حكايتي مع هذا الرجل…
عتبة أولى :
إذا عزمت على الرحيل إلى ( إيثاكا ) …
أدعو أن تكون ( الدرب ) “( طويلة ) …
أن تكون ( نهارات الصيف ) “( كثيرة ) …
عتبة ثانية :الزهير : ( اسم فاعل ) لمادة ( زهر ) ،
إذا برق …
وسطع …
ولمع ..
ومنه سمي كوكب الزهرة بهذا الاسم …
عتبة ثالثة :في إحدى نهارات شتاء 2002 ، وفي حصة الإنشاء أو ( التعبير ) كما تسمى في تلك البلاد … قال الأستاذ لطلابه :
إن المعلم الحقيقي هو الذي يترك الأثر العميق في نفوس تلاميذه ، أما الباقون .. فــ…… ، وبقي الأستاذ يتأفف للحظات .. بحثا عن الجملة المناسبة ….تدخل ( الفقير إلى عفو ربه ) قائلاً :
— الباقون مجرد ( أدوات ) لترجمة المنهج يا أستاذ ..!!! ..
تبسم الأستاذ … وتبسم الطلاب … أما ( الفقير ) فلم يدرك حينها معنى قوله بالتحديد !!!….
مدخل … :
… تداعت هذه ( العتبات ) إلى فكري، حين أردت الكتابة عن الدكتور المعماري … هاشم خليفة محجوب .. ، أستاذ العمارة والدراسات الإنسانية ، ومعملي بالسنة الأولى بهندسة العمارة ، الحديث عن …. أو حتى مجرد استدعاء الذكرى .. عن أولئك النفر الكرام .. الذين يتركون الأثر … العميق، في نفوس تلاميذهم حديث ذو شجون ! …
فالدكتور هاشم ينتمي إلى جيل الرواد ، تلقى تعليمه في ( حنتوب )، وانتظم في العقد المضيء لخريجي الدفعات المبكرة من ( كلية العمارة بـجامعة الخرطوم ) … وأكمل دراساته بـ( أدنبره ) .. وقد نلت شرف التتلمذ على يد هذا الطود الشامخ … مدة سنة واحدة ..لا أكثر !! .. وكحال الدنيا ما تنفك تدخل أنفها في كل ما هو جميل في هذه الحياة … انتقل الرجل للعطاء في ميادين أخرى … وبقينا من بعده نحاول السير … بنور حكمته … وفي الدرب الذي أراد …
محاولة الكتابة تبدو صعبة … تتقازم الأحرف أمامه ، فقد رأيت الحكمة في أبهى صورها … وموسوعة تمشي على قدمين !! … ولكن السلوان في استدعاء صور … من الذي كان ، ومتابعته في أنشطته العلمية … والإعلامية ، الدؤوبة …والساعية لتحسين واقع العمارة في بـلادي …
ذاكرة أولى :
صباح السبت …4-12-2004 … كان صباحاً بارداً ..دخلت حيث مقر دراساتنا …اليوم الأول .. من السنة الأولى …وبعد ضياع ساعتين ..في البحث عن المكان …المناسب ، ذهبت ..كان يحاضر في قاعة الحضور فيها أربعة !! .. تقدمنا بحذر ..أنا ومجموعة من ..الزملاء … طرقنا الباب .. قال مبتسماً – وبكل لطف – :
— انتظروا قليلاً بالخارج … سنستدعيكم .. عندما نحتاج إلى … خدماتكم !!!..
… حسبنا الأمر جداً وانتظرنا .. لدى الباب ، وبعد ساعتين ..من الانتظار … أنهى المحاضرة …ومر من خلالنا ، ورائحة عطر – إنجليزي- تفوح منه … تابعته النظرات … ولكنه ..ركب سيارته ….. وغادر !!!
ذاكرة ثانية :
صباح الاثنين …6-12-2004 … ذهبت في الصباح الباكر ..وجلست ( أمام ) القاعة …منتظراً – الثامنة والنصف تماماً – … مر من خلالنا – وبنفس العطر – … دخل القاعة .. وبكل بساطة ..أغلق الباب !!!.. وانتظرنا هذه المرة ساعتين أيضاً …على أمل أن يحتاجوا إلى خدماتنا … وفي ( الكافتيريا ) المقابلة لمكان انتظارنا !!…جلس المتقدمون عنا يروون ( الحكايا ) عن صرامة الرجل … وحزمه .. ففهمت القصة .. !! وعاهدت نفسي ألا تتكرر …. وانتظرته من المرات القادمة ..على مقعدي .. في منتصف القاعة .. في سنة أولى عمارة …!!!!
شيخ صاحب طريقة … يعرف تماماً ..كيف يفجر …الطاقات الكامنة ..في تلاميذه إلى أنهار ….من الإبداع … لا تنضب ….. -لأزال- أتذكر ..وبكثير من المتعة …والحنين ، كيف علمنا أن ( نبري القلم الرصاص ) بالمدية … وكيف نحافظ على رؤؤسها حادة !!..، وكيف كانت كلماته .. تنساب ..بسلاسة ، عن ( فلسفة العمارة ) من فكره .. ولسانه … إلى عقول تلاميذه …لتدخلها …ولا تغادر … أبداً …
كانت شخصية الدكتور …هاشم خليفة محجوب … شخصية آسرة ساحرة – بكل ما للكلمة من معنى – ، تجمع بين الصرامة الأكاديمية …الحازمة ، مع…روح الدعابة التي ..لا تفارقه ..، وبين العلم الغزير …الزاخر , وتواضع ..وبساطة المعلم .. وتدرجه مع تلاميذه بشكل لا نظير له …، في البدء : كنا مشدوهين بشخصية الرجل وروحه الشابة المواكبة …أسلوبه الممتع في شرح النظريات مع علمه الواسع .. أكسباه احترام الطلاب …ومحبتهم ، كانت البداية معه ..حذرة ، وانتهت بعام لا تنسى أيامه …أبداً …
– ولأزال – أتذكر ..وبكثير من المتعة والحنين – أيضاً – ..أدق التفاصيل عن السياحة التي كان يأخذنا إليها …عبر محاضرات ( تاريخ العمارة ) !!! … يتحدث في كل موضوع بإسهاب …من الفراعنة …إلى الآشوريين …إلى الإغريق …إلى عوالم عصر النهضة الساحرة ..في أسفار الأولين …وأسفار الراحلين ..وأسفار الحنين …في عمارة من مضوا ..ومن أتوا … ومن سادوا ..ومن بادوا … كان يستفيض بشكل …يأسر الألباب ..وتتمنى ألا يسكت …أبداً …
مع هذا الرجل … عرفت معنى أن نمنح العلم – حقه – …، ومعنى أن يخلص المرء للمعلومة التي أمامه …مهما كانت الظروف والأحوال … تفتحت أفكارنا في بداية مرحلة …جديدة من الحياة ، على يد علامة كان – هدية الأقدار – …كما وصفه زملائي بعدئذ …، ومع الأيام أضحت محاضرات الدكتور هاشم ..الشغل …الشاغل لتلاميذه …ما أن تنتهي محاضرة ، حتى يمسى ..الجميع في شوق …وترقب لأختها ..، كلمات تنبض بالحياة ، تأملات في شتى صنوف المعرفة الإنسانية …تعلمنا منه … نظريات التصميم المعماري …، أسرار التاريخ ، وحكمه ..، وسننه ..، ومبادئ الدراسات الإنسانية …، وكثيراً من قواعد تشييد المباني …، جدلية التراث والمعاصر …، تقاطعات الفن والحياة ……كانت كلماته ( بذور صـراع ) ..عنيف!!! …في دواخلنا ! بدأت رحاها في الدوران ..ولا تزال ..في رحلة أبدية نحو المعرفة بشتى دروبها …
وقديماً ..آمنت ….بأن ( من تواضع لله رفعه )…ففهمته ..وازددت يقيناً به …مع هذا الرجل …، عزة وأنفة يكاد يحسب غرورا !!… مع تواضع جم .. وبساطة متناهية ..، عندما يتحدث بكل اعتزاز عن ( الرجل الوطني : خليفة محجوب ) .. وعندما يتحدث بكل مودة عن أستاذه … بروفيسور عمر الأقرع – متعه الله بالعافية وأطال عمره – … مع هذا الرجل …شاهدت …عرفت …تعلمت …معنى الوفاء !!…
أحياناً …يخطر لي أن أفكر …في سره المكنون !!… أيا ترى ..العلم الغزير ..الأسلوب الممتع ..التدرج في المعلومة ..الروح الجميلة …أم خليط ذلك كله …ومعاني أخرى كثيرة غيرها !!… وبرغم ذلك ..يوجد جانب منه مضيء لم استطع استلماحه …وربما قد يكون ( احترامه لتلاميذه ) … ، عندما تتحول محاضرة كل مادة دراسية …إلى ندوة فكرية ..شيقة ..و((( يرتقي أسلوب الحديث ))) إلى طرح فلسفي رفيع المستوى – فذاك لعمري أمرٌ عجـيب – …ولأزال ..اذكر تفاصيل إحدى محاضرات مادة ( نظرية العمارة ) …عندما جال بنا في عوالم الفكر والفلسفة …أذكر المشاهد حية ….. توقدت العقول حين سماعها لأول مرة بـ….جاك دريدا …جان بول سارتر…سوسير ….سلفادور دالي ..لوكوربوزييه ….ونحن في منتصف ( سنة أولى عمارة ) …شعور جميل ..وامتنان تحمله في قلبك ….لمن تشعر معه بالنقلة …دوماً وأبداً ..
وأحياناً أيضاً …- وكحال جميعنا عندما ينتابنا شوق إلى الذي كان – …أعود ..وأقرأ ..في دفتر ملاحظات تلك الفترة …الرائعة ..البهية … وأعيد القراءة .. وأعيد ..كرة …تلو الأخرى …وأقسم أني أخرج بجديد …دائماً وأبداً…
(( إن المعلم الحقيقي … هو الذي يترك …الأثر ..العميق …في نفوس تلاميذه )) ، صدق معلمي القديم ..حين قالها ، فنعم المعلم ..الحقيقي ..الدكتور : هـاشم خـليفة ، ..ترك أثراً لا تمحوه …الأيام ..في نفوس .. وعقول ..ووجدان تلاميذه …وربى طلاباً عطاشاً للمعرفة ….معه تعددت القراءات ..أصبحنا نقرأ (( قراءة متأنية متعمقة ..في شتى صنوف الفنون والعلوم )) …كما كان ينصحنا ، …معه أصبحنا نرسم ( مناظيراً ) للحياة …من ( وجهات متعددة ) … معه دخلت مفردات .. كثيرة .. جميلة .. إلى عقولنا ، الانثروبلوجيا…السميولوجيا …عمارة الفقراء ..اتجاهات الفن الحديث …وتيارات ما بعد الحداثة …الطراز والموضة …الطبع والتطبع…الضوء والظل ..الفراغ والمصمت .. والأدب الروسي …والواقعية الجديدة في السينما الإيطالية …البنيوية …والبنيويون…تيار الوعي …العمارة العامرة بالرموز والمعاني …والإخلاص ,,,والإتقان ,,,وحب الأوطان …وآلاف غيرها …مفردات صاغها الأستاذ القدير ..حباً ..وعطاءً ..لتلاميذه …فنمت فيهم ( روح ) ..محبة ..للمعرفة .. ، متسعة الأفق ، تصنع من كل كلمة قالها ( الشيخ ) .. ( شمعة ) ..تنير طريقها وطريق الأوطان …نحو ( عوالم ) ..تقدس العلم وترفع من شأن الـ( متعلمين ) ! ، …سيراً في ( دروب ) تحفها …روح ..البحث ..الإبداع ..والتجديد ……كانت آمال الأستاذ لتلاميذه ..وقلوبهم اليوم تهفو للقائه ……ولو عبر برامجه في ( الـراديو ..والتلفـزيون ) !!!!!…..