نتذكر الراحل المقيم منصور خالد عبر أعمال معمارية ارتبطت به
مر زمان ليس بالطويل على رحيل المفكر السوداني الأشهر و الأكثر جرأة الدكتور منصور خالد. لا أحسب أنى بعد أن نعته و تحدثت عن أفضاله علينا و على بلادنا أقلام باسقة. قدمت إضاءات مدهشة كشفت الكثير عن سر عبقريته و تفرده. لا أحسب أنني بعد كلما ما جادت به قرائحهم و سطرته أقلامهم سآتي بما هو جديد عليكم. لكن جالت بذهني خاطرة أظن أنها تمنحني فرصة لتسجيل إضافة في هذا السياق أتاحتها لي فرصة اختراق قربتني منه. وفرها لي رفيق دربه و اعز أصدقائه أستاذنا و أستاذ الأجيال المعماري الفذ عبد المنعم مصطفى عراب عمارة الحداثة السودانية. تمت في إطار اهتمامي الخاص بواحدة من أهم أعمال الأستاذ المعمارية. هي فيلا الدكتور منصور الكائنة في منطقة الخرطوم وسط و المطلة هناك على شارع الشريف يوسف الهندي. التي افتتنت بها و قتلتها بحثاً تدفق منتوجه في عدد من المقالات. تزينت بها من قبل صفحتي في الفيسبوك و أودعتها ضمن مواد موقعي الإلكتروني. تناولت فيها في كل مرة جانب مضيء من جوانبها المدهشة المتعددة التي شكلت منعطفات فارقة في مسيرة عمارة الحداثة السودانية. تعميماً للفائدة ارتأيت أن أعيد نشر اثنتين منها هنا.
قبل فترة قصيرة برني أخي الصغير سعادة السفير الأديب الأريب بالغ التهذيب و الوفاء ياسر محمد على. المسكون بحب البلد المعطون بحس أدبي مرهف و لغة مرفرفة بهدية فائقة القيمة. مقالة من روائعه خطها يراعه الذهبي بعد غياب الراحل المقيم حبيبنا الدكتور منصور خالد تغزل فيها في جوانب من شخصيته الفذة. التي تعرف عليه فيها في ظروف استثنائية قربته منه للغاية في فترات متواترة في قاهرة المعز قبل سنين عدداً. قدم في تلك المقالة إضاءات قيمة للغاية عن خصالة و روحه المترعة بعشق بلاده كشفت العديد من جوانبه الإنسانية. تحديداً اهتمامه الفائق و تعلقه بالتراث بالرغم من أننا نعتبره عراب الحداثة الأول. تداولنا معاً الرأي في تفاصيل تلك المقالة القيمة و الزاخرة بالجوانب الخفية من شخصيته و توقفنا عند تفاصيل مدهشة فيها. ذهب بنا الحديث من خلالها بعيداً عنها قليلاً بدون أن نخرج من إطارها. تفاكرنا في أمور أوحى بها الدكتور قبل رحيله و تداولها و اهتم بها أحبابه المهتمين بثمرات كسبه و شأن تراثه. أهمها تأسيس مؤسسة تخلد اسمه و تعنى بأمر ذلك التراث الخالد. أملاً في أن تكون أهم أهدافها محاولة تحقيق بعض أحلامه المعنية بهموم الوطن.
تناولت من جانبي القفاز في منحى ذهب فيه معي سعادة السفير في نفس الاتجاه و حاولنا معاً تطويره إلى حد ما. أساسه كان افتتاني البالغ بفيلا دكتور منصور التي أشرت إليها من قبل. جاءت أفكارنا بناءً على نهج اتبعته بعض الدول التي سبقتنا في حرصها على تراثها المعماري. الذي دعاها للمحافظة على دور و بيوت عظمائها المفكرين و الفنانين الذين أسهموا في تأسيس أركان حضارتهم. من أروع الأمثلة ما فعلته بريطانيا العظمى ببيت عَلمها الروائي و الشاعر الأعظم و الأشهر عالمياً وليام شكسبير. الذي طفقت شهرته الأفاق في القرن التاسع عشر. هو منزل صغير متواضع في مدينة ستراتفورد في مقاطعة يوركشير. الذي اعتنت به الدولة بعد وفاته بدون تغيير في معالمه و ملامحه. فحولته إلى متحف صار معلماً سياحياً مهماً. نمى إلى علمي أن مصر فعلت نفس الشي مع فيلا الفنانة الخالدة أم كلثوم في القاهرة. باعتبارها من أهم رموزهم و رموز الأمة العربية الفنية. فحافظت على فيلتها بعد رحيلها التي صارت متحفاً يقصده زوار عاصمتهم. مثل هذه المواقف تجعلنا نخجل من أنفسنا إذ فشلت الجهات الرسمية المعنية بتراثنا المعماري في الحفاظ على درة من درر عمارة القصور التاريخية. تباطأت في التعامل مع ورثة سرايا السيد عبد الرحمن المهدى بشارع البلدية. فتم بيع جزء من أرضها و فقدنا معه نصف المبنى وتبقى لنا منه مسخاً مشوهاً.
مثل هذه المواقف العظيمة عالمياً و المأساوية عندنا تجعلنا نفكر بجدية في مصير فيلا الراحل المقيم التي أشرت إليها هنا. طرازها يؤرخ لمرحلة مفصلية في مسيرة عمارتنا الحديثة. عليه، فهي تدعونا لكي نقوم بخطوة إيجابية لإنقاذها من مصير مجهول. أعتبر أن ما ورد في مقالاتي عنها بمثابة حيثيات مقنعة للمحافظة عليها وفق ما ورد في قانون المباني الأثرية. المقام الرفيع و الدور الريادي العظيم لطرفي هذا العمل، المصمم و صاحب الفيلا كل في مجاله يعزز من طلب المحافظة عليها. عليه، أقترح الاحتفاظ بها بنفس حالتها الراهنة مع ضرورة صيانتها إذ دعي الحال بطريقة احترافية. لدى معرفة دقيقة بالمبنى بكافة أجزائه و تفاصيله و محتوياته. بالإضافة للكتب القيمة و المخطوطات النادرة يتوفر على ثروة من الأعمال الفنية بالغة التميز التي حرص الراحل المقيم على اقتنائها طوال مراحل حياته. عليه، أرى و في إطار مقترح مشروع مؤسسة تحمل اسمه أن تصبح هذه الدار جزءً منه كمتحف أو مزار. بالإضافة لذلك يمكن و بتحفظ شديد أن تستضيف بعض الفعاليات محدودة العدد نوعية الحضور. على سبيل المثال لقاء تفاكري في قاعة الاستقبال الرحبة و ندوة في الحديقة الخارجية أو طابق السطح. منطقة المبنى و موقعه في مركز الخرطوم التجاري الإداري يؤهلانه تماماً لمثل هذا الدور. كمزار سيثرى حياة العاصمة الثقافية و يعكس وجهها الحضاري.
ساعدتني الظروف في زمان مضى بالتجول بحرية و أريحية داخل فيلا الدكتور منصور. فصورت كافة أرجائها و كل أركانها و تفاصيلها المدهشة. بما فيها لمسات البستنة المبهرة التي منحت هذا العمل المعماري حيوية بازخة. ساهمت فيها بشكل مقدر المكونات المائية من برك متجاورة مختلفة المستويات مكونة شلالات و مساقط مائية صغيرة مدهشة. انضمت لها في شراكة ذكية و رعاية حانية العناصر النباتية من مسطحات خضراء و أشجار و شجيرات و أزاهير. موثقة لحالة مناجاة و غزل صريح. راسمة لوحة طبيعية مدهشة في أفق بهو الاستقبال الأنيق الرحيب. أروع المشاهد و المواقف ستستقبل زائر المزار في بداية رحلته داخل الفيلا. تتقاطع فيها حركته صعوداً على الدرج المفضي للطوابق العليا. مع المياه المنسابة برفق و دلال من البركة العليا إلى السفلى الممتدة على جانب المدخل. التي ستحتفى به هناك و تزفه بسيمفونية شجية يدوزنها انسياب مياه المساقط المائية السلس.
الدهشة الحقيقية التي ستبهر المتجول في المزار هي سلسلة الأدراج أو السلالم التي ستحمله من جزء في الفيلا إلى أخر. التي مارس فيها عبد المنعم لعبته المفضلة في التلاعب بالمناسيب و المستويات. تحمل المتجول في الفيلا المزار بسلاسة من عالم إلى أخر في رحلة حافلة بالمفاجئات. من الفناء الأمامي و الحديقة لحجرة الاستقبال لغرفة تناول الطعام إلى الجزء الأعلى عالمه الخاص في أعلى مستوى. أماكن متنوعة تمثل تفاصيل عوالم متباينة تصنع مجمل حياة منصور. قمة الدهشة في الطابق الأعلى ملجأه و ملازه الذي كان يقضى فيه جل وقته. محلقاً في عالمه الخاص العام كراهب منقطع للعبادة في مغارة في جوف جبل منعزل. كان الدكتور مبذول تماماً لعمله الفكري الذي كان له بمثابة (الأوكسجين). فالرجل كان دوماً مهموماً بقضايا الوطن الذي يحمله في حدقات العيون في إطاره العالمي الرحيب. الطابق الأعلى الذي يبدو من أول وهلة شبيه بغرفة النوم الرئيسة النمطية كان عالمه الخاص المكتمل الأركان. كان شبياً بمنصة انطلاق تهوم فيها روحه الشفيفة في أجواز الفضاء الرحيب. لتعود بصيد ثمين من أروع الأفكار الأصيلة التي تفتح مصاريع كافة المعضلات الفكرية. تنداح و تذوب في هذه الغرفة الرحيبة أجزاء لكافة الأنشطة المتنوعة. لتصنع صومعة الدكتور التي أنتج فبها جل أعماله الفكرية الخالدة.
طوفت بكم من خلال سردي المسترسل و مجموعة صوري الفتوغرافية في أرجاء و أنحاء فيلا دكتور منصور بالغة التميز. التي تجلت فيها عبقرية توأم روحه أستاذنا عبد المنعم مصطفى. عرفت من مصادر موثوق بها أن هذا العمل المتفرد كان ثمرة تعاون أو لنقل تماهى فكرى بينه و بين الدكتور منصور. تم عبر تبادل المذكرات و الأفكار و هذا هو غاية ما يتمناه المعماري الأريب. بالذات عندما يكون طرفي هذه المعادلة من أمثال هؤلاء الأفذاذ. الواضح أن هذا مثل هذا العمل المعماري العبقري كان نتيجة عصف ذهني معمق أنتج عمارة حبلى بالمعاني. أتمنى أن أكون من خلال سردي التفصيلي المتسلسل و مجموعة صوري قد نجحت في التسويق لفكرة تحويل الفيلا لمزار و متحف مشرف مشوق. أنى لعلى ثقة كبيرة بأن هذا الحلم لو تحقق سينتج مشروعاُ جاذباً للغاية لأنه سيعكس تجربة إثنين من عباقرة زماننا. سينجح َفي تسليط الضوء على ملامح مرحلة مفصلية من تاريخنا الحديث.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- مايو 2020