتهدت في استثماره لصالح رسالة الدكتوراه. ما زلت أستثمره في نشر رسالتها المستبطنة التي تشيئ بجوانب مدهشة عن تلك العمارة المحلية ثرية المحتوي. المتدفقة بالقيم النبيلة في كافة مستوياتها وتفاصيلها. كل ذلك للأسف الشديد لم يلفت انتباه من أوكل إليهم أمر التعامل مع هذه المجموعة النوبية. التي كان يجب أن تُرحل من موطنها المهدد بالغرق. تجاهلوا تماماً تراثهم الزاخر الثري على مستوي تخطيط قراهم وعمارة بيوتهم التقليدية بتميزها البازخ. تجاهلوأ هم يتعاملون معهم التباينات بين أفرع قبيلتهم. ليستوعبوهم في مشروع تهجير ليست له علاقة بما كانوا عليه منذ عصور قديمة. كتبت كثيرا عن هذه المأساة كان من أهم ما سطره قلمي مقالة في شكل (مناحة). نشرتها متزامنة مع مرور نصف قرن على هذه المأساة المحزنة.
قد يحسب بعضكم أن تجربة تهجير وإسكان النوبيين بجوانبها المحزنة صارت شئي من الماضي لن يتكرر مرة أخري. لكنه للأسف الشديد لم يتغير الحال كثيراً ألي الأحسن شواهد عديدة تدل على ذلك. سأركز هنا على مجال الإسكان والسكن مجال تخصصي. مبتدأ بالنظر إليه في أعلى أكبر مستوياته الجغرافية متكاً على تجربة تهجير النوبيين موضوع هذه المقالة. مستوي افتقد التعامل معه لروح المسئولية العالية والحساسية المرجوة. يتسم بدرجة عالية من التجاهل أو بالاستخفاف بدلالات الناس الرمزية ذات الأبعاد النفسية المؤثرة. التي أدت في الحالة النوبية لاستبعاد خيار تهجيرهم لموقع على ضفاف النهر ليس بعيد عن موطنهم التاريخي. الحال للأسف الشديد لا زال كما هو على مستوي تخطيط المشاريع السكنية. هناك نمط مقدس مكرر يطبق على كل أقاليم السودان ومجموعاته القبلية المتعددة متباينة الخلفيات. تباين ظهر جلياً بين تلك المجموعات النوبية الثلاثة ذات الجذور المشتركة. أما على مستوي تصميم البيوت فهناك تجاهل مؤسس على تعالي وتجاهل لخلفية الناس وإرثهم الراسخ. مع نزعة قوية لجرهم لعالم الحداثة مهما كان الثمن على حساب قيمهم ومورثاتهم. سياسات إسكانية جامدة متعالية متغطرسة متجذرة في نهج الحداثة غربي المرجعية. الذي تَشكك فيه من أسسوه فشرعوا في مراجعته بشكل بدأ يعصف بفكره ومفاهيمه الأساسية. من سخرية القدر أنهم أسسوا في مساعيهم للتغيير والمراجعة على إرث عالمنا الثالث الذي نخجل منه. ثورة فكرية مفاهيمية كاسحة كان الأولي أن نبدأها نحن المكتوين بنارها. كتبت كثيراً في هذا الشأن متكاً على حالات سودانية عديدة منها النوبية التي استعرضتها هنا. كان عنوان واحدة من تلك المقالات- أما أن لنا أن نطلق عمارة بيوتنا من إسارها.
ظللت أطرق هذا الباب بإصرار عنيد مؤمناً على أهمية تبني توجهات بديلة تخاطب مسألة الإسكان والسكن بشكل إنساني مغاير. مستثمراً في قنوات الاتصال الجماهيري، الصحافة والإذاعة والتلفزيون وكل المنابر العامة والمنصات الحديثة مثل الفيسبوك واللينكدإن LinkedIn. لفتت في العشرية الأولي من الألفية الثالثة إطلالات صحفية متواترة نظر واحد من علمائنا الأماجد بجامعة الخرطوم. استدرجني فساهمت بمقالة مطولة ورقة بحثية مكتملة الأركان في دورية لمعهد في الجامعة الذي كان علي رأسه. هو العالم المتميز الشفيف الدكتور محمد محجوب مدير معهد دراسات السلام حقبتئذ. جاءت مساهمتي في عدد مزدوج من إصدارة (خطاب Discourse) العدد رقم 1 يوليو- ديسمبر 2011 الذي خصصوه لمشكلة دارفور المستعصية. ساهمت فيه بمقالة تدعو لاستيعاب رؤي الثقافات المحلية في السياسات السكانية للمجموعات التقليدية. تعميماً للفائدة سأعيد نشرها في مدونتي في الفيسبوك وعلي منصة اللينكدإن LinkedIn. دفعني للمساهمة بهذه المقالة تسليط الضوء علي أمر ملح للغاية. صار أكثر إلحاحا مع تباشير الوصول لاتفاقيات سلام تنهي الحروب في دارفور ومناطق ملتهبة أخري. تداعيات تعني الاستعداد لعمليات كبيرة تهيئ الظروف لاستقرار من شردتهم تلك الحروب الأهلية جلهم من أبناء الهامش. واقع يجعل أمر استعادة كرامتهم وعزتهم لا تقل أهمية عن توفير الماوي والاحتياجات الدنيوية الأخرى. تحدي يستدعي التعامل بحساسية فائقة مع الملايين من البسطاء المبعثرين في الصحاري والقفار. هناك في البدء سؤال عن المعنيين بالتعامل معهم من المخططين والمعماريين. هل هم بناءً علي نهجهم الحالي مؤهلين بالقدر الكافي للتعامل مع تعقيدات وتحديات مثل هذه الحالات.
واقع الحال المستند على العديد من المعطيات يجعلني أشك في ذلك إذ أن هذه المشكلة معقدة عميقة الجزور. لدي اعتقاد راسخ بأن أس بلاءها يكمن في تعليم العمارة عندنا تحديداً في جزوره وآسسه التي تحتاج لمراجعات شاملة. أقول قولي هذا من منطلق تجربتي الشخصية كأستاذ له خبرة تجاوزت الأربعة عقود من الزمان. طوفت فيها في عدد من كليات وأقسام العمارة العريقة منها وتلك التي لحقت بالركب مؤخراً. اطلعت من خلالها عن قرب على جزء مقدر من مناهجها التي جاءت إلى حد بعيد نسخ من بعضها البعض. بالرغم من تقادم الزمن والمتغيرات الأساسية من حولنا خارج وداخل بلادنا. أكثر ما يزعجني في هذه التكرارية تجاهلها لما يدور في العالم من مستجدات واقع مهم يجب استيعابه على نحو ما. سبب هذه الأزمة الأساسي بيت القصيد ارتباط مناهجنا بفكر علماني عفي عليه الزمن. وضع جذوره أسس له العالم الغربي في النصف الأول من القرن الماضي وصدره لنا في ظروف معلومة لديكم. كان أكثرها أثراً فترة احتلال وضع فيها الجانب البريطاني بصمته البائنة كان للعمارة نصيب وافر منها. حدثت مستجدات مهمة لاحقاً في عالمهم. جعلت المعنيون بهذا المجال في النصف الثاني من نفس القرن يدركون قصور وعواقب الارتهان التام لذلك الفكر العلماني. تطورات كان من أهم إسقاطاتها مراجعات أساسية زلزلت أركان الإطار الفكري للعمارة. تداعيات أنتحت رؤي وتوجهات معمارية أكثر إنسانية. تحولات جعلت مفاهيم قديمة راسخة تشكل ثوابت تعليم العمارة عندنا في مهب الريح. الغريب في الأمر أن أساتذتنا لا زالوا يلقنون مفاهيمها لطلابهم بالرغم من أن من أسسوا لها في الغرب قد تبرأوا منها.
هناك حوجه لحركة تصحيحية أري أن تكون بدايتها في ساحة تعليم العمارة. غير متجاهلاً دور منصات ومنابر أخري من أهمها الساحات الثقافية المعنية بالشأن المعماري وحركته النقدية الرشيدة. مساعي عديدة يجب أن يكون هدفها الأساسي تحرير عمارتنا من إسار نهج الحداثة وفكره العلماني العقيم. المسيطر على مشهد ساحات تعليمها. في خطوة تمهد تجتهد لتدك حصونه ومعاقله لتُخرج عمارتنا من ذلك النفق. لتحريرها والسعي لانفتاحها نحو أفق السودان الواسع الرحيب. عمل كبير وفق قراتي المعمقة المتأنية لهذا المشهد قد تحتاج لأكثر من جيل لإنجازه. لكن أملي كبير في صفوة من الشباب الواعد الجسور الماضي في هذا الدرب بهمة عالية وعقل وقاد. قد يحتاجون لسنين عديدة لإنجازه لأن الساحة يسيطر عليها ذلك الحرس القديم المتشرب بروح نهج عفي عليه تجاوزه الزمن. حاولت اجتهدت كثيراً من خلال عملي كأستاذ لفترة طويلة أن أكسر طوق نهج هذا التوجه غربي الهوى علماني الهوية. اجتهدت كثيراً لكي أجعل السودان بتراث مجموعاته المتنوعة وسمات تخطيط مستوطناتهم وعمارة بيوتهم في قلب الصورة. مسلطاً الضوء على عبقرية أفكارهم التي تنافس بقوة منتوج الغرب المستورد. اجتهدت في أن أسلط الضوء على عبقرية هؤلاء البسطاء من أهل بلادي الذين لم ينالوا إلا نزراً بسيطاً من التعليم. حاولت كثيراً لكن يبدو كما يقول المثل المشهور اليد الواحدة ما (بتصفق).
هناك اقتراحات يمكن أن توفر يد أخري لتمكن هذه اليد الواحدة المنفردة أن (تصفق). يمكن أيضاً أن توفر عدة أزواج أو (أجواز) أيادي أخري لتشكل جوقة أو مشروع (كورس) يعرف في الغناء الشعبي بال (الشيالين). لدي مقترحات أرجو أن تكون بناة عملية تساعد في انتشال مقررات تعليم العمارة من وهدتها الحالية. وصفة يمكن أن نسميها عملية (أنسنه) لمناهجها. نحقنها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بنفحات من مقررات العلوم الإنسانية. لتخصصات على راسها الفلسفة أيضاً الدراسات المجتمعية sociology وعلم النفس والأنثروبولوجيا أو أل Anthropology. علوم تخصصات يجب أن يلم طالب العمارة بمعلومات أساسية عنها. كمدخل مهم جداً لفهم معمق عن ماهية العمارة بكل أبعادها المغيبة حالياً. ليس من المهم أن يتم التعامل معها بشكل مباشر إذ يمكن أن تستبطن في ثنايا العديد من المقررات. من أهمها على الإطلاق مقررات مادة نظرية وتاريخ العمارة. مادة أساسية يمكن أن تُستثمر لتكون البوابة الرئيسة والمدخل الأساسي للخروج من الأزمة الحالية. بداءً بعمارتنا الكلاسيكية في عصورها الضاربة في القدم حتى أزمنة تداعت في القرنين السابقين إشارة لما يعرف بعمارة الكولونيال. على أن تتوقف أيضاً عند مكون مهم جداً في سياق مقررات نظرية وتاريخ العمارة هو العمارة المحلية أي عمارة القبائل. في هذا السياق يجب ندخل العمارة السودانية المعاصرة كجزء أساسي في المقررات. مثل هذه الخطوات والمعالجات ستضع السودان في قلب الصورة فتساهم كثيراً في تخفيف قبضة نهج الحداثة وفكره العلماني. بذلك نمهد الطريق لانطلاق عمارتنا عبر مسارات جديدة تلامس أشواق المجموعات المنتشرة في كافة أرجاء بلادنا.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أبريل 2022