عمارة قبائلنا التقليدية تتماهى مع تراثهم اللامادي والمادي
أي مجموعة من البشر تعيش مع بعضها البعض في مكان واحد تتفاعل معه معاً يكون له بمرور الزمن تأثير عميق عليهم. تراكمي يخرج من رحمه عبر الزمن ما يعرف بالتراث. يطلق عليه أيضاً في نفس هذا السياق اسم الثقافة المحلية لأنها معنية بمجموعة محدودة النطاق. يتكون هذا التراث تلك الثقافة المحلية من عدة مكونات أساسية. نتيجة للتشابه في خصائص بعضاً منها تجمع لتُكون مجموعتين أساسيتين. تعرف واحدة منها باسم التراث أو الثقافة المادية بينما يشار للأخرى بالتراث والثقافة اللامادية. الفرق الأساسي بينهما الذي يميزهما عن بعضهم البعض نابع من أهم خصائصهم الواضحة من اسمهم. فالمادية منها بحكم طبيعتها تتميز بخصائصها الملموسة بشكل مباشر كطولها وعرضها وارتفاعها. فيما تختلف عنها الثانية بأنها غير مادية الطابع إذ تقدم نفسها عبر معايير أخري مختلفة مفعمة بالأحاسيس والمشاعر. كلام يبدو مبهم لمن هم بعيدين عن هذه المجالات فكربة فلسفية الطابع. تطوافي بكم عبر أجزاء هذه المقالة سيستدرجكم يقودكم تدريجياً لتلك العوالم ذات الضفتين المشار لهما هنا. التي قد تبدو لأول وهلة غامضة كما هو واضح من هذه المقدمة. لكن ستنجلي لكم معانيها العميقة عندما أطوف بكم في عوالم البسطاء من أهل بلادي. الفلاحين المتشبثين بضفاف الأنهر والرعاة الهائمين في البوادي والصحاري المبعثرين في ربوعها. نماذج منتقاة منهم ستكشف لنا الكثير مما أشرت إليه هنا. من ثنايا وخبايا عوالم تراثهم وثقافتهم المحلية بشقيها. التي تضج بالمعاني والأبعاد الفلسفية العميقة النبيلة لأناس لم يحظوا إلا بنذر يسير جداً من التعليم النظامي.
يجب أن أعترف أنني هنا في هذه المساعي النبيلة اتكأت استثمرت إلى حد بعيد على عملي لنيل درجة الدكتوراه. الذي أنجزته عبر عمليات بحث مضنية معمقة عززتها بدراسات ميدانية متطاولة. جهد مثمر لا يقلل من أهمية الاستثمار فيه انقضاء بضع عقود من الزمان علي إنجازه. إذ أنني ظللت لاحقاً أتابع باستمرار وشغف متعاظم المستجدات ذات الصلة بمعطيات بحوثي السابقة. اهتمام متصل كان من أهم دوافعه ملامسته لقضايا جوهرية أساسية. صارت محور اهتمام أساسي في الإطار الفكري للعمارة على المستوي العالمي. أكرس هذه المقالة لتسليط بعض الضوء على جوانبها الخفية المعقدة. مستعيناً في تحقيق هذا الهدف النبيل عصي الجوانب بتأمل حالة ثلاثة من قبائلنا السودانية. برؤية فلسفية صارت جزءً أساسياً من قناعاتي لفهم العمارة. سيدهشكم هذا التطواف الذي سأحلق بكم فيه في عوالم قبيلة كانت تسكن تستعصم بضفاف النهر في أقصي شمال بلادنا. لأخذكم بعدها بعيداً عنها لشرقنا الحبيب قرب سواحل البحر الأحمر. لعوالم قبيلتين من الرعاة المرتحلين الهائمين في الصحاري والوديان. استعراض محتشد بإضاءات مثمرة على كل ما ذكرته من قبل عن التراث والثقافة المادية واللامادية ليتجلى أمامكم يسطع مبرقاً في إطار مكونات عمارتهم السكنية التقليدية الأقرب لنفوسهم. التي تعبر بصدق عن واقع ومعاني حياتهم السامية.
مدخلنا لموضوع هذه المقالة سيكون بإيضاحات شروحات أساسية تسلط الضوء على مكونات التراث والثقافة المحلية بشقيها الأساسيين. التي يجب أن نبدأها باللامادية لأنها حسب تقويمي تلعب دورا أساسياً في بلورة مكونات الشق المادي الثاني. تتنوع مكونات الشق اللامادي بشكل مدهش تظهر فيه بأشكال متباينة بعض الشي. ظاهرة ستتضح لنا عند استعراضي لحالات القبائل الثلاثة الأساسية التي سنتعامل معها. هناك مكونات لامادية أساسية معروفة لدينا تنطبق إلى حد بعيد على كل الحالات. مثل منظومة القيم والأعراف والتقاليد. التي تكون عادة مضمنة بشكل غير مباشر مستتر في مكونات لامادية مثل الملاحم، والحكايات، والأغاني والأهازيج. تظهر أحينا في أشكال أخري مثل الألغاز والفوازير المعروفة عندنا باسم (الغلوطية) التي تكون عادة عميقة الأثر. أضفت لها أنا من عندي بناءً على مخرجات بحوثي المتواصلة مكونات أخري بالغة الأهمية من أميزها الأشواق المشتركة. لا تقل منها أهمية أخري مثل الهواجس التي تكون أحيناً عميقة الأثر، حتى لو كانت متخيلة غير مؤسسة على واقع فعلي. مثل هذه المنظومة من المكونات اللامادية يكون لها دور مؤثر للغاية علي حياة مجموعة تستظل معاً بمظلة تراث وثقافة محلية واحدة. إذ تنظم إلى حد بعيد تضبط كل جوانب وخطوات حياتهم. واحد من أهمها تأثيرها الفعال على مكونات التراث والثقافة المادية. التي تحدد أبعاده وتفاصيله بشكل قاطع ودقيق. ظاهرة ستتجلى لنا بوضوح عند تسليطنا الضوء على الثلاثة قبائل التي سنتعامل نركز عليها هنا.
سأٍستعين في استعراضي لمكونات التراث والثقافة المحلية المادية بحالات تلك القبائل الثلاثة خدمة لأغراضي هنا. التي سأوظفها لتساهم في إيضاح الصورة في أبلغ معانيها. عندما نتعامل معها على كل مستويات سكنهم بداءً بأكبرها نزولاً لأصغرها أكثرها التصاقاً بالناس. تطواف محتشد بالمفاجئات سيكشف لنا عبقرية هؤلاء البسطاء من أهل بلادي. التي تتدفق خيراً عميماً في أرجاء مكونات بيئة سكنهم متواضعة المظهر والمحيا نبيلة المقاصد والمضامين. تطواف زاخر بالمفاجئات سيأخذنا إلي رحاب حالات متباينة الأطر. من تلك التي كانت مضطجعة على ضفاف النهر في شمال بلادنا إلى أخري هائمة في الصحاري والوديان في شرقنا الحبيب. من مجموعة مستقرة في ديارها يعود تاريخها هناك لعصور ضاربة في القدم. لأخريات صار الترحال المستمر نهج حياة فرضه عليهم اقتصادهم المؤسس على تربية الحيوان في موطن مجدب شبه صحراوي. حالات متباينة عمق من تباينها خلفية تلك المجموعات واختلاف جيناتها المؤثرة. التي سنكتشف الكثير من جوانبها نحن نطوف في عوالمهم المتباينة المدهشة. تطواف سيحملنا إلى ضفاف النهر في أقصي شمال بلادنا. لنستعيد ذكريات أليمة لقري النوبيين بعمارتها المدهشة التي ذوبتها مياه بحيرة ناصر في ستينات القرن الماضي. لننتقل بعدها مع الرعاة الرحل الهائمين في بواديهم في شرق السودان. فنفاجئ بمفارقات عجيبة فوارق مدهشة بين قبيلتين ظلتا متجاورتين هناك لقرابة القرنين من الزمان. فترة متطاولة لم تنجح في إزالة خلافات جوهرية بينهم. تطوافنا في عوالم المجموعات القبلية الثلاثة سيقدم لنا إضاءات مفيدة مدهشة عن العلاقة بين المكونات اللامادية والمادية. التي ستوضح لنا تماهي العمارة كواحدة من أهم المكونات المادية مع منظومة مكوناتهم اللامادية مجسدة مضمون موضوع هذه المقالة.
نتيجة لعدة مبررات سأبدأ تطوافي هنا بالحالة النوبية. لأنها من واقع ما نالته من توثيق جيد تعتبر هي الأقدم. توثيق كان خير معين لي لتناول حالتها هنا. هو أيضاً الذي دفعني للارتكاز عليها كواحدة من أهم مكونات بحثي لدرجة الدكتوراه. بالرغم كل تلك الميزات أعترف بأنني توقفت عن متابعة حالتها منذ بضع عقود من الزمان. أمر سيجعل تناولي لها هنا مرتكز على معلومات لم أسع لمتابعة ما أستجد فيها. لكن بالرغم من ذلك فإن ما توفر لي منها يكفي لعرض حالتها هنا بشكل مرضٍ. حالة تستحق تسليط الضوء عليها لأنها كانت بكل المقاييس تجربة مؤلمة للغاية. المحزن في الأمر أنه بالرغم مرور تلك العقود من الزمان لا زالت للأسف الشديد تتكرر ب (الكربون). إذ لا زالت الجهات الرسمية المعنية بالمشاريع الإسكانية تكرر نفس ذلك النهج. بالرغم كل المستجدات التي حدثت في ذلك المجال التي تستدعي مراجعات جوهرية. نحن هنا أمام تجربة مريرة استهدفت مجموعة نوبية قبلية سودانية. كانت منذ عصور سحيقة تعمر شريطاً ضيقاً من الأرض الخصبة ملتصق بالنهر في أقصي شمال بلادنا. محاط من كل الجهات بصحاري قاحلة نكاد تكون بلا حدود. كانت تعيش هناك في أمن وأمان بالرغم شح الموارد الطبيعية مما دفع جل رجالها ت للهجرة بعيداً عنها. تاركين خلفهم أسرهم تحت رعاية الأجداد. واقع فرض عليهم نظام ثقافوا- مجتمعي يعرف بالأسرة الممتدة. أفرز تصميم بيوت مثالي يشار إليه بالصحن أو الفناء الوسطي المحاط بغرف الدار وأسره النووية. تصميم صار لعدة اعتبارات مقنعة شبه مقدس توارثته الأجيال.
هناك على ضفاف ذلك النهر العظيم منذ قديم الزمان نثر هؤلاء الفلاحين البسطاء منذ قديم الزمان شريط بيوت قراهم الموازية له. عمارة طينية مفرطة الجمال واجهاتها مزدانة بزخارف وكتابات خلابة كان بعضها يتسرب خلسة إلى دواخلها. لتنشر البهجة هناك قبل ذلك أهم منه فيض من الطمأنينة في نفوسهم. حالة نفسية كانت نابعة من ظروف ضاغطة أفرزها واقع موطنهم بكل سمات تاريخه وجغرافيته المجدبة. صحراء تحيط بهم تزحف تكاد تصل لضفاف النهر. تاركة أحيناً شريطاً ضيقا صالح للزراعة تصطف على جانبه بيوت قراهم. واقع ضاغط للغاية دفع بالرجال والشبان الذين لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم للمهاجر البعيدة طلباً للعمل. بأجور متواضعة لم تكن تسمح لهم باصطحاب أسرهم معهم. الذين كانوا يقيمون مع والديهم في حالة أنتجت في ديارهم في أرض النوبة ما يعرف بالأسرة الممتدة. جد وجدة يرعون أطفالهم وأسر بنات يغيب أزواجهن في المهاجر البعيدة. ظاهرة أنتجت واقعاً معقداً ضاغطا للغاية أجج من أواره وحشة إطارهم الطبيعي المغفر. حالة محتشدة بالتحديات أدت لتبنيهم في تصميم بيوتهم لنظام الصحن أو الفناء الوسطي. الذي تحيط به عدد من غرف الدار تستوعب أطراف تلك الأسرة الممتدة. واقع موحش ساهمت سمات وملامح مؤثرة من عمارة بيوتهم في تخفيف أثاره. مستعينين في التعامل معه بعدة حيل. كانت رسومات وكتابات واجهات وأسطح بيوتهم واحدة من أهم ركائزها التي منحتها بصمة متميزة. ظاهرة حاولت هنا فك بعض طلاسمها لكنها تحتاج للمزيد من البحوث المعمقة متعددة الأبعاد.
اطلعت على الكثير مما كتب عن حالة هؤلاء النوبيين. أكثر ما لفت انتباهي انشغالهم بشكل لافت بظاهرة الأرواح الهائمة حولهم في عالمهم. ظاهرة ملموسة إلى حد ما عند كل المجتمعات والمجموعات لكن لها عندهم مكانة خاصة دور مؤثر للغاية. اهتمامي الكبير بها هنا نابع من تخصصي إذ كانت لها إسقاطات ملموسة جدا في موطنهم التاريخي القديم. من أعلي مستوياته الجغرافية والطبيعية مروراً بتخطيط قراهم انتهاءً بعمارة بيوتهم بتفاصيلها المدهشة. التي تعاملوا فيها مع تلك الأرواح المتخيلة بشقيها الخيرة والشريرة بحساسية وجدية فائقة للغاية. باعتبارها شريكاً أساسياً مكون مهم مؤثر في حياتهم هناك وهي ظاهرة تستحق البحث عن جزورها. سأركز هنا على الشواهد التي سطعت فيها هذه الظاهرة على مستويات موطنهم التاريخي. التي ظهر فيها إطارهم الطبيعي الكبير والصغير بكل مكوناته متفاعلا مع كافة مستويات قراهم. ملحمة كان من أهم أطرافها مكونها الطبيعي صحراء ممتدة تكاد بلا حدود. مكونة ثنائية بديعة مع النهر الخالد والحقول على ضفتيه التي كانت تزين أفقها باسقات النخل. ثنائية بديعة كانت تجسد إلى حد بعيد بالنسبة لهم نوعي تلك الأرواح، الخيرة والشريرة. أستثمر فيها هؤلاء الفلاحين بذكاء في معركة خرجوا منها منتصرين. مستثمرين في نظام تخطيط قراهم المسترسلة على طرف مزارعهم. في منظومة بديعة أكملها تخطيط قراهم المتفرد وعمارة بيوتهم بتصميمها المتميز وكتاباتها ورسوماتها المدهشة. لوحة رائعة تحتاج لبعض شروحات تفك طلاسمها.
كانت حال هؤلاء النوبيين في موطنهم القديم أشبه بحالة سنار الشاعر المبدع المفكر المرحوم الدكتور محمد عبد الحي. الذي كانت حسب رؤيته المتجددة لها متأرجحة بين الغابة والصحراء. كان واقع هؤلاء النوبيين هنا مشابه لها مع بعض الاختلاف. إذ كان يعيشون في خضم عالم يضم قطبين، النهر وضفافه المخضرة من جانب وصحراء قاحلة تكاد تكون بلا حدوده من جانب أخر. حالة يبدو أنهما كانا يمثلان لهم فيها مكمن قطبي عالم أرواحهم زمانئذ. الملائكة في الأول والشياطين في الثاني. مشهد كان بلا شك يسيطر تماماً على وجدانهم. الذي تعاملوا معه بحذاقة فائقة في حالة أشبه بذلك الذي يلعب بمهارة بالبيضة والحجر. لعبة وظفوا فيها تخطيط بيوت قراهم المصطفة في طرف حقولهم المتمددة على ضفة النهر. أكملوها بعمارة بيوتهم متميزة المكونات بواجهاتها المصطخبة بالكتابات والرسومات. التي كانت تقف شامخة متوجهة نحو النهر كخط دفاع أول. متأهبة لاستدراج استقبال ملائكة البحر، أي النهر، حسب مفاهيمهم الراسخة. واجهة كانت تنهض فيها بواباتها المتميزة بينما كانت جانبها الخلفي المواجه للصحراء خالياً تماماً من أي أبواب. صحراء كانوا يعتبرونها مكمن لكل أنواع الشرور. أعراب كاموا يهيمون في الصحراء في قديم الزمان يروعون قراهم من قبلهم وبعدهم أبن أوي والعقارب والثعابين. بذلك كانت عمارة بيوتهم في موطنهم القديم تتعامل بعبقرية فائقة مع هواجس عالم أرواحهم مزدوج الأقطاب.
كان لوجود النهر والحقول بباسقات نخلها هي تجسوا تحت أقدام بيوتهم وقع خاص مؤثر للغاية. الواضح أنه كان وفق رؤيتهم العميقة يحقق لهم كل مقومات الأمان النفسي. فقد كان النهر يفيض في موعده كل عام يخصب الأرض فتتدفق عليهم خيرا وفيراً. كان أيضاَ يحمل لهم عبر مواعينه النهرية رسائل الشوق و(الحوالات) المالية من أحبابهم أزواج أسرهم في المهاجر القريبة والبعيدة. فوق هذا وذاك يفيض عليهم بمياهه بوافر بركاته في كل مراحل حياتهم. منذ مراحل الطفولة الأولي مروراً بفترة الشباب الزاخرة. ألي أخر مرحلة يرحل فيها الواحد منهم عن هذه الدنيا الفانية ليستقر فيها في قبره تحت التراب. فالطفل الوليد يؤخذ لضفة النهر للتبرك بمياهه بعد أسبوع من مولده. يزوره لاحقاً هو الصبي مرة أحري في (سيرة) تنظم احتفالاً بختانه. ليكرر الزيارة بعد سنوات عديدة متأبطا عروسه في (سيرة) صاخبة متوجهة للنهر طلباً لبركاته. ليتكرر نفس المشهد مع عروس تأخر حملها تزور نفس ذاك النهر أملا هذه أن يفك (عارضها). لتظل مياهه حاضرة حتى بعد أن يفارق النوبي الحياة وتصعد روحه إلى باريها. إذ تظل وفقاً لتقاليدهم الموروثة بعضاً من مياهه المتجددة في صحن صغير تحرس راس قبره. تأبى أفرع شجر النخيل التي تزبن أفق حقولهم إلا أن تشارك في هذه الملحمة التراثية. إذ تشارك في أكثر من مرحلة مفصلية من حياتهم. حاضرة دوما بقوة في الأفراح والليالي الملاح يهزها العريس منتشيٍ مزهوا بنفسه في ليلة عرسه. في موقف أخر مختلفاً تماماً تابي أفرع النخيل إلا أن تتابع النوبي بعد أن يفارق هذه الدنيا الفانية يرقد في قبره تحت التراب. إذ تصر أن يكون حاضرة في هذ المشهد متمددة فوق القبر ترمق صحن مياه النهر عتد راسه.
جاءت عمارة بيوت هؤلاء النوبيين في موطنهم القديم مكملة لتخطيطها العام وتوجهها نحو النهر. سارت على نفس النهج مجتهدة في استدراج ملائكة البحر وتفادي شرور شياطين الصحراء بأنواعهم المتعددة. كان أيضاً كل همهم تفادي العين الحاسدة التي اجتهدوا ليسدو أمامها كل الطرق. تجلي ذلك في بيوتهم المصممة على شكل كتلة واحدة مطلة على الشارع. التي كانت واجهاتها تكاد تخلو من نوافذ بمستوي منخفض يسمح باستراق النظر داخلها. مما جعلها أشبه بقلاع حصينة في حالة معبرة عن روح أسرة الدار الممتدة. كظاهرة تعتبر الخطوة الأولي للتعامل مع تلك العين الحاسدة. التي تتعامل معها أيضاً واجهة البيت الخارجية المطلة على الشارع كخط دفاع أول مهم للغاية. إذ كانت تحتشد بالكتابات والرسومات الموجهة لتحقيق هذا الهدف الذي يشكل واحد من أهم هواجسهم. في حالة نادرة في منظومة عمارة قبائلنا المحلية كظاهرة تستحق الدراسة. كتابات ورسومات كانت تسلل تتوغل لحيطان فناء بيتهم الأوسط. كواحدة من مظاهر إبداعات بنات الدار التي تشيئ بمقدرات وإحساس هذه المجموعة القبلية المتقدم. لوحات كانت تفيض بملامح من الطبيعة من حولهم بكل مكوناتها. لكأن المقصود هنا أن تخفف من وحشة أهل الدار هم محاطون تماماً بحلقة غرف بيتهم ذو الصحن الوسطي. بعضهم زوجات شبان مغتربين يغمرهم الحنين لأزواج بعيدين عنهم في المهاجر البعيدة.
بداية ستينات القرن الماضي حملت معها أخبار مذلذلة مدمرة لذلك الشريط النيلي في أقصي شمال بلادنا. موطن أهلنا الفلاحين النوبيين الطيبين هناك معهم ميناء وادي حلفا النهري واحد من أرقي مدن السودان في ذلك الزمان. من قبل وبعده أثار فائقة القيمة لواحدة من أقدم وأعظم الحضارات في العالم. منظومة حضارية وتراثية راسخة الأقدام كانت ستغرقها تماماً بحيرة سد. السد العالي واحد من أهم مشاريع الجارة مصر الذي كان سيشيد على نهر النيل جنوب مدينة أسوان. مشروع طموح كانت نتيجته إغراق ذلك الميناء النهري وعدد كبير من قري النوبيين المصطفة على ضفاف النهر. كارثة كانت التعامل معها يعني ترحيل أهل تلك القري والبحث لهم عن موطن جديد. مما يعني للأسف الشديد محو ذلك الإرث من عمارة طينية بالغة التميز. خطوة كانت بداية مأساة مذلذلة توثق في مراحلها وتفاصيلها المتعددة واحدة من أبشع تجارب السياسات السكانية الرسمية. مأساة مرشحة للتكرار مرات ومرات. نتيجة لتمسك تلك الجهات بسياساتها الخرقاء المؤسسة على مفاهيم علمانية صرفه لا زالت تتصدر المشهد. وضع أساسها المستعمر البريطاني قبل أن يغادر بلادنا في منتصف خمسينات القرن الماضي. أسس لها في أول قسم عمارة في بلادنا بجامعة الخرطوم. الذي صارت مفاهيمه بعد ذلك أشبه بمسمار جحا الشهير. ليحمل المشعل من بعده الأساتذة الوطنيين ليسلموها لاحقاً لعدة أجيال لا زلت تحمل لواء ذلك التوجه علماني الجزور غربي المنشأ. بالرغم أن الغرب الذي أتي به تخلي عنه لاحقاً ساعياً للتأسيس لتوجهات أكبر إنسانية. خطل هذا التوجه يتجلى في أبشع صوره في تجربة توطين وإسكان هؤلاء النوبيين كما سيتضح لنا هنا.
لم تعبأ الجهات الرسمية المعنية بأمر توطين واسكان هؤلاء النوبيين بدراسة حالتهم بشكل معمق يغوص في أبعاد جوانبهم الإنسانية. تجاهلت تماما تاريخهم وإرثهم التليد بكل تفاصيله. تجلي ذلك بوضوح في كل مراحل ذلك المشروع الضخم فكانت النتيجة كارثية للغاية. رفضت ترحيلهم لموقع قريب من أبناء عمومتهم على ضفاف النهر فذهبت بهم بعيداً عنه لمنطقة طرفية في شرق السودان. أرادت أن تستثمر فيها في مقدراتهم في مجال الزراعة في أخصب منطقة في بلادنا. باعدت فيها بين قراهم التي كانت مسترسلة كحبات العقد في موطنهم التاريخي. وزعتها متباعدة لتتوافق مع نظام رعي مشروعهم الزراعي. فزعزعت علاقات تاريخية التي كانت تربط بينهم لدهور متلاحقة. فعلت نفس الشي مع تخطيط القري الذي طبقت فيه نظمها السائدة التي لا تمت بصلة لتخطيط قراهم في أرض النوبة. بدون أي محاولة لمغازلتها على نحو ما. أتبعوا نفس النهج مع تصميم البيوت التي جاءت على طرف نقيض من نظام الصحن الوسطي المحاط بغرف الدار. فبيوت منطقة التوطين عبارة عن كتلة من الغرف محاطة بفناءات الدار. افتقدوا فيها الصحن الوسطي الذي كان يلملم شمل أسر الدار الممتدة فبغمرهم بفيض من الحميمية المترفة. افتقدوا أيضاً في تلك البيوت خامتهم البنائية المحببة ذلك الطين المجلوب من شواطئ النهر. الذي كانوا يشكلونه كما يشاءون يديرون معه حوارات فيتفجر رسومات وكتابات تدخل على أنفسهم السكينة والبهجة. افتقدوها في خامة بيوت التهجير، مكعبات اسمنتية رمادية باردة المحيا فائقة الصلابة عصية على التشكيل. لتكمل مع باقي مكونات وتفاصيل منطقة التهجير صورة كئيب زادت من مرارة مفارقتهم لوطنهم الحبيب ونيله.
واحدة من المجموعات الثلاثة التي اخترتها هي من أهم مكونات قبيلة البجا العريقة التي تتوزع في الجزء الشمالي الشرقي من السودان. مدخلي لحالتها اضطلاع متابعة لصيقة عميقة لكافة شئونها. كشفت لي جوانب خفية بالغة الأهمية عن تراث مفرط الثراء. ثمرة تراكمات تاريخ طويل بدايته ضاربة في القدم تمدد عبر عدد من العصور حتى زماننا الحالي. تفاعلوا فيه من خلالها مع عدد من المجموعات الغازية والمتعايشة متفاعلة معهم بالطرق السلمية. ليضعوا أجمعين بصمتهم البائنة على حالهم الأن. الذي يجسده تراث هو نتيجة تراكمات تاريخ ضارب في القدم رسخ في وجدانهم أحاسيس عميقة. انعكست على الكثير من جوانب حياتهم كانت عمارتهم السكنية المتنقلة واحدة من أهمها. تداعيات تاريخية كان من أهم أسبابها ثراء إقليمهم بالمعادن النفيسة وموارد طبيعية أخري. اجتذبت منذ زمان بعيد شعوباً ومجموعات عديدة. نهب بعضها استنزف خيرات موطنهم مما عمق في نفوسهم شكوك ونفور متجذر من الغرباء. زاد من تلك المشاعر والضغوطات نظام اقتصادي رعوي يعتمد على بيئة قاحلة شبه صحراوية. مواردها الطبيعية الشحيحة أفرزت واقع ضاغط جعلهم في تنافس محتدم مع غيرهم من المجموعات الأخرى. تحديات جسيمة تفاعلوا معها بنهج تربوي صارم يهدف لإعداد صغارهم من الصبية ليكونوا رجالا أشاوس. فلسفة تربوية أريبة ألقت بظلالها الكثيفة على واقع مستوطناتهم المتنقلة من أعلي مستوياتها الي أصغرها. مستصحبة كافة جوانب تراثهم وثقافتهم المادية لترسم معاً منظومة متسقة متكاملة مدهشة للغاية. مؤسسة على كافة جوانب تراثهم وثقافتهم اللامادية لترسم معاً لوحة مبهرة يعجز علمائنا الحاليين للوصول إلي أدني درجاتها مهما تفلسفوا.
لوحة خرافية الملامح والسمات سأحاول ملامسة بعضا منها متنقلا بين جوانبها وأطيافها. المتعددة. منقباً في عوالمها اللامادية الشفاهية المحتشدة بالمشاعر والاحاسيس لأنتقل للمادية الموغلة في لجج الملموس منها. منظومة متباينة الصفات والسمات تجمع تلملم بين أطرافها تراث وثقافة هذه المجموعة. تبرق في فضاءات تراثهم اللامادي لتسطع تنير الطريق لمكوناته المادية التي تصنع جانب مهم من واقعهم وحياتهم. لوحة تشكل العمارة فيها مصطحبة معها ما جاورها مكمل لها من مكونات مادية مشابه. لترسم لوحة مدهشة للغاية تمثل جزءً مهماً من واقعهم ومعنى وجودهم. نحاول أن ننظر إليها نتأملها من خلال جوانب بالغة الأهمية يرتكز عليها ذلك الواقع والوجود. متداخلة بشكل لا يمكن معه النظر لكل واحد منها بشكل منفرد بمعزل عن الباقيات. أتأمل في البدء نظرتهم للغرباء بشكل عام كظاهرة عمقها تاريخهم الطويل في ديارهم. تركت أثارها العميقة المؤثرة على جوانب أخري لا تقل أهمية ذات صلة قوية بها. من أهمها نظرتهم المتفردة للمرأة التي تكتسب درجة عالية من القدسية لا يدركها إلا من قرأ تراثهم بعمق وروية. خلفية مهمة عَقد من شأنها نمط حياتهم المؤسس على ترحال مستمر. فرضه عليهم نظام اقتصادهم القائم على تربية الأنعام في إقليم شبه صحراويي شحيح في موارده الطبيعية. واقع يجعل وضع نسائهم حرج للغاية في مستوطناتهم المتنقلة. التي يغيب عنها الرجال أغلب الأوقات بعيدا عنها بحثا عن ماء و كلأ نادر الوجود لأنعامهم الهائمة في الصحراء. أوضاع بالغة التعقيد تعاملوا معها بحصافة فائقة من خلال مكونات تراثهم الشفاهي. الذي ينداح يفيض بسخاء ليصنع المادي منها فيرسم لوحة مدهشة للغاية. تتفاعل مع بعضها البعض في تكامل وتناغم يدل على عبقرية مذهلة.
تكامل وتناغم تلتقي فيه مكونات ثقافتهم الشفاهية اللامادية والمادية معاً لترسم صورة تجتهد لتحقيق أهم أهداف المجموعة. من أهمها فلسفتهم التربوية التي تأسس للتفرقة الواضحة بين الجنسين منذ لحظة ميلاد الواحد منها. يتجلى ذلك في تعاملهم مع الخلاص الذي نشير إليه بالتبيعة هو ذلك الكيس الذي يحمل الجنين في بطن أمه. الذي يتم التخلص منه بدفنه بعد ميلاده بطريقة مختلفة في حالتي المولود الذكر والأنثى. ففي الحالة الأولي يدفن في موقع بعيداً جداً عن منطقة المحيم المتنقل. فيما يحرصون على دفن خلاص الأنثى داخل خيمة والديها. ثمة فرق واضح للغاية بين هاتين الحالتين له مغزاه الرمزي بالغ الأهمية. إذ أنه يؤسس لمنهج صارم يجب أن يتبعه كلا الطرفين في مقبل سنوات حياتهم. فالشابة والمرأة لاحقاً يجب طوال حياتها أن تلزم بقدر الإمكان خيمتها لا تبارحها إلا للضرورة القصوى. مصير الذكور طوال مراحل حياتهم منذ فترة الطفولة على طرف نقيض من تلك الحالة. حيث يتنقل الواحد منهم منذ طفولته الباكرة حتى مراحل لاحقة من مكان لأخر مع مجموعة من أقرانه الذكور في مواقع بعيدة من خيمة أسرة والديه. لتنتهي بالشباب منهم في مجموعة من الأماكن البسيطة منتشرة بعيدا في أطراف مخيم مجموعتهم المتنقلة. مناطق خلوية الطابع شبيه بتلك التي دفن فيها الخلاص الذي حملهم هم في بطن أمهاتهم.
التعامل بشكل مختلف للغاية بين رجال ونساء تلك المجموعة يظهر بجلاء في أهم سمات زيهم القبلي. اختلاف بائن يبدو موضوعياً مقنعاً للغاية. فزي نساءهم الذي سنشير إليه بشي من التفصيل لاحقاً يتسم بألوان صارخة فاقعة للغاية لافتة للانتباه مثل الأصفر والأحمر والبرتقالي. بشكل يجعل من السهولة جداً متابعة حركتهن المحدودة في المنطقة المحيطة بالمخيم. الواضح أن اختيار تلك الألوان المقصود منه متابعتهن هناك والذهاب لنجدتهن عندما تتطاول فترة غيابها من المخيم. في حالات تستدعي عادة التدخل لحمايتهن تأمين موقفهن إذا لزم الأمر. ألوان زي الرجال مختلفة تماماً عن حالة نساءهم. إذ لا مجال هنا نتيجة للظروف التي يعيشونها والاخطار التي تهددهم لاختيار ألوان ملابس لافتة للنظر تسترعي الانتباه. فهم هنا في أمس الحاجة لتلك للتي تساعدهم على التخفي هم يجوبون الصحاري والغفار. فسروالهم الطويل من خامة الدمورية ما شابهها من قماش بلونه الابيض المائل (للبيج) هو الأنسب هنا. الذي يجعل من الصعوبة ملاحظة تحركاتهم في إطارهم الصحراوي الطبيعي. منظومة زي تكتمل ب (السديري) المفتوح الذي يغطي الجزء الأعلى من زي الرجال. الذي يلتزمون فيه بصرامة بمنظومة ألوان يصعب معها ملاحظة تحركاتهم هناك. اللون الأسود ما شابهه مثل البني والأزرق الغامق. منظومة لونية تتكامل مع لون (السروال) تساعد على تخفي صبيانهم ورجالهم. الذين يجوبون الصحاري والغفار يحيط يتربص بهم الأعادي من كل نوع.
عملية التخفي التي يساهم فيها زي الرجال القبلي تتسق تتكامل معها عمارة خيامهم مستثمرة بذكاء لافت في شكلها العام ولون غلافها. المنسوج من زعف نخيل شجرة الدوم في شكل أطوال شبيه بالبروش. الذي يجعلها لونها (البيجي) تكاد تختفي في خلفيتها الصحراوية بلونها المشابه. عملية تخفي يساهم فيها بشكل مقدر شكل الخيمة التي تبدو من بعيد كأنها واحد من الكثبان الصغيرة تتهادي في إطارها الطبيعي العام من حولها. الواضح أن اختيار نوعية وخامة غلافها تم بعناية فائقة إذ اعتبرنا أن هناك خيارات أخري متاحة. مثل وبر أو صوف أغنامهم وجمالهم الذي يمكن أن ينسجوا منه أطوال من السجاد لغطاء الخيمة كبديل للبروش. خيار كان اللجوء إليه سيتقاطع مع قيم مهمة لها علاقة بهذه الخيمة. صارمة للغاية مؤسسة على توفير أعلي درجات الخصوصية لنساء الدار داخلها. تقتضي بالضرورة تقليل فتحاتها بقدر الإمكان الذي سيكون خصماً على مستوي التهوية. ضوابط صارمة تجعل خيار أطوال البروش هو الأنسب مقارنة باستخدام السجاد. ٍالتي تتميز بلونها الفاتح وسطحها اللامع الذي يعكس أشعة الشمس. فيقلل من امتصاص حرارة مما يجعل الأجواء داخل الخيمة محتملة. استخدامها كبديل للسجاد الصوفي الذي يوفر خامته قطيع صاحب الخيمة له معاني ومغازي بالغة الأهمية. علماً بأن استخدام السجاد عند بعض القبائل يعتبر من مؤشرات ثراء صاحب الخيمة. بشكل مختلف تماماً عن خيار البروش الذي يحمل مضامين أخري لا تقل أهمية. فالبروش باستخداماتها المتنوعة ارتبطت في الأذهان دائماً بالزهد الذي يعتبر من أهم صفات وشيم هذه القبيلة. عليه فإن استخدامها هنا يحمل معاني رمزية بالغة الأهمية بذلك يكون قد حقق هنا العديد من الأهداف المتعددة النبيلة.
بالرغم من بساطة تواضع مظهر خيمة هذه المجموعة البجاوية إلا أنها تقدم ملحمة تراثية مدهشة للغاية. يتنزل فيها اللامادي من مكوناتها ليعانق المادي في حوار متصل ومناجاة مدهشة. مثلا تكمن عبقريتها في توظيف العناصر الإنشائية. عصي غليظة راسية تحمل غلاف خيمة المكون من أطوال برش خفيفة الوزن لا تحتاج أصلاً لأعمدة لتحملها. تصطف مزدحمة كأن القصد منها أن تحد من تواجد الناس داخل الخيمة واللبيب منهم بالإشارة يفهم. تصطف مكونة محورين أساسيين متقاطعين لهما مغزى عميق معبر عن أهم قيمهم المتجذرة. أعظم ما في خيمتهم الحوار المناجاة بين مكونات تراثهم المادي متعددة الأنواع. فمدخلها منخفض للغاية كأن المقصود منه أن ينفر الناس من الدخول إليها، اللبيب هنا أيضاً بالإشارة يفهم. يتحاور معه يناجيه السرير القابع في الجزء الداخلي للخيمة. مرتفع على غير العادة بشكل يجعل من المستحيل استراق النظر من مدخل الخيمة لعمقها الداخلي. حوار مدهش من نوع أخر بين مكونات تراثهم المادي المعمارية يساهم فيها تصميم الأثاث. تتجلي العبقرية أيضاَ عندما نتأمل الحوار بين مكونات مادية أخري، هذه المرة بين العمارة وزيي المراءة. فخيمتهم محدودة الفتحات أطوال البرش التي تغطيها مثبتة بإحكام شديد علي هيكلها بطريقة لا تسمح بالتحكم في فتحاتها. غلاف يتحاور بشكل مدهش مع زي نسائهم الذي يغطيهن بدرجة من المرونة محسوبة بدقة فائقة. قطعة قماش واحدة طويلة يلُف نصفها بإحكام شديد ليغطي الجزء الأسفل من الجسم. بشكل يسمح للنصف الباقي بتغطية الجزء الأعلى بدرجة عالية من المرونة. يغطيها تماماً إذا ذهبت لسوق المدينة بحيث لا تكشف إلا عين واحد تتحسس بها طريقها هناك. في صورة مغايرة تماماً تكشف عن أغلب أجزاه عندما تكون في خدرها ذاك في عمق الخيمة فوق مرقدها هناك. نحن هنا أمام حوار مدهش للغاية بين مكونات تراثهم المادي توثق له أجزاء وارجاء خيمتهم عبقرية التصميم.
قبل بضع عقود من الزمان استوعبت عدد من أسر تلك المجموعة البجاوية في حي سكني في عاصمة إقليمهم الشرقي. أعدته لهم الجهات الرسمية بناءً على مخططات مكررة وفق رؤية محدودة الأفق طبقت في كل أنحاء السودان. بدون أن تهتم أو تبالي بتنوع خلفيات أهل بلادنا وقبائله المتعددة. خطوة لم تستسلم لها تلك المجموعة البجاوية تماماً هي تستخدم الحي وفق ما كان مخطط له. الذي تعاملوا معه في خطوات مهمة عكس ما هناك تسعي له تلك الجهات الرسمية. ساروا فيها على هدي ثوابت ومؤشرات تراثهم الراسخ المؤسس على قيم نبيلة. على سبيل المثال في خطوة تعتبر مخالفة واضحة لقوانينهم شيدوا (عشة) صغيرة في طرف شارع في مقدمة الحي. صارت شبه مكتب إداري اتخذه واحد من أعيان الحي وحكمائه للتعامل مع كل من له مشكلة مع من هم من خارج إطاره. خدمة مهمة يحتاجها عدد مقدر من سكان الحي. فصارت تلك (العشة) أشبه بشجرة الضيوف التي كانت تتصدر مستوطناتهم المتنقلة كنقطة تماس بينه وبين عالمهم الخارجي. إجراءات أخري في ساحات الحي العامة تشيئ في تعاملهم معها بتأثير إرثهم وقيمهم النبيلة. في خطوات تعتبر مخالفة للوائح البناء نصبوا فيها أماكن عامة لمؤسسات مجتمعية مؤثرة للغاية. مبني بسيط صغير يشار له بالخلوة يستخدم لاستيعاب أطفال الحي بعيداً من أمهاتهم تمشياً مع سياستهم التربوية. ليس بعيدا عنها في تلك الساحة ينهض مبني صغير بسيط يستخدم كمضيفة لكل أهل الحي. يُستقبل فيه ضيوفهم ويكرمون بعيداً عن منازل أسر من يقصدونهم فيه. كخطوة مهمة للغاية تشيئ بعظيم اهتمامهم بتوفير أعلي درجات الخصوصية لنساء الأسر في منازلهم. كلها خطوات في تلك الساحات العامة تعتبر مخالفة للوائح الرسمية لكنها متوافقة مع قيمهم النبيلة.
هذا ما كان عن أمر الفضاءات العامة في حي هذه المجموعة البجاوية تلك الساحات وسوقها المحلي. الفضاء الخاص المخصص للقطع السكنية أمره أعجب يوثق لحالة متفردة في هذا الحي. التي لم يستسلموا فيها للأعراف المعهودة في المجتمعات الحضرية مستعصمين بثوابت قيمهم المتوارثة الراسخة. التي تمنح المرأة درجة عالية من القدسية جعلت خصوصية الأسرة خط أحمر لا يمكن تجاوزه. واحد من أهم مرتكزات قيمهم جعلت تجربة حيهم هنا على المحك. حالة كانت تؤمن فيها خصوصية الأسر في فضاء مستوطناتهم المتنقلة الرحيب بتباعد بيوتها أو خيامها. وضع حرج هنا تعاملوا معه بصرامة عبر أكثر من خطوة حاسمة. من أهمها عدم استيعاب أكثر من أسرة واحدة داخل القطعة السكنية التي يتم تأمين خصوصيتها بحيطان سور مرتفع للغاية. أجراء يتم خصماً على الميزانية المخصصة لبناء منزل الأسرة. كانت من نتائجه في حالات عديدة سور طيني مرتفع يحيط بخيمة بسيطة من البروش أقيمت بما تبقي من ميزانية تشييد البيت. وضع فاقم منه منحهم مساحات أكثر مما يحتاجونه للقطع السكنية. كان من الإمكان الاقتطاع من مساحتها منحهم مقابلها مزيداً منها للأماكن العامة مثل الساحات التي تتوسط البيوت. منحها بسخاء هنا مبرر للغاية لأنها تستوعب أماكن إقامة أطفال الحي ومضيفته التي تستقبل الضيوف بعيداً عن بيوت الأسر. استثمار الجهات الرسمية في تطويرها بالتشجير كان سيكون له مردود ممتاز لصالح مجتمعهم. على ذكر الأماكن العامة هنا الاهتمام بمكون المقاهي في مركز الحي كان سيكون له مردود طيب للغاية. التي أشتهر رجال هذه القبيلة بارتيادهم لها الذي يرتبط بتعاطيهم للقهوة بشكل مستمر. نهج يمكن تفسيره برغبتهم في الابتعاد عن منطقة بيوت الأسر لمنحهم مزيدا من الخصوصية هناك.
ننتقل هذه المرة لنستعرض حالة مجموعة قبيلة الرشايدة التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية قبل حوالي القرنين من الزمان. لتستقر جنباً لجنب مع تلك المجموعة البجاوية. متبعة نفس حياة الترحال التي يفرضها عليهم واقع حياتهم بكل ما فيها من تحديات. تلك الحقبة المتطاولة من الزمان بكل إسقاطاتها لم تفلح كثيراً في جعل الرشايدة يتخلون عن تراثهم المتوارث بكل تفاصيله. ظاهرة سنستعرض هنا بعضاً من جوانبها المهمة مركزين بالتحديد على تماهي العمارة مع تراثهم وثقافتهم اللامادية. من خلال رؤية شاملة معمقة نتأملها في إطارها العريض هي تلامس مكونات أخري ذات صلة لصيقة بها. بداءً بمواقع مستوطناتهم المتنقلة مروراً بتخطيط مكوناتها نزولاً لمستوي أزياء نسائهم التقليدية. ظواهر في مجملها جديرة بالتأمل نسبة لعلاقتها العضوية بجوانب أساسية من مكونات تراثهم وثقافتهم العريقة المتجذرة. التي لم يفلح الزمن والبعد عن موطن الجدود في جعلهم يتخلون عن أساسياتها وقيمهم التي شكلت أهم مرتكزات تراثهم. من أهمها كرمهم الفياض المؤسس على قناعات راسخة ذات جذور دينية إسلامية. فالرشايدة ينظرون إلى كل من يمر قرب مستوطناتهم المرتحلة بأنه ضيف الله. الذي تتنافس خيام أسرها في استضافته وفق قواعد صارمة يلتزم بها الجميع. شرف لا تستثني منه الأسر التي غاب ربها في سفر ذهب به بعيداً عن المستوطنة. ظاهرة ذات جذور دينية عميقة تفرز تداعيات وتحديات تتعامل معها ثقافة حياتهم المرتحلة بذكاء وفطنة فائقة. من خلال قواعد صارمة تتداعي على كل مستويات مستوطناتهم المتنقلة. من توزيع خيام أسرها مروراً بتصميمها الفريد انتهاءً بأزياء نسائهم التقليدية.
يتجلى شوق الرشايدة لاصطياد ضيوف الله كما يشيرون لهم في أكثر من مظهر من مظاهر مستوطناتهم المتنقلة. الذي تتنافس فيه أسرها للظفر بشرف إغراقهم بكرمهم الفياض. تتجلي بداءً باختيارهم لمواقعها بعناية فائقة تمكنهم من اصطيادهم. مروراً بخيامهم اللافتة للانتباه بغطائها المخطط الذي لا يمكن أن تخطئه عين. انتهاءً بواجهتها المرحبة المفتوحة طوال فصول السنة التي تمكنهم من مسح الأفق مرحبة بالجميع أملاً في اصطياد بعضهم. في حالة تتنافس فيها الأسر في خيامهم لاستضافة ضيف الله. منافسة مفتوحة لا تستثني منها أسرة غاب ربها في سفر حمله بعيداً عن أسرته. حالة بالغة التعقيد يزيد من تعقيدها ظروف تلك المجموعات الرعوية التي تواجه تحديات مناخها شبه الصحراوي. ظروف حرجة ضاغطة يغيب فيها الشباب والرجال بعيداً عنها بأنعامهم طوال ساعات النهار بحثاً عن موارد كلاء وماء شحيحة. تاركين ورائهم أسر قوامها النساء. حالة حرجة بالغة التعقيد يزيد من تأزمها جانب مهم في تراثهم وثقافتهم. يتميزون به عن مجموعة القبائل السودانية المشابه لهم المسلمة ذات الجذور العربية. إذ أن للمراءة عندهم وضع مكانة مختلفة تماماً عنهم. وضع متقدم في المجتمع والاسرة يضعهم دائماً في الكثير من الحالات في الواجهة والمقدمة. واحدة منها أشرت إليها من قبل هي منافستها لأسر المستوطنة في حالة غياب الزوج ورب الأسرة. حالة في غاية الحرج تعالجها عدد من مكونات تراثهم وثقافتهم المحلية بحنكة فائقة. تتداعي منسابة من ثنايا مكوناها اللامادية لتضع بصمتها البائنة على المادية منها بكافة مكوناتها.
في هذا السياق نحتاج لإلقاء مزيدا من الضوء على وضع المرأة عندهم. مبتدئين بمظهرها العام باعتباره يشكل جزءً مهماً من وضعها المتقدم في المجتمع. فهي تتميز بجمال لافت في حالة لا تعتبر بشكل عام استثنائية. إذ أن جل نساء قبائلنا على قدر عالٍ من الجمال أن اختلفت المعايير والسمات. جمال في هذه الحالة مدعم بمكونات ومكملات زيهم وزينتهم التقليدية بالغة التميز. زيي إلى حد ما أشبه بالحجاب الذي ترتديه عامة نسائنا. إلا أنه يتمرد عليه في أكثر من جزئية بعضها يتعارض مع أهم مسوغاته. على سبيل المثال، نجد في أغلب حالات من يرتدينه يتركن خصلات من شعرهن الناعم تتدلي تنسدل علي الجبين. في خطوة تتعارض بشكل واضح مع فكرة الحجاب وفق ما يتحجج به من يتمسكن به. لدي إحساس قوي يمكن أن يبرر هذه الظاهرة باعتبار أن تلك الخصلات تعتبر من أهم دلالات أصولهم العربية النقية. التمرد الواضح الصريح في حجابهن هو الاصطخاب اللوني المبهر. الذي يذهب به بعيداً عن صورة الحجاب المعهود المتعارف عندنا الذي يتميز بتحفظه ورزانته اللونية. اصطخاب يؤجج من أواره زخم من الحلي وقطع الزينة ما أنزل بها من سلطان إلا سلطان تراثهم القبلي الذي اكتشفت العديد من أسراره الخفية. أكثر ما لفت نظري في هذا السياق أن الزوج هو الأكثر حرصاً على ظهور زوجته دائماً في كامل زيها وزينتها. باعتبارها في العديد من الحالات تمثل أسرتها الصغيرة. بالذات في حالة غياب زوجها التي يجب أن تتصدي لها بثقة تليق بعظمة المهام الموكلة لها. أكثر ما يهمنا في هذا السياق بشكل عام هو جانب محدد من زيها له علاقة مباشرة متناغمة متكاملة مع تصميم خيمتهم.
يزداد الأمر تعقيداً في نهارات مستوطنات الرشايدة المتطاولة عندما يغيب عنها الشبان والرجال. ينفر بعضهم بقطيعها طلباً لموارد كلاء وماء شحيحة. بعضهم الأخر في أسواق المدينة يسعي لتسويقها قلة منهم خارج حدود الوطن في أرض الجدود يبحث عن موارد رزق فيها. تاركين نساء وشابات المستوطنة يواجهون واقعها المعاش في نهارات يغيب فيها رجال المستوطنة. التي هُيئت فيها كل السبل كجزء أصيل من قيمهم النبيلة لاصطياد العابرين ليغمروهم بكرمهم الفياض. مواقف تتنافس فيها أسرها للظفر بهم في مشهد تتصدي له نسائهم بمظهرهن المتألق المشرف ذاك. موقف بالغ التعقيد يتعامل معه تراثهم العريق في حصافة بائنة. بتقارب تلاصق الخيام وواجهاتها المفتوحة على مصراعيها. تقف عند مدخلها نسائهم متأهبات يرفلن في تلك لنسخة المتفردة المبتكرة من الحجاب. رصدت في هذا السياق حالات خيام أسر كان يغيب فيها الزوج لمدة متطاولة. تكون عبارة عن عرش سابح في الفضاء تكاد جنباته أن تختفي. مشهد متكامل توثق له منظومة خيام أسر الأسرة الممتدة المتلاصقة. بشكلها المفتوح المتناغم بحصافة مع تفاصيل تلك النسخة المتميزة المتفردة من حجاب نسائهم. تفاصيل تغطي الأيدي وباقي جسمها بدون أن تعيق حركتها. مما يمكنها من القيام بكافة واجبات الضيافة علي أكمل وجه بشكل مشرف لأسرتها. بمتابعة لصيقة ومرأي من أسر أقرب الأقربين إليها في الخيام الملاصقة والمجاورة لخيمتها. فتجلب بذلك الشرف لأسرة خيمتها حسب العرف المتبع بناءً على قيمهم بدون اجتراح يجلب لها ولهم الحرج.
ثمة عامل في غاية الأهمية يزيد من تعقيد موقف الزوجة هي تتصدي للقيام بمواجهة مثل تلك التحديات. هي ظاهرة زواج بناتهن في سن مبكرة للغاية مما يضعهن في مواقف معقدة ناتجة عن إلزامهن بضوابط قبلية صارمة. تحتم عليهن استقبال ضيوف الأسرة في خيمتها حتى في حالة غياب زوجها حسب العرف المتبع. مواقف حرجة للغاية يتعامل معها تراث هذه القبيلة على كافة المستويات بشكل مدهش للغاية. بداء باصطفاف خيام مستوطناتهم المتنقلة مروراً بتصميم تلك الخيام انتهاءً بتفاصيل زي نسائهم. في هذا السياق من المهم ـنشير لان تعدد الزوجات شائع جداً بين رجال هذه القبيلة. اللائي يقمن مع أزواجهن معاً في نفس المستوطنة التي تخصص فيها لكل واحدة منها خيمة. تصطف فيها بجوار بعضها البعض متلاصقة بحيث تشترك المتجاورة منها في أوتادها. يضاف لهذا الصف من الخيام خيمة الأبنة حديثة الزواج. التي تنصب ملاصقة لخيمة والديها خلال المرحلة الأولي من فترة زواجها. ترتيبات في منتهي الحكمة تمكنها من تجاوز تلك المرحلة الحساسة من بداية حياتها الزوجية. مهنيا لها الظروف لكي تقوم بكل واجبات بيتها الجديد بكل ما فيها من تحديات. منها مهام القيام بكافة واجبات الضيافة لمطلوبة منها خلال فترة غياب زوجها. ترتيبات تحدث بمتابعة لصيقة من والدتها و اسر أهلها الأقربين في الخيام المجاورة لخيمتها. تساهم فيها بشكل فعال تقاليد وموجهات تراثهم وثقافتهم المادية الموروثة أشرت إليها من قبل.
أتاحت لي العقود الأخيرة من القرن الماضي فرصة ذهبية للتأمل التعمق أكثر في حالة مجموعة الرشايدة القبلية. أنا أراقبهم هذه المرة في وضع مختلف بعيداً عن حياتهم التقليدية في مستوطناتهم أو فرقانهم المتنقلة. في حالة حضرية في واحدة من عواصمهم إقليمهم في شرق السودان. كانوا فيها تحت رحمة من لا يهتم يحترم يراعي معايير تراثهم وثقافة قبيلتهم. تمثلت في تدخل على عدة مستويات من جهات رسمية خططت لهم حيهم السكني وفق معاييرها الخاصة المقدسة الصارمة. قوانين مؤسسة على قناعات لا تراعي التباين الثقافو- مجتمعي بين مجموعاتنا السودانية التقليدية. التي ضربوا به عرض الحائط. المدهش هنا أن الحائط المشار إليه هنا مجازاً كان في الواقع في قلب المشهد. الذي تلاعب به هؤلاء الرشايدة غير عابئين بقوانين ولوائح الجهات الرسمية. في أكثر من موقع من مواقع حيهم الذي خططته تلك الجهات في العاصمة الإقليمية. حالات توثق بوضوح لما تعتبره هي تجاوزات واضحة لموجهاتهم المقدسة. رصدتها وثقتها كاميراتي خلال عدة زيارات ميدانية. قبل الإشارة إليها فليكن مدخلنا لها ظاهرة مهمة في حيهم لها علاقة بجانب أخر بعيداً عن الحيطان. لكنه ليس ببعيد عنها إذ أن له صلة بها عل نحو ما. إذ فيه مؤشر مهم واضح لتجاهل سياسات تخطيط المناطق السكنية للتباين بين مجموعاتنا التقليدية. أمر يتضح بجلاء في جانب حيوي جداَ منها هو توزيع الفضاء والمساحة للمكونات العامة والخاصة. تحديداُ للساحات العامة والقطع السكنية. أمر في غاية الأهمية نسبة لعلاقته العضوية المؤثرة بقيم مثل تلك المجموعات التقليدية. مثل مجموعة الرشايدة هنا الذين تم إسكانهم في ذلك الحي في عاصمة إقليمهم الشرقي.
فلنلقي نظرة على تجربة حي تلك المجموعة من الرشايدة مبتدئين بتوزيع الفضاء في أرجائه تحديداً المخصصة للساحات العامة. الذي منحته لهم الجهات الرسمية بسخاء غير مبرر. نتأمله على خلفية قيمهم المتوارثة الراسخة التي تجعل حياتهم تتمحور في إطار بيت الأسرة. ظاهرة تشيئ لها بوضوح حياتهم في تلك الأحياء التي تخلو ساحاتها العامة من أي أماكن مجتمعية. الطريف في الأمر أن عدد من الأسر التي لم تخصص لها قطع سكنية لم تجد أي حرج في نصب خيمتها في تلك الساحات. يعيشون فيها حياتهم العادية بدون حيطان تحيط بمنطقة منزلهم أي خيمتهم هنا في وضع شبيه بحالة مستوطناتهم المتنقلة. الواضح أنهم يتعاملون معه بدون حرج لان نسائهم في مثل هذه الحالات الحضرية يلتزمون بنفس زيهم الموروث. هناك ظاهرة أخري جديرة بالانتباه والاهتمام توثق لها مكونات وأماكن عامة أخري في ذلك الحي. في الجزء المخصص لمرافق الخدمات العامة تحديدا التي شيدت خصصت كمطاعم ومقاهي. وجدتها مغلقة إذ لا معني لوجودها هنا بالنسبة لهم لعدم اتساقها مع قيمهم ومفاهيمهم الراسخة. التي تعتبر بيت الأسرة المكان الوحيد لاستقبال استضافة وإكرام ضيوفها شرف تتنافس لنيله مع باقي الأسر. ظاهرة توضح أهدار مساحات قيمة وموارد مالية لمرافق لا معني لوجودها. ظاهرة أخري استرعت انتباهي لها علاقة بمرافق ذلك الحي العامة هي المتاجر الصغيرة أو (الدكاكين) الموزعة فيه. التي تعتبر عادة في أحياء المدينة منطقة جاذبة يتحلق حولها السكان. لدهشتي الشديدة وجدت بعض أسر هذه القبيلة اتخذت من مبني تلك الدكاكين مقر لها. تعيش فيه حياتها بشكل طبيعي تماماً كما كانوا يفعلون في مستوطناتهم المتنقلة.
لا يمكن أن نفهم ضرب تلك المجموعة الرشايدية عرض الحائط بقوانين ولوائح مباني الجهات الرسمية بشكل مجازي. لأنهم قد قاموا بذلك فعلاً على أرض الواقع بشتى الطرق في حيهم هناك. في تجاوزات كانت الحيطان بأنواعها المتعددة في قلب الحدث موثقة لعدة حالات تجاهل لتلك القوانين واللوائح. فعلوا ذلك انصياعا احتراماً لقوانين وموجهات تراثهم النابعة من معاني وجودهم على الأرض. بداءً بحائط البيت الأمامي المطل على الشارع. الذي يكاد يتلاشني في خطوة تدل على رغبة عارمة في الانفتاح على عالمهم الخارجي والتواصل معه. في حالة مشابه إلى حد كبير لمشهد مستوطناتهم المتنقلة. ثمة ظاهرة أخري تتجلي في الحيطان التي تفصل البيت عن منازل الجيران هم من أقرب الأقربين. في تحدي واضح للوائح البناء شيدوا بيوتهم مباشرة على ذلك الجدار وفتحوا فيه نوافذ تطل على الجيران. في حالة مستنسخة بتصرف من الوضع في مستوطناتهم المتنقلة. تسمح لأسرة صاحب الدار بإطلالة سخية على أسرة جيرانه تمنحهم إحساس بالأمان في حالات غياب رب أسرتهم. حالة أخري مهمة من حالات تجاهل اللوائح والقوانين. يوثق لها إلغاء حيطان تفصل بين قطع سكنية متجاورة لأسر من منظومة أسرة واحدة ممتدة. التي تعاملوا معها كأنها قطعة سكنية واحدة مترامية الأطراف. شيدوا فيها صف متطاول مكون من غرف متجاورة لعدد من تلك الأسر مهتدين بحالة مستوطناتهم المتنقلة. استوعبوا فيه أسر زوجات رب الدار وأسر بناته في بداية مرحلة حياتهم الزوجية. صف طويل من الغرف تحيط به غرف أسر أبناء الكبير. لتتيح لهم تأطير صف تلك الغرف امتثالاً لتعاليم القبيلة شبه المقدسة. بذلك تضرب تلك القبيلة عرض الحائط بلوائح البناء لكي تقيم في أرجاء الحي قيمها السامية النبيلة.
كشف لنا استعراضنا هنا لحالة الثلاثة مجموعات القبلية الكثير من المشاكل. الناتجة عن تطبيق سياسات الجهات الرسمية المعنية بالمشاريع الإسكانية. مع العلم أن هذه الثلاثة حالات لا تعتبر استثنائية إذ تتكرر في بلادنا نتيجة لتنوع أهل السودان الاثني والثقافو- مجتمعي. استعراضنا لها كشف لنا بوضوح عن عدم مرونة تلك السياسات. كشف لنا أيضاً المشاكل العميقة التي تترتب على تطبيقها. بعد مرور عدة عقود على هذه الحالات إلا أن تلك الجهات الرسمية لا زالت تطبق إجراءاتها بدون اعتبار لتنوع خلفيات وخصائص أهل بلادنا. كشفت تلك الحالات الثلاثة جوانب يمكن أن نستخلص منها دروس قيمة جديرة بالاهتمام. الأول منها أن الناس قد يرتبطوا بمكونات طبيعية من حولهم بشكل عميق يتجاوز الاحتياجات النفعية المادية الدنيوية المعروفة حقيقة أثبتتها الحالة النوبية. الدرس الثاني الذي لا يقل أهمية هو تباين احتياجات هذه المجموعات في مناطقهم السكنية للفضاء العام والخاص. كما وضح لنا بجلاء من حالتي قبيلة الرشايدة والمجموعة البجاوية. دروس مهمة للغاية لأنها تكشف عن جوانب حيوية مصيرية لا تجد الاهتمام والتفاعل من الجهات الرسمية المعنية بها. التي تتعامل معها بمعايير راسخة مقدسة وحلول نمطية مكررة لا تراعي تباين السودانيين وخلفياتهم المتنوعة. الأمر الذي عمق بمرور الزمن من الأزمة في مجال الأسكان الحيوي. مما جعلني ألفت إليه الأنظار بلادنا مقبلة على تحدي كبير يتعامل بشكل مباشر مع هذه المشكلة. هو إعادة توطين وإسكان الملايين من النازحين المشردين في أقاليم مثل دارفور ومنطقة النيل الأزرق. تحدي كبير خاطبته في ورقة بحثية مكتملة الأركان طرحت فيها أفكاري. نشرت في العدد رقم 1 عام 2011 من مجلة (خطاب) الدورية العلمية المحكمة التي يصدرها معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم. ضمنتها مع مواد موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط drhashimk.com.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أكتوبر2022