عمارة بيوتنا الحضرية: ظاهرة الحنين إلي الماضي، النوستالجيا
تعاني عمارة مسكننا الحضري منذ عدة عقود من الزمان من حالة (أنيميا) طرازيه حادة. فقر دم معماري مزعج لن ينقذه عدد مقدر من زجاجاته لأنه يحتاج لعلاج أساسي يتم بتغيير فصيلته التي فقدت فعاليتها. علة ناتجة عن ارتدادات مزعجة خلفتها مرحلة الفطام من توجه الحداثة التي لا زال يهيمن على المشهد. نتيجة تمسكنا استعصامنا به بالرغم من أن الزمن تجاوزه في العالم الغربي. نفس ذلك العالم الذي أنتجه في النصف الأول من القرن الماضي. لينقلب عليها في النصف الثاني مجتهداً في الفكاك منه عبر توجهات جديدة. لكننا نحن هنا للأسف لا زلنا نتنكب نفس ذلك الطريق في حالة أشبه بطفل متخلف مع كامل تقديرنا احترامنا لهذه الشريحة. حالة كانت عمارة مسكننا الأكثر تأثراً بارتداداتها السلبية. واقع نعيشه بكل أبعاده المؤسفة بدون انتباه انزعاج لعمق أزمته الناتجة عن إسقاطاته المؤثرة على حياتنا التي تشكل العمارة السكنية جزءً أساسياً منها. سببها الأساسي تشبثنا بفكر نهج الحداثة الذي تقدمه في صورة باهتة مشوه. أزمة مستفحلة عميقة أمثل الطرق للتحرر من إسارها التخلي عن مرجعياتها الفكرية العقيمة استبدالها باخري نابعة من واقعنا. طريق طويل محفوف بالتحديات يجب أن نبدأه بالنظر تاريخياً لتجربتنا السودانية في هذا المجال المعماري الحيوي. بتأملها على خلفية مشهدها في العالم الغربي الذي أنتجها. هذا ما سأسعى لتحقيقه في هذه المقالة التي سأجتهد فيها لملامسة جوانب من هذه المشكلة المستعصية. مبتدئاً بمرحلة ميلاد نهج الحداثة السوداني في مطلع ستينات القرن الماضي. متتبعاً خطواته حتى زماننا الحالي نحن في عشرية الألفية الثانية مركزاً فيه على عمارتنا السكنية.
مدخلنا لموضوع هذه المقالة الشائك المعقد سيكون عبر خلفيات أساسية شكلت أهم نقاط انطلاقه. فكر نهج توجه الحداثة الذي كانت له إسقاطات بالغة الأثر علي عمارة مسكننا الحضري موضوع هذه المقالة الأساسي. التعامل معه يعني بالضرورة النظر في جذوره الأساسية الأولي. مراحل نشأته التي أدت لانتشاره بعد ذلك في كل أرجاء العالم حتى وصلنا في خمسينات القرن الماضي. عمل يقودنا بالضرورة لاستعراض المشهد في العالم الغربي الذي انطلق منه في النصف الأول من ذلك القرن. في نسق تصاعدي حالة مخاض متعددة الأبعاد أحدثت زلزلاً حضارياً بالغ الأثر. عبر عدة مجالات فلسفية وتقنية وعقائدية دينية، وأخلاقية، وثقافية، ومجتمعية. تمخضت عنها تحولات تداعيات فكرية مؤثرة خرج من رحمها أهم مخرجاتها نهج الحداثة العريض. الذي حمل العمارة بين جوانحه مصطحباً معها تخصصات ملازمة لها أكبرها التخطيط العمراني أصغرها مكوناتها الداخلية. لتشكل معاً توجه مؤسس على منظومة فكرية متكاملة. سطع نجمها في العالم الغربي بشكل تصاعدي خلال عقود النصف الأول من القرن السابق. وضع أساسها الفلسفي الفكري ثلة من أميز معماريو ذلك الزمان. بشكل مكن التوجه الجديد من امتلاك ناصبة العمل المعماري الانفراد بساحته. لينطلق بعد ذلك متجاوزاً حدود عالمه الغربي ليصل لكل أركان الدنيا. فحط رحله وضع بداية بصمته البائنة في بلادنا في منتصف الخمسينات مرحلة سنوفيها حقها من الشرح لاحقاً. لنعود بعدها لهذه الحالة الغربية فنفاجي بضمور توجهها الحداثي بداية انسحابه من موقع الصدارة في النصف الثاني من ذلك القرن.
انسرب توجه الحداثة المعماري إلي بلادنا في نهاية الخمسينيات عبر ثلاثة محاور رئيسة مختلفة نوعاً ما. كان أهمها ابلغها أثراً ما تم عبر بوابة تعليم العمارة علي المستوي الجامعي. خطوة لعب فيها دوراً أساسياً الشريك البريطاني السابق خلال فترة الاحتلال بعد مغادرته لبلادنا. مؤسسيين لحالة أشبه بقصة مسمار جحا التاريخية التراثية. التي تحكي أنه غادر مكاناَ ما لكن ظل يتردد عليه بحجة تفقده لمسمار تركه هناك. كان مسمار حجا هنا منهج أول قسم لتعليم العمارة بالبلاد. الذي أسسوه بصرامة على مبادئي مفاهيم الحداثة غربية المنشأ. رسالة حملها في الخمسينات نخبة من الأساتذة البريطانيون أسسوا قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. كانوا راس الرمح في ترسيخ فلسفة مفاهيم ذلك التوجه في عملية غسيل مخ ممنهجة ناجحة للغاية. لا زال أثرها مخيماً على المشهد المعماري حتى زماننا هذا نحن في عقود الألفية الثالثة الأولي. عزز من نجاعة أثرها في القسم من حمل الراية من بعدهم من طلابهم النجباء. الذين تلقوا العلم هناك في ظروف مثالية رسخت تلك المفاهيم جيداً في أذهانهم. نعموا بعدها بجرعة تعزيزية مؤثرة من خلال دراساتهم العليا في بريطانيا العظمي تحت رعاية أساتذتهم السابقين. ليسلموا الراية بعد ذلك هم متشربون بتلك المفاهيم لأجيال جاءت من بعدهم.
لم يكتف الأساتذة الأوربيون الأفذاذ بنشر أفكار عمارة الحداثة بين طلابهم. تجاوزا ذلك الهدف النبيل حسب رؤيتهم فأنزلوه علي أرض الواقع في أعمال معمارية غاية الروعة خير معبر عن ذلك التوجه. طرزوا بها مواقع جامعة الخرطوم في مدن العاصمة الثلاثة. أعظم ما قاموا به فيها إعادتهم لمجد طوب السدابة خامة البريطانيين الأثيرة. التي قدموها هذه المرة في إطار توجه الحداثة في إهاب عصري. لكأنهم أرادوا أن يعبروا عن دور جامعة الخرطوم الريادي المتقدم المتجدد في سياق حضارة السودان. باعتبارهم كانوا دائما على كافة الأصعدة هم رأس الرمح. عمل كبير من إنجازات هؤلاء الأساتذة في رحاب مواقعها في عملية بيان بالعمل موفقة للغاية. كتيبة كان علي رأسها العبقري الهميم رئيس القسم ألك بوتر. الذي قدم عمارة الحداثة في أبهي حلة موشحة بطوب السدابة تلك الخامة التي تنضح نبلاً. للأسف لم يكن هناك الكثير من أعمالهم في إطار موضوعنا هنا المعني بعمارة المسكن الحضري. لكن بوتر لامسه هنا وهناك بأعمال سكنية الطابع قدم في بعضها دروساً بالغة القيمة. من أميزها العمارات السكنية في مجمع سكن الأساتذة المرابط في الجزء الشرقي من مدخل كبري القوات المسلحة. عمل رائع أنجز في الخمسينات نتمنى أن يقتدي به الأن من يتصدون لمثل هذا النوع من المشاريع. نستثني منهم بالطبع القائمين علي أمر (الصندوق) إياه. الذين أثبتوا بجدارة قصر قامتهم التي لا تطال مستوي إدارة صناديق نسوة الأحياء، صناديق (الختة).
شهدت الخمسينات حالات اختراق أخري تسلل فيها إلينا توجه الحداثة عبر محاور أخري ليسطع متصدراً المشهد المعماري. كان مصدرها نفس ذلك العالم الغربي بالتحديد الأوربي منه الذي شهد ميلاده سطوع نجمه من قبل. سنشير هنا لحالتين كانتا جنباً لجنب بمثابة راس الرمح مع ذلك الزخم الذي تفجر في قسم العمارة بجامعة الخرطوم. كان بطل الأول معماري تقاسم الأدوار مع بضع معماريين سودانيين سطع نجمهم خلال تلك الحقبة. ذلك الفارس الذي تصدر المشهد هو المعماري النمساوي بيتر مولر. عبر دوره المؤثر المكمل لما أتي به من قبله دكتور إلك بوتر ورفاقه في قسم العمارة بجامعة الخرطوم. مساهماً بفعالية في التأسيس لطراز الحداثة بعد بدايته الأولي مستثمرا في التقدم في مواد وتقنية البناء. مساهماً بأعمال رفيعة المستوي مفرطة الرشاقة والأناقة. من المؤسف أنه لم ينجز العديد من الأعمال في مجال العمارة السكنية موضوع هذه المقالة. كانت من أهمها فيلات أنيقة شيدت في الستينات في حي العمارات في الخرطوم في إطار مشروع عرف باسم أل Mother Cat. بالإضافة لأخري متميزة في مجال العمارات السكنية من أشهرها عمارة بنك السودان في شارع 13 في نفس الحي. أروع أعماله في هذا السياق عمارة ميز الأطباء في الجزء الشرقي من الطرف الجنوبي لشارع المك نمر. تحفة معمارية بكل المقاييس كنت دائماً استشهد بها لطلابي كنموذج يجب الاحتذاء به. أزيلت أروع أجزاءها للأسف ليتحول بعدها المبني لفيل أبيض ضخم. عمارة جوفاء مسترسلة بلا روح مكسوة بألواح المعدن والزجاج.
كانت إنجازات بيتر مولر علامات فارقة في مسيرة عمارة الحداثة السودانية. وضع لها الأساس فاعتبرته عرابها أباها الشرعي خلال حقبة منعطف الخمسينات والستينات. ممهداً الطريق لمن أتوا بعده من الوطنيين بعض أشاوس أفذاذ حملوا الشعلة بجدارة. مما دعاني لأسباب مقنعة بعد أن غادر بيتر مولر البلاد لتنصيب أحدهم عراباً وطنياً لعمارة الحداثة السودانية سأشير له لاحقاً. فتية شبان أماجد رضعوا تشربوا بفكر الحداثة نهلوا منه من نفس تلك النبع الأوربي من غرب وشرق القارة الأوربية. سأتوقف عند مساهمة أثنين منهم نسبة لمساهمتهم المؤثر في عمارة المسكن الحضري موضوع هذه المقالة. كان أحدهم هو الاميز من أربعة درسوا العمارة في بريطانيا في عقد الخمسينات الذي سطع نجمه لاحقاً بشكل باهر. أستاذنا أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي. الذي دفعني عطائه المتفرد خلال فترة قاربت النصف قرن من الزمان لكي أعتبره العراب السوداني الأوحد لعمارة الحداثة السودانية. الثاني من الاثنين الذين أشرت إليهم هنا يمثل حالة مختلفة من المجموعة التي درست العمارة في بريطانيا. هو المعماري الفذ كمال عباس الذي درسها في يوغوسلافيا في الجزء الشرقي من تلك القارة. دراستها بعيداً مركز ثقل توجه الحداثة في تلك القارة لم تمنعه من تشرب أفكاره بعمق التحليق بها بعيداً في فضاءاتنا السودانية. بشكل جعله ندا قوياً منافساً شرساً لعرابها الأوحد عبد المنعم. لا يسعني في هذا السياق إلا أن أعبر عن هذه الحالة فأقول عنهما معاً، في كلِ خير. سأسلط عليهم الأضواء معا نسبة لدورهم بالغ التميز والتأثير في سطوع نجم عمارة المسكن الحضري في العقود الماضية.
حالة أستاذنا عبد المنعم جديرة بالتوقف عندها تأمل كافة مراحلها وتفاصيلها. لأنها تؤرخ لبدايات سطوع نجم عمارة الحداثة السودانية الذي لعب فيه دوراً مفصلياً. اهتمامي الخاص به وبها نابع من مساهماته المؤثرة في مجال عمارة المسكن موضوع هذه المقال الرئيس. لم يأت تسيده تصدره للمشهد من فراغ لكن نتيجة تأهيله الرفيع للذي أعده بجدارة لهذا الدور القيادي. فقد كان هو الاميز في أول مجموعة درست العمارة في بريطانيا في الخمسينات في فترة توهج ذلك التوجه. تفوق باهر أشارت إليه صحفهم شحنه بجرعة عالية الفعالية من فكر التوجه. حملها لبلاده هو مشرب بروح حداثة طامحة معززة بفكر تقدمي جامح. مصطحباً زوجة فائقة الجمال من حسناوات تلك البلاد منسجمة مع شعره المرسل بطريقة شباب الستينات وبنطاله) بنطلونه) (الشارلستون). صورة مبهرة اكتملت أركانها بأخر موديل من سيارة (الموستانق) عصرية السمات وقارب (الفايبرقلاس) المرابط أمام داره. لكن الواضح أن المد الحضاري الحداثي في بريطانيا وتداعيات مظاهره في السودان لم تنجح في أن تجعله مستلباً تماماً لذلك العالم الغربي. الواضح أيضاً أن عوامل مؤثرة في مراحل حياته الأولي وشبابه في مدينته الفاضلة أمدرمان تغلغلت في وجدانه حصنته من الاستلاب. عمقت فيه إحساس جارف يشار إليه بالسوداناوية حصنه بجرعة تأصيلية عميقة الأثر. مكنته من تبني توجه معماري متوازن حداثي المظهر سوداناوي الروح. حالة عبقرية أنتجت عمارة حداثة متفردة سودانوية الهوية. وَصفت تعامله معها بأنه كان يعيش في حالة انفصام شخصية حميدة. ظاهرة كرست لها هذه المقالة المعنية بمؤشرات الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) التي قدمها أستاذنا عبد المنعم في أزهي صورها.
بناءً على عنوان هذه المقالة موضوعها الرئيس سأركز في مسيرة عبد المنعم الظافرة على ما يمكن أن أسمية ظاهرة النوستالجيا المعمارية. التي قدمها بحصافة فائقة وحساسية عالية لم تمس شعرة من نهج الحداثة. صدح به في أنصع صورة التزم بها طوال مسيرته. سأسلط الضوء هنا على مرحلتين مرت بها مسيرته في عقودها الأولي. تعامل فيها مع شريحتين مختلفتين بالتتابع متباينتين في خلفيتهم والعديد من سماتهم الأساسية. ظاهرة سلطت عليها الأضواء من قبل في أكثر من واحدة من مقالاتي التي ضمنتها في مدونتي في منصة الفيسبوك. الوصول إليها عبر الرابط Dr. Hashim Khalifa- Facebookو اختيار الجزء الخاص بالمدونة. كانت الشريحة الأولي التي تعامل معها عبد المنعم في منعطف الستينات والسبعينات من صفوة مجتمع ذلك الزمان. نخب تلقوا تعليم عالي المستوي في جامعات أوربية وأمريكية لهذا السبب أشرت إليهم بالإنتليجنسيا. لينتقل بعد ذلك لاحقاً بعد أن ذاع صيته في مسار متوازي مع شريحة أخري مختلفة الخلفيات والسمات. ثلة من خيرة رجال وأعمال لم ينالوا نفس حظ الشريحة الأولي من التعليم والشهادات. وفدوا للعاصمة من أقاليم السودان ليحتلوا مكانة مرموقة في مجتمعها المخملي خلال تلك الحقبة متسلحين بذكاء وقاد وعزيمة وطموح جامح. حصافة عبد المنعم وحسه المعماري المتقدم مكنه من التعامل بنجاح فائق مع تلك الشريحتين المختلفتين في خلفيتهم. بشكل جعله المعماري الأوحد المفضل للشريحة الثانية. في حالة كنت كانت كلمة السر في نجاحها ما يمكن أن أسميها النوستالجيا المعمارية. التي وظفها بنجاح وذكاء فائق غازلهم بها فوقعوا في غرام عمارته حداثية السمات بدون أن يتخلى عن ثوابتها.
كانت عمارة بيوتنا الحضرية حائرة تبحث عن هوية في منتصف الخمسينات بلادنا تتأهب لانتزاع استقلالها. متأرجحة بين طراز بيوت الأفندية كولونيالي الجذور واحد من مظاهر تراث المحتل البريطاني. ينافسه نموذج من تراث العمارة السكنية للشريك المصري الثاني في سلطة الاحتلال. تأثر به بعض إنتلجنسيا ذلك الزمان استهوتهم فيلاته الأنيقة كلاسيكية الطابع التي اعتبروها نموذجا للبيت المثالي. ليدخل طابعها في منافسة محتدمة مع نسخة بيوت الأفندية في رحاب أحياء الخرطوم الجديدة في بداية الخمسينات. شهر عسل لم يستمر لمدة طويلة تسبب في انحساره التدريجي زلزال طرازي جديد. جاء محمولاً على أجنحة عمارة الحداثة. التي بدأ ت تسحب البساط من تحت أقدامه. في خطوة سجلت ضربة بدايتها كتيبة أسست قسم العمارة بجامعة الخرطوم. لتكمل مسيرتها ثلة من الوطنيين درسوا العمارة في بريطانيا كان على رأسهم ربانهم رائدهم عبد متعم مصطفي. الذي مهد له السبيل في بداية مسيرته مكنه من تحقيق اختراق طرازي ثلة من أقرب أصدقاءه الإنتليجنسيا أشرت لهم من قبل. تعامله معهم بتصميم بيوتهم كان بمثابة معبر مكنه من نشر رسالة عمارة الحداثة. قدمها بشكل جذاب أستهوي ثلة من رجال أعمال جدد شريحة مجتمعية مختلفة في خلفيتها والعديد من خصائصها عن هؤلاء الإنتليجنسيا. ذاع خبرها بينهم فتهافتوا عليها بشكل ملموس. بذلك نجح عبد المنعم في نشر تلك النسخة السودانية من عمارة الحداثة بين شرائح متباينة من المجتمع. إنجاز مهم كان سلاحه المضاء كلمة السر العزف بطريقة ذكية على أوتار الحنين إلي الماضي بالمحافظة علي القيم الأساسية. هذا هو أيضاً سر عظمة عمارته حداثية المظهر (سوداناوية) الجوهر.
تعامل عبد المنعم في بداية مسيرته مع نخبة من الشباب من أميز المهنئين في عدة مجالات كان منهم أهم مفكري عصرهم. دفع بهم نظام ثورة مايو الاشتراكي في بداية عهده في مطلع السبعينات إلي أعلي المراكز. بناءً على انتماءاتهم الفكرية وميولهم التقدمية العصرية. التقارب في خلفيتهم جعلهم من أقرب أصدقائه جعله أيضاً الأنسب من معماريو تلك الحقبة لتصميم بيوتهم. فهيأت له فرصة ذهبية لتطبيق حلمه في إنزال رؤية عمارة الحداثة الوليدة في أزهي صورها. التي نجح في تحقيقها بدون صدمات ارتجاجية في إطار أجواء مشبعة بالفكر التقدمي. في حالة يبدو أن جيناته السودانواية تدخلت فيها منعتها من الذهاب في ذلك الاتجاه إلى أخر الشوط فجاءت عمارة بيوتهم متوازنة. أتاحت لهم مساحة تواصل حميم مع أهلهم وأصدقائهم أحيناً مع الشوارع من حولهم. تجلت في حالة فيلا دكتور منصور خالد بحي الخرطوم وسط. التي أشرت إليها في مقالة. ضمنتها في مدونتي في الفيسبوك عنوانها: الاستدامة الثقافو-مجتمعية في فيلا منصور خالد. عمل معماري حقق فيه عبد المنعم توازن بين نهج منصور الصفوي العصري التقدمي. بدون أن يخصم من رصيد علاقاته الحميمة مع كافة أطياف المجتمع. بطريقة وفرته له أجواء مثالية لعوالمه الفكرية السامقة. غايات نبيلة حققها بنجاح فائق بحيل تصميمية من أهمها التلاعب في مستويات الفيلا بطريقة جعلتها أقرب لنمط بيوتنا التقليدية. أفكار عبقرية جسدتها بشكل رائع فيلا الدكتور أمين أبو سنينة في مربع عشرة بحي الرياض في الخرطوم. حققها بالتعامل بحساسية فائقة مع سلاسة الحركة والتواصل بصري. بطريقة أتاحت للأسرة التواصل مع عالمها الخارجي بدون انتقاص من خصوصيتها. فكانت النتيجة معالجات فضائية عصرية مبتكرة حافظت على دفء وحميمية بيوتنا التقليدية.
في فترة لاحقة بعد بداية مسيرته الظافرة ارتحل عبد المنعم من عالم الإنتليجنسيا. ليحط رحله في رحاب مجموعة من أميز رجال أعمال جدد وفدوا للعاصمة من أقاليم السودان. نظرتهم الثاقبة ذكاءهم الوقاد لفت انتباههم لروعة عمارة فيلات هؤلاء الإنتليجنسيا. التي استشعروا أهميتها بالنسبة لهم لتقديمهم لمجتمع العاصمة المخملي. تهافتوا عليها فرحب بهم متطلعاً لتجربة تعتبر تحدياً جديداً لعمارة الحداثة لتي نزر نفسه لنشر فكرها. خاضها بنجاح فحقق نصرا فتحاً جديداً مختلفاً عن حالة الإنتليجنسيا. نجح فيها هذه المرة مضيفاً بعداً جديداً لأسلحة عمارة الإنتليجنسيا المضاءة التي كان أساسها التلاعب بالمستويات. مستوعباً هذه المرة خلفية هذه الشريحة التقليدية المحافظة ريفية الخلفية. فأدخل بكثافة عنصر جديد مهم للغاية يعرف بيننا نحن المعماريين بكاسرات أشعة الشمس. تستخدم أساساً في الواجهات لمنع اختراق أشعة الشمس لكنها مثالية أيضاً لمنع تسلل نظرات المتطفلين للبيوت. تسطع في الواجهات في عدة أشكال مثل المكعبات الأسمنتية المجوفة و (مرائن) أو أطوال الخشب و (ذوي) الحديد الأفقية. التي صارت البصمة أو الماركة المسجلة لعمارة عبد المنعم السكنية. شكلت مع التلاعب في المستويات خير عمارة لتلك الشريحة من رجال الأعمال الجدد. فتهافتوا عليها لأنها لامست وتراً حساساً غازل عوالم قيمهم النبيلة ريفية الجذور في تجربة نجح فيها باستلهام روح بيوتهم التقليدية. التي قدمها في إطار عصري جعلهم يعتدون بأنفسهم بعد أن صاروا جزءً من مجتمع العاصمة المخملي. عبرت عنها في مقالة مطولة سلطت فيها الأضواء ركزت فيها على تجربة مجمع بيوت إبراهيم طلب بحي الميرغنية بالخرطوم بحري. خواطر تعيدنا لعنوان هذه المقالة المعنية بما أسميته النوستالجيا المعمارية.
شهدت السبعينات بداية سطوع نجم نافس أستاذنا عبد المنعم مصطفي في تصدره لمشهد عمارة الحداثة السودانية. جاء إليها من خلفية مختلفة إذ درس العمارة في الجزء الشرقي من أوربا في يوغسلافيا. قدم في إطارها خلال عدة عقود من الزمان أعمال بالغة التميز قبل أن يرحل من دنيانا في العشرية الثانية من الألفية. من أهم جوانب تميز عمارته تنوع مذهل في الطرازات والخامات حلق بها في فضاءات إبداعية رحبة. عطاء مدهش ارتكز على تمكن عالٍ إلمام واسع بتقنيات العمارة كنتاج طبيعي لدراسته في ذلك الجزء من أوربا. مضاف إليه مقدرات فنية رفيعة عززها بثقافة عالية يفتقدها جل المعماريين. صفات مقدرات قل أن تجتمع عند معماري. كان يدعمها بمتابعة مواكبة مستمرة لمستجدات عالمه المعماري. أري في تدفق أعماله المدهشة بتنوعها المذهل نفس ملامح تراث المغني العبقري عبد العزيز محمد داؤود. الذي وصل بخامة صوته الفخيمة متعددة الطبقات إلي أعلي أسمي درجات التطريب. لدرجة استغنائه أحيناً عن الفرقة الموسيقية المصاحبة عندما كان يغني مستعيناً بعلبة أعواد الثقاب علبة (الكبريت) فيبدع ويُطرب. هكذا كان كمال الذي قدم بعض أعمالاً معمارية كبيرة صدح فيها كأنه مطرب يغني بصحبة فرقة موسيقية مكتملة الأركان. نجح أيضاً في تقديم أعمال أخري في منتهي الروعة مستخدماً خامة بنائية واحدة. قدمها كأنه مطرب بارع عواد، عازف عود حازق، يقدم أعذب الأعمال بدون فرقة موسيقية. هكذا كان كمال عباس طوال مسيرته المعمارية الظافرة التي أنتج فيها تراثاً معمارياً يتميز بثراء بازخ وتنوع مدهش. مما جعلني بلا تردد أنصبه ملكاً للتطريب المعماري. سأتوقف هنا عند نماذج منه تلامس موضوع هذه المقالة المعنية بظاهرة النوستالجيا المعمارية.
واحد من أوائل أعمال كمال عباس المعمارية التي اطلعت عليها لاحقاً تنضح تضج نوستالجية. واقع هذا العمل والمبني تاريخه وقيمته الرمزية هي التي قادته إلى هذا الطريق أوعزت إليه بتنكبه. مهتدياً بإحساسه الرفيع المرهف المشبع بتقديره الفائق للتراث المعماري. في حالة حرك أشجانه فيها ذلك الجزء من حي بيت المال الأمدرماني. بزخمه التاريخي المصطخب بأحداث مفصلية مضمخة بإرث روحي ديني رفيع. نسبة لموقع ذلك المبني في جزء متميز من ذلك الحي العريق اكتسب أهمية لا تخلو من قدسية. منحتها له دار الحسيب النسيب السيد علي الميرغني زعيم الطريقة الختمية واسر أهله السادة المراغنة. كان المنزل محور اهتمامنا هنا واحد منها يدور في فلكها. مبني متوسط الحجم أشبه بقصر صغير فريد في نوعه وعمارته كلاسيكية الملامح متفردة الطراز. تحكي حديقته الغناء ومكوناته الخارجية والداخلية بكل تفاصيلها عن مجد تليد زاخر بالأحداث في سابق الزمان. قبل أن يؤول في سبعينيات القرن الماضي لمالك جديد مقتدر مالياً خارج نطاق تلك الأسرة الميرغنية لكنه قريباً منها وجدانياً. شعور تجلي في حرصه أن يجدده بشكل يحافظ على ذكريات تلك السنوات والأيام العطرة المعبقة بذكري السادة المراغنة. فأكرمه الله بالمعماري العبقري الفذ كمال عباس الذي قدم من خلال هذا العمل إنجاز بالغ القيمة. أعطانا فيه درس بليغاً عن كيفية التعامل بحساسية فائقة مع مثل هذه المباني التراثية المتفردة.
لعب كمال عباس في هذا العمل على أوتار عقدات أقواس أو )أرشات(كما يسميها البعض نصف دائرية الشكل. تتردد ترفرف على جنبات واحد من مكونات البيت الخارجية ممر طويل مسقوف بدون حيطان جانبية. يربط بين مدخل البيت الخارجي وباقي أجزاءه الأخرى. تحف بجوانبه معلقة مسترسلة تلك العقدات تهيمن على المشهد كأنها حبات عقد منضد. تأخذ الداخل إلي الدار بترحاب مرفرفة على جاني ذلك الممر المفتوح كأنها (قرقول) شرف. تسلمه لصالة توزيع مفتوحة تسطع على واجهاتها نفس نوع العقدات. إطلالتها الرائعة المطلة على الحديقة تقود إلي مبني البيت الرئيس عبر رواق برندة ممتدة علي واجهته. تتوج أبواب غرف الدار فيها نفس أشكال العقدات ليست جزءاً من الفتحة لكن تعلوها في شكل حلية بلون مختلف. لا تنتهي سلسلة العقدات المسترسلة عند هذا الحد إذ تتوغل إلي داخل الحجرات ألي الأهم منها الصالون أو الديوان. تنسرب داخله مشكلة حضوراً بازخاً يزين أركانه معلنة على رؤوس الأشهاد أهمية صاحب الدار وأهله. بذلك تقدم تلك العقدات بأحجامها المتنوعة خدمة متميزة لهذا العمل المعماري المتفرد. تلملم أطراف مكوناته المتعددة بشكل مدهش كأنها عقد يستمد جماله من تنوع وحداته. أجمل ما في هذا العمل استدعاء كمال لهذه العقدات الجديدة لتجلس جنباً لجنب مع رصيفاتها في هذا العمل تراثي الطابع. بدون نقل حرفي لكن بتصرف حافظ علي روحها بشكل مبتكر. خطوة تعتبر استفزازية لنهج الحداثة الذي كان في عنفوان شبابه في نهاية السبعينات. المؤسس على الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة التي تعتبر من مقدساته. فعلها كمال هنا لأنه أراد لهذا البيت أن يحتفظ بنفس روح الأبهة و (البرستيج) التي كان يتمتع بها في فترة تواجد المراغنة فيه. فقدم لنا نموذجاً ساطعاً للنوستالجيا المعمارية في أزهي فترات عمارة الحداثة السودانية.
طوف بنا كمال عباس مرة آخري في واحدة من أعماله في فضاءات النوستالجيا بعيداً عنا راكباً هذه المرة عباب البحر. مغامرة في رحاب عمارة المسكن الحضري اختار لها موقعاً بالغ التميز على ضفاف النهر. الذي أوحي له بخواطر استمدها من أجوائه هوم منها مرتحلاً بعيداً عنها لعوالم البحار. اهتدي بها في تصميم فيلا أحد عملاءه الوجيه إبراهيم محي الدين. في موقع مطل على النهر في الطرف الشرقي لحي أبو روف الأمدرماني استوحي فكرة تصميمه من شكل السفينة كمصدر إلهام أساسي. كان من المفترض أن يحاط مبناها الرئيس ببركة مياه صغيرة لكي تكتمل الصورة. عمل معماري نجح إلى حد كبير في تصميمه بشكل يشبه السفينة. فتح نوافذ صغيرة بيضاوية الشكل في حيطانه المائلة وثبت سياج (درابزين) في الجزء الأعلى منها جعلها تشبه سطح السفينة. إضافة لتلك المعالجات صمم بير السلم في الجزء الأعلى من المبني بشكل يشبه مدخنتها. عمل معماري عبقري بالرغم من أنه لم يكتمل حمل بين جوانحه نوستالجيا مشبعة بمشاعر بحرية ونهرية فياضة. اكتماله بالشكل المأمول كان سيرفعه لأعلي الدرجات. إنجاز يدل على سعة اضطلاع كمال مواكبته لمستجدات الساحة المعمارية على مستوياتها العالمية. فهذا العمل يأتي في إطار تيار عريض مناهض لنهج وتوجه الحداثة ظهر في العلم الغربي في سبعينات القرن الماضي. أنتج عدة مدارس وطرازات يشار لواحد منها بطراز الإستعاراتية التي قدمها كمال في أنصع صورها في فيلا إبراهيم محي الدين. عمل يدل علي تجاوزه مرحلة المعماري المثقف ليضع نفسه بجدارة في مصاف المعمارين المفكرين.
تسلل كمال عباس لقلوبنا وعواطفنا عبر جسر النوستالجيا المعمارية موظفاً حس ومقدرات فنية مهولة تميز بها علي كل المعماريين. عززها بعلم راسخ وثقافة متبحرة حقق من خلالها فتحاً مبينا لعمارة الحداثة السودانية. التي ملها الناس بدأت أسهمها في التراجع منذ نهايات القرن الماضي. نتيجة حتمية لتطورات مجتمعية أدخلت شرائح جديدة من أهل الهامش ضمن نوعية المنتفعين بها. أهم إنجازات كمال في هذا السياق حققها عبر جرأته اللونية المحسوبة بعناية فائقة محروسة بحساسية عالية. خطوة مهمة للغاية حاولت تحرير عمارتنا الحديثة من إسار اللون الأبيض والرمادي. التي استسلم لها تحصن بها جل المعماريين بحجة الولاء لنهج الحداثة. مع أنها في الواقع في أغلب الحالات ناتجة عن (أنيميا) حادة ضربت الإحساس الفني في مقتل. كانت نتيجة حتمية منطقية لنوعية الجرعة الفنية المحدودة التي يتلقاها الطالب في فصل دراسي واحد في السنة الأولي. في شكل زخات سطحية الأثر متواضعة المردود عقيمة النتائج لأنها تدور في فلك فكر الحداثة. الذي تجاوزه الزمن عند أهل الغرب الذين جاءوا به من قبل. جينات كمال المترعة بإحساس فني عالي ومقدرات رفيعة مكنته من تجاوز تلك الخطوط الحمراء بجرأة محسوبة الخطوات. سمحت له في أكثر من حالة وعمل بالتحليق ببراعة فائقة في فضاءات عالم الألوان المبهر. متنقلاً برشاقة بين البيج والبني مع ومضات مبرقة من الذهبي. سأتطرق هنا لواحد منها اختار لها لأسباب مقنعة ساحة العمارة الداخلية.
الحالة التي أعنيها هي فيلا الوجيه رجل الأعمال المعروف إدوارد أسعد أيوب. فيلا مترامية الأطراف بحجم وفخامة قصر في مربع حداشر بحي الرياض بالخرطوم. واحدة من أهم أكبر أعمال أستاذنا كمال عباس أنجزها اكتملت في مطلع التسعينات. التي شكلت بالنسبة له تحدياً جديداً إذ كانت أول تجربة يتعامل فيها مع أسرة قبطية مسيحية. أثبت فيها بأفكاره الجديدة أنه على قدر التحدي وأكثر. تناولتها بالتفصيل في مقالة مضمنة في مدونتي في الفيسبوك عنوانها- كمال عباس يتفوق علي نفسه في فيلا إدوارد أسعد في حي الرياض. أتوقف هنا عند بعض جوانبها ذات الصلة بموضوع هذه المقالة المعنية بظاهرة النوستالجيا المعمارية التي قدمها في أنصع صورها. عمل متفرد لفتت نظري بالتحديد عمارته الداخلية التي تشيئ بعمق تفهم استيعاب كمال لمزاج أخوتنا الأقباط. المتجذر في تراثهم المتميز بثرائه الزخرفي والوانه المصطخبة التي جعلته يحتل موقعاً مهماً في منظومة تراث مصر الفني. أكثر مما لفت نظري في هذا العمل عمارته ذات الوجهين المتنازعين المتنافسين ليكونا معاً تحفة معمارية بالغ التميز. وجه خارجي احترم طرازه خطاب عمارة الحداثة التي تسيدت المشهد بلغت قمة ألقها في منعطف الثمانينات والتسعينات. لتتغير الصورة تماماً داخل المبني في عمارته الداخلية. التي صال جال فيها كمال مستعرضاً عضلاته المعمارية والفنية ليرضي غرور أهل الدار وعموم عشيرتهم. تجول فيها بحزاقة فائقة بالطول والعرض والارتفاع. ليثبت أنه مصمم معماري داخلي ومزخرف وملون بارع لا يشق له غبار. لينتج عملاً مشرقاً مبرقاً لا نظير له في رحاب عمارتنا الحديثة أدعوكم للوقوف على تفاصيله في المقالة التي أشرت إليها هنا.
شهد مطلع التسعينات بداية سطوع نجم معماري شاب حقبتئذٍ هو حيدر أحمد علي. الذي تربي شب ترعرع في المكاتب الاستشارية لمؤسسي عمارة الحداثة السودانية الأمين مدثر وعبد المنعم مصطفي. مرحلة بداء بعدها تدريجياً في تطور لاحق مفارقة نهجهما التأسيسي مستغنياً عن جلباب أبوييه الروحيين لينقلب السحر علي الساحر. واضعاً في عدد من أعماله المعمارية أقدامه بثقة على أعتاب توجه مناهض لنهجهما الحداثي يشار إليه نسبة لتلك المواقف بما- بعد- الحداثة. خطوة كانت لها ارتدادات مقدرة في العالم الغربي وقبول إقبال متزايد. تفاعل معها حيدر بشكل إيجابي سار على خطاها بثقة متسلحاً بزخم ثقافته العالية ومواكبته المتصلة للمستجدات في هذه المجالات. التي تجلت في العديد من أعماله المعمارية المتميزة. لفت بعضها انتباهي لملامستها لموضوع هذه المقالة المعنية بظاهرة النوستالجيا المعمارية كلمة سر عدد منها. التي استثمر فيها بعدة طرق فأصبحت أشبه بالماركة المسجلة لطابعه المعماري. متنقلاً فيها بجرأة وجزالة فائقة من ساحات التراث الغربي الكلاسيكي إلى مراحل شبيه في رحاب يلادنا. متوقفاً أكثر من مرة في رحاب الثانية عند عمارة الكولونيال السودانية التي ازدهرت في النصف الأول من الفرن الماضي. تطواف أكسب عمارته تنوعاً بازخاً ألقاً متجدداً.
خرج حيدر في منتصف الثمانيات من جلباب أبويه ليتنكب دروب معمارية جديدة نأت به من شواطئي الحداثة. أسس لها العالم الغربي عبر مسارات بعيدة عنها. سار حيدر في دربها في نهج كان فيه إلي حد بعيد أسير العمارة الكلاسيكية الغربية وشقها الكولونيالي السوداني. بداء خطواتها الجريئة متمرداً علي عمارة الحداثة السودانية. من سخرية الأقدار أنه قام بهذه الخطوة ممتطاءً صهوة نفس خامتهم المحببة، طوب السدابة. التي سطعت في أعماله الأولي محمولة علي أكف العقد او القوس المسنن العملاق واحد من أهم مفردات عمارة الكولونيال السودانية. لتصبح من أميز أدوات النوستالجيا المعمارية التي تسلح بها في المرحلة مسيرته الأولي. تلتها مرحلة اتبع فيها نفس ذلك النهج المتمرد لكن بشكل مختلف انتقل فيه لمرحلة العمارة البيضاء. التي سطعت تختال فيها في دلال فيلات صغيرة تقطر رومانسية، نوستالجيا في إهاب جديد مختلف. توجه لم يكتف فيه بالخروج من بيت طاعة طوب السدابة. زاد عليه فتجرأ تحلل من قيود الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة معلناً تمرده عليها بمكونات أسطوانية تصدرت مشهد عمارته البيضاء. نوستالجيا معمارية تعود جذورها لدول البحر الأبيض المتوسط الأوربية الساحلية عدل فيها حيدر كما يشاء. في حالة أخري بالغة التميز خارج إطار العمارة السكنية سطعت النوستالجيا في عدة أشكال في واجهة مبني مكتبه الاستشاري. في موقعه المطل علي شارع الشريف الهندي في الطرف الغربي لحي الخرطوم شرق قرب شارع المك نمر. تعامل فيه حيدر بشكل رائع مع واجهته المكسوة بالحجر الرملي. معالجات معمارية تراثية تتدفق نوستالجياً تنهل من تراث مصادر متنوعة.
جاءت بعد حيدر صفوة من الأجيال الوسيطة حملت راية النوستالجيا المعمارية بجسارة وجدارة. سَلطتُ الضوء علي أميزهم في نظري بناءً علي إنجازاتهم في فترة تجاوزت الثلاثة عقود من الزمان. كانت أعمالهم الأكثر تعبيراً عن ظاهرة النوستالجيا المعمارية موضوع هذه المقالة. أذكر منهم على سبيل المثال محمد المصباح وصلاح رحمة ومرتضى معاذ وطلعت أباظا. كان الأول من أميز طلابي لم يخيب ظني إذ سرعان ما تلألأ نجمه فتجرأ بعد تخرجه شق عصا الطاعة علي نهج الحداثة. إنجاز قدم فيه بجرأة أبلغ مثال لطراز التفكيكية واحد من أهم الطرازات المناوئة له. فجرها داويه في غلاف واجهة المبني المعدني (المحفص) جزئياً في موقعه قرب الركن الشمالي الشرقي لحي العمدة الأمدرماني. عمل معماري طابعه الشبابي يعبر بصدق عن صاحبه ومصممه والفئة التي يستهدفها. لم أحظ بشرف تدريس الثاني الذي شرف قسمنا في الجامعة منذ انطلاقته الأولي حتى الأن. نجاحات متلاحقة في المسابقات المعمارية فات فيها الكبار و (القدروا). أعظم أعماله المعبرة عن النوستالجيا المعمارية قصر السلطان علي دينار في مشروع أحياء ذكري سلطنة الفونج. بالإضافة لمجمع السفارة والقنصلية الهندية قرب الركن الشمالي الغربي من حي الخرطوم واحد. الثالث في تلك الكوكبة مرتضي معاز تكفيه إنجازات مكتبه الاستشاري المرصعة بجلائل الأعمال. تنبأت له في بداية مسيرته في مطلع التسعينات بمستقبل باهر ففاجأني بحاضر أبهر قدم فيه عمارة سكنية تنضح نوستالجية. لفت الأخير طلعت أباظا انتباهي باميز أعماله مجمع السفارة السودانية بالدوحة. فسعيت للتعرف على أفكاره الجريئة ورواه المعمارية المترعة بحبه الجارف لتراث موطنه النوبي. ظاهرة تعود بنا مرة أخري لموضوع مقالتنا عن النوستالجيا المعمارية.
الحديث عن هذا النوع من النوستالجيا الإشارة لرموزها يقودنا بالضرورة لكبيرهم الذي علمهم السحر. جاك إشخانيص أو الجاك يونس عبد الباقي، أسمين ارتبطا به كان يتنقل بين عوالمهم وخارج إطارهما برشاقة بدون أن يشعر بأي حرج. ممتطىً صهوة نوستالجيا متعددة المصادر والنوعيات. سياحتنا في عوالمها ستعود بنا مرة أخري إلى ضفاف عمارة المسكن الحضري. بعد أن حلق بنا مرتضي معاذ وصلاح رحمة بعيدا عنها. جاك شخصية معمارية استثنائية بالغة التفرد بكل ما يحمل هذا التعريف من معاني. ظاهرة لم تولد بالصدفة لكن نتيجة تراكمات مذهلة كان متنازع فيها بين عوالم مختلفة تماماً. نشاء في كنف والد أرمني الأصول عاش حياة مزعزعة مضطربة عصفت به أنواءها طوال مراحل حياته بشكل (دراماتيكي). كانت واحدة من إسقاطاتها المؤثرة نظرته المرتبكة المريبة للأديان التي جعلته ينأ بنفسه عنها. حالة على طرف نقبض من عالم والدته مغربية الجذور الجعلية (المشلخة) صوفية المنشأ سليلة شيوخ العركيين. نشأتها الإسلامية الصوفية لم تمنعها من إقامة علاقات حميمة مع جاراتها الراهبات المسيحيات. (السورات) في مستشفى الراهبات ورياض أطفال فيلا (قيلدا) في حيها السكني قرب شارع الحرية في الخرطوم. علاقاتها العاطفية المتوازنة مع أهلها العركيين وجاراتها الراهبات تجلت بصورة مدهشة بعد رحيلها عن دنيانا. في تدافعهم تنافسهم في خدمة المعزيين في أيام المأتم بالرغم من تباين خلفياتهم الدينية. تجربة حياتية مزدوجة الجوانب الواضح أنها سيطرت لاحقاً على شخصية جاك وضعت بصمتها البائنة العميقة علي عمارته بشتي الصور. تجلت في تعامله المتوازن المتميز الفريد مع عوالم فضاءات كافة الأديان والمعتقدات في كل مراحلها التاريخية. التي استثمر في تراثها بأريحية فائقة ليقدم لنا عمارة تنضح نوستالجيا.
الواضح أن جينات جاك الدفينة متعددة السمات بالإضافة لتداعيات ذكرتها من قبل ساهمت بشكل مؤثر في تكوبن خلفيته الذهنية الوجدانية. من أميزها تجارب عابرة مر بها في طفولته الأولي وبواكير شبابه. انطبعت ترسخت في ذهنه لا زالت تسيطر عليه في حالة أشبه بالزغللة التي يشار إليها في اللغة الإنجليزية بأل after vision. تسيطر فيها على المرء صورة شئي معين كلما أغمض عينية فتحمها لاحقاً بعد مفارقته تظهر له مرة أخري تلح عليه في إصرار. هذا هو تحديداً ما فعلته به تجربة زيارة سواكن أيام مجدها التليد الزاهر عندما زارها في فترة طفولته. مقروءة مع حالة أخري خلال فترة كان يسافر يزور فيها مصر في شبابه الباكر بالباخرة النهرية. رحلات انطبع فيها في ذاكرته منظر واجهات بيوت قري النوبيين التي كانت تطرز الأفق بزخارفها الفتانة. فترسخت في ذهنه رؤي تجربتي سواكن وقرى النوبيين اختزنها في وجدانه كذخيرة أساسية حية في عقله الباطن الواعي. لتخرج للملأ بعد أن درس العمارة لاحقاً في بولندا. التي دعمها هناك باطلاعه المعمق وافتتانه بعظمة عمارة الغرب الكلاسيكية الضاربة في القدم. لتضيف مكون مهم لمخزون ذاكرته الباطنة الكامنة. هيجت خواطرها لاحقاً فترة عمل في تونس التي تركت فيها عمارة الإمبراطورية الرومانية القديمة بصمتها البائنة. ذاكرة بصرية محتشدة بذلك الزخم التراثي البازخ تدفق منه بعد ذلك نهر فياض من الإبداع المعماري. تمدد لأكثر من أربعة عقود من الزمان في مسيرة لا زال يتحفنا فيها كل مرة بمزيد من المفاجآت. كانت كلمة السر فيها سلاحها المضاء مغازلة دغدغة مشاعر وأحاسيس النوستالجيا في دواخلنا. التي يلامسها بذكاء خارق مستثمراً في مقدرات فنية خارقة متكاءة على مخزون استراتيجي مستمد من ينابيع تراثية مبهرة فتانة.
قدم جاك نفسه في البدء على استحياء في الثمانينات بعد عودته من الخليج في عمارة بيضاء نسخة مقلدة من بلادهم. ظهرت خجولة تبحث عن هوية منحها لها بمشربيات صغيرة وضعتها في إطار العمارة الإسلامية. تفنن في ملامح وتفاصيل أنواعها المتعددة بروح ابتكار عالية جعلتها تنافس بعضها البعض. تعامل معها بدقة وصبر وعشق بنفس طريقة والده عندما كان يعالج حالات الساعات السويسرية النفيسة. لتصبح أهم عناصر النوستالجيا التي منحت عمارته بصمتها المتميزة. عبرها لاحقاً لمرحلة مهمة حل فيها على ضفاف تراث عمارة البيوت النوبية. التي تعامل معها بنفس طريقة تعامله مع المشربيات من قبل. عالجها بشكل مبتكر مدهش غير مسبوق مكتمل الأركان زاخر بمكونات مذهلة. ليسترد لها مجدها في شكل جديد محتفظاً بروحها الفياضة لتسطع في أحياء أثرياء المدينة. الذين تهافتوا يطلبون خدماته الاستشارية بملامحها التراثية نوستالجية الطابع التي ظل يؤجج إوارها بتنويعات مبهرة في نفس سياقها. بشكل لامس أشواق الذين يأسوا من طوفان الحداثة الذي أغرقهم في بحر عمارة مكررة باردة. انتشلهم منها ليعبر بهم بعمارة ذات ملامح تراثية الأصول. غازلهم فيها بمكونات نوستالجية فوقعوا في غرامها بدون أن ينتموا لهذا الخلفية القبلية. لم يكتف جاك بنجاحاته عبر تراث سواكن والنوبة. تواصلت مغامراته بنفس ذلك الألق الكاسح ليعود بنا تاريخياً إلى ضفاف عمارة الغرب الكلاسيكية الضاربة في القدم. مستدعياً محضراً روح مكوناتها وأعمدتها الفتانة لترفل في خيلاء في إهاب جديد مبتكر في جنبات فيلات أرقي أحياء العاصمة. تصدح هناك فتمنحها أجواء مترفة ترضي طموح وغرور أصحابها. مكونات معمارية مبتكرة تنضح نوستالجيةً تمنحهم إحساس غامر بالأهمية و (البرستيج) تهواه أنفسهم.
يطوقنا الفضاء من حولنا بتفاصيل تحمل بين جوانحها ذكريات الماضي المضمخة بفيض من القيم والأشواق والذكريات. أمر يجب التعامل معه بحنكة حتى لا ينفرط عقده بالذات في الحالات الحساسة من أهمها حالة العمارة السكنية. هذا ما هو عين ما كان يفعله عبد المنعم مصطفي هو يقدم عمارة الحداثة عندما ما دشنها لأول مرة بنجاح فائق. جهد مجال إبداعي أضاف إليه المعماري الفذ كمال عباس بإحساسه الشفيف ومقدراته الفنية العالية أبعادا مهمة للغاية. معالجات أريبة أعادت لأهل الدار ذكريات مجدهم ماضيهم التليد فملأتهم بشعور طاغٍ بالانتماء والفخر والاعتزاز. تختبئ دائماً معاني الأزمنة القديمة السامية في جوانح العمارة بين ثنايا موادها بنائها النبيلة. التي نجح حيدر أحمد علي في استثمارها بذكاء حاد. في حالات كاد فيها أن يستنطق الحجارة الصماء في بعض أعماله بالغة التميز. استراتيجية سلك فيه جاك إشخانيص دروباً مختلفة متنوعة مضي فيها بنجاح فائق متسلحاً بحساسية فائقة نحو التراث. مستدعياً ثرواته متعددة الأصول والمنابع. متنفلاً برشاقة فائقة عبر الزمن من عصور ضاربة في القدم إلى أزمنة قديمة إلي أخري حديثة نوعاً ما. من حواضر تلك العصور القديمة إلى قراها في أزمنة حديثة نوعاً ما. مستثمراً بتصرف في إبداعات تراثها موظفاً حنكته الفائقة وخياله الجامح ومقدراته الفنية المهولة. حالات إبداعية مذهلة متنوعة متتابعة سطع فيها نجم عباقرة من معمارينا خلال أكثر من نصف قرن من الزمان. تبادل فيه الأدوار بالتتابع عبد المنعم مصطفي وكمال عباس وحيدر أحمد علي وجاك إشخانيص وعدد من مبدعينا من أجيال لاحقة. عطاء متدفق مسترسل مدهش كانت كلمة السر فيه دائماً القاسم المشترك الاستثمار في النوستالجيا المعمارية.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- يوليو 2022