عمارة القصر الجمهوري: الكلام عاللون
مشاكل نظام الإنقاذ كثيرة متنوعة متباينة في مدي تأثيرها على شتي مناحي حياتنا. أسلط الضوء هنا على جانب منها مركزاً على جزئية محددة منه. تسبب فيه على وجه التحديد جسم هلامي أنتجه النظام بإيعاز من بعض عناصره المؤثرة. كانت نتائجه كارثية إذا نظرنا إليها من منظور علمي مهني و أيضاً وطني. الإشارة هنا لما يعرف بالدار الاستشارية لتطوير الخرطوم. التي قامت خلال فترة قاربت الثلاثة عقود من الزمان عملت خلالها بهمة عالية لهدم نفس تلك المعاني السامية التي يحملها اسمها. عرفت أن فكرة تأسيسها نبعت من شيوخ و حكماء مهنة الهندسة من أمثال البروفيسور دفع الله الترابي. الذين سعوا لقيام جسم هندسي يكون مرشداً حارساً يضع مسار العمل في هذا المجال في الطريق القويم. فسعوا في ذلك الإطار لتأسيس هذه الدار لكي تكون نموذجاً مصغراً ة ذراعا مؤثراً. عملية تأسيسها كانت الخطوة الأولي لمسيرة مدمرة تلتها خطوات متتابعة ممنهجة. على نفس ذلك الدرب المؤسس على جهالة متجذرة. التي استفردت فيه خلال أكثر من عقدين من الزمان بتصميم جل المباني الحكومية مما أدي لانتكاسة واضحة في مستوي مخرجاتها. المشكلة الكبرى أنها استهدفت بشكل خاص تراث العاصمة المعماري الذي لا تقدر قيمته بثمن و لا يمكن تعويضه.
فعل من كانوا علي راس ذلك الجسم الهلامي فعلتهم تلك هم محمين بجهات عليا منحتهم حصانة بلا حدود. فعلوه لسخرية الأقدار هم يستظلون في مقره بلافتة مسطر عليها: الدار الاستشارية لتطوير الخرطوم. من الأصوب في هذه الحالة قياسا بما ما فعلوا في تراث العاصمة المعماري أن تعدل كلمة تطوير لتصبح تدمير أو تشويه. سأركز هنا على حالة واحدة من ذلك الدمار الشامل ممهداً لها بمقدمة قصيرة. بدأت عملية تمكين تلك الدار بخطو العديدة المشرفة. من خلال دورها المؤثر لقرابة القرن من الزمان ساهمت فيه بدور ملوس في إرساء أسس مجال البناء و العمارة. قام على رؤي و فهم الأماجد من المهندسين و المعماريين النوابغ وقفوا فيه حارساً مؤتمنا على العمل في هذا المجال بكافة جوانبه. كان فيه للعمارة نصيب الأسد و الشاهد على ذلك درر طرزت أنحاء عاصمتنا و حواضر أقاليمنا. رسمت لوحة بهية بدأت بكلية غردون التذكارية متدفقة بعد ذلك في فترة الحكم الثنائي عابرة به بها لكل الحقب بعد الاستقلال.
التحقت للعمل بالوزارة في بداية السبعينات عندما كان قسم التصميم المعماري فيها شأن باقي أقسامها يستقطب خيرة الخريجين. عملت مع الأماجد منهم اعتز بأن كان رئيسي لبضع سنوات عبقري زمانه المرحوم المعماري الفذ حامد الخواض. من المحزن أن كل هذا التاريخ المجيد و الإرث المعماري الفخم تم إلغائه بجرة قلم بحجج واهية ليحل محله جسم وهمي. أكثر ما أحزنني أن علمت أن جل أرشيفه قد ضاع. كأني بهم قصدوا محوه من الوجود حتى لا تكون هناك مقارنة بما كان عليه الحال و ما أل إليه المال. ألغوا وزارة الأشغال بحجة الترهل الوظيفي. هو قول مردود قياساً بمقارنة عدد المعماريين بحجم الأعمال المنجزة. قد يكونوا محقين في دعواهم عن الترهل إذا نظرنا للأمر من زاوية محددة. لأن أي واحد من معماري وزارة الأشغال في ذلك العهد الذهبي يوزن عدد مقدر منهم. لم تهتم قيادة العمل في الدار بهذه الأمور فمضوا في غيهم يعمهون ينتجون الأعمال المعمارية الركيكة بهمة عالية. أكثر ما أزعجني في مسيرتهم الهدامة استهدافهم لدرر عاصمتنا الكلاسيكية. على سبيل المثال طال عبثهم مبنى وزارتنا السابق المطل على النيل الأزرق المجاور للقصر الجمهوري من ناحية الشرق. الطامة الكبرى هي ما حاق بمبني المديرية السابق المطل على شارع الجامعة. الذي تعرض ل (بهدلة) معمارية مريعة صنعت منه مسخاً مشوهاً. الفضيحة الكبرى أنه ما تم كان بغرض إعداده كمقرً لمجلس الوزراء. إنها بحق سقطة معمارية، إذ أنه ليس في هذا العمل المعماري ما يوحي بالأهمية القصوى للجهة التي تشغله.
أكثر مبنى من المباني الإثارية الذي استهدفته الدار الاستشارية فإنتاشته بسهامها هو للأسف أهمها و أقيمها من كل النواحي. هو مجمع القصر الجمهوري الرابض على ضفة النهر المطل على شارع الجامعة. استهدفته بشتى الطرق بشكل ممنهج لفترة قاربت الثلاثة عقود من الزمان. انتهت بزوال نظام الإنقاذ الذي نأمل أن يؤرخ أيضاً لزوال ذلك الجسم الهلامي الغريب. نأمل في أن تكون التحولات السياسية الأخيرة طوق نجاة تحفظ لمثل هذه الكنوز المعمارية هيبتها و وقارها. اهتمامي الشديد بأمره جعلني أتتبع كافة تفاصيل تلك الأحداث. قربي من مواقعها و تتبعي لخبياها لفترة من الزمان أتاح لي صورة مكتملة الأركان. واصلت اهتمامي بها بعد ذلك بحرص شديد نسبة لأثارها السلبية الملموسة. توالت الضربات و النكبات على مجمع القصر مخلفة في النهاية أثاراً سلبية لا يمكن تداركها أو معالجة بعضها بأي طريقة من الطرق. إنتاشت المبني الرئيس في البدء في أكثر من موقع. لتنتقل لاحقاٌ لأخر مجاور له لا يقل عنه أهمية لتزيل جزءَ مهماً منه. لتحقق لاحقاً خسارة أكبر بهدم مبنى صغير غاية في الأناقة تاريخي كلاسيكي الطراز أزيل من الوجود تماماً. أختمت ماسيها بزراعة مبني كبير بديل للقصر احتل موقعاً استراتيجياً في مجمعه. ليأسس لحالة شبيه بالجسم الغريب و معروف طبياً المألات السالبة المتوقعة من زراعته.
مشروع تشويه مكونات مجمع القصر بداء قبل أكثر من عقدين من الزمان. تابعت مراحله الأولى عن قرب بعناية فائقة. خارج هذا الإطار حقبتئذٍ استرعي انتباهي الوعي العام بقيمة مبني القصر كصرح اثأري بالغ التميز. لمست ذلك من شواهد عديدة قبل أن يستفحل الأذى بهذا الكنز المعماري. واحد منها استياء عام من عملية تغيير نوافذه باخري حديثة الطابع. لم يكونوا أوانئذٍ يدرون ما ستخبئه له الأقدار في مقبل السنوات. من أكثر ما أزعجني في تلك المراحل الأولى البوابات التي أضيفت. تحديداً الرئيسة في الجانب الجنوبي الواقعة شمال النصب التذكاري المطل على شارع الجامعة. تَقبُلنا لأهميتها لن يجعلنا نغفر لمن صممها عدم جعل طرازها منسجم مع خلفيتها التي تتمدد فيها عمارة القصر كلاسيكية الطراز. أزعجني أكثر في أمر تلك البوابات ما حدث أمام الثانوية الصغيرة في الجانب الغربي من القصر المواجه لمبني وزارة المالية. التي كانت تقف هناك في أمن و أمان منسجمة تماماً مع مبني القصر القديم. فزُرعت أمامها بوابات جديدة ليس لها داعي و ليست لها علاقة طرازيه مع المبني الأصلي. بوابات (منشزة)، من كلمة نشاز، أشبه بالجسم الغريب الذي يقود الشخص الذي زرعت فيه إلى الهلاك. لم أستغرب اوانئذٍ لتلك التشوهات المؤذية للعمارة. لأنني وجدت من أوكلت إليه مهمة التعامل معها وفق المعايير العلمية المسموح بها لمثل هذه الحالات طفل غرير. كان من طلابي بقسم العمارة بجامعة الخرطوم قبل بضع سنوات. قدمته الدار الاستشارية هنا كنموذج للطفل المعماري المعجزة.
توالت بعد ذلك الضربات مستهدفة مبني القصر الرئيس في واقعة نؤكد ضحالة فهم من كانوا في كابينة القيادة في الدار الاستشارية. في خطوة معبرة عن حالة – ظاهره الرحمة باطنه العذاب. حالة قد يحسبها بعضكم إضافة إيجابية لعمارة مبني القصر. لكن من ينظر إليها بعمق، هذا عين ما فعلته، يخرج بنتائج احسب أنها تستحق أخذها في الاعتبار. الأمر هنا يتعلق بأمر أحدث تغييراً لا يمكن تجاهله في الواجهات. إذ قام المعنيون بشأن القصر بالكشف عن أجزاء صغيرة في الواجهات كان لها وقع مؤثر. لأنها مشيدة بخامة مختلفة عن بقية أجزاء الواجهات أستخدم فيها الحجر الرملي. لم تتم تلك الخطوة من قبل من صمموا القصر بغرض الوجاهة لكن لأسباب موضوعية مقنعة. تركز الحجر الرملي في أركان المبني و أجزاء الحيطان المحيطة بالفتحات، الأبواب و النوافذ. التي تتعرض بحكم موضعها لضغوطات عالية. لهذا السبب تم تشييدها بهذه الخامة البنائية القوية لأنها أقوي من الطوب الأحمر المثبت بمادة طينية الذي شيدته به الحيطان. يبدو أن مثل هذه المعلومات الأساسية كانت غائبة عن ذهن من تعامل مع المشروع نتيجة لعلمهم المنتقص.
ظهر قصر الحاكم العام منذ بداية فترة الحكم الثنائي و حتى نهايته مكتسياً باللون الأبيض. كحالة متفردة في كل أعمال عمارة الكولونيال أو المستعمرين في ذلك العهد. الأمر الذي حرصت عليه كل النظم السياسية الوطنية بعد الاستقلال. يبدو أن تمسكهم به جاء إكراما للحظة الاحتفال بإعلان الاستقلال التي شهدتها أرجاء القصر على خلفية واجهاته الموشحة بذلك اللون. تَمسكت به بالرغم من تغيير اسمه أكثر من مرة خلال عهود الحكم الوطني. ليأتي عباقرة الدار الاستشارية خلال حقبة الإنقاذ ليشذوا عن هذه القاعدة الذهبية. ضحالة فكرهم و ضعف إحساسهم بقيمته التراثية مضت بهم في اتجاه مخالف. الذين فرحوا باكتشافهم أجزاء الواجهات الحجرية فرح من اكتشف قارة سادسة في العالم. سعوا لكشفها للعيان يغمرهم إحساس من حقق نصراً مبيناً. فانتقصوا حسب رؤيتي من منظر القصر المهيب الذي حققه بلونه الناصح البياض. أكثر ما يزعجني في رُقع الأجزاء الحجرية أنها تشوش على انسياب كتل المباني البيضاء المسترسلة. لا أحتاج لكثير جهد لتعزيز وجهة نظري لأنه هذا اللون مفضل عندنا لارتباطه في أذهاننا بقيم عالية و معاني دينية سامية. إذ لا نكاد نري غيره في الجلابيب و العمامات في كافة مناسباتنا الدينية و المجتمعية بالغة الأهمية. بالرغم من طوفان بدع الأزياء الرجالية السمجة التي شاعت مؤخراً. جاءت للأسف محمولة على أجنحة نسخ جديدة مبتذلة لما يعرف بال (علي الله). التي ارتبطت نسختها الأصلية بالعهد المهدوي و أنصاره من الأجيال اللاحقة.
ما حدث بعد ذلك يتضال أمامه ما جري في بوابات القصر و واجهاته. تعامل عنيف استهدف مباني أخري في مجمعه تاريخية كلاسيكية السمات بالغة القيمة لأنها تمثل حالة نادرة في سياق هذا التراث. بداءً بمبني الكنيسة المجاور للقصر و هو تحفة معمارية رائعة من الحجر الرملي شيدت في فترة الحكم الثنائي. صوبت السهام نحوها بشراسة في قمة فترة الهوس الديني خلال فترة حكم نظام الإنقاذ. تلقت الضربة تلو الضربة الأولي أطاحت ببرجها الجميل الأنيق. الثانية تمت بتحويل استخدامها ليصبح متحفاً لمقتنيات القصر بتركيز على هدايا الرؤساء خلال فترة الحكم الوطني. مع أنه كان يمكن الإبقاء عليه بنفس شكلها القديم خارجياً و كل تفاصيلها الأصلية داخلياً بدون أن تقام عليها شعائر الدين المسيحي. الإطاحة ببرج الكنيسة أفقدتنا جزءً عزيزاً من أحد أهم مكونات مجمع القصر يؤرخ لحقبة تاريخية مهمة.
الضربة القاضية بحق طالت عمل معماري صغير في حجمه كبير في قيمته التراثية الكلاسيكية هو مبني الحرس الجمهوري. عمارة بيضاء صغيرة مفرطة الأناقة احتلت ركناً قصياً في الجزء الشمالي الشرقي من موقع مجمع القصر. أذكر أنني كنت أتغزل فيها في مطلع السبعينيات في رحلة ذهابي و عودتي من مكتبي بوزارة الأشغال المجاور للقصر. لم تشفع له أناقته الفائقة و قيمته الأثرية العالية فكنسته الجرافات بلا رحمة. ذات مرة سألت ببراة مدير الدار الاستشارية عن سبب إزالته. فجأت إجابته معبرة تماماً عن بلادة إحساسه بقيمة هذه الدرر المعمارية و الكنوز الأثرية و عن سذاجة تفكيره. تَعلل بأنهم أرادوا أن يحولوا تلك المساحات لمروج خضراء تسرح فيها الغزلان. برر هذه الفكرة بأن الرئيس اعتاد أن يهدي زواره من رؤساء الدول الذين يستضيفهم من تلك الغزلان. فأراد مدير الدار الاستشارية أن يجعل من تلك المروج الخضراء نسخة من سوق الخراف في طرف حي العمدة في أمدرمان. مصيبتنا أن مثل هذا التفكير الساذج كان يتحكم حقبتئذً في مصير تراث العاصمة يزيل بعضه و يتلاعب و يشوه بعضه الأخر.
موضوعنا الرئيس في هذه المقالة أتوقع أن يكون موضع خلاف بيني و بين عدد مقدر منكم. إذا نظرنا فقط إلى مالاته بدون تمعن في الظروف التي قادت إليها. إنني متأكد انه سيكون بيننا توافق في الآراء إذ تعرفنا على خلفيات هذا العمل المعماري الكبير بالغ الأهمية. هو القصر الجمهوري الجديد الذي شيد في الجزء الشرقي من موقع مجمع القصر. عدد من القرارات الخاصة بالمشروع تستحق التوقف عندها وقفة تأمل فاحصة. لأن الأمر من أوله إلى أخره اكتنفه كثير من الغموض. في حالة شبيه بالعديد بمن المشاريع تولت أمرها الدار الاستشارية التي يهيمن عليها شخص واحد يعمل بشكل منفرد. أني لأعجب و الله أن يتولى أمر هذا المشروع القومي الكبير شخص واحد منتقص الكفاءة يقوم بهذا العمل في حالة شبيه بالصولو. هي كلمة باللغة الإنجليزية تشير لمقاطع في العمل الموسيقي أو الغنائي ينفرد بأدائها عازف واحد من جوقة الفرقة الموسيقية. أركز على هذه الحالة التي تكررت عدة مرات في مسيرة مدير تلك الدار لحاجة في نفس يعقوب و اللبيب بالإشارة يفهم. المشروعات القومية مثل حالة القصر الجديد يجب أن يكلف بها فريق من الخبراء. يضاف للمعماريين فيه اختصاصين من مجالات أخري مثل الخبراء في تخصص الأثار و التاريخ ليعملوا معاً كفريق متكامل متجانس. غيابهم في هذه الحالة و انفراد ذلك العبقري وحده بالساحة كانت نتيجته متوقعة. مبني كان يمكن أن بكون في أي مكان في العالم إلا هذا الموقع بالغ التميز. الذي تحرسه ترفرف على أرجائه عمارة كلاسيكية كولونيالية السمت.
تتبعت أمر مشروع القصر الجديد منذ بداياته الأولي عندما أن كان في رحم الغيب. ذات مرة قبل بداية العمل فيه تم الترويج له في تعميم صحفي تصدر الصفحة الأولي في عدد من الصحف. وردت فيه معلومة مهمة تفيد بأن الصين التي تكفلت بتمويله ستتولى أيضاً أمر تصميمه على الطراز الإسلامي. لقد أفهمونا من قبل نحن صغار بأهمية العلم. أوصونا أيضاً بالحرص على تحقيق هذا الهدف السامي حتى لو اقتضي الأمر السفر إلى الصين. يبدو أن إدارة الدار الاستشارية عملت بهذه النصيحة بل أنها تجاوزت حدودها. إذ اكتشفت أن كنوز العلم في الصين تتوفر أيضاً على مخزون استراتيجي من نفائس العمارة الإسلامية. تشكل أساساَ متيناً لتصميم القصر الجديد في أبهي حلة على نسقها. يبدو أن بركاتهم قد حلت هناك فجعلت من الصين الشعبية أهم أركان المعسكر الشيوعي بإذن الله هي أيضاً مستودع تراث العمارة الإسلامية. أتتنا الدار الاستشارية من هناك بصيد ثمين عمارة إسلامية وارد الصين الشيوعية. عمل فاقدة الهوية يمد لسانه باستفزاز لما يحيط به من عمارة كلاسيكية كولونيالية السمت كاملة الدسم. على رأسها مبنى القصر القديم الذي يبدو كأنه يرنو لها في أسي بالغ. مترحماً على أرواح كتشنر و معاونيه الذين شيدوه كصرح منيف. أيضاً للقادة و الرؤساء الوطنيين الأفذاذ من أمثال الأزهري و عبود و عموم البواسل من السياسيين الأماجد الذين حملوه في حدقات العيون. ينظر بأسي بالغ يرمق ذلك الجسم الغريب الذي زرع في خاصرته.
أفضل أن أمهد بخلفية مهمة قبل أن أستعرض تصميم مبني القصر الجديد. الذي حسب علمي لم تشارك فيه أطراف أخري خارج إطار تلك الدار الاستشارية. في نهاية القرن الماضي أتيحت لي فرصة للتعرف عن قرب على العمليات التمهيدية التي سبقت تشييد ما عرف بمشروع واحة الخرطوم. الذي شيد في قلب مركزها التجاري في طرف ميدان الأمم المتحدة في مكان سوق اللحوم و الخضر الذي تمت إزالته. صار بعد ذلك بمثابة حصان طروادة الشهير الذي تسلل من خلاله مدير الدار الاستشارية بنعومة إلي أعلي المستويات في هذا المجال. كان قد قدم فكرة المشروع لرموز النظام في شكل لوحات تخيلية أظهرته في شكل جذاب نال إعجابهم. تجاوبوا مع عمله فسلموه الجمل بعد ذلك بما حمل و البلد بكاملها بداءً بالعاصمة ليفعل بها ما يشاء. اكتشفت بعد ذلك بناءً على قرائن مؤكدة أن ذلك المعماري الذي صار بعد ذلك على راس الدار الاستشارية قد أسقط في يده. إذ لم يتجاوز محتوي تلك اللوحات التخيلية شكل المشروع الخارجي البراق. الذي صار محتاراً عندما أصبح مطالباً بالمضي قدماً في الخطوات التالية لتنفيذ المشروع. عرفته عن قرب خلال تلك المرحلة فاكتشفت محدودية مقدراته. تيقنت أن مساهمته في هذا المشروع لاحقاً لم تتعدي أجر المناولة من الجهة الخارجية التي أكملت العمل في تصميمه. يبدو أن تلك التجربة التي أجتازها بفضل الأخريين فتحت شهيته فمنحنه الثقة لتكرارها بعد أكثر من عقدين من الزمان. للأسف هذه المرة في مشروع هو محط أنظار الأمة و كل زائر للبلاد لأنه هو القصر الجمهوري.
نختتم استعراضنا لتجربة مشروع القصر الجديد بالنظر يعمق لمحصلته النهائية، تحديداً طرازه المعماري و شكله العام و كافة تفاصيله. هو بلا شك مبني مبهر لافت للنظر ذو حضور طاغي. لكن هل تكفي مثل هذه السمات وحدها لمبني يضم أعلي مؤسسة في البلد. حيرني طرازه العام الذي لم أجد فيه أي أثر إسلامي أو إشارة من طرف خفي لتراثه البازخ كما وعدنا ذلك التعميم الذي أشرت إليه من قبل. ازدادت حيرني بحق، فطفقت أبحث في أرجاءه عن أي أثر أو إيماءة لتراث الصينين الذين كان لهم نصيب الأسد في قيام المشروع. بالرغم من أن العمارة كلاسيكية الهوى لم أجد أثراً لتراث حقبتهم الإمبراطورية التي تميزت بثراء بازخ عصف به المد الشيوعي. بحثت و نقبت كثيراً في كافة أنحاء التراث المعماري الإنساني في العالم عبر الحقب التاريخية فلم أجد فيه ما يمت لعمارة المشروع بصلة. أتسأل ببراءة، إذا كان المصممون في الدار الاستشارية مفتنون بالنهج الكلاسيكي لماذا لم يلجوا لتراث أجدادهم. الذين أسسوا لأقدم الحضارات في العالم، سلسلة ممالك حضارة كوش الثلاثة. التي تبعد أثارها العظيمة عن حصنه الأمن في الخرطوم ببضع ساعات بالسيارة. حيث تقدم لهم هناك أثارها الشامخة نفسها بسخاء طائعة مختارة. تحتاج فقط للعين الفاحصة و الذهن الوقاد ليستثمر فيها. هذا هو للأسف الشديد ما يفتقده قادة العمل في الدار الاستشارية.
الاستثمار هنا هو بيت القصيد. خير مثال لذلك متنزه دا إيتاليا في مدينة نيوأورليانز الأمريكية. الذي أستثمر فيه المعماري العبقري شارلز مور في تراث عصر النهضة الإيطالية الكلاسيكي بشكل جاء قمة في الإبداع. افتتاني الفائق بهذا العمل دفعني لتناول تجربته في مقالة غزلية أعيد نشرها هنا. هناك مثال معبر أخر جادت به عبقرية المعماري أي. إم. الذي أعاد تدوير فكرة الهرم فاستنسخ منه عمارة زجاجية نَصَبها في الباحة الأمامية لمجمع متحف اللوفر في باريس. أقول قولي هذا و أنا أنظر بحسرة لمبني القصر الجديد على خلفية نراث مملكة مروي. الناهض هناك في شموخ في نواحي مدن البجراوية والمصورات الصفراء و النقعة. كان بإمكانه المصمم المفتتن بفكرة البوابات المشرئبة من المبني الرئيس. أن يجعل مصدر إلهامه المعبد الجنائزي ذو الحضور المؤثر الذي يتصدر أهرامات تلك الحضارة. كان بإمكانهم لو توفر لهم العلم الراسخ المقترن بالخيال الجامح إن يستدعوا نفس تلك الأهرامات. لينصِبوها في إهاب زجاجي كعرش لبهو وسطي يجمع أشتات مكونات القصر الجديد. لكنهم للأسف الشديد أقدموا على هذا المشروع بالغ الأهمية المحفوف بالتحديات بدون مسوغات مقنعة فاختاروا الخيار الأسهل. استعانوا بجهة خارجية قدمت لهم حلول جاهزة على طبق من فضة ليست لها علاقة بخلفيات هذه الحالة. فأضاعوا علينا تجربة معمارية فريدة لم يتعاملوا معها بالطريقة المثلي. بفريق عمل متكامل عالي الكفاءات يضم خبراء من عدة تخصصات كما أشرت لذلك من قبل.
في نهاية المطاف نعود مرة لنلقي نظرة فاحصة على مبني القصر الجديد نتأمل كافة ملامحه و تفاصيله المعمارية. يبدو من أول وهلة جميل جداً مشرف لا يشبه أي مبنى أخر في البلد. نضع أكثر من خط تحت الجزء الأخير من هذه الجملة. مقطع أنه لا يشبه أي مبنى في البلد، هل هي ميزة نتباهى بها أم منقصة تقلل من قيمة هذا العمل؟ أتسأل، إذا كان فعلا لا يشبه أي مبني في البلد هل هو في هذه الحالة يعبر عنها بأي شكل من الأشكال. هل هذا الأمر مقبول نحن في حضرة مبني مخصص لأهم شخصية في البلد يدير منها شئونه. أذهب بكم بعيداً لأمر مشابه معني بشأن أخر له علاقة بالأزياء. فهل مثلا نقبل أن يطل علينا رئيس البلد هناك هو يرتدي زي مهراجا من الهند أو ملتحف بثوب أصله من مجاهل أفريقيا. هل سنسعد إذا ظهرت زوجته السيدة الأولي هناك بجانبه تجاريه قوامها ملفوف بالساري زي نساء الهند. أو زي أفريقي يكشف عن كتفها و جزء مقدر من جسدها. عمارة القصر هنا إلى حد كبير تشبه هذه الحالة. يجب أن ننظر إليها باعتبارها تجسد واقع بلادنا بشكل ما. لا بل أن العمارة هنا أمرها أكبر و أهم و أخطر. يجب أن ننظر إليه فنجد فيها شيء منا من خلال عمارتها بالتحديد التراثية منها. فهي مطالبة بكل الطرق بإبراز هويتنا. إجابتي المفصلة تجدونها في ثنايا هذه المقالة فأرجوا أن تعيدوا قرأتها.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- فبراير 2021