ألق وحضور عمارة السدابة البازخ: هل من عودة هل؟
لي علاقة خاصة عشق مستأصل دفين مع مواد البناء الطبيعية أو كل ما شابهها أو لامسها على نحو ما. منظومة طويلة تغزلت في عمارتها كرست لها العديد من دراساتي ومقالاتي التي انداحت عبر عدد كبير من المنصات والمنابر. لأسباب موضوعية سأوضحها لاحقاً. احتلت فيها عمارة الطوب الأحمر بكافة أنواعها مكاناً مرموقاً أهلها له موقعها المتقدم عبر العصور. بداءً بالضاربة في القدم حتى أزمنتنا الحديثة التي تسربلت فيا بثوب الحداثة. فلنجعلها مدخلاً لعالمها عبر سياحة تاريخية سريعة نركز فيه عليها بشكل خاص. نشأت ازدهرت صناعة الطوب منذ الأزل في المناطق الشاطئية على ضفاف الأنهار التي تتوفر فيها المادة الخامة الرئيسة لصناعته. إنجاز كان لنا فيه حظ وفير منذ قديم الزمان. تشهد عليه بالتحديد المساهمات المتميزة لحضارة مملكة علوه أخر ممالك حضارة النوبة المسيحية. لم تتوفر لنا للأسف معلومات كافية عنها نسبة لما حاق بها من دمار على أيدي الغزاة الذين استهدفوها. غيب من الوجود معالم ملامح عمارة مرحلة حضارية مهمة التي لم تصلنا من أخبارها إلا النذر اليسير. مجرد إشارات من إنجاز معماري كان أساسه العمارة الطوبية التي كانت مدهشة بحق. أكبر دليل عليه المثل الشائع المتداول بيننا كلما صادفتنا حالة بديعة الجمال أصابها الدمار بأنه أشبه بخراب سوبا. عاصمة تلك المملكة المسيحية إشارة لما أل إليه حال روائعها المعمارية. التي استعان ممن استعمروا حكموا السودان لاحقاً بطوب أنقاضها لبناء قصورهم كأكبر دليل علي جودة صناعته وجمال منظره. الذي استعان به حكام حقب لاحقة استعمروا واحتلوا بلادنا. فلنجعل هذه الظاهرة مدخل لتتبع مسيرة عمارة الطوب الأحمر بأنواعه المتعددة. التي كان لها دور مؤثر في مراحل تاريخنا الحديث.
دشن الترك أو الأتراك احتلالهم لبلادنا في القرن التاسع عشر بمغازلة تراث طوب مملكة علوه التاريخي. عندما استعانوا بطوب أطلال عمارة عاصمتهم في تشييد أساسات قصر حكمهم المطل هلي النهر. لتضع تلك الخامة البنائية النبيلة أول موطئي قدم لها مدشنة بداية رحلة طويلة لها في عاصمتهم وعاصمتنا. سطرت فيما لاحقاً تلك الخامة خلال عدة عهود متلاحقة اسمها بأحرف من نور علي جبين عمارتنا. بداية علاقة يبدو أنها لم تكن مؤثرة للغاية ذات أهمية بالنسبة للترك. لكن الواضح أنها لم تستهويهم لدرجة تجعلها منافساً لخامة الحجر الطبيعي حبهم الأثير. الذي قدموه فيه أروع الأعمال المعمارية الشامخة مفرطة الضخامة أسطورية الطابع. في مراحل تاريخية من مسيرة طموحهم التوسعي في شتي أرجاء العالم. خلال مرحلة حقبتي الإمبراطورية البيزنطية بعدها لاحقاً الإمبراطورية العثمانية. كرم فياض عشق أثير لهذه الخامة قدموا لنا عبره أعظم الهدايا. تلك البيوت التركية الأنيقة التي كحلت أفق سواكن قبل أن يمحوها من الوجود إهمالنا وعاديات الزمن. لكن بعض مؤشرات تدل على توظيفهم للطوب في شكل رائع. في عاصمتهم الوليدة الخرطوم خلال فترة حكمهم لبلادنا. تم تخريبها تدمير جلها عند ما اكتسحها أنصار المهدي. لكن هناك مؤشرات تدل على روعة وجمال عمارتها قبل اكتساحها. يستدل عليه بتوجيه أنصار المهدي لاحقاً بانتزاع أجزاء منها. استخدمت بتوجيه من خليفة المهدي في تطعيم المباني الهامة في عاصمتهم الوليدة أمدرمان. خص ببعضها مجمع مقره الرسمي وبيته. مؤشرات تدل على روائع معمارية لم تجد للأسف حظها من التوثيق.
حملت نهايات القرن التاسع عشر بشارات سارة لخامة الطوب الأحمر في بلادنا التي ظهرت لاحقاً في أحسن حالاتها. معلنة ميلاد جديد أوشك مع تداعي عقود من الزمان أن ينافس مجد عمارة مملكة علوه المسيحية. في ظروف توفرت له فيها كل مقومات النجاح والاستدامة. جاء ميلاده علي يد وبجهد أمة عشقته عشقاً لا مثيل له هي بريطانيا. ساهمت فيه بشكل مقدر باعتبارها الشريك الأكبر الأكثر تأثيراً في حقبة احتلال ثناية بريطانية مصرية. جثمت فيها علي صدر بلادنا لستة عقود من الزمان. نجحت فيها في وضع بصمة حضارتها وتراثها المعماري. مستثمرة بذكاء ودهاء وحذاقة عالية في خامتها الأثيرة الطوب الأحمر. التي قدمتها في أروع أعمال معمارية كواحدة من أهم إنجازاتها. كانت أيضاً من أعظم ما جنيناه منهم في تلك الحقبة. موثقة لأهم الفتوحات والاختراقات المعمارية في النصف الأول من القرن العشرين. بداية داويه لعمارة الطوب الأحمر أرخت لها مرحلة تأسيس الحكم الثنائي البريطاني المصري في خواتيم القرن التاسع عشر. كان مسرحها مشروع عملاق طموح ألقت فيه سلطات الاحتلال ممثلة في شقها البريطاني بكامل ثقلها. وفرت له كل المقومات لكي يسطح كعمل معماري بالغ التميز على المستوي السوداني. منافساً لعمارة تلك الدولة الاستعماري الكولنيالي في عالمنا الثالث. مشروع استثنائي يستحق إلقاء المزيد من الضوء على كافة جوانبه. التي منحته تلك المكانة الرفيعة جداً في إطار عمارة الطوب الأحمر.
العمل المعماري المشار إليه هنا هو مجمع كلية غردون التذكارية. الذي وضعت حجر أساسه إدارة الحكم الثنائي في نهاية القرن التاسع عشر. في موقعه قرب ضفاف النيل الأزرق كأول خطوة في التأسيس لمجمع الوسط قلعة التعليم الجامعي التي صارت لاحقاً جامعة الخرطوم. مشروع اكتسب أهمية خاصة للغاية منذ مرحلة تبلور فكرته الأولي في ديار أهله في بريطانيا التي أضفت عليه صفة التذكارية. منحته ميزته الكبرى التي حملها اسمه الزاخر بالمضامين لارتباطه بواحد من أهم شخصيات أمته زمانئذٍ. هو غردون باشا حاكم السودان في نهاية حقبة الاستعمار التركي لبلادنا. الذي اغتاله أنصار المهدي علي درج قصر حكمه ليضعوا نهاية لتلك الحقبة. فمنحته تلك النهاية الدراماتيكية درجة رفيعة سامية وفق معايير أمته رفعته لرتبة الشهداء والقديسين. أحداث هزت وجدانهم أججت مشاعرهم تبلورت في فكرة مشروع كبير مهم تخليداً لذكراه. في تلك البلاد التي هيأت لهم رؤاهم استعمارية المقاصد أنه قد ضحي بحياته لإنقاذها من دراويش المهدي. مشروع تداعت كافة شرائح شعبهم لدعمه في حملة شعبية وطنية الطابع.
كان من ثمره تعاطف شعب بلادهم مع دراما مقتل غردون تدافع كافة شرائحهم لدعم هذا المشروع بالتبرعات. جهد مقدر تزامنت معه خطوات البحث عن جهة معمارية استشارية لتصميم المشروع. بشكل يلامس مشاعرهم نحو بطلهم الأسطوري. فتدافعت مجموعات استشارية متعددة الخلفيات لنيل شرف الظفر به. منافسة محتدمة أنتجت عمل كبير تفاعل بنجاح مع رؤاهم وأشواقهم السامية. الواضح أنه كان من أهم عوامل اختيار المشروع الفائز فكرته المؤسسة على أروع مخرجات عمارة الطوب الأحمر عشقهم الأثير. الذي خطط الاستشاري لاستثمار أشكاله المتعددة موظفاً أجود أنواعها المعروفة باسم طوب السدابة. التي منحها المشروع فرصة ذهبية لإطهاره بشكل مدهش. فجر طاقاته الكامنة في عمل معماري أسطوري السمات. حالة نادرة استثنائية وُظفت فيها عدة أشكال من وحدات الطوب مثل المثلثة والربع دائرية. التي وظفت بحذاقة عالية وسلالة فائقة لتغطي كافة أجزاء هذا العمل الرائع. من واجهاته مترفة الجمال إلي رواقاته المسترسلة انتهاءً بمكامن الجمال والدهشة في دواخله الدفينة. لتنداح في رشاقة في كافة أجزاءه الخارجية والداخلية. لتجعل واجهاته تتبرج مغازلة أشعة شمسنا المدارية. مستثمرة ببراعة عالية ودهاء مفرط في أسلحتها المضاءة، غمازاتها و (نوناتها) الفتانة. التي جعلتني أكاد أخر أمامها ساجداً لولا نزعة من أيمان منعتنني من ذلك. لكنها لم تمنعني من أن أزحف عند أعتابها أملا في تصوير مكامن جمالها الأخاذ. أحمل كاميراتي أجتهد لأظفر بلقطات تصطادها لأوثق تفاصيل هذا العمل أسطوري السمات. مواقف كنت فيها أشبه بذلك المحب الولهان الذي وصفه شاعرنا المبدع العبقري محمد الفيتوري بأنه يتمرغ في شجنه.
مشروع مجمع كلية غردون التذكارية زاخر بالأفكار والجوانب النيرة التي تستوجب التوقف عندها بالإضافة لزخم عمارته الطوبية. واحد منها تخطيطه العام اهم ما يميزه فكرة المدخلين الرئيسين. الشمالي المطل على النهر وشارع النيل وكان مخصص للزوار من خارج الجامعة. استخدام جعل من المهم التعامل معه بشكل خاص احتفالي السمات يليق بتلك الشرائح المستهدفة. أتمنى أن تلتفت إدارة الجامعة لهذا الجانب بعد التطورات المهمة الأخيرة. تحديداً المكونات الإضافية التي تستهدف شرائح مهمة من خارج الجامعة. مدخل مبني مجمع كلية غردون الأخر الجنوبي كان لا زال مخصص لأساتذة الكلية وطلابها وكل منسوبيها وشرائح من زوارها. أهم ما يميزه ممر مشاة ينصف الساحة التي تحتضنها جزئيا تحيط بها من ثلاثة جوانب أجنحة المبني الرئيسة. مطلة عليه بخيلاء واجهات تسطع فيها تتصدرها ركائزها الشامخة المهيبة. لتعلن عن سطوة عمارة السدابة على ذلك المشهد المعماري. يكمل صورته ممر وسطي رئيس تحف به أشجار النخيل الملوكي الباسقات تمنحه مهابة ونفحة احتفالية النبرة. هذا المجمع أسطوري السمات يحتاج من إدارة الجامعة لوقفة خاصة تليق بمقامه. كتاب ضافي أو كتيب وافي ستجد أكثر من جهة تتباه أو تساهم فيه.
يبدو أن مشروع كلية غردون التذكارية بتألقه المترف قد منح جهات الاختصاص في جانب سلطة الاحتلال البريطانية ثقة عالية. شجعتهم لتكرارها فحملوا مخزون طوب السدابة الفتان رحلوا به على ضفاف النهر في اتجاه الغرب. في موقع مبني لا يقل أهمية مجاور يقع غرب قصر الحاكم. اكتسب أهميته العالية من أنه مبني السردارية أي قصر الحكم الذي يستحق عمارة متميزة للغاية على كافة مستوياته. فحظي بها كما يتجلى ذلك بداءً باختيار موقعه المطل على النهر. بالإضافة لميزات تخطيطية أخري لا تقل أهمية منها الحرم أو الساحة الخارجية التي تتمدد أمام موقعه على ضفاف النهر. عزز من أهميتها قبل إزالته تمثال اللورد كتشنر الذي كان يتوسطها منتصباً في مركزها. تمجيداً لدوره في قيادة القوات التي انتصرت وضعت نهاية للعهد المهدوي. تمهد نلك المكونات التخطيطية تمهيدية تفضي لمداخل المبني الرئيسة. في الجزء الأوسط منه المحاط بجناحين يبرزان على الجانبين. خطوات تستدرج الداخل للمبني فيها واجهات رواقات، برندات موشحة بمعالجات طوب سدابة متفردة. نبرتها أخف من واجهات مجمع كلية غردون التذكارية إلا أنها تشيئ بأهمية مؤسسة المبني سيادية الطابع والوزن. المدهش في هذا العمل المعماري أن المصمم ادخر قمة إبداع وروعة طوب السدابة للمداخل الخلفية في الجانب الجنوبي من المبني. المخصصة لدخول الشرائح الأقل أهمية التي توءمه. قدم فيها بانوراما مدهشة من أعمال طوب السدابة. أو سمها كما شئت بناء على روعة المشهد الذي تتدفق تنساب فيه شتي أنواع مكوناته. سلالم عريضة مفتوحة محاطة بحواجز طوبية منخفضة منحوتة بعناية وإبداع فائق بشتى أنواع العناصر الطوبية. علي خلفية واجهات رواقات بانورامية المحيا. يبرق من بين أعمدتها عرشها المسترسل تتهادي فيه وحدات قبو متقاطعة. في حالة نادرة لاستعراض العضلات الإنشائية سلاحها طوب السدابة. لوحة بانورامية أضافت بعداً مهماً مؤثراً لعمارة هذا المبني سيادي الطابع منحته زخماً من الأهمية، البرستيج.
سطع طوب السدابة خلال العقود الأولي من القرن الماضي في مبني بالغ التميز خارج إطار إنجازات جهات الاحتلال الرسمية. واحد من إشراقات زعيم صوفي كان له سهم وافر في الحركة الوطنية حقبتئذٍ. الشريف يوسف الهندي الذي أتت به سلطات الاحتلال من منطقته بالجزيرة المروية. لأنها تخوفت من أنشطته هناك أجبرته أن يجعل مركزه قريباً من ناظريها. فسمحت له أن يشيد يقيم مركز طريقته الهندية في موقع في منطقة بري اللاماب. الواقعة في علي ضفاف النيل الأزرق في الطرف الشرقي من عاصمتهم الوليدة حقبتئذٍ. أعظم ما لفت نظري فيه لا زال يدهشنني مبني أساسي في ذلك المجمع مبني التكية. هو عبارة عن استراحة أو دار ضيافة مخصصة للمقيمين بالمركز أو الزوار العابرين جلهم من أتباع الطريقة. مبني متفرد ينضح يشع بكافة تقنيات وفنيات وجماليات عمارة طوب السدابة. أجمل ما في عمارته أنها لم تقع أسيرة تماماً لأعمال سبقتها تاريخيا مثل مبني كلية غردون التذكارية. إذ اختطت لها طريقاً أخر بالغ التميز مختلف إلى حد كبير. الفضل في هذا التوجه يعود من بعد الله لشيخ الطريقة نفسه، الشريف يوسف الهندي. لمقدراته وخلفيته المتميزة في هذا المجال التي وظفها في مبني التكية. عمارة تتجلي فيها تقنيات وتفاصيل وفنيات طوب السدابة بشكل غير مسبوق تنضح بها كل أجزاء المبني. أعجبت بشكل خاص بتطريز الواجهات هنا وهناك بوحدات من سوداء من الطوب تم حرقه بطريقة خاصة. أضيفت إليها إكسسوارات مبرقة على الأبواب والشبابيك منحتها ألقاً مترفاً. ومضات أضفت على هذا العمل المعماري تميزاً لافتاً. أجمل ما في كل هذا الزخم أنه لم يخصم من هدوء وسكينة وبساطة وأجواء التكية الروحانية. التي جعلتني أفتنن بها أزورها مراراً وتكراراً.
تداعي عقود النصف الأول من القرن الماضي شهد تطور توسع ملموس في نواة كلية غردون التذكارية. تمددت فيه أقسامها المتعددة فانداحت معها العمارة تؤسس لرؤي في مسيرة أرخت لحالة تحور سلس. بدأت تتخلي فيه نوعا ما عن توجه عمارة مجمع كلية غردون التذكارية المفرط في كلاسيكيته. تحور يمكن أن نرده لانخفاض تلك الروح والدوافع التي أنتجت ذلك المبني التذكاري. أفرز لاحقاً أعمالا معمارية بنبرة أقل كلاسيكية غازلت الحداثة أحيناً من طرف خفي. نهج تدريجي قد تبرره مستجدات كان يعيشها العالم الغربي موطن المعماريين الذين صمموا تلك المباني حقبتئذٍ. في نهاية الثلث الأول من القرن الماضي في فترة بدأت تهب فيها روح حداثة. التي تصاعدت وتيرتها هناك لاحقاً كما سنوضح في سياق هذه المقالة. مستجدات تحور وثقت له عمارة أقسام كلية غردون التذكارية. في مشهد كانت فيه خامة هؤلاء البريطانيين الأثيرة سيدة الموقف. الطوب الأحمر علي رأسه طوب السدابة متصدراً المشهد. الذي لم يأت اختياره حقبتئذٍ من فراغ لكن لعدة أسباب مقنعة للغاية جعلته لاحقاً من أهم سمات عمارة الجامعة. واحدة منها توفر خامة إنتاجه الطبيعية. من المبررات المقنعة أيضاً أنهم برعوا في توظيف وحداته كعناصر إنشائية للمباني. خلال فترة لم تكن عناصر المباني الأسمنتية والخرصانية متاحة للاستخدام. فاستعانوا ٍبه وظفوا وحداته في حنكة فائقة في فتحات الحيطان والمباني. استخدموها في شكل عقدات أو أقواس متعددة الأنواع والاشكال. استخدموها كأعتاب فوق فتحات المباني والابواب والشبابيك فمنحت العمارة بصمة بائنة وألقاً مترفاً. وظفوا وحدات الطوب أيضاً بطريقة ذكية في عمل فتحات صغيرة في واجهات المباني. معالجات كان لها مردود إيجابي في التهوية وتلطيف الأجواء. بالإضافة إلى ذلك سمحت بإطلالة من داخل المبني من دون أن تجترح خصوصية من هم بالداخل. مضيفة بعد أخر مهم جداً هو لمسات جمالية مقدرة منحت واجهات العمارة حيوية مفرطة.
الكثير مما ورد ذكره هنا ينضح به عملين معماريين من أميز ما شيد في رحاب موقع كلية غردون التذكارية. مبنيين تؤام شيدا في نهاية الأربعينات كمجمعات سكنية للطلاب أي داخليات. تطلان على الطرف الجنوبي لما يعرف بشارع (المين) الممتد من بوابة الجامعة الرئيسة لينتهي بموقع كلية غردون التذكارية. الطريف في الأمر أنهما تحولا لاحقاً ليصبح الغربي منها كلية القانون والشرقي كلية العلوم الإدارية. المدهش هنا أن العمارة ظلت صامدة مشرفة في كلا الحالتين بالرغم من التباين الواضح الاختلاف في الاستخدامات. عمارة في كلا الحالتين تشيئ بالكثير مما ورد ذكره من قبل. تحديداً التوظيف المثالي لخامة البناء الرئيسة الطوب الأحمر تحديداً نوعية السدابة. التي تبرجت هنا كشفت عن كافة محاسنها استعرضت جل إمكانياتها الكامنة. بطرق بالغة الذكاء والحنكة جمعت أحيناً في أجزاء محددة بين توفير الخصوصية وإضفاء الجمال علي الواجهات. من أهم سمات العمارة هنا تعدد أنواع العقدات أو الأقواس الطوبية. برز فيها بالتحديد نوع القوس المسنن الذي صار من أميز سمات عمارة جامعة الخرطوم أشبه بالماركة المسجلة. توقفت عند حالة منها في جزء من المبني تشبه فاصل من رقصة العروس عندما تغطي وجها بكفيها. أعظم ما في عمارة هذين المبنيين معالجة واجهة المدخل الرئيس الزاخرة بالتفاصيل المدهشة المبتكرة. الواضح أنها واحدة من ملامحها التي أهلتها لتتحول من داخلية للطلاب لمبني أثنين من أهم كليات الجامعة. أعظم ما في هذين العملين المعماريين أنهما شكلا نقطة تحول سلس. عبرت بعمارة الجامعة من غياهب الكلاسيكية إلى ضفاف الحداثة بدون صدمة ارتدادية ارتجاجية. ممتطاة إهاب طوب السدابة النبيل لترفل به في خيلاء بائن.
كانت عقود النصف الأول من القرن الماضي مرحلة تحول مهمة في مسيرة عمارة السدابة في ربوع موقع كلية غردون التذكارية. التي عاشت جزءً مهماً لاحقاً بعد تغيير اسمها في منتصف القرن بعد استقلال بلادنا لتصبح جامعة الخرطوم. تحور طرازي تدريجي سلس حلق بأجنحة طوب السدابة خلال عقود ذلك القرن الأولي. وثق لاحقاً لبداية خفوت نبرة الكلاسيكية العالية. ساهمت فيها إلى حد كبير عمارة هذين المبنيين المتميزين ممتطاة صهوة ذلك الطوب. الذي زين واجهاتها بمعالجات استثمرت في التلاعب بوحداته البارزة في تناغم مع عملية التخريم. تخريم حقق أغراض في غاية الأهمية بمساهمته في التهوية بدون اجتراح لخصوصية من هم بالداخل. ساهم أيضاً مع التلاعب في وحدات الطوب البارزة في نشر حيوية مترفة على الواجهات. أسبغت على العمارة فيض من الجمال عوضها عما افتقدته في سابق الزمان في مجمع كلية غردون التذكارية. بأعمدته الضخمة الفخمة وتفاصيله الكلاسيكية الثرية المدهشة. نقلة حملت عمارة مواقع كلية غردون التذكارية بسلاسة عبر بضعة عقود من الزمان. لتحلق بها في أفاق جديدة غازلت لامست أفاق الحداثة. تهيئة لنقلة كبيرة كان فيها طوب السدابة كما هو الحال دائماً على الموعد.
نتوقف في سياق عالم عمارة السدابة الكلاسيكية والتقليدية عند جانب أساسي منها. أهم عناصرها مكوناتها الإنشائية التي حملتها لعدة عقود من الزمان. الركائز والأعمدة العملاقة المتوجة بعقداتها أو أقواسها (أرشاتها) الناهضة فوقها في جرأة متميزة. تحمل عروشها المتمددة المنسابة في تكوينات مدهشة تبلغ قمة روعتها في تقاطعات مكونات القبو. دراما فضائية خرافية الملامح محمولة بكرم فياض علي أكف طوب السدابة. الذي يتجلى في أبهي صوره في عمارة كلاسيكية متفردة سطعت في واجهات مجمع كلية غردون التذكارية. ركائز عملاقة تستعرض كافة أشكال الطوب في عمل نحتيً عملاق. تحفة تغازله شمسنا المدارية فيتبرج يتفجر حسناً وجمالاً. يتوغل المرء متجاوزاً تلك الواجهات الفتانة. لتستقبله تحتضنه في رواقاتها برنداتها المسترسلة دراما معمارية لا تقل عنها روعة. رواقات تحفها ركائز خارجية وأعمدة داخلية ترفرف فوقها وحدات قبو متقاطعة تضفي على المكان حضورا بازخاً. تمنح العابرين هم في حضرة الجميلة ومستحيلة تملؤهم بإحساس غامر بأنهم في موكب (قرقول) شرف. رواقات تصل بك نهاياتها لمشهد تزخر تفاصيله بزخم دراماتيكي عالي. المدهش في الأمر أن نبرة عمارة تلك الرواقات تبدلت خفت في أعمال شيدت لاحقاً لأسباب تبدو موضوعية مقنعة. خفت نبرتها الكلاسيكية العالية عندما تداعت في رحاب مباني تلك الداخليتين. لتمنحها دفق من الحميمية متسق مع أجواء تلك المباني سكنية الطابع. نزلت لاحقاً بردا وسلاما ومشاعر إنسانية متدفقة عندما أصبحت كليتين. لتضفي عليهما أحاسيس فياضة تخفف من ضغوط أجواءها الأكاديمية. ساهمت في تحقيقها سلسلة عقدات رواقاتها المنسابة مفردة جناح أقواس (أرشاتها) المسننة. ترفرف حولهم بحميمية تلامس مشاعر من يلوذون إليها أو يتمسحون بجوانبها.
أروع أعمال عمارة طوب السدابة خص به الجانب البريطاني في سلطة الاحتلال في أخر أعوامه مدينة أمدرمان. وضع فيها بصمته في بداية الخمسينات على جبين عمارتها موثقاً لواحد من أجمل وأعظم أعمال عمارة السدابة في المدينة. مبني مجلس بلديتها الرابض على الجانب الجنوبي من طرف شارع العرضة الشرقي. قدم فيه طرازاً متأرجحاً بين الكلاسيكية والحداثة يحكي طبيعة تلك المرحلة المفصلية في بلادهم. عمل معماري متميز استعرضوا في مكوناته وتفاصيله روعة تقنيات وجماليات ذلك الطوب. من أميزها منظومة متعددة من أنواع العقدات والأقواس أو الأرشات كما يحلو للبعض أن يسميها. مثل النصف دائرية والمسننة والمدرجة. أعظم جزء في هذا المبني هو جانبه الشمالي البارز المطل على شارع العرضة. الذي كان طابقه الأول مخصص لمكاتب كبار الإداريين. خلال الحقب التاريخية المتعاقبة بما فيها تلك التي أعقبت استقلال بلادنا. الذي تميز بإطلالة على أهم أجزاء مركز المدينة وقلبها النابض. إطلالة عبر شرفات ناهضة تجلت فيها روعة وعبقرية عمارة طوب السدابة. أميز ما فيها الحيطان البارزة بشكل مدرج على جانبي وحدات الشرفات. أجزاء من المبني هي من أعظم وأجمل تفاصيل هذا العمل المعماري الفريد في نوعه. اِجتهدت في تصميمه وتنفيذه الجهات المعنية في سلطة الاحتلال. فشلنا نحن للأسف الشديد في المحافظة عليه في عهود لاحقة بعد استقلال بلادنا. باعتباره واحد من أهم مكونات تراث عمارة طوب السدابة في المدينة. فشل للأسف الشديد في القيام بهذه المهمة قادة العمل الإداري في المدينة الذين كانت مكاتبهم خلف تلك الشرفات. فشل في ذلك الذين يعتبرون هم سدنة وحراس ذلك التراث.
شهد منتصف العقد الخامس من القرن الماضي أحداث مهمة للغاية كانت لها تداعيات عميقة الأثر على بلادنا وحياتنا. تحولات مفصلية الطابع أنتجت إسقاطات مؤثرة كانت العمارة فيها كما هو متوقع في قلب الحدث. تطورات مهمة كان فيها لكلية غردون التذكارية التي أصبحت لاحقاُ جامعة الخرطوم سهم وافر. في إطار تحولات جسام مؤثرة للغاية عاشتها بلادنا عقدئذٍ كان من أهمها نيلها للاستقلال. تطور مهم للغاية جعلنا في مواجهة تحديات مزدوجة الأبعاد. من أهمها الظهور أمام العالم كأمة دولة مستقلة ذات سيادة هو في حد ذاته أمر بالغ التعقيد. ضاعف منه تحدي أخر لا يقل أهمية أفرزته متغيرات اكتسحت العالم حقبتئذٍ. ميلاد فكر ونهج الحداثة الذي بداء نجمه في التصاعد في العالم الغربي وزحفه لكل أركان العالم. تطورات كان يجب أن نستوعبها نتعامل معها على نحو ما في إطار ظهورنا كدولة وأمة مستقلة ذات سيادة. تحدي ضاعف من وقعه حقبتئذٍ أهمية ظهورنا بين الأمم كدولة عصرية مواكبة لمستجدات الحداثة من حولنا. حالة عامة عاشها شعبنا في منتصف الخمسينات بكل مكوناته كان فيها الخريجين والمثقفين في مقدمة الركب. هبة وطنية تصدت لها جامعة الخرطوم. كانت فيها راس الرمح بعد خلعها لرداء كلية غردون التذكارية بعد الاستقلال. لتصبح واحدة من أقسام كلياتها منصة مهمة ساهمت في تحقيق هذه الأهداف النبيلة. إنجاز تم عبر اختراقات مهمة للغاية في مجال العمارة.
في إطار ما ذكرناه كانت هناك تحديات بالغة التعقيد تواجه عمارة بلادنا في تلك المرحلة المفصلية من تاريخها. تحدي كبير كان لجامعة الخرطوم التي ظهرت بهذا الاسم الجديد بعد الاستقلال دور مرتقب للتعامل معه. في إطار تطورات جاءت في موعدها جعلتها على قدر التحدي. هي تأسيس أول قسم عمارة في كلية الهندسة في الجامعة في خواتيم عقد الخمسينات. مهمة تاريخية مفصلية اطلعت بها كتيبة من الأساتذة البريطانيين. جاءوا إليها من بلادهم أشرعتهم ملاء بروح الحداثة وفكرها محمولا على أجنحة مفاهيمها المعمارية. ليجدوا أرضية خصبة قوامها عدد محدود من أنجب صفوة طلاب الجامعة. معادلة يتمناها كل من يكلف بمثل هذه المهام المحفوفة بالتحديات. أنجزت في ظروف بالغة التعقيد كان لها ما بعدها. لا زلنا نحن حتى الآن بعد مرور أكثر من سبعة عقود من الزمان نعيش تحت تأثير تداعيات تأسيسها. التي كان راس الرمح فيها تلك النخبة من الأساتذة البريطانيين. في حالة يشعر المتأمل بعمق في إسقاطاتها المعمارية بأحاسيس متناقضة. منها بأن المحتل قد خرج من بلادنا بالباب ليعود إليها خلسة لاحقاً بالشباك. حالة أصفها حسب قراءتي المعمقة لها بأنها أشبه بقصة مسمار جحا الأسطورية المعروفة. رواية تقول انه اُخرج من دار ما لكنه ظل يتردد عليها مراراً وتكراراً بحجة أن له فيها مسمار يبحث عنه. تشبيه ستبرره لكم تفاصيل تداعيات قصتنا مع مسيرة عمارة طوب السدابة. التي سنتوقف هنا عند واحدة من أهم محطاتها مفصلية الطابع.
بدأت تلك الكتيبة البريطانية عملها في قسم العمارة على هدي فلسفة ونهج معماري اكتسح عالمهم الغربي الذي كانت بلادهم تتصدره. نهج الحداثة المؤسس على فلسفة علمانية تسيدت ذلك العالم في الثلث الثاني من القرن العشرين. تمدد بعدها في العالم فوصلنا في نهاية الخمسينات. محققا اختراقاً عبر واحدة من أهم قنواته المؤثرة هي تعليم العمارة. فوجد الطريق ممهداً عبر تأسيس قسم العمارة في رحاب كلية الهندسة بجامعة الخرطوم الذي كان الأول من نوعه. عمل فيه أساتذته البريطانيون بهمة عالية نجحوا في التأسيس لتوجهه الجديد عبر مدارج العلم. نجاح عززوه بتطبيقه عملياً على أرض الواقع بأعمال معمارية رائعة ازدانت بها مواقع الجامعة في مدن العاصمة الثلاثة. في عملية بيان بالعمل ناجحة مكنتهم من إنزال فكر الحداثة ترجمته في أعمال معمارية معبرة للغاية. أحداث مشاهد تعيدنا مرة أخري لعمارة السدابة موضوع هذه المقالة. ذات الخامة البنائية التي وظفتها من قبل في مطلع ذلك القرن الجهات المعنية من الشق البريطاني من سلطة الاحتلال. نجحت من خلالها في نشر الترويج للعمارة الكلاسيكية. لتأتي بعد ستة عقود من الزمان كتيبة من بلادهم أساتذة قسم العمارة الوليد. لتستثمر في نفس ذلك الطوب في دهاء وحذاقة لتتوجه به هذه المرة في اتجاه معاكس للنهج الكلاسيكي الذي نشروه من قبل. عمل كبير أنجزه هؤلاء الأساتذة بهمة عالية لتطبيق رسالة كانوا يسعون لتعميق مفاهيمها في أذهان طلابهم. قدموها لهم في أنصع صورة استثمرت في طوب السدابة. الذي صنعوا منه عمارة تحمل مفاهيم مختلفة مواكبة لعصر بلادهم وعالمهم الغربي الحديث.
ظهر طوب السدابة عندنا مرة أخري هذه المرة في خواتيم خمسينات القرن الماضي في إطار وأهاب مختلف تماماً. في مواقع كلية غردون التذكارية التي أصبحت جامعة لخرطوم بعد الاستقلال. مصطحباً شريكه الأساسي الجديد في إطار مكونات خرصانية مسلحة طورها العالم الغربي في مطلع ذلك القرن. مكونات إنشائية مثل الأعمدة والأبيام منحت العمارة مزايا متعددة مكنتها من التمدد أفقياً والتحليق راسياً بثقة. مستغنية عن خدمات الطوب في الأعمدة والركائز والأقواس والعقدات الطوبية والعروش. التي رافقت العمارة كشريك أساسي في سابق الزمان في إطار نهجها الكلاسيكي. نقلة تقنية مقدرة منحتها مظهراً مختلفاً. مؤسساً على رؤي مفاهيمية نابعة من فكر وتوجه الحداثة علماني الجذور والمبادئ. الذي لم يكتف بتلك النقلة الأساسية التي ضربت الطوب في مقتل. إذ جاء أيضاً بمشروع جمالي تجريدي النزعة ناء بنفسه عن الكثير عن المفاهيم الكلاسيكية. التي أسست جماليات العمارة على محاكاة أشياء من حولنا. مثل عقدات وتيجان الأعمدة المستوحاة من أفرع شجر النخيل أو بتلات الزهور. إذ جاء فكر الحداثة بتوجه تجريدي مختلف تماماً مستمداً مرتكزاً إلى حد بعيد على رؤي وفكر الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون. مشروع جمالي مؤسس على معايير النسب والتناسب وأيضاً على التناغم بين مكونات المبني. ثورة متكاملة شاملة أنتجت عمارة مختلفة الأشكال والمحيا. تحول كان فيه طوب السدابة في قلب المشهد. شريكاً أساسياً مع رفقاء دربه عدد من مكونات العمارة الإنشائية الخرصانية. شراكة غير متوازنة قلصت من دوره في صياغة مشروع العمارة الجمالي. عقبة تجاوزها عدد محدود من معمارينا الأفذاذ من أمثال أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي والمرحوم كمال عباس. ظاهرة تستحق التوقف عندها تأملها بعمق.
حملة منظمة ابتدرها كبيرهم الذي علمهم السحر رئيس القسم الدكتور أليك بوتر. في واحد من أهم أكبر أعماله قاعة الامتحانات الكبرى في موقعها في شارع (المين) الحالي. نهضت هناك شامخة كأنها تحدق تتحدي (تحدر) لأهم أعمال الجامعة الكلاسيكية المجاورة لها مجمع كلية غردون التذكارية. ليعلن على رؤوس الأشهاد ميلاد عمارة الحداثة في أهم معاقل الطراز الكلاسيكي. دور بطولي اختراق مدهش ظهور جديد في إهاب مختلف متدثر بنفس طوب السدابة الذي رفلت به من قبل عمارة ذلك الطراز. مؤسس هذه المرة على فلسفة ونهج مخالف مناقض لتوجهها. جاء هذه المرة مرفرف بأجنحة نهج الحداثة. ممتطاءً صهوة فكرها العلماني ليقلب الطاولة على المفاهيم الكلاسيكية. مؤسساً له في أعظم الأعمال المعمارية في أرجاء مواقع جامعة الخرطوم المنتشرة في العاصمة المثلثة. حركة قادتها نفس كتيبة الأساتذة البريطانيين الذي أسسوا قسم العمارة بالجامعة في عملية بيان بالعمل ناجحة. تلك الأعمال المعمارية الرصينة وجرعات مكثفة في مدارج ومراسم قسم العمارة كان لها مفعول السحر على الأجيال الأولي من الخريجين. كانت كافية للسيطرة تماماً على فكرهم ووجدانهم. إقناعهم بجدوى ذلك التوجه الجديد في النهوض ببلادنا وضعها في مصاف الأمم العصرية. خطة خبيثة لم تدرك الجانب الأخر الذي كان ينتظر بلادنا. هي تخطوا أول خطواتها كأمة مستقلة تبحث عن هوية تظهر بها بين الأمم. طموح قتل في مهده بتبني التوجه المعماري الجديد الذي قدم باسم الطراز العالمي the International Style. ألم أذكر لكم من قبل أن مثل هذه العملية أشبه بقصة مسمار جحا الشهيرة.
انطلقت الدفعات الأولي من خريجي قسم العمارة في مطلع الستينات وما بعدها تنشر الفكر المعماري الجديد عبر أعمالها. التي كانت مشبعة بشكل لا يقبل المراجعة بمبادئه الراسخة. لتعيش فترة شهر عسل سعيد متطاول نتيجة لظروف استثنائية. كانوا فيها نخبة من أوائل المعماريون يصممون لنخبة مشابه لهم من أوائل الخريجين تبوءا مواقع متقدمة في مجتمعاتهم وبلادهم. توافق ظهرت فيه عمارة السدابة في إهاب راقي لكنها مهيضة الجناح مجردة من أسلحة العمارة المحلية التقليدية والطراز الكلاسيكي. تداعت بعد ذلك عقود من الزمان تعقدت فيها الأمور نتيجة لتباعد الشقة بين طرفي هذه المعادلة. النخبة الأولي المعمارية تضاعفت أعدادها بشكل كبير زيادة مقدرة لكنها للأسف لم تكن بشكل عام على نفس القدر من التأهيل العالي الرفيع. مقابل الشق الأخر من المستهدفين اللذين توسعت قاعدتهم بشكل كبير للغاية لتشكل قطاعات عريضة من أهل بلادي. تحولات أساسية مهمة لم يكن المعمارين مهويين أو مؤهلين للتعامل معها مما باعد من الشقة بينهم. وضع بالغ التعقيد لم يغير كثيراً في مواقف المعماريين. الذين استمروا، بل زادوا في اعتصامهم تمسكهم الغير مبرر بنهج الحداثة. الذي بداء الزمن يتجاوزه عند من صدروه لنا قبل عدة عقود من الزمان. موقف بالغ التعقيد كانت واحدة من ضحاياه عمارة السدابة التي أصبحت شبيه بالطفل اللقيط. إلا من حالات نادرة وجدت فيها من يرعاها من معمارينا الأماجد الذين كتبوا اسمهم بأحرف من نور علي صفحة تاريخ عمارتنا. من أميزهم أستاذنا أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي. وسط هذه الصورة القاتمة برز شعاع امل في عقد الثمانينات يستحق التوقف عنده وتأمله. وضع عمارة السدابة مرة أخري في قلب المشهد في أزهي صوره في ظهور جديد محدود المدي لبريطانيا العظمي.
وثقت له ثمانينات القرن الماضي في عاصمتنا الخرطوم في الظهور الثالث المتميز لبريطانيا عبر عمارة طوب السدابة. الذي كان للأسف محدود المدي والأثر. لأنه أطل علينا على استحياء في مجمع في موقع متواري نوعاً ما في منطقة الخرطوم شرق. هو مجمع سفارتهم وقنصليتهم الذي حدت الإجراءات الأمنية الصارمة إلى حد ما من إمكانية الاقتراب منه. عمل معماري بالغ التميز ظهر فيه طوب السدابة بشكل جديد. مختلف عن أعمال أساتذة قسم العمارة عندما ما قدموه في نهاية الخمسينات. هم يؤسسون من خلاله لنهج الحداثة في رحاب مواقع جامعة الخرطوم. عمل معماري بالغ التميز مسربل تماماً بهذا الطوب من أخمص قدميه إلي أعلي راسه. توغل فيه في أكثر مكونات المبني أهمية وهيبة صالات انتظار مكاتب أرفع دبلوماسي بلادهم. ليوثق لأعلي درجات تقديرهم عشقهم لهذه الخامة البنائية النبيلة. التي صرنا نحن للأسف نستعر منها مع أنها مصنعة من تراب بلادنا الغالي. أميز ما في هذه الحالة المعمارية المتفردة أن هذا الطوب منح هنا تلك الأمة أجواء بازخة وقورة من العظمة. في حالة استولي فيها تماماً على ذلك المشهد المعماري المهيب. بمعالجات أريبة جعلت المكونات الخرصانية توشك أن تختفي تتواري خجلاً. معالجات مبتكرة يستدرجك فيها طوب السدابة من الشارع مروراً بحائط سور مدهش التفاصيل. ليدلف بك إلي بهو دخول مفتوح في الطابق الأرضي. تلتف حولك فيه مساحات طوب السدابة في حنو دافق لتقودك عبر السلالم لطوابق عليا. تنتظرك فيها مزيداً من مفاجئات هذه الطوب نبيل المحيا. يتمدد فيها راسياً في حيطان قاعات انتظار شاهقة الارتفاع. تفضي بك إلي مكاتب أهم منسوبي القنصلية والسفارة. تنهض فيها شاهقة في خيلاء مساحات طوب السدابة فاتحة صدرها بسخاء لشعار المملكة المتحدة بريطانيا العظمي. لتؤكد لنا مرة أخري ودائماً مدي تقدير أمتهم لهذه الخامة البنائية نبيلة السمات المحيا.
وثقت ستينات الفرن الماضي في العالم الغربي لحالة تململ تطورت لردود أفعال استهدفت نهج الحداثة المعماري. الذي تربي في حضنه في النصف الأول من ذلك القرن. ردود أفعال تركزت على جوانب محددة لامس بعضها جوانب مهمة للغاية. من أهمها على سبيل المثال موقفه السلبي الصارم من التراث بأنواعه المتعددة. القديم والضارب في القدم والمحلي أي كان موطنه. من تلك الجوانب أيضا ميل توجه الحداثة تمجيده لمواد البناء المصنعة الجديدة على حساب الطبيعي منها. توجهات كانت لها في العالم الغربي ردود أفعال سالبة نحو نهج الحداثة. تطورات في إطار جهود فكرية فلسفية سعت للخروج من مأزق فكر هذا النهج. تبلورت فأنتج جبهة عريضة هدفت لإطلاق العمارة من أساره للتحليق بها في رحاب أفاق جديدة. أنتجت توجهات استهدف كل واحد منها جانب محدد من جوانب إخفاقات فكر الحداثة وعمارتها. مشكلة منذ عقد الستينات حركة فكرية طرازية عريضة عرفت باسم ما-بعد-الحداثة. تبلورت لاحقا شكلت عدة مدارس فرعية أنتجت طرازات معمارية ذات سمات متميزة. هدفت لتجاوز عدد من جوانب قصور توجه الحداثة يهمنا منها ما هو معني بموضوع هذه المقالة. واحد منها عرف باسم الكلاسيكية الراجعة يشار إليه باللغة الإنجليزية بال Neoclassical style. الثاني هو المحلية الراجعة اسمها باللغة الإنجليزية أل Neovernacular style. مدرستان طرازان أُسستا على الاستثمار في المخزون الاستراتيجي لتلك المصادر الثرية. لكن بروح إبداع عالية بعيدة كل البعد عن النقل الحرفي هذا هو السر في قيمتهما العالية. توجهات نبيلة أوحت لي بموضوع هذه المقالة. التي كان هدفي الأساسي منها فتح ملف إعادة قراءة تراث عمارة السدابة الكلاسيكية أو التقليدية. إذ أن ما نملكه منهما يتوفر على زخم بازخ أشرت لبعضه في هذه المقالة.
طريق التحرر من ارتهان فكر وعمارة الحداثة لم يكن مفروشاً بالورود. جاء عبر عملية مخاض طويلة نوعا ما ساهم فيها عدد من المعماريين المفكرين الأشاوس. من نفس ذلك العالم الغربي الذي وضع أساس توجه الحداثة في الثلث الثاني من القرن العشرين. هبة حركة تحرر وُضعت بذورها الأولي في الولايات المتحدة. وثقت لها أعمال فكرية مؤثرة للغاية طبق بعضها على أرض الواقع في أعمال معمارية مفتاحية. جهد مقدر كانت أهم منصاته في تلك البلاد. التي شهدت اختراقات معمارية مهدت لها أعمال فكرية بدأت في زلزلة عرش فكر ومسلمات الحداثة. نبدأ هنا حسب ما أشرنا إليه من قبل في هذه المقالة بمجال إرث العمارة الكلاسيكية أو التاريخية. التي تعامل معها توجه ما- بعد- الحداثة بطريقة إبداعية فريدة نأت عن النقل الحرفي. جاءت أول محاولاتها الجادة الموفقة في الولايات المتحدة في فترة مبكرة في ستينات القرن الماضي. قدمها المعماري الأمريكي العبقري مايكل قرافز Michel Graves في واحد من أميز أعماله في هذا السياق. مبني خدمات بلدية مدينة أوريغون في ولاية بورتلاند. عمارة تنضح كلاسيكية بدون مثقال ذرة من نقل حرفي من أي طراز قديم. هنا تكمن عبقرية هذا العمل المفتاحي الذي مهد الطريق لتوجه ما-بعد-الحداثة العريض من واحد من أهم أبوابه، الكلاسيكية الراجعة. عمل أخر لا يقل تميزاً أنتظر عدة عقود من الزمان ليطل علينا من نفس تلك الولايات المتحدة. فجره هذه المرة في العقد الثاني من هذا القرن عبقري زمانه المعماري الأمريكي شارلز مور. في عمله الخالد مفرط التميز متنزه دا ايتاليا في مدينة نيو أورليانز الذي أهدته الجالية الإيطالية للمدينة. إكراماً لها ولهم استدعي المصمم بقدر عالي من الإبداع درة تراث بلادهم، عمارة عصر النهضة. فطوق الساحة الرئيسة بسلسلة من بوابات زائفة استوحي تصميمها من كنوز ذلك التراث المعتق الرائع.
شهدت ستينات القرن الماضي في العالم الغربي بداية تضعضع استهدفت توجه عمارة الحداثة. الذي أسس له رفعه لأوج مجده قبل بضع عقود من الزمان. إنتاشته لاحقاً السهام من كل جانب مستهدفة واحداً من أهم مقوماته هي البساطة الفائقة. التي لخصها مفكرو ذلك التوجه في مقولتهم كثيرة التداول less is more ترجمتها بالعربي، خير العمارة ما قل ودل. مفاهيم روجوا لها فرضت نفسها لكنها صارت فيما بعد مستهدفة كجزء من حركة رفض لتوجه ونهج الحداثة. قادها في الولايات المتحدة في ذلك العقد من الزمان واحد من أهم المعماريين المفكرين روبرت فينيتوري. الذي طرح رؤيته في هذا الخصوص في سفره المفتاحي المؤثرContradiction and Complexity in Architecture. عنوان ترجمته باللغة عربية، تناقضات وتعقيدات العمارة. سفر وصل فيه مؤلفه لقناعة بأن البساطة المفرطة التي يتباهى توجه الحداثة هي في الواقع قمة الملل. منافحاً مستدلا على رجاحة رايه بنماذج من نمط البيوت التقليدية السائدة في مدينته ومنطقته في الولايات المتحدة. متغزلاً في خبايا جوانب عمارتها السائدة التي ألهمته أسس عليها تصميم واحد من أهم أعماله منزل والدته. رؤية جديدة للعمارة السكنية تنائي بها عن الحلول الجاهزة المعلبة المستوردة من الغرب تحمل في داخلها شرور الأطعمة المعلبة. رؤي فينيتوري الزاخرة بالدفق الإنساني لفتت النظر لأهمية وقيمة ما يعرف بالعمارة المحلية. تقليدية السمات والملامح تعرف باللغة الإنجليزية بال vernacular architecture. تختلف عن الكلاسيكية التاريخية في أنها معاصرة نوعاً ما لا تعود لأزمنة ضاربة في القدم.
توجهات فينيتوري كان لها ما بعدها منذ عقد الستينات الذي تدفق برداً وسلاماً في كل الاتجاهات. في مساعي متواصلة لتحرير العمارة من قبضة توجه الحداثة. جهداً شق طريقه محمولاً على أجنحة توجهات فلسلفية مترعة الإنسانية والسمات حلقت به بعيداً عن أفقها الضيق علماني الجذور. اِستثمرت بكثافة وعمق في رحاب وضفاف العمارة المحلية التقليدية في شتي أصقاع الدنيا. بحر مترامي الضفاف وجدت نفسي في خضمه جزءً أصيلا منه أنا أشق طريقي في التحضير لدرجة الدكتوراه. في تجربة متنوعة طوفت فيها في عوالم مدهشة توزعت في أرجاء مليون ميل مربع كانت مساحة بلادنا قبل انقسامها. تجارب حملتني في أكثر من حالة لعالم عمارة الطوب السدابة لأتوقف عند حالات تنضح شجنا. لا زالت تطوف في مخيلتي في حالة أشبه بالزغللة التي تسمي باللغة الإنقليزية بأل. After vision توقفت هنا عند واحدة منها علي عجل في سياحة سريعة في أنحاء أرجاء تكية مجمع الطريقة الهندية ببري اللاماب. لا أنسي أيضاً في هذا السياق عمارة طوبية فتنتني قبل بضع عقود ماضيات. أنا أتوقف تغمرني الدهشة والإعجاب أمام رواق منزل قديم صغير. في الطرف الجنوبي لحي الركابية الأمدرماني مطل على شارع أبو روف ا لكان شاقي الترام. واجهة بيت فتانة ترصع جبينها العقدات وتحرسها أعمدة كلاسيكية الهوى مفرطة الجمال والأناقة. منحت تلك العمارة الطوبية حقبتئذٍ حميمية متدفقة ومحياً زاهياً وحضوراً بازخاً. تفتقده بيوت عمارة حداثة هذا الزمان بالرغم مما صرف عليها من ثروات متدفقة.
ما أشرت إليه هنا نذر يسير مما تزخر به عمارتنا من كنوز تراث طوب السدابة الكلاسيكي والتقليدي. كنز نفيس ينتظر من يستثمره لكن في هذا السياق يجب ألا نغفل بعض المحاولات الجادة. حيدر أحمد علي هو من الجيل الوسيط الذي لم يخف عشقه لهذه الخامة البنائية النبيلة. التي جعلته في واحدة من الحالات يستوردها من جنوب أفريقيا. أعظم أعماله في هذا السياق كانت مساهماته فيه محدودة لكنها مؤثرة للغاية تستحق التوقف عندها نسبة لقيمتها التعبيرية الملموسة. واجهة أمامية تتصدر مبني مدرسة أو كلية علم النفس بجامعة الأحفاد. صممت بإحساس كلاسيكي عالي بدون نقل حرفي من طراز عمارة ضاربة في القدم. فكرة مبتكرة لمدخل مبني المدرسة شاهق الارتفاع موشح بكامله بطوب السدابة. تتصدره سلسلة عقدات أقواس مسننة عملاقة تشمخ في كبرياء. معلنة عن أهمية هذه المدرسة التي كانت هي أساس جامعة الأحفاد الحالية. واجهة معبرة مؤثرة مبتكرة لمبني المدخل فراغ مزدوج الارتفاع شبه مفتوح. يحتضن في جانب منه منحدر RAMPيحمل المقبل عليه برفق بطريقة (دراماتيكية) للطابق الأعلى. يمنحه إطلالة على صحن فناء الكلية الوسطي المصطخب حيوية (جِكسية). مثل هذه الإشراقات من حيدر تمنحني إحساس بأنه يسبق الجميع بمسافة مقدرة. مجال نافسه فيه بضراوة في سباق عمارة السدابة من بداء مسيرته متدرباً في مكتبة. مرتضي معاذ المعماري الأريب العبقري الذي أعتز بأنني تنبأت له بمستقبل باهر في تسعينات القرن الماضي. فتجاوز توقعاتي كاد أن يفوت الكبار والقدروا. الذي سكب عشقه لذلك الطوب في مبني رئاسة حكومة ولاية شمال كردفان في عاصمتها مدينة الأبيض. بالرغم من تقديري الكبير لهذا العمل لكنني أعتقد أنه لم يستطع فيه أن يخرج من جلباب أبيه. إذ أنه كان إلى حد بعيد أسير كلاسيكيات عمارة كلية غردون التذكارية. تفاهمت معه في هذه الأمر فكشف لي عن جوانب جعلتني أجد له بعض العذر.
تنقلت بكم في فترة تجاوزت القرن من الزمان عبر عدة محطات مواقف كانت عمارة طوب السدابة سيدة الموقف في جلها. أن الأوان لقراءة ثانية متأنية لها نتدبر فيها إمكانية استثمار تراثها. برؤية جديدة نتجاوز بها مأزق نهج الحداثة الذي انتهي عمره الافتراضي. خطوة جريئة لرؤية نستصحب فيها مستجدات اختراقات فكرية سارت على ذلك الدرب. نبدأ تطوافنا الختامي بوقفة في رحاب العمارة الكلاسيكية مركزين على السيادية وشبه السيادية الطابع. مبني السردارية أو قصر الحكم السابق حالياً وزارة المالية وكلية غردون التذكارية. التي تجلي فيهما طوب السدابة في أنصع صوره. كانت كلمة السر فيها طابع العمارة الآثاري ترجمة لمسماه باللغة الإنجليزية monumental character or style. الذي يستثمر في المبالغة في المقاسات أو الأبعاد. بعد ذلك مغازلة ومحاولات تقرب للعمارة الكلاسيكية ممتطاة ً طوب السدابة كبديل للحجر الطبيعي. بشتى الطرق الإبداعية التي أشرت لها من قبل. منتجة عمارة مدارية tropical architecture بنكهة خاصة. نجحت في النهاية في إنتاج عمارة معبرة عن السلطة هذا هو بيت القصيد. بالرغم من استخدامها لخامة بنائية مفرطة في البساطة وظفت بذكاء فائق روح ابتكار عالية. توجه يفتح باب الإبداع على مصراعيه في رحاب فكر مدرسة الكلاسيكية الراجعة كخير ملجأ وملاذ. دونكم أمثلة كثيرة أشرت لبعضها من قبل. مثل ميني بلدية أوريغون بولاية بورتلاند من أعمال مايكل قريفز ومتنزه دا إيتاليا من أهم روائع شارلس مور. التي تطرح نفسها كمصادر إلهام مهمة بالرغم من اختلاف مواد تشييدها. تحفز على الاستثمار في تراث طوب سدابة بلادنا بتطويعه لإنتاج نسخة سودانية من عمارة طراز الكلاسيكية الراجعة.
حائط صد عالي حصين منع من يتبعون نهج الحداثة من الاستثمار في تضخيم تفخيم مكونات عمارتهم. كتاب مرجعي أساسي شبه مقدس بالنسبة لهم مقدس عند عدد مقدر منهم. اسمه باللغة الإنجليزية Architect’s data مؤلفه Neufert نويفيرت. يحدد بدقة صرامة بالغة مقاسات أجزاء المباني بناءً على أبعاد جسم الإنسان. توجه رسخ له فكر توجه عمارة الحداثة علماني الجذور. المؤسس على احتياجات ضيقة الأفق مادية بحته دنيوية الطابع. معنية بشكل أساسي باحتياجات الإنسان البيولوجية الفسيولوجية الطابع. بالإضافة لأخري مادية بحته مؤسسة على التكلفة والمال. تركيز شديد علي هذه الجوانب يكاد يغفل أو يتجاهل أخري لا تقل أهمية وقيمة. إنسانية الطابع معنية بالعواطف والأشواق والأماني والهواجس الغير مبررة أحيناً لكنها مؤثرة للغاية. ليست ذات قيمة بالنسبة لهم لأنه لا يمكن التعامل معها بأدوات قياسهم المعتمدة. مثل أجهزة قياس درجات الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح. متجاهلين تماماً عن قصد أبعاد ومقاسات العمارة التي تعبر عن أحاسيس نبيلة رفيعة تجمع بين أفراد أمة بحالها. إذ أنها في بعض الحالات يمكن أن تعبر عن السيادة والعظمة. هذا عين ما فعله الجانب البريطاني من سلطة احتلال بلادنا في مبني كلية غردون التذكارية في مطلع القرن الماضي. التي وظفوا عمارتها لتعبير عن بريطانيتهم العظمي. رسالة أكملوها بطوب السدابة الذي تتوشح به عمارة ذلك المبني الضخم مهاب المحيا. كرمز يعتدون به يشكل جزءً متميزاً من تراثهم المعماري. ظاهرة تنقلنا لجانب أخر بالغ الأهمية من أبعاد العمارة التعبيرية سنشير إليه لاحقاً.
من أميز ما أتسم به توجه الحداثة ونهج من أتبعوه عداء مستحكم سهامه موجه نحو التراث المعماري. حالة تصل بهم لدرجة الحساسية الفائقة نحو مكوناته أي كان نوعها أو مصدرها. تصل لأعلي درجاتها لمرحلة أشبه ب (الأرتكيكاريا) عند بعضنا التي تجعل الواحد منهم تنتابه حالة عصبية يهرش فيها جلده. مواقف ثابته استبعدت مكونات أساسية كانت تزين واجهات العمارة في سالف الزمان. مثل العقدات أو الأقواس التي كانت تزين جبينها والأعمدة الفتانة الفرعاء كلاسيكية الهوية التي كانت تحرس واجهاتها. مكونات أساسية حكم عليها توجه الحداثة بالإعدام استبعدها من المشهد المعماري. موقف صارم من كل ما له صلة بالعمارة الكلاسيكية امتد أثره لمواد البناء الطبيعية لتي ارتبطت به. التي ابعدها من الصورة أو همشها الي حد بعيد. بالرغم من ألقها المترف وحيوية مظهرها والدفء العاطفي الذي تحمله بين جوانحها. تنضح به بعضها مثل أنواع الحجر الطبيعي المتعددة. حملة عارمة كان طوب السدابة واحد من ضحاياها التي همشتها عمارة الحداثة. جعلتها مجرد (كمبارس) ممثل سنيد في عمل مسرحي معماري تلعب دور البطولة فيه مكونات خرصانية. متجاهلة دور ذلك الطوب في عمل معماري بالغ التميز مثل مبني كلية غردون التذكارية. بقيمته الرمزية العالية عند أمة الشق البريطاني الشريك الأساسي الأهم في سلطة الاحتلال حقبتئذٍ. التي سطع فيها معلنا عن اعتداد أمتهم به باعتباره واحداً من أهم رموز هويتهم. ضرب توجه الحداثة عرض الحائط بكل تلك المعاني السامية للعمارة مستمسكا بعناد واضح بمنظومة مكونات عمارته الخرصانية.
قدم الشريك البريطاني في سلطة الاحتلال أعمال معمارية أخري بالغة التميز في عقود القرن الماضي الأولي. كشفت الكثير من إمكانيات طوب السدابة التي يقدم نفسه بسخاء للاستنساخ بتصرف في زماننا هذا. بالذات تلك التي تحررت لاحقاً من قيود الكلاسيكية الصارمة لتلامس ضفاف الحداثة. أقف بتجلة بالغة مقترنة بالدهشة أمام المداخل الخلفية الجنوبية لمبني السردارية السابق وزارة المالية الحالية. في حضرة شلال متدفق من مكونات ذلك الطوب النبيل. أتخيله جزءً من متنزه مفتوح تنساب منه المياه رقرقة من عُلي. متقاطعة مع حركة من يصعدون تلك السلالم المفتوحة في الهواء الطلق. مجرد حلم أن أرجو أن يتحقق. أنظر من ناحية أخري لطوب السدابة في حالتين مختلفتين متشابهتين. مرة هو يقدم نفسه في أرجاء داخليتي النيل الأزرق والنيل الأبيض في فترة الحكم الثنائي. ليظهر مرة أخري بعد عقود من الزمان في إطار كليتين في رحاب الحكم الوطني. قدم فيها طوب السدابة نفسه في إهاب مختلف يغازل الحداثة هو لا زال في خدر الكلاسيكية. ممارساً لعبة جديدة في صفحة واجهاته. تغمز فيها في دلال ثقوب تتحاور مع وحدات بارزة تداعبها أشعة شمسنا المدارية تمنح العمارة حيوية بازخة. واجهات تستدرج المرء لرواقات تحمله فيها سلسلة عقدات أقواس مسننة تربت عليه برفق وحنو. عمارة مفعمة بالدفق الإنساني برعاية طوب السدابة. حملت الطلاب ردحاً من الزمان علي أكف الراح من داخلية لتسلمهم لاحقاً لكلية بنفس تلك الروح والمشاعر النبيلة. عمارة تتواضع تتقزم أمامها مخرجات نهج الحداثة بأسلحتها المضاءة من المكونات الإسمنتية والخرصانية.
اهتمامي الفائق بطوب السدابة نابع من عدة مبررات موضوعية اشرت إليها في بداية مقالاتي. التي لم تشفع له تمكنه من مقاومة طوفان توجه الحداثة الذي همشه فضل عليه خيارات أخري. استرداده لمكانته في الصدارة يحتاج لاستراتيجيات محددة. واحدة منها الاستثمار في تراثه التليد بنهج إبداعي يناي عن النقل الحرفي. الذي نحتاجه على وجه الخصوص في تصميم مشاريع المباني سيادية وسلطوية الطابع. مبتدئين فيها بالتطاول في البنيان متجاهلين موجهات مرجع (نويفرت) الصارمة. مراهنين في هذا السياق على تصميم أعمدة وركائز كأنها أعمال نحت عملاقة مستثمرة في تنويع أشكال الطوب. مثل هذه المباني سيادية الطابع قد تحتاج لاستدعاء رواقات برندات بمواصفات محددة. معززة يا حبذا بسقف زائف من وحدات قبو متقاطعة. تخفي خلفها إضاءة خافتة أو وحدات صوتية ترسل النداءات أو مقطوعات موسيقية عند اللزوم. لمسات تضفي على مثل هذه المباني بالغة الأهمية هيبة وبرستيج يميزها عن المباني العادية. التي يجب ألا يكون اهتمامنا الخاص بها على حساب العادية والسكنية التي يكون التعامل معها بنبرة أخف. تعويضها يمكن أن يكون بَإضفاء لمسات جمالية على واجهاتها بعدة طرق. التي يمكن تطريزها بوحدات طوب جيدة الحرق سوداء في تشكيلات زخرفية. بالإضافة لحيل أخري لها مردود إيجابي متعدد الفوائد. تشكيلات تتحاور فيها فتحاتها مع وحدات بارزة مجاورة تضفي على الواجهات ألقاً زخرفياً مذهلًاً. يتجاوز مردوده الجمالي ليخدم أغراض أخري لا تقل أهمية أشرت لها من قبل بشي من التفصيل.
معالجات عبقرية متنوعة يمكن أن يسترد بها طوب السدابة بعضاً من أراضيه المستلبة. معها أيضاً مبانينا السيادية التي لو صممت على ذلك على النحو لمنحت الأمة ومجموعاتها إحساس جارف بالزهو والافتخار. يكتسبونها هم يتجولون في رواقات يغمرهم فيها إحساس (قرقول) الشرف. أحاسيس مشابه سيظفر بها أرباب البيوت العادية. من خلال بصمة بائنة تشيئ بها واجهات تغازل أشعة شمسنا المدارية في دلال بائن. أهم من ذلك معها سيجعل الزاهي في خدره داخلها في الحفظ والصون هو يتواصل مع العالم حوله. مقترحات من شأنها أن توفر لطوب السدابة موضع قدم مرة أخري. توطئة لتمدده احتلاله لموضعه المتقدم الذي كان يتصدر فيه المشهد.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان-فبراير 2023