أما أن لنا أن نحرر عمارة بيوتنا من إسارها
موضوع المقالة هذه المرة يقع في إطار تخصصي الذي اخترته لأسباب موضوعية كمدخل لعملي في دراسة الدكتوراه. أردت من خلاله من منطلق فلسفي بحت أن أتعمق في فهم العمارة. اتعرف رف علي سر علاقتها الأساسية العضوية بوجود الإنسان. قادتني بداية عملي كمدخل لهذا الموضوع الشائك إلى فضاءات عمارة السكن والمسكن. درب طويل فلسفي الأفق محفوف بالتحديات أخذ من عمري سنوات عديدة هي الأخصب في مسيرتي الطويلة. ذهب بي بعيداً إلى بلاد تموت الحيتان من بردها القارص. بالرغم من بعد بلادهم هناك من موطني كان دائماً في حدقات عيوني. إذ كانت عمارة أهلنا الفلاحين والرعاة البسطاء أساس بحوثي. التي منحت رسالة الدكتوراه تميز لافت على مستوي الدوائر البحثية في عالمهم الغربي. عمل موفق كنت واهماً أحسب أنها سيكون نهاية المطاف. بعد حصولي على تلك الدرجة العلمية الرفيعة من أميز الجامعات البريطانية في نهاية الثمانينات. لكن لا أدري لحسن أو سوء حظي اكتشفت أنها كانت بداية لدرب طويل من البحث والتأمل والكتابة. التي ظللت أمارسها يومياً كأنني طالب جامعي مبتدئي (برلوم) يشق طريقه في بداية رحلته الجامعية. درب لا زلت أتنكبه كل يوم بجد اجتهاد لأكتشف عوالم جديدة أو مناطق مظلمة تحتاج لإضاءات مهمة. دأب مستمر كان هاجسي الأساسي فيه دائماً مجال السكن وعمارة المسكن. موضوع هذه المقالة الذي ساقني إليه حالنا كما هو واضح من عنوانه.
بدأت عملي في الثمانينات في التحضير لرسالة الدكتوراه في كلية الدراسات المجتمعية بجامعة ادنبرا. خلال حقبة كانت العمارة هناك في الغرب تعيش أخر مراحل مخاض خرج منها نهج الحداثة هو يترنح. أكرمني الله بأن كنت جزءً من هذه المعركة المحتدمة التي كانت ساحاتها الفلسفية الطابع مفعمة بالدفق الإنساني. بالرغم من منبت ذلك النهج الغربي، إلا أنهم يا لعظمتهم لم يترددوا في هدم معبده الذي شيدوه. ليتبعوا خياراً أخر مفعم بالإنسانية يستمد يستنبط مفاهيمه من لدن حضارات وثقافات في أصقاع نائية بعيدة عن عالمهم. بعيداً تماماً زمانياً ومكانياً من عالمهم الغربي. أجواء وخلفية جاءت في صالحي وأنا اجهز نفسي لبداية عملي في رسالة الدكتوراه. التي جئت إليها في جعبتي ذخيرة حية من أعظم نماذج من بلادي وأهلي. بدأتها بتراث وإرث أهلنا النوبيين في أقصي شمال بلادنا النيلي. الذي ذوب طموح أهل مصر عمارة قراهم الطينية بازخة الجمال في بحيرة بذلوها في نهج أناني لصالح بلادهم. تجربة أليمة مأساوية انطلقت بعدها مبحراً في فضاءلت ثقافات قبائل بلادي من الرعاة الرحل الأماجد. في تطواف عبر ثقافاتها الأصيلة نبيلة الأهداف كانت العمارة فيها في قلب الحدث. متبحراً متأملاً في كل تلك التجارب المدهشة التي أعطتنني دروساً بالغة القيمة. تمد لسانها في سخرية لكل ما خطه بنان المؤرخين والنقاد في مدح عمارة الحداثة غربية المنشأ. ترسل عبر عمارة متواضعة المواد رسائل نبيلة المفاصد عميقة المعاني. تشيئ ملامحها وتفاصيلها وخلجاتها بدفق رمزي يجسد معني وجود كل واحدة منها.
ذخيرتي التي جلبتها معي من بلادي من تراثها وإرثها زادتها معطيات ثمانيات القرن هناك وقوداً واشتعالا. صارت حية بمعني الكلمة تدفق خيرها عميماً على كافة ضروب الإبداع على رأسها العمارة. نشأت من توجهات فلسفية أفرزها واقع الاحتقان والتردي والانتكاسة الفكرية هناك. التي انتاشت العديد من المجالات الإبداعية كانت العمارة واحدة من ضحاياها. وجدت نفسي أنا في بداية عملي في رسالة الدكتوراه في قلب هذه المعارك الفكرية متأججة الأوار. وجدت ضالتي في نهج فلسفي كان له رواج كبير بين جل المعنيين بهذه المجالات الإبداعية. راوا فيه طريق الخلاص من مازق الحداثة الذي أثبتت الأيام والتجارب عقم توجهها. من المحير أن الهجوم عليها مراجعة طرحها بداء في نفس ذلك العالم الغربي. الذي وضع أساسها في النصف الأول من القرن العشرين لينشر أفكارها ومفاهيمها في كافة أرجاء العالم. حتى وصلت إلينا فرضت سيطرتها الكاملة على كافة جوانب حياتنا على راسها العمارة. واقع أفرز لاحقاً هناك عندهم حراكاً فكرياً فلسفياً عميقاً متعدد الجوانب كانت العمارة في قلب الحدث. كان من مخرجاته زخم بحثي متأجج ترددت أصدائه في قسم العمارة في الكلية الذي صرت واحد من كتيبتها في الثمانينات. شكل لنا أرضية مثالية ممتازة للانطلاق في عملية تحرير كاملة من إرث فكر الحداثة. اخترت أنا من ضمن فضاءاتها الفكرية الرحبة نهج فلسفي مكتمل الأركان. مشبع بالدفق الإنساني يضع أهل بلادي البسطاء في أعلي قيمة. يجعل منهم من تراثهم وإرثهم المرجعية الأساسية لأي عمل إبداعي يخصهم وعلى رأسه العمارة مجال تخصصي.
هناك ثلاث شخصيات كان لها تأثير مباشر كبير على عندما حللت بكلية الدراسات المجتمعية بجامعة ادنبرا في بداية الثمانيات. تعاظم لاحقاً بشكل تتابعي تصاعدي. سيطر تماماً على طريقة تفكيري ونهجي في الحياة ومسيرتي الفكرية العلمية والمعمارية. أولهم مشرفي البروفيسور باري ويلسون الذي كان من المفكرين المؤثرين على مستوي أجزاء من العالم الغربي. ثم عالم ألماني مرموق هو مارتن هايدغر أسس لتوجهات فلسفية شكلت اختراقات متميزة شغلت الدنيا حقبتئذٍ لا زالت. ثالثهم معماري فيلسوف ألمعي هو كرستيان نوربيرج-شولز. الذي اهتدي بأفكار هايدغر سار على خطاها وروج لها. كان له دور فعال في تجسيرها توصيل مفاهيمها الفلسفية لمجالات إبداعية على راسها التخطيط العمراني والعمارة. لعب ثلاثتهم دوراً أساسياً بالنسبة لي خلال تلك الحقبة. مهد كل واحد منهم لي الطريق بالتتابع في تطوير أفكاري وعملي البحثي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من قناعات راسخة. مكنوني من خلال تلك العملية في الاستثمار في مخزوني الذي إذخرته من تراث وإرث بلادي. الذي اكتشفت قيمته العالية المضافة فأصبح بحق ذخيرة حية فعالة قوية الأثر. كانت لا زالت هي سندي الأساسي الذي ينير لي الطريق حتى الآن. في معركة ملحمية متصلة كانت عمارة السكن والمسكن من أهم ساحاتها. اختيار لم يأت بالصدفة لكنه نابع من روح واحد من أهم مرتكزات فلسفة مارتن هايدغر. المعنية بشكل مركزي أساسي بموضوع الوجود باعتباره الظاهرة الأساسية التي تبرز قيمة الإنسان. الذي جعل عمارة المسكن هي المدخل الأساسي لفهمه التي أوحت إلى بموضوع هذه المقالة.
عندما حزمت أمتعتي متأهباً للذهاب لأدنبرا كانت من أهم المستلزمات فيها الوثائق الخاصة بالحالة الدراسية التي سأركز عليها. حالة عمارة قري النوبيين الشماليين التي كانت تصطف على شواطئ النهر قبل أن تذوبها مياه بحيرة ناصر. افتتنت بها من خلال أعمال المعماري المصري الرسالي المرحوم حسن فتحي الذي أستلهمها في بعض أعماله الخالدات. غرقت هناك أنا أيضاً في أجواء تلك العمارة التقليدية التي صادفت هوي في نفس مشرفي لأنها جاءت في صميم اهتماماته. المرتبطة ببحوث ممن حوله من (حيرانه) طلاب الدراسات العليا الذين يشرف عليهم. إذ كان قسم العمارة بأكمله مكرس لقضايا فلسفية الطابع معنية بتحولات فكرية كانت تشغل الساحة المعمارية في العالم الغربي. نتجت عن مظاهر الإعراض الرفض لنهج الحداثة الذي أنتجه ذلك العالم في الثلث الأول من نفس ذلك القرن. أدت َلحركة نشطة صارت تبحث بهمة عالية عن توجه فلسفي أكثر إنسانية كبديل يتجاوز قصور ذلك النهج. يستنبط خيارات تخاطب من هم من خارج ذلك الإطار الغربي. ليتقدم خطوة أهم بأن يجعل من ثقافاتهم واحدة من مرجعياته الأساسية لصياغة عمارتهم على كافة مستوياتها. أهداف نبيلة صارت مقصد قسم العمارة الأساسي بكليتناٍ. هو يسعي بهمة عالية عبر بحوث (حيران) مريدي الشيخ ويلسون طلاب الدراسات العليا من حوله. الذين انضممت لركبهم متسلحاً بحالات بعضا من ثقافات وعمارة مجموعات بلادي التقليدية. لأبداء ملحمة طال أمدها لكنها أتت بثمار طيبة لا زلت أعتد بها. كان محور اهتمامها الأساسي عمارة المسكن والسكن لأسباب موضوعية مقنعة.
عززت بداية مسيرتي مع مشرفي بروفيسور ويلسون باطلاعه على جوانب من تراث وإرث قبائلنا السودانية. كحالات لها علاقة بموضوع بحثي ركزت فيها على مستوطناتهم المتنقلة وعمارة مساكنهم أو خيامهم. من خلال رؤيتي لها في إطار مفاهيم بلورتها بشكل مبدئي. استهوته تلك البدايات الواعدة فاستدرجني لفضاءات فلسفة مارتن هايدغر المرفرفة بأجنحة الدفق الإنساني. لاصطدم في البدء بجدار سميك عالي لأنها كانت أول تجربة لي في رحاب ذلك المجال من العلوم الإنسانية. عانيت الكثير في البداية عقبة كؤود ذللها لي هايدغر نفسه لاحقاً في بعض مؤلفاته الأخيرة. تحديداً سفره النفيس الأشهر الذي وجد قبولاً عالياً عند أمثالي من المعمارين والمختصين في مجالات مجاورة. الموسوم في نسخته الإنجليزية Poetry Language Thought ترجمتها بالعربي– الشعر، اللغة والفكر. سفر عالي القيمة تعامل فيه مع العمارة في فصلين منه بشكل غير مباشر. مرة باعتبارها مجرد شئي من الأشياء من حولنا. مرة أخري بشكل أكثر عمقاً كعمل فني يصطف في هذا الإطار مع غيره من ضروب الفنون. طرحه في كلا الحالتين بالنسبة للمتعمق في معانيه فأوفي العمارة حقها. الذي أسترده لها من خلال رؤية مفعمة بالأحاسيس الإنسانية. وضح فيها بشكل عميق رؤيته لوجود الإنسان على الأرض كحق أصيل بدون حذلقة أو تنظير زائف. هذا هو جوهر فكره الذي يصنف كفلسفة وجودية إيمانية الطابع. مفاهيم معمقة ثاقبة لكنها بالغة التعقيد. تحتاج لمزيد من الشروحات تجسرها توصلها بوضوح أكثر بأمان لشواطئي عوالم العمارة. هذا هو عين ما فعله ببراعة المعماري العبقري الفيلسوف كرستيان نوربيرغ- شولز.
استلم نوربيرغ- شولز المشعل من ملهمه مارتن هايدغر هو مشبع بفكره وجودي التوجه إنساني السمات و الجذور. سار على خطاه لينطلق لأفاق أرحب أبحر فيها في ضفاف العمارة مترامية الأطراف عبر الدهور. ليقدم من خلالها شروحات وافية مستفيضة أجلت الكثير من غموض بعض جوانب فلسفته. طوف فيها في رحاب العمارة الكلاسيكية في كافة أركان الأرض. ليعيد اكتشافها مميط اللثام عن العديد من جوانبها المخبأة. منطلقاً منها في قفزة عبر ألاف السنين ليحط رحله في أرجاء عصر الحداثة. مستكشفاً العديد من جوانبها على هدي مفاهيم هايدغر عميقة المعاني فجعلها تتألق تبرق من جديد متوهجة. توقفه عند العمارة حضارية حضرية السمات لم يصرفه عن مكون مختلف عنها لا يقل روعة وألقاً. هو العمارة المحلية إبداع مجموعات أثنية وقبلية خارج ذلك الإطار الحضري. فتوقف عند نماذج عينات منها زاخرة بالمعاني والقيم النبيلة. وقفة هيجت أشجاني لمست أوتاراً حساسة كامنة في جوانحي. تزخر بها نماذج من عمارة أهل بلادي المنتشرين في بواديها ووديانها وسهولها. حَولت ما جلبته معي منها إلى ذخيرة حية تشع باسمي المعاني. أوقد أوارها نوربيرغ- شولز فتح أبوابها مشرعة على مصراعيها. فولجت منها لعمارة بعض مجموعاتنا المتنقلة. خيام متعددة الأنواع زاخرة بالمعاني النبيلة والقيم السامية. تعاملت معها أمطت اللثام عن خباياها في تطواف في عوالمها الساحرة ليصبح مردودها البازخ من أهم أركان رسالة الدكتوراه. ملحمة بحثية طويلة كان المسكن وعمارة السكن سيد الموقف فيها. لأنها كانت خير معبر عن توجهي الفلسفي وجودي النزعة إنساني المرتكز.
قدم نوريرغ- شولز عدد من الكتب في هذا السياق مضت في وتيرة تصاعدية لتحقيق بعض أهدافها. كان من أهمها الترويج تقديم شروحات مفيدة لأفكار شيخه هايدغر الفلسفية. من أهمها سفره الموسوم Existence, Space and Architecture عنوانه باللغة العربية- الوجود الفضاء والعمارة. تكمن قيمته العالية في أنه أنزل فلسفته عصية المفاهيم بسلام إلي رحاب العمارة بشكل سلس مبسط مقنع. من أقيم إنجازات نوربيرغ- شولز في هذا السياق بلورته لمفهوم فضاء الوجود ترجمة لمسماه باللغة الإنجليزية بألExistential Space . الذي بذل فيه جهداً مقدراً في شرح كافة مكوناته وأجزاءه وتفاصيله. بشكل عَبَر فيه بمفاهيم هايدغر الفلسفية الموغلة في الغموض انزلها لأرض الواقع المعماري بسلام. لهذا السبب أرشحه بقوة لكافة المعماريين المهتمين بمثل هذه الأبعاد الفلسفية للعمارة. من أعظم أعماله اللاحقة الذي أعتبره بحق مسك الختام سفر بالغ القيمة صدر في نهاية السبعينات. لخص فيه مجمل أفكار هايدغر بطريقة أعتقد أنه نجح كثيراً في تحقيق أهدافه النبيلة في تبسيطها بقدر الإمكان. قدمه في سفره بالغ الأهمية الموسوم Genius Loci: Towards Phenomenology of Architecture. بذلت جهداً كبيراً في فهم معني عنوانه تحديداً الجزء الأول منه باللغة اللاتينية. كان ذلك في حد ذاته تمريناً صعباً تحدي كبير في اتساق مع طبيعة فلسفة هايدغر نفسها. معضلة بذلت جهداً مقدراً في فك شفرة طلاسمها وجدت متعة بالغة عندما وصلت فيها لنتائج مرضية. الإشارة هنا بالتحديد لكلمة السر Genius Loci التي تحتاج لشروحات مستوفية.
فهم استيعاب الجزء الثاني من عنوان ذلك السفر كان بالنسبة لي سهل للغاية تحديدا كلمته المفتاحية phenomenology. التي صارت مصطلحاً متداولا ارتبط بتوجه فلسفي وجد قبولاً وشعبية في أوساط المعماريين في العالم الغربي. تحديداً المهتمين بأخر التطورات أهم المستجدات في مجالها. إذ كان لهذا النهج الفلسفي الذي بلوره هايدغر دوراً مؤثراً على الساحة المعمارية. من أهم إسقاطاته مساهمته في تحرير العمارة من نفق الحداثة محدود الأفق الذي عانت منه في منتصف القرن الماضي. هذا التوجه الذي يشار إليه باللغة العربية بالظاهرية وجد تجاوباً إقبال مقدر متصاعد في الثلث الأخير من القرن الماضي. واحدة من مؤشراته اهتمام نوربيرغ- شولز به الذي قدمه روج له في عدد من كتبه أشرنا لبعضها هنا. إعجابي الفائق بأشهرها الذي أشرت إليه من قبل لم يمكنني من استيعاب معني ذلك الجزء من عنوانه مكتوب باللغة اللاتينية. مصطلح Genius Loci الذي اجتهدت كثيراً في الوصول لمغزاه. مستعيناً بإضاءات قيمة للغاية وردت في كتابات نوربيرغ- شولز. سطعت سلطت الأضواء على جوانب مهمة من فلسفة هايدغر لها إسقاطات مؤثرة غلي عالمنا المعماري. إعجابي المفرط بها دعاني للترويج لها في عدد من مقالاتي في مدونتي في الفيس بوك ومنصة أل LinkedIn. كان عنوان أخر واحدة منها: تطواف في رحاب عمارتنا بأجنحة رؤي هايدغر و نوربيرغ- شولز الفلسفية. لن أشير لها بالتفصيل إذ يمكن الرجوع إليها ولباقي المقالات في موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط drhashimk.com.
تجمعت لدي حصيلة من مفاهيم هايدغر وتفاسير نوربيرغ- شولز شكلت ذخيرة مقدرة من الرؤي الفلسفية. ذات صلة قوية بالشأن المعماري أعانتني كثيراً علي فهم مصطلح Genius Loci بشكل مرن. من خلال مفاهيمهما تمكنت من تطوير توجه مبدئي أساسي وظفته استثمرته في رؤية جديدة للعمارة. تتعامل معها مرة باعتبارها شئي من الأشياء من حولنا مرة أخري كعمل فني صرف. استلفت جوهر تلك المفاهيم فبلورتها بشكل محدد وظفتها لخدمة أغراضي. تعاملت مع هذا المصطلح باعتباره حزمة مؤثرات توافق عليها مجموعة من الناس صارت تنظم تدير كافة شئون حياتهم. التي شبهها نوربيرغ- شولز مهتدياً بأفكار هايدقر بألهة بعض الحضارات الغربية الضاربة في القدم. بناء على تلك الرؤي الفلسفية تصبح ماهية أشياء تلك المجموعة وقيمتها الفنية مرتهنة برضاء منظومة ألهتهم. الذي تجعلها تبرق تسطع تتجلي في كامل معانيها وقيمتها. لحظات توثق لها حينئذٍ حسب مفهومهم رقصة الأربعة. أفراد تلك المجوعة ومنظومة ألهتهم والأرض من تحتهم تجللها السماء من فوقهم. عندما تكتمل رقصة الأربعة بنجاح تبرق أشيائهم تظهر في كامل بهائمها وقيمتها الفنية العالية. قدم نوربيرغ-شولز كما أشرت من قبل خدمة لا تقدر بثمن بنشره لتلك الرؤي والأفكار الفلسفية من خلال العديد من كتبه عالية القيمة. أنا من جانبي قدمت إسهاماتي من خلال رسالة الدكتوراه التي سارت على نفس ذلك الدرب. التي أحاول جاهداً نشر مضامينها ومفاهيمها على أوسع نطاق. لا زلت أواصل جهدي لنشر تلك الأفكار الوضيئة المحتشدة بالزخم الإنساني عبر كل المنصات والمنابر المتاحة.
استجمعت ما غنمته من فلسفات هايدغر ونوربيرغ- شولز توجهت به سخرته لصالح عملي في رسالة الدكتوراه. مستهدىً بفكر الأول الثاقب متبعاً نهج الثاني. حيث وجدت المجال خصباً في رحاب بلادي وأهلها. ابتدرت عملي باستعراض حالهم متأملاً في تنوعهم الاثني المذهل مستصحباً معه التباين الثقافو- مجتمعي. الذي أفادني بتقديم شروحات مثمرة سلطت الضوء على مفهوم المؤثرات التي أشرت إليه من قبل. استعراض كشف لي النقاب عن فسيفساء مذهلة التنوع رسمت تفاصيلها المدهشة أنماط عمارة قبائلنا التقليدية. تجلت متناقضة تماماً مع السياسات الرسمية المعنية بالتخطيط والشأن المعماري التي تتسم بالجمود على كافة مستوياتها. ظاهرة عبر عنها عنوان رسالة الدكتوراه وهو Dwelling Space in the Sudan: Official Policies and Traditional Norms. ترجمته باللغة العربية- فضاء السكن في السودان: السياسات الرسمية والأعراف التقليدية. اهتمامي الفائق بهذه الظاهرة قادني في إطار رسالة الدكتوراه للتركيز على حالات محددة من واقع بلادي. ثلاثة قبائل واحدة منهم من النوبيين الشماليين النيلين. بالإضافة لمجموعتين من الرحل من شرق السودان واحدة من قبائل البجا والثانية هي قبيلة الرشايدة. اخترتهم لأنهم يمثلون مجموعات تقليدية تمكنني من اختبار جدوى مفاهيم هايدغر ونوربيرغ-شولز. نفس المبررات جعلتني أركز على عمارتهم السكنية بكل مستوياتها باعتبارها الأكثر تعبيراً عن تلك المعاني الفلسفية. تعاملي مع الحالتين الأخيرتين كان له مردود مهم للغاية. إذ دعمت دراستي لحياتهم التقليدية في حياة الارتحال بالاضطلاع على جوانب من حالتهم الحضرية في أحياء سكنية خططت لهم في المدينة. إضافة هاتين الحالتين لم ينتقص كثيراً من الحالة النوبية. التي تمدد اهتمامي بها بتسليط الضوء على تجربة تهجيرهم القاسية بكل المعايير.
بدأت دراساتي الميدانية في رسالة الدكتوراه بحالة النوبيين الشماليين التي كنت قد قتلتها بحثاً في إدنبرا قبل أن أعود لأرض بلادي وموطنهم. مسترجعاً سيرة عمارة قراهم مترعة النبل التي أذابتها مياه السد العالي. اختفت معها حالة كأنها صيغت لتجسد أفكار هايدغر ومفاهيم نوربيرغ-شولز تحديداً مصطلح أل Genius Loci. رأيت من خلالها مفهوم فضاء الوجود بكل مكوناته وتفاصيله من المستوي الجغرافي الكبير إلي أصغر تفاصيل العمارة. حالة كان يتداعى فيها إطار طبيعي بالغ الثراء مهيمن على تخطيط قراهم العام ليتنزل على تخطيط كل واحدة منها. مروراً بعمارة بيوتهم الخارجية والداخلية المحتشدة نابضة بالكتابات والزخارف مترفة المعاني. منظومة كانت تنسج خيوطها بعناية فائقة مؤثرات بالغة التعقيد. قيم راسخة وتقاليد عريقة جزورها ضاربة في عمق تاريخ مرصع بأعظم الإنجازات سطعت فيها العمارة في خيلاء. مؤثرات تركت بصمتها العميقة في جينات تداعت لتصنع كافة ملامح تلك العمارة. منها ما هو نفساني الطابع هيمنت عليه الأرواح بكافة أنواعها التي سيطرت على وجدانهم. فأفسحوا لها مجالاً رحباً استوعبته قراهم على كافة مستوياتها وأدق تفاصيلها. مستعينين بإحساس فني عالي شفيف متجذر في جيناتهم التي ارتوت من عبق إرثهم الفني البازخ. مضيفة لعدة مؤثرات أخري شكلت في مجملها معني مصطلح Genius Loci الذي بلورته مفاهيم هايدغر ونوربيرغ-شولز. لتجسده حالة عمرانية معمارية بالغة التفرد إذابتها مياه السد العالي فأصبحت أثراً بعد عين.
اللوحة المعمارية الزاهية في عمارة بيوتهم على ضفاف النهر حلت محلها في موقع أخر أخري كئيبة الملامح باهتة التفاصيل. في منطقة تهجيرهم بعيدة جداً جغرافياً عن موطنهم التاريخي المحتشد بالذكريات والأخيلة. الأكثر بعداً أيضاً عن أحاسيسهم المرهفة المشبعة بالأشجان. ذهبت بهم بعيداً عن موطنهم فحرمت مجتمعاتهم التقليدية من أهم عناصر أمانها النفسي. ذلك النهر العظيم وأشجار النخيل الباسقات التي كانت تحفه. ذهبت بهم لواقع جديد مختلفاً تماماً أعدته لهم الجهات الرسمية. نفذت مشروع تهجيرهم من أعلي مستوياته إلي أدناها فتعاملت فيه معهم بنهج متعالٍ متعجرف. غير مبالٍ بإرث مجيد تليد من أنماط تخطيطهم المضمخ بأحاسيس متجذرة في عمق التاريخ. تعاملت معهم بغلظة معنوية في كل مستويات المشروع. بداءً باختيار موقعه بعيداً عن موطنهم التاريخي. مروراً ببعثرة قراهم متباعدة في أرجاء المشروع انتهاءً بتخطيط كل واحدة منها. خطوات متعالية لم تضع إي اعتبار لعلاقات إنسانية تاريخية ارتبطت بترتيبات فضائية كانت جزءً أصيلاَ من إرث تليد. مأساة زاد من وقعها المؤلم تصميم منازلهم الذي جاء على طرف نقيض من نمط بيوتهم التقليدية بصحنها الوسطي المشبع بالحميمية. اكتملت المأساة بالمكعبات الاسمنتية مادة البناء الرئيسة رمادية اللون رتيبة الأشكال باردة المحيا. استخدامها لمقاومتها لأمطار منطقة التهجير الكثيفة حرمهم من أهم ملامح بيوت موطنهم القديم الطينية. كتابات وزخارف رصعت حيطانها كانت تمنحهم الأمان النفسي وتشبع رغبات تضج بها ومورثاتهم أي جيناتهم.
جاءت قرارات الجهات الرسمية المعنية بتهجيرهم وفق رؤيتهم محدودة الأفق مادية الطابع نفعية بحته تركز على الاحتياجات البيولوجية. اختاروا على أساسها منطقة بعيدة عن موطنهم القديم متجاوزين خيارات مجاورة لهم بالقرب من أبناء عمومتهم. هجَروهم لمنطقة بعيدة تتمتع بأرض عالية الخصوبة. ليستثمرو في خبرتهم ومقدراتهم العالية في الزراعة بدون اعتبار لارتباطهم الوجداني بموطنهم التاريخي. نفس المعايير النفعية ضيقة الأفق جعلتهم يبعثروا قراهم في منطقة التهجير التي كانت من قبل مصطفة متجاورة على ضفاف النهر. باعدوا بينها لكي يفسحوا المجال لقنوات الري. نفس المعايير محدودة الأفق أتبعوها في تخطيط القري. متبعين نظاماً مقدساً طبقوه في كل أرجاء السودان بدون مراعاة لما كان عليه حالهم من قبل. تكرر تجاهلهم التام لمورثاتهم في تصميم منازلهم فهي على طرف نقيض من نظام الفناء الوسطي شبه المقدس في بيوتهم التقليدية. الضربة القاضية كانت في مادة بنائها الرئيسة المكعبات الإسمنتية التي فرضتها أمطار منطقة التهجير الغزيرة. خامة قوية صلبة حرمتهم من التعامل معها كما كانوا يفعلون من قبل مع حيطان بيوتهم الطينية. فافتقدت العمارة بالنسبة لهم الكثير مما كانت تفيض به عليهم وجدانياً كما أشرت لذلك من قبل. قرارات من تؤلوا أمرهم هنا على كل مستويات منطقة التهجير لم تأهبه لمثل هذه المعطيات ذات الأبعاد الإنسانية. أقبلوا على هذا العمل بدوافع علمانية صوبت كل اهتمامها على احتياجات مادية نفعية ضيقة الأفق. متجاهلين تفاصيل مضامين يزخر بها مصطلح أل Genius Loci الخاص بهم. لم يعبئوا بمثل هذه المعطيات تجاهلوها مستعصمين بمبادئي توجهاتهم علمانية الأساس غربية المنشأ.
دراساتي الميدانية في الحالة النوبية قادتني لحالات أخري استرعت انتباهي كنت من قبل على دراية معقولة بها. معنية هذه المرة بقبائل من شرق السودان ركزت فيها على مجموعات من الرحل. شعرت بأنها معبرة للغاية عن موضوع بحثي علي وجه الخصوص أفكار ومفاهيم هايدغر ونوربيرغ- شولز. إذ أن الرحل منهم يمارسون قدراً عالياً من الحرية في كل يلي عمارتهم السكنية المتنقلة على كافة مستوياتها وتفاصيلها. بشكل يمكن بالبحث التقصي المعمق أن نستشف منها الكثير من جوانب ما أشرنا إليه من قبل عن مصطلح أل Genius Loci. معطيات أوليه جعلتني بموافقة مباركة من مشرفي أن أبداء في عملية بحث مكثفة كان جزءً مقدراً منها ميداني. استهدف قبيلتين من ذلك الجزء من بلادنا هما مجموعتين من قبيلة البجا والرشايدة. المقارنة بينهما هم يعيشون جنبا لجنب لأكثر من قرن ونصف من الزمان يواجهون نفس الظروف كانت ذات جدوى فائقة للغاية. عزز من قيمتها التباين الكبير في خلفية كل واحد منهما. الذي انعكس علي جوانب مهمة من Genius Loci كل واحدة منهم كما سنوضح لاحقاً. تباين ظهر بشكل واضح علي المؤثرات التي ما أشرت إليه من قبل وهذا هو بيت القصيد. هذا هو ما أعنيه هنا بقيمة هذه المقارنة في تسليط الضوء علي أفكار ومفاهيم هايدغر ونوربيرغ- شولز. التي ستعيننا أيضاً في استيعاب مفهوم مصطلح Genius Loci. كما أنها ستوضح لنا بشكل جلي عملي نظرية فضاء الوجود التي وضع أساسها بلورها نوريرغ- شولز. أعتز في هذا الإطار إنني من خلال تلك الدراسة أضفت إليها أبعاداً بالغة الأهمية.
ظلت تلك المجموعتين تعيشان جنباً لجنب لمدة تجاوزت القرن من الزمان عندما أجريت عليها الدراسات الميدانية. درستهم عن قرب في موطنهم في شرق السودان حيث كانت تجمع بينهم عدة قواسم مشتركة منها الدين الإسلامي. يعيشون معاً في منطقة شبه صحراوية يواجهون فيها تحديات جسام من أصعبها صيف موسم جفاف متطاول. يجبرهم في موطنهم المقفر المجدب علي حياة الارتحال طلبا للماء والكلأ لماشيتهم. واقع تزيده صعوبة ظروف مناخية متقلبة ضاغطة. يواجهونها يتعاملون معها بعمارة متنقلة يصنعون مكوناتها مما يتوفر لهم من المواد الأولية الأساسية. سيقان و افرع أِشجار متناثرة هنا وهناك وما ينسجونه من وبر حيواناتهم. يقيمون بها عمارة عبقرية السمات يواجهون بها معاً تقلبات مناخهم وما يستهدفهم من أخطار ومهددات. مما يجعل المرء يعتقد أن حلولهم المعمارية ستكون متشابه. لنتفاجأ بتباين واضح في مستوطنات المتنقلة في كل مستوياها ومكوناتها. ابتدأ من اختيار مواقعها مروراً بتخطيطها العام ثم عمارة وحداتها أو خيامها انتهاءً بتصميم كل واحدة منها الداخلي. امر يدعونا للبحث بعمق في جوانب الاختلاف الأساسية بينهم لكي نتعرف على مبررات هذا التباين. بحث سيجعلنا بالضرورة هذه المرة نتعامل مع ظواهر محسوسة غير ملموسة مادية. كما كنا نفعل من قبل مع جوانب أخري من حالة هاتين المجوعتين القبليتين. نهج سيجعلنا نحلق هذه المرة في أفاق سامية مترعة بالقيم والمشاعر والأحاسيس النبيلة في رحاب مصطلح أل Genius Loci.
واحدة من أهم أوجه الاختلاف بين المجموعتين تكمن في تاريخهما وتباين إسقاطاته وتداعياته المؤثرة. على سبيل المثال تاريخياً تواجد مجموعة البجا في تلك المنطقة ضارب في القدم لدرجة أنهم يدعون أنهم خلقوا فيها. أما الرشايدة فهم على طرف نقيض منهم إذ أنهم أخر مجموعة قبلية هاجرت للسودان. الذي نزحوا أليه من شبه الجزيرة العربية في منتصف القرن التاسع عشر ليستقروا في موطنهم بشرق السودان مجاورين للبجا. المدهش أن كلا المجموعتين المعنيتين نجحت إلى حد بعيد في الحفاظ في العديد من أهم ملامح وسمات هويتهم. أقول قولي هذا بثقة بالغة مستنداً علي عمليات استقصائية مضنية مستفيضة تطاولت لعدة سنوات. طوفت فيها بين الكتب والبحوث وفضاءات الدراسات الميدانية في بوادي وأودية موطنهم في شرق السودان. كشفت لي الكثير المثير الخطر عنهما عن خبايا حياتهما كما يقول الراحل الكابلي في واحدة من أعذب أغنياته. ممتطً صهوة عمارتهم التقليدية المتنقلة. الزاخرة بزخم من المعاني السامية والقيم النبيلة بالرغم من محدودية مكوناتها وبساطة مظهرها. كانت دائماً بالنسبة لي أشبه بالمفاتيح التي فتحت أبواب عوالمهم السحرية. من المفارقات المهمة جداً أيضاً أنها أنارت لي الطريق قدمت لي إضاءات مذهلة عن جوانب خفية من مفاهيم مصطلح أل Genius Loci. التي لم أضن من جانبي بمخرجاتها على الأخرين. التي اجتهدت في نشرها علي الملأ عبر كل الوسائط المتاحة لي من أهمها مدونتي في الفيسبوك ومنصة أل LinkedIn. تجدونها أيضاً في عدة مقالات يشير عنوانها لاسم القبيلتين في موقعي الإلكتروني الوصول إليها عبر الرابط-drhashimk.com.
أعانتني نظرية فضاء الوجود التي أتي بها طورها نوربيرغ-شولز بشكل مؤثر في التعامل مع حالة المجموعتين القبليتين. ساعدتني كثيراً في تنظيم عملي أنا أتفحص عمارة كل واحد منهما المتنقلة بكل مستوياتها ومكوناتها. سهلت لي استيعاب معانيها مهتدىً بما اكتسبته من معلومات وفيرة ثرية المحتوي عن خلفية كل واحد منهم. مكنتني من التعمق في أبعاد عمارتهم والتعرف علي المؤثرات التي شكلت ملامحها. مما جعلني أقترب أكثر من فهم خبايا وابعاد مصطلح أل Genius Loci. من ثم التعرف على المؤثرات الأساسية التي تشكلها من أعلي مستوياتها في إطارها الجغرافي الكبير إلي أصغرها داخل الخيمة. مهتدياً في عملي بمكونات وتفاصيل نموذج فضاء وجود نوربيرغ- شولز. الذي أعتز بأنني قد أثريته بإضافة مستوي أصغر هو الزي. واقع الحال أن استيعابي تعاملي مع ذلك المصطلح من خلال بحثي كشف لي الكثير من جوانبه الخفية. أثبت لي أن أمره ليست بالبساطة التي قد تبدو من أول وهلة وانطباع. سينجلي بوضوح عندما نستعرض جوانب محددة في شكل مقارنة بين حالة المجموعتين. نركز فيها على مؤثرات تبدو في ظاهرها متشابه لنكتشف التباين الواضح بينها إذا تعمقنا فيها أكثر.
لا يمكن ذكر تلك المؤثرات بدون الإشارة لمسبباتها الرئيسة التي تُرد حسب ما هو متفق عليه الي الطبع أو التطبع. نبدأ هنا بعامل الطبع باعتباره هو الأساس الذي يرتبط إلى حد كبير كما هو متعارف عليه بالمورثات. تعرف أيضاً حسب مسماها باللغة الإنجليزية بالجينات مشتقة من كلمة genes. لتتبلور في عدة أشكال لتُكون ركائز أرث وثقافة القبيلة الراسخة. التي تشكل عامل مؤثر للغاية بالنسبة للحاتين المعنيتين هنا مجموعة البجا والرشايدة. العامل الثاني الذي يعتبر من مصادر مسببات المؤثرات هو التطبع. يُرد في هذه الحالة لتجربة هاتين المجموعتين اللتان تقيمان معاً جنبا لجنب بموطنهم معاً بشرق السودان لقرابة القرنين من الزمان. عاملان مؤثران للغاية كان من أهم إسقاطاتهما تباين واضح للغاية في قيمهم والكثير من أعرافهم المتجذرة. التي تلقي بظلالها الكثيفة على عمارتهم المتنقلة على كافة مستوياتها وكل تفاصيلها عبر ما يمكن أن نسميه هنا بالمؤثرات. افتراضات تنقلنا مباشرة إلى ضفاف مفاهيم مصطلح أل Genius Loci. عبر تراكيب متداخلة معقدة كشفت دراساتي المضنية المعمقة المستفيضة الكثير من جوانبها الخفية. النظر إليها بطريقة سطحية عابرة من شأنه أن يظلم تلك المجموعات التقليدية. تماماً كما كانت لا زالت تفعل العديد من الجهات الرسمية المؤثرة التي تتحكم في جوانب مهمة من مصايرهم. كما سيتضح لنا جلياً في سياق هذه المقالة التي نزرتها لتسليط الضوء على مثل هذه القضايا المصيرية بالغة الأهمية.
النظر لهذه المؤثرات بطريقة سطحية ساذجة تكون له في بعض الحالات عواقب وخيمة. الشواهد على ذلك كثيرة أشرنا إليها من قبل في حالة النوبيين الذين تم تهجيرهم من موطنهم التاريخي في أقصي شمال السودان. سأوضح هذا الأمر بتفحص جوانب مصيرية لمجموعتين من الرعاة الهائمين في ربوع شرقنا الحبيب أشرت إليهم من قبل. تفاصيل تمس جوانب بالغة الحساسية تشكل تحديات وتعقيدات مؤثرة في حياتهم. بعضها ذو صلة مباشرة بحماية نسائهم والمحافظة علي خصوصيتهم وتأمينهم. ناتجة عن ظروف من أهمها غياب شبابهم ورجالهم الكبار عن مستوطناتهم بذهابهم بعيدا عنها جل أوقاتهم. واقع يجعل تلك الشريحة المجتمعية دائما في موقف حرج بدون غطاء أمني من جهة رسمية خارجية. ظروف متشابه ضاغطة تتعرض لها معاً تلك المجوعتين القبليتين معاً. مما يجعلنا نتوقع أن تتعامل معها بنفس الطريقة من خلال حلول ومعالجات معمارية متشابه. لكن نفاجأ بتباين تام بينهما على كل مستويات مستوطناتهم المتنقلة هو أمر يستحق التأمل والانتباه. هذا عين ما فغلته من خلال رسالة الدكتوراه. ظللت أنبه له لاحقاَ في عدد من المقالات جعلته واحد من القضايا الأساسية التي أهتم بها. هذا الموضوع برمته ينقلنا إلى جانب أخر من ثقافتهم وأرثهم قريب الصلة جداً بموضوع خصوصية وحماية نسائهم. هو نظرتهم تعاملهم مع الغرباء الذين يشكلون جزءً مهماً من حياتهم شأوا أم أبوا. من واقع حياتهم وعمارتهم المتنقلة ومستوطناتهم التي لا يحيطونها بأسوار عالية تشكل خط دفاع مهم. موضوع يحتاج لكثير من الإيضاحات نسبة لأهميته الفائقة.
موقف المجموعتين تجاه الغرباء والضيوف مختلف تماماً على طرف نقيض من بعضهم البعض. لأسباب استقصيت عنها درستها بعمق أعتبرها مقنعة بالنسبة للطرفين. بعضها تاريخي الجذور أخري لها علاقة بمستجدات طرأت عليهم لاحقاً. تناولتها كلها بالشرح المستفيض في رسالتي وعدد من المقالات نشرتها لاحقاً في مدونتي في الفيسبوك. تراكمات بعضها تاريخي ولد عند مجموعة البجا موقفاً سالبا نحو الغرباء. جعلهم يتفادونهم بقدر الإمكان باختيار مواقع تخييمهم بعناية فائقة. خطوات احترازية تعززها نوعية خيامهم. بشكلها غير المرحب ولونها الذي يجعل من الصعوبة ملاحظتها في إطارها الطبيعي. تحفظاتهم نحو الغرباء نابعة إلى حد بعيد من حرصهم الفائق على خصوصية نسائهم التي تعتبر من أقدس مقدساتهم. مما يجعلهم يستقبلون ضيوفهم في مستوطناتهم المتنقلة بعيداً عن منطقة خيام الأسر. ضوابط صارمة تطبق أيضاً إلى حد بعيد على الشباب والعزاب المقيمين في المستوطنة. تصل إلى درجة حرصهم الشديد علي عدم تواجد الأزواج في منطقة خيام أسرهم طوال ساعات النهار. تدابير يكملها تصميم الخيمة محكمة الأستار محدودة الفتحات ذات المدخل المنخفض. بذلك تتداعي تدابير المحافظة على خصوصية نسائهم على كل مستويات مستوطناتهم المتنقلة. بداءَ باختيار مواقعها مروراً بتخطيطها وتوزيع الخيام فيها انتهاءً بتصميم الخيمة. خطوات محسوبة بعناية فائقة يستثمرون فيها بعناية فائقة في المسافة والتباعد بالإضافة لإحكام تغطية الخيمة.
يبدو من أول وهلة أن هناك توافق بين مجموعتي البجا والرشايدة في التعامل مع تأمين خصوصية وحماية نساءهم وتعاملهم مع الغرباء. لكن نظرة فاحصة متأنية توضح لنا تباينات واضحة بينهما نبدأها بطريقة تعاملهم مع الشريحة الثانية. لمست عند مجوعة الرشايدة رغبة عارمة في التقرب للغرباء. نهج أجد له أكثر من تفسير مبررة مقنعة ألي حد كبير. أولها له علاقة بثقافتهم المحلية تحديداً خلفيتهم كبدو نازحين من شبه الجزيرة العربية الذين يضرب بهم المثل في إكرام الضيف. هناك أيضاً تفسير أخر مقنع له علاقة بتدني نسبة التعليم بينهم الأمر. الذي قلل من فرصهم في تبوء مواقع متقدمة قيادية في الدواوين الحكومية. وضع يبدو أنه جعلهم يسعون بهمة عالية لخلق جسور تواصل تقربهم من تلك الشريحة لإغراقهم بكرمهم الفياض المعهود. مساعي ونهج يتضح بجلاء في العديد من مظاهر مستوطناتهم المتنقلة على كافة مستوياتها وتفاصيل عمارتها. الذي يتداعى ليشمل نوعية أزياء نسائهم التقليدية كما سأوضح لاحقاً. شريحة مجتمعية تضطلع حسب أعراف القبيلة بدور متقدم في مجتمعهم في حالة الغياب المتطاول لأزواجهن ورجال المستوطنة. إذ يسمح لهن بمنافستهم في نيل شرف استقبال الضيف واستضافته في حال غياب رب الأسرة صاحب الدار. مواقف حرجة تنتج عن تقاطعات قيم متشابكة يمكن أن تتسبب في مشاكل أسرية عميقة. يعالجها بخطوات استباقية يتعامل معها بحصافة بالغة تصميم خيمتهم الذي يدل على عبقرية تتقاصر معها ادعاءات عمارة الحداثة الزائفة.
مغازلة الرشايدة للغرباء محاولتهم المستميتة في اصطيادهم وغمرهم بكرمهم الفياض تتجلي في أكثر من جانب من جوانب مستوطناتهم المتنقلة. تبدأ باختيار مواقعها بعناية بالرغم من تباين أنواعها. التي نجدها دائماً قرب محطات السكة حديد وعلي جانبي الطريق القومي الذي يربط العاصمة بمينائنا الرئيس. يصطادون الغرباء منها مستثمرين في سمات خيمتهم فريدة التصميم اللافتة للنظر من بعيد بغطائها المخطط. مشرعة الأستار مفتوحة في كل فصول العام فاتحة ذراعيها مرحبة بالجميع. ليبدأ التنافس بينهم أسر المستوطنة لاستضافة الضيف وفق قواعد وأسس متفق عليها. تنافس لا تستثني منه سيدة الدار أو الخيمة التي يتغيب زوجها المسافر. تقوم بالواجب علي أكمل وجه يرعاها يأمن لها الحماية أقرب الأقرباء في الخيام الملاصقة لخيمتها. من أهم خطوات الحماية حرصهم علي جعل خيمة الزوج الغائب مرفوعة الأستار بشكل يجعلها تكاد تكون مكشوفة تماماً لجيرانها. تدابير تصميمية ذكية تمكن الزوجة من القيام بكافة واجبات الضيافة للزائر هي أمنة تطمئنها متابعة أهلها في الخيام المجاورة. يعينها أيضاً زيهم التقليدي الذي يسمح لها بحرية الحركة هو يغطيها تماماً. ترتيبات ذكية متكاملة يساهم فيها تخطيط المستوطنة وتوزيع خيامها مع تفاصيل عمارة خيمة المتناغم مع زي نسائهم القبلي. يرسم لوحة متكاملة مبهرة لفضاء وجود المعماري العبقري الفيلسوف نوربيغ- شولز الذي أضفت إليه من عندي الزي.
هناك تباين واضح في إجراءات متطلبات خصوصية وحماية النساء إذ قارنا حالة الرشايدة بمجموعة البجا. فالرشايدة يختلفون عنهم بتقارب خيامهم وكشف أستارها. في تباين تام عن مجموعة البجا التي تراهن على تباعد المسافات واحكام إغلاق الخيمة بقدر الامكان. من المهم في عودة لما أشرت إليه من قبل النظر لهذه الأمر في سياق زيي المرأة في كلا الحالتين. فهو عند الرشايدة كم ذكرت من قبل شبيه بالنقاب يصعب التحكم فيه بكشف أجزاء من جسم المرأة. في تناقض مع زيها عند مجموعة البجا. الذي يتميز بقدر من المرونة في استخداماته حسب الظروف والملابسات وفق تقاليدهم. هو ثوب طويل يلف جزء منه ليغطي الجزء الأسفل بإحكام فيما يستخدم الباقي بدرجة من المرونة لتغطية الجزء الأعلى. يغطي الجسم كله تماماً عندما تكون وسط الغرباء عند زيارتها لسوق المدينة بحيث لا يكشف إلا عن عين واحدة تتلمس بها طريقها هناك. تظهر أعلي درجات مرونته عندما تدلف للجزء الداخلي العميق من الخيمة حيث يوجد المرقد. تتجلي أعلي درجات مرونته ليكشف أجزاء من جسمها هناك في ذلك الجزء العميق من الخيمة. الذي تسدل أمامه أحيناً ستارة تفصل بينه وبين أجزاءها الأمامية. عليه تكون مرونة زي نسائهم إلى حد ما على طرف نقيض من حال خيمتهم محدودة الفتحات محكمة الإغلاق. التي يحكم نساء المستوطنة ربطها غطائها بإحكام مع هيكل الخيمة كل مرة عندما يخيمون بموقع إقامتهم الجديد. جوانب مهمة عن واقع حياة المجموعتين منحتني الجهات الرسمية فرصة ذهبية لإعادة النظر فيهما. لأكتشف حقائق مذهلة لم تخرج من ذلك الإطار. عندما خططت لهما حيين متجاورين تخطيطهما متشابه في واحدة من مدن إقليمهم الشرقي.
تقسم تخصصات الدراسات المجتمعية والثقافية أو الأنثروبولوجيا المجتمعات بشكل عام إلى نوعيين رئيسين. واحد منها تتمحور حياته في إطار المجتمع ككل يشار إليه باللغة الإنجليزية بال community centered. الثاني تتمركز جل أحداثها في نطاق الأسرة عليه تعرف باللغة الإنجليزية بانها family centered . واحد من جوانب حياة مجوعتي البجا والرشايدة موضوع اهتمامنا هنا أنهما تقفان على طرف نقيض من بعضهما البعض. فمجموعة البجا تصنف بلا أدني شك ضمن النوعية التي يذوب فيها أفرادها في مجتمعهم. أكبر دليل علي ذلك هو دور الأماكن المجتمعية الفاعل في مستوطناتهم المتنقلة. الذي تكتسبه باستضافتها لشرائح عمرية من الذكور معاً في مراحل متعددة قبل زواجهم مما يعزز من دورها الأساسي في حياتهم. فيما نجد مجموعة الرشايدة تقف على طرف نقيض منها بالرغم من أنهما يواجهان معاً نفس ظروف حياة الارتحال بكل أبعادها وتحدياتها. إذ لا وجود لأماكن مجتمعية في مستوطنات المتنقلة. لأن الذكور منهم يبقون مع والديهم في خيمة الأسرة طوال حياتهم حتى يحين ميقات زواجهم. لينتقل بعدها كل واحد لخيمته التي تنصب ملاصقة لخيمة والديه. مثل هذه الترتيبات الجوهرية في سكن مجموعة القبيلتين تشير للتباين الواضح في الجوانب المشار إليها هنا. الواضح أن مثل هذه الفوارق الأساسية بين المجموعات القبلية لا تجد الاهتمام والتفاعل المطلوب من المعنيين بالتخطيط العمراني. هذا ما سنوضحه بجلاء من واقع تجربة حقيقية تعاملوا فيها مع تلك المجموعتين في الإطار الحضري.
ظاهرة عدم اهتمام الجهات الرسمية بالفوارق بين هاتين المجموعتين القبليتين أتاحتها لي تجربة فريدة استهدفتهما معاً. كان مسرحها أحياء متشابه في تخطيطها أعدت لهم في السبعينات في مدينة كسلا عاصمة إقليمهم. منحتني فرصة ذهبية للتعرف على المردود السلبي لنمط تخطيط مكرر شبه مقدس. كانت لا زالت تتبناه في إصرار غير مبرر الجهات الرسمية المعنية بالتخطيط الحضري. أهمية هذه التجربة القصوى في إطار رسالة الدكتوراه جعلتنني أوليها اهتماماً خاصاً. نسبة لمردودها السلبي الملموس المؤثر على كلا المجموعتين القبليتين إن اختلفت نوع المعاناة. التي تباينت بالنسبة لكل واحد منهم لكنها تشابهت في النهاية في عواقبها السلبية على الطرفين. نبدأ مثلا بنسب توزيع الفضاء في الحي السكني. الذي يقسم لنوعين عام وخاص حسب مسمياتها باللغة الإنجليزية public and private spaces. تشابه تخطيط أحياء المجموعتين انعكس بالضرورة على توزيع الفضاء في كل واحد منهما الذي جاء متطابق تماماً. فمنحني فرصة ذهبية للتوقف مرة أخري عند تداعيات مفهوم شايع في مجال الدراسات المجتمعية والثقافية أشرت إليه من قبل. الذي يقسم المجتمعات إلى نوعين، نوع تتركز حياته في إطار الأسرة وأخر تنداح تتمدد إلي رحاب المجتمع ككل. ظاهرة يمكن ملاحظتها بوضوح في التعامل واستخدام الفضاء العام والخاص في تلك المناطق السكنية. تشابه أحياء المجوعتين القبليتين في تخطيطها وتوزيع الفضاء فيها أتاح لي فرصة لا تعوض. سمح لي بالتحقق من قيمة هذه المفاهيم التعرف علي دورها المؤثر في عمليات التخطيط. فحصت هذه الحالة بعمق استبسلت في دراستها فخرجت منها بغنايم نفيسة.
نبدأ بالنظر في الفضاء العام الذي يتكون من المساحة المخصصة للمرافق الخدمية والساحات العامة ثم الشوارع. في كل حالة نتعرف على الوضع بالنسبة لكل واحدة من المجموعتين القبليتين. نبدأ بمكون المرافق العامة تحديدا منطقة السوق المحلي المخصص لمحال تجارية متعددة الأنواع والأنشطة. استوقفتني علي وجه التحديد مكون المقاهي والمطاعم. لفتت انتباهي فيها مفارقات في أحياء المجموعتين ذات مؤشرات بالغة الأهمية لها دلالات جديرة بالملاحظة. التي وجدت فيها إقبالاً كثيفاً في حي المجموعة البجاوية ظاهرة لافتة للنظر أيضاً في سوق المدينة المركزي. أردها لعدة عوامل من أهمها حسب رؤيتي المؤسسة على شواهد نابعة من أهم قيمهم. تفسر تواجدهم الكثيف في تلك الأماكن العامة بإتاحة قدر عالي من الخصوصية لنسائهم في منطقة بيوتهم في الأحياء. الصورة مختلفة تماماً في حي الرشايدة التي وجدت فيها جل المحال المخصصة للمطاعم والمقاهي مغلقة. وضع متوقع إذ أن الكرم عندهم إقراء الضيف وفق أعرافهم يجب أن يتم في عقر دار مضيفه بين أسرته حتى في حالة غيابه. وضع قد يبدو غريباً بالنسبة للعديدين منكم لكنه يوثق لحالة التزام صارم بواحد من أهم قيمهم المتوارثة. نتجت عنه ظاهرة سالبة للغاية هي إهدار مساحة في سوقهم المحلي وتبديد أموال في تشييد محال التجارية لا حوجه لهم بها. نحن هنا في نفس الجزء من مركز أحياء القبيلتين التسويقي أمام حالتين متناقضتين. تشير أحدهما للنتيجة السالبة الناتجة عن عدم تفهم الجهات المعنية الرسمية بخصوصية من تعاملوا معهم.
المفارقة الواضحة جدا في أحياء المجموعتين نجدها في الفضاء العام تحديداً الساحات الداخلية وسط المربعات السكنية. اختلاف واضح يدل على فوارق باينه في جوانب من حياة القبيلتين وثقافتهم المحلية. تكتسب تلك الساحات أهمية فائقة عند المجموعة البجاوية نتيجة لالتزامهم الصارم بأعرافهم المرتبطة بقيمهم واهم موروثاتهم. دفعتهم هنا لتجاهل القوانين واللوائح المنظمة التي تحدد استخدامات فضاء تلك الساحات العامة. ليأسسوا فيها يقيموا مباني بسيطة متواضعة لكنها عظيمة القيمة. تستمد قيمتها من تقاليدهم السامية التي وضعوا أساسها في مستوطناتهم المتنقلة. هي في أغلب الأحيان مباني بسيطة أشبه ب(العشش) واحدة منها مخصصة لأطفال الحي يستوعبون فيها بعيداً عن أمهاتهم. أخري شبيه بها متعددة الأغراض معدة لاستقبال ضيوف الحي من الرجال. يقضي فيها أيضاً من تواجد من الشبان يومهم بعيداً عن منازلهم المجاورة. تشييدها هنا المخالف للوائح يأتي استجابة تجاوباً مع قيمهم السامية وأهدافهم النبيلة. تستلهم أفكارها من وحي عمارة مستوطناتهم المتنقلة المشبعة بتلك القيم والأهداف. نفس تلك الساحات في حي الرشايدة تحكي قصة أخري مختلفة لا بل على طرف نقيض من حالة حي مجموعة البجا. الذين يتعاملون معها بشكل مختلف تماماً فإذا وجدت فيها منشأت فهي غالباً خيام لبعض من العائلات. لا وجود هنا لأماكن عامة أو مجتمعية خاصة بسكان الحي. تباين واضح بين حالة مجموعة القبيلتين يوضح ما أشرنا إليه من قبل. حالة يذوب فيها الناس في إطار الجماعة كما هو الحال في حي البجا. مختلفة تماماً عن أحياء الرشايدة التي تتمحور فيها حياتهم في إطار الأسرة داخل بيتها.
التباين الواضح في فضاء السكن في أحياء المجموعتين يتجلى في القطع السكنية متسببا في مشاكل متنوعة في كلا الحالتين. لعبت قيم القبيلة دوراً أساسياً في تأزيمها في أحياء مجموعة البجا. سببها الأساسي مساحتها التي تزيد عن احتياجاتهم المؤسسة على قيمهم. التي لا تسمح باستيعاب أكثر من أسرة نووية واحدة داخل القطعة السكنية. نفس الضوابط وحرصهم الشديد على خصوصية اسرهم جعلهم يحيطون بيوتهم بحائط سور مرتفع جدا. يستهلك جزءً مقدراً من ميزانية مشروع بيت الأسرة مما يجعلهم في أغلب الحالات يكتفون بإقامة خيمة بسيطة داخله. كانت الحالة في أحياء الرشايدة على طرف نقيض. الذي لم تسمح لهم نفس مساحة القطعة السكنية بتشييد بيوتهم على النحو المطلوب المشتهي. متوافقاً مع قيمهم الراسخة التي تطمح في أن تكون بيوت الأسر النووية مجمعة كلها متلاصقة متراصة في أحيائهم. نموذج شبه مقدس تشهد عليه حالات عديدة في أحيائهم. في حالات أخري جديرة بالانتباه نجدها مصطفة داخل قطعة سكنية واحدة. مشيدة نسبة لضيق المساحة في خط الوتر في وضع مخالف للنظام المتبع المتوافق مناخياً. هناك أيضاً حالات لافتة للنظر لا يتم فيها الالتزام بلوائح البناء خدمة لأغراض نبيلة مؤسسة على قيم راسخة. يشيد فيها البيت مباشرة على الحائط الفاصل بين قطعتين متجاورتين لأسر قريب الصلة ببعضها البعض. ترتيبات تهدف لمتابعة أحوال أسر الجيران ورعايتها عندما يغيب صاحب الدار. الواضح هنا أن المشاكل في الحالتين سببها عدم توافق مساحة القطعة السكنية مع قيم السكان واعرافهم المتجذرة. فنجد نفس المساحة تسببت في مشاكل للمجموعتين لأسباب مختلفة.
استعرضت هنا ثلاث حالات متتالية جرت أحداثها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. استهدفت فيها الجهات الرسمية المعنية بالإسكان والتخطيط مجموعات سودانية تقليدية في أجزاء مختلفة من بلادنا. تجربة تهجير وإسكان النوبيين الشمالين في منطقة خشم القربة في شرق البلاد. بالإضافة لحالتين تعاملتا مع مجموعتين من البجا والرشايدة في مدينة كسلا. حالات كشفت بجلاء مردود تطبيق سياساتها السكانية علي تلك المجموعات التقليديةٍ. نتيجة لتبني أنماط جامدة مكررة علي كافة المستويات تفتقد للحساسية وتفهم خلفية تلك المجموعات. بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن علي تلك التجارب المريرة لا زال الحال ياهو نفس الحال. كما يردد مغثي شهير في واحد من أهم أغانيه التي يشكو فيها لوعة الحب. من المؤسف أن تلك الأحداث بعواقبها المحزنة جرت بعد عدة عقود من الزمان بعد رحيل نظام احتلال من بلادنا نشير إليه بالبغيض. الذي مضي عنا ذهب تاركاً وراه تركة مثقلة محملة ببعض من أهم موروثاته فكر غربي الهوي مادي النزعة علماني الجذور. سلمه لمن خلفه من أساتذة العمارة وأبكار المعماريين الوطنيين الذين رضعوا من ثدي فكره وعلمه. فحملوا الأمانة بإخلاص ووفاء نادر ليناولوها بعد ذلك للأجيال اللاحقة لتصبح إرثاً لا فكاك منه. من أهم سماته أشكال مكررة لتخطيط المناطق السكنية لا زالت تطبق بحذافيرها في أنحاء بلادنا. من حلفا في الشمال إلى الجبلين في الجنوب من الكرمك في أقصي الشرق إلي أبشي في غرب دار فور. بدون أي اعتبار للتنوع الاثني والثقافو- مجتمعي لأهل السودان بكل تداعياته المذهلة.
مضي الأمر على هذا النحو تحرسه بقوة وعزيمة لا تلين مناهج دراسية عقيمة غير مواكبة للمستجدات من حولها. يحميها يدافع عنها باستماته حراس أشداء يتمترسون في مؤسسات تعليم العمارة والتخطيط بكافة مستوياتها. من بداياتها في مرحلة الزغب الأكاديمي (البرلومات) إلى سدرة منتهاها في شتي مراحل الدراسات العليا. مناهج واساتذة غارقين في العسل في أحضان الفكر والتوجه العلماني غير عابئين بما يحدث في عالمهم الغربي المثالي الذي ذلذل أركانه. الذي لا زال عندنا هنا مهيمن على الساحة بالرغم من التداعيات الخطيرة التي حدثت في العقود الماضية. لا زلنا نحن للأسف نعيش في شهر عسل متطاول أسس له أسلافنا المعماريين في الخمسينات والستينات. عندما كانوا يعيشون في عالم وردي، نخبة من المعماريين يصممون لصفوة من (الإنتيلجنسيا) أبكار الخريجين من أمثالهم. يسعدونهم يدغدغون أحاسيسهم بعمارة تذكرهم بأيام الغرب الخوالي. غير مدركين للأرض التي بدأت ترتج تحت أقدام المعمارين من الأجيال اللاحقة في زمان بعدت فيه الشقة بين المعماري ومن يتعامل معه. زمان وفد فيه للعاصمة وحواضر البلاد من أطرافها من يمتلك من المال أكثره ومن الطموح أقصاه المشبع بروح أهله هناك في أطراف السودان. موقف محرج للمعماري لن يسعفه علمه الزاخر المؤسس المشبع بفكر غربي الهوى علماني الجذور. موقف يستدعي بالضرورة إجراءات عاجلة تبدأ بمراجعة شاملة لمناهج تعليم العمارة في كافة مستوياتها. كخطوة أولية أساسية لاستردادها وضعها في مكانها الطبيعي في حضن الوطن ورحاب أهله البسطاء قبل الأغنياء والموسرين.
عشت واقع تعليم العمارة عندنا بكل أبعاده وتفاصيله في مرحلتين درست في الأولي العمارة في مؤسستين مختلفتين. بالإضافة لمراحل تدريس تجاوزت الأربعة عقود من الزمان طوفت فيها في عدد من الكليات والاقسام. رسمت لي للأسف صورة قاتمة غير مبشرة بفرج قريب للخروج من مأزق نفق فكر الحداثة المظلم. إذ كما أشرت من قبل هناك حراس أشداء يسيطرون على المشهد في كل مستويات تعليمها. يلقنون الطلاب في أغلب الحالات للأسف خلاصة فكر عفي عليه الدهر. بداء من صدروه لنا مراجعة أساسياته في عالمهم الغربي بإعادة النظر في مفاهيمها والتخلي عن عدد مقدر منها. ليتراجعوا يغيروا وجهتهم بمقدار مائة وثمانين درجة. تطورات مؤثرة لم تجد أذن صاغية عند من يديرون شأن تعليم العمارة عندنا. الذين سدوا المنافذ أمام أي طريق يمكن أن يشكل اختراق يتجاوز حالة احتقان تعاني منها عمارتنا. الذي كان يمكن تحقيقه من خلال العمارة السكنية موضوع هذه المقالة. باعتبارها الأكثر تأثيراً على الناس والمشهد العام. بإتباع توجه أكثر إنسانية شبيه بالذي اخترته هنا يحترم رؤي أهلنا البسطاء. التي يعتبرها معشر العلمانيين ضرب من ضروب الدجل والشعوذة. أتمنى أن يفتح الطرح والجهد المتواضع الذي قدمته هنا الطريق لاختراقات فكرية مثمرة. إذ لم أكن أمل كثيراً في أن يحلقوا في الفضاءات الفلسفية بازخة المعاني إنسانية الجوانح. التي كانت ستصل بهم إلى درب الأمان مخلصة عمارتنا من مستنقع فكر الحداثة. ليصلوا بها إلى بر الأمان مستردين لأهلنا البسطاء في أطراف بلادي عزتهم وكرامتهم وكامل معاني وجودهم. نظرة متشائمة نوعا ما لكن الأمل معقود في جيل الشباب الذين اكتشفت بينهم عدد من الواعدين بخير وفير.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- فبراير 2022