عمارة جامعة الخرطوم: زيارة جديدة و مرور عام
قضيت بجامعة الخرطوم أكثر من عقدين من الزمان كان بداياتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي. أمضيت بين ربوع قسم العمارة بكلية الهندسة أنضر سنوات عمري طالباً ثم أستاذاً. تحت رعاية أنبغ العقول في بداية تلك الرحلة الظافرة و برفقتهم في الجزء الثاني منها. أتاحت لي تلك الفترة الزاهية فرصة ذهبية للتعرف عن قرب على الأفذاذ من المعمارين. عن طريقهم التعمق في جوانب مهمة من العمارة السودانية بكافة مراحلها. التعامل المباشر و التغلغل في مفاصل المتميز منها في مواقع الجامعة منح هذه التجربة ثراء ًمترفاً. جعلني بشكل غير مباشر أجد نفسي في خضم عمل توثيقي كبير و مثير و خطير. كالعادة دائماً كانت كاميراتي هي رفيقة الدرب و المعين المؤثر. دفعتني هذه التجربة و الحالة المستبدة و الذخيرة المترفة من الصور الفوتوغرافية لمغامرة و عملية تحدى. فقررت في بداية العقد الثاني من الألفية تقديم محاضرة في الجامعة معززة بمعرض للصور الفتوغرافية بقاعة الشارقة. فعالية جاءت بعنوان عمارة جامعة الخرطوم: من كلاسيكيات الطوب الأحمر إلى أفاق الحداثة. قمت استعداداً لها بحملة مضريه استكملت فيها منظومة الصور المطلوبة للمعرض و المحاضرة. لم ينتقص عدم تمكني من إقامة المعرض من الإقبال على المحاضرة و المشاركة الفاعلة فيها. من قبل حضور كثيف نوعي متنوع. من الزملاء الأساتذة و رموز الجامعة من المفكرين و كبار المعماريين و المهتمين بالشأن المعماري والتشكيلين و الطلاب النوابغ.
مغادرتي للجامعة في منتصف التسعينيات لم تقطع صلاتي بواقع عمارتها المؤثر. كانت المستجدات في ساحاتها تشدني إليها باستمرار في شوق و حنين جارف و رغبة صادقة في التعلم من تجاربها الجديدة. كانت تصحبني دائماً في زياراتي لها مجموعة كاميراتي لأوثق بها نبض العمارة هناك. من جانب أخر لا يقل أهمية، كانت تأملاتي المعمقة المستمرة في سياق عماراتنا المتدفقة عبر الزمان دائماً تشدني إليها. كثيراً ما تعود بي لأتوقف عند محطات مسيرتها المستمرة. واقع الحال إننا لو نظرنا لجامعة الخرطوم فقط من منطلق دورها العلمي المحدود نكون قد ظلمناها ظلماً بائناً. فهي في الواقع كانت دائماً تمثل خارطة وطن بأكمله. ترسم صورته المتكاملة عبر عقود من الزمان محتشدة بالتجليات في كافة المجالات. بكل زخمها الوطني النضالي والسياسي والأدبي الوجداني والمسرحي الغنائي و حتى الفكاهي (الحلمنتيشى) منه. مشهد كانت تتصدره دائماً العمارة مقدمة نفسها طائعة مختارة بسخاء بالغ. تفرد أجنحتها لاحتضان الفعاليات الخاصة بكافة ضروب و أجناس الإبداع فتتجلى في أبهى صورها. مؤرخة لها بجدارة و نصاعة بائنة. فصارت في كل تلك الحالات بمثابة المرأة التي نرى من خلالها الوطن بكافة خلجات مراحله الإبداعية المتعاقبة.
أول فصول قصة العمارة مع جامعة الخرطوم ارتبطت بمرحلة تأسيسها الأولى مع مطلع القرن المنصرم. كانت بداية مدوية و ضخمة و كبيرة ارتبطت بواحد من أكبر و أعظم الأعمال المعمارية خلال تلك الحقبة. دشنت بها سلطة الاحتلال الثنائي الإنجليزي المصري واحداً من أوائل إنجازات عهدهم هناك و هو مبنى كلية غردون التذكارية. التي كانت النواة الأولى لجامعة الخرطوم. شَكل ذلك المبنى ضربة البداية لمساهماتها في موقعها ذاك في ريادة و قيادة حركة العمارة في السودان في تاريخنا الحديث. التي توالت و تتابعت عملية تحورها مع مرور الزمن في مواقع الجامعة المنتشرة في أرجاء العاصمة المثلثة. هذا هو هدف مقالتنا هنا الذي سندعمه بمنظومة من صور (أرشيفي) المنتقاة بعناية فائقة.
أهمية مبنى كلية غردون التذكارية و نحن ننظر إليها في سياق منظومة عمارة بلادنا نابع من امر بالغ الأهمية. إذ انه دَشن في ذلك الموقع انطلاقة عمارة الطوب الأحمر السدابة في تاريخنا الحديث. الخامة البنائية التي تبناها الجانب البريطاني من واقع تعلقه التاريخي و افتتانه البالغ بها. قدمها هنا في إطار عمارة كلاسيكية كاملة الدسم لكنها جاءت أيضاً مدارية التصميم و السمات. إذ تعاملت بحصافة بالغة مع مناخاتنا الحارة و نجحت في ترويضها. مهابتها البائنة المتجلية في ضخامتها المفرطة و تفاصيلها المدهشة كانت مهمة في هذا السياق. لدولة شريكة في نظام الاحتلال أرادت أن تثبت وجودها مرة أخرى. بعد اهتزاز صورتها عندما نحر أنصار المهدى أحد قادتها الأسطوريين على درج قصر الحكم. تشييدها في موقعها المفتاحى في مجمع الوسط بجامعة الخرطوم كتب أول سطر و صفحة في سجل مساهمتها في إعادة صناعة عمارة السودان في تلك الحقبة. من أهمها في هذا السياق هو إعادة تقديم عمارة الطوب السدابة بشكلها المهاب. مستعدين بالإنابة عنا مجد عمارة سوبا عاصمة مملكة علو المسيحية التي دُمرت تماماَ و لم يتبق منها إلا الذكرى العطرة. التي كانت مثل الكلية تطل بشموخ على النهر و لا تبعد كثيراً عن موقعها.
مع تتابع العقود من الزمان و في نفس مجمع الوسط الخاص بجامعة الخرطوم تدفقت مساهماتهم المعمارية و عطائهم المتميز في ذلك السياق. محمول على نفس أجنحة تلك الخامة النبيلة طوب السدابة. المدهش في الأمر و الذي يدعو للتأمل أن العمارة لاحقاً خففت من نبرة لهجتها الكلاسيكية المتعالية المتغطرسة. التي ترجمتها في مجمل عمارة الكلية المفرطة في الضخامة و المحتشدة بالتفاصيل المدهشة. قد نجد بعض التفسيرات لهذه النقلة الطرازية المتدرجة. واحد منها خفوت حالة الانفعال العالية التي ارتبطت بتصرفات المحتل مع بداية عهده في بلادنا. فكتشنر عندما شرع في تشييد الكلية كان مدفوعاً بعواطف جياشة بعد مقتل غردون حركتها مشاعر أمته التي كانت تعتبره قديساً. واحد من الأسباب أيضاً أن المباني التي شيدت لاحقاً لم تكن تتمتع بالأهمية و القوة المركزية لمبنى الكلية. بمرور الزمن بعد أن هدأت تلك الانفعالات و نتيجة لعدة عوامل أخرى خفت الروح الكلاسيكية في الأعمال المعمارية اللاحقة.
نلاحظ ذلك عندما كانوا يطوفون بمواقع الكلية المترامي الأطراف يأسسون مبنى بعد مبنى. يسعون لتطوير مشروعهم ليصبح لاحقاً نواة لجامعة الخرطوم. فنهضت مباني بعض الكليات هنا و هناك جاءت سمات عمارتها الكلاسيكية مخففة الملامح و السمات. من اهم ما ميزها بالإضافة لتلك الجوانب الطرازية تكرار فكرة الصحن الوسطى. عدد من أجزاء المبنى تلتف حول فناء وسطى مفتوح للسماء اهتموا بتشجيره و تخضيره. فصار أشبه بالواحة و هو أمر كان بالغ الأهمية بالنسبة لهؤلاء القوم القادمين من بلاد بارده. الذين كانت حرارة طقس بلادنا واحدة من أهم هواجسهم. خدم ذلك الصحن أهدافاً أخرى لا تقل أهمية بالإضافة لتلطيف الجو. إذ وفر المساحة و أتاح المجال المغرى للقاءات الأساتذة و الطلاب فعزز من الروابط المجتمعية. مبنى كلية الآداب الحالي يقدم لنا نموذجاً ممتازاً لما أعنيه هنا.
الواضح أن نزعة الجانب البريطاني من سلطة الحكم الثنائي للطراز الكلاسيكي عالي النبرة كانت طاغية خلال تلك العقود الأولى من القرن. لدرجة أنهم جربوها مرة بتفوق بائن في موقع أخر بعيد نوعاً ما عن مجمع الوسط الرئيس الخاص بالجامعة. مستخدمين خامة طبيعية منافسة لعشقهم الأثير الطوب الأحمر السدابة. إذ اقتحموا هناك مجال عمارة الحجر الرملي. فأبدعوا و تجلوا فيه بدرجة فائقة نافست تراث حضارات الغرب الضاربة في القدم. مبنى عالٍ الرمزية تم تشييده احتفاءً بأعظم شخصياتهم التي ارتبطت بإنهاء العهد المهدوي و هو اللورد كتشنر. تخليداً لذكراه سمى المبنى متفرد العمارة و المغطى بالقبة الفضية الكبيرة مدرسة كتشنر الطبية. شيد في الجانب الغربي من نهاية الطرف الجنوبي لشارع فكتوريا و هو حالياً شارع القصر. مقابل لمبنى تؤام له على الجانب الأخر الشرقي من الشارع. مبنى تحفة من الحجر الرملي ينهض مزهواً بعمارته لكأنه تمثال ضخم الأبعاد. مشيد بكامله خارجياً بتلك الخامة المفرطة في النبل. تتفجر فيه كل مفاتن العمارة الكلاسيكية بكافة مكوناتها و تفاصيلها. تغزلت فيه في أكثر من مقالة مضمنة في موقعي الإلكتروني. في زياراتي المتكررة له استكشفت عدسات كاميراتي و انتعشت كل جوانبه و تفاصيله. في حالة يمكن وصفها كما يقول المثل الشعبي (لم تترك له صفحة يرقد عليها).
بعد فترة قصيرة من تشييد مبنى كلية غردون التذكارية خفتت إلى حد ما نبرة الكلاسيكية العالية في الأعمال المعمارية. المتجسدة في الضخامة المفرطة و تلك المكونات و التفاصيل بالغة التميز. حدثت نقلة طرازية متدرجة نعزوها لأكثر من سبب أشرت إلى بعضها من قبل و أضيف إليها واحد لا يقل أهمية. خفوت النبرة بالرغم من الاحتفاظ ببعض ملامحها يمكن أن نبرره أيضاً لطبيعة المبنى و نوعية استخداماته. التي تستدعى بالضرورة تعامل خاص مختلف. مثال لذلك المباني السكنية التي سنشير هنا لنموذج متفرد منها. مبنى بالغ التميز احتفظ طرازه بهذه الحالة المتوازنة التي جاءت فيها الكلاسيكية أقل سطوعاً و أخف حضوراً مما جعل عمارتها بالغة التفرد. لم تسلط عليه الأضواء و يجد نصيبه من الشهرة نسبة لموقعه المنزوي إلى حد ما. المطل على النيل الأزرق قرب الركن الشمالي الغربي من مجمع الوسط الخاص بجامعة الخرطوم الواقع في ذلك الجزء من المدينة.
المبنى الشبيه بقصر صغير كان مخصص من قبل لمدير أو والى الخرطوم بمفهومنا الحالي و هو بريطاني. بعد خروج المستعمر صار متحفاً توفر على كنوز و نفائس من الأعمال الأثرية نقلت لأحقاً لتؤسس لمتحف السودان القومي الحالي. في فترة لاحقة أصبح مقراً لمكتب مدير جامعة الخرطوم و لا زال مستخدماً لنفس ذلك الغرض. عمل معماري تحفة بحق في مجمل عمارته و كافة تفاصيله. أكثر ما يعجبني فيه مدخله الرئيس الصغير المطل على النهر و المحتشد بالتفاصيل المدهشة. يكون الوصول إليه عبر حديقة صغيرة تزينها نافورة بديعة منحوتة من الحجر الرملي و رواق أو برندة عميقة مرتفعة رحبة. أجمل ما في سمات عمارة المبنى أن طرازها الكلاسيكي جاء مخففاً تماشياً مع طبيعته السكنية. طوب السدابة الذي يلفه أحنى راسه تجاوباً مع طبيعة استخدامه زمانئذٍ إذ يتميز ملمسه بنعومة جعلته يحتضن قاطنيه بحنو بالغ. هناك لمسات إضافية من الحميمية تسطع بها العمارة بخاماتها البنائية الطبيعية النبيلة. تبرق الكلاسيكية و تغمز في بعض المواضع مثل أعتاب النوافذ و جلساتها التي يسطع فيها الحجر الرملي المنحوت بعناية فائقة. منثورة وسط مساحات طوب السدابة لكأنها (فواريز) مبرقة ترصع طاقم حلى ذهبية. هذا الألق المترف كان في زمن ماضي دائماً يسوقني إلى المبنى من وقت إلى أخر برفقة طلابي. لدرجة أنى جعلت تلك الزيارات جزءً أساسياً من مكونات مقرر مادة تشييد المباني التي تغطى هذا الجانب.
انخفاض النبرة الكلاسيكية بعد المرحلة الأولى التي شهدت تشييد مبنى كلية غردون التذكارية لها مبررات أشرت لها من قبل. من أهمها كما أوضحت نوعية المباني المستهدفة تحديداً السكنية منها. نحن هنا مرة أخرى أمام حالة منها بالغة التميز. ازدياد عدد طلاب الكلية زمانئذٍ و بعد أماكن إقامتهم مع أهلهم جعل من المهم توفير سكن لهم في رحابها. مما استدعى بناء داخليات لاستيعابهم. التغيير في نوعية المباني في هذه الحالة كان يعنى بالضرورة التعامل معها معمارياً بشكل مختلف نوعاً ما من المباني التعليمية. هذا هو عين ما حدث بالفعل في حالة مبنيين تؤام من الداخليات متقابلين يفصل بينهما شارع رئيس داخلي يشار إليه حالياً بشارع (المين). هما داخلية النيل الأزرق و النيل الأبيض و صارتا لاحقاً كلية القانون و كلية العلوم الإدارية. موقعهما ليس ببعيد عن مبنى كلية غردون التذكارية إذ يفصل بينهما بضع مباني إلى جهة الجنوب. عامل المسافة و أيضا الزمن كان مؤثراً. إذ جاء تشييدهما بعد بضع عقود من الزمان من بناء الكلية. عدة عوامل جعلت من الضروري التعامل معهما على نحو مختلف طرازياً. لم يكن من الملائم هنا تبنى التوجه الكلاسيكي صارم القسمات مهاب المحيا.
فكرة العمارة هنا و ملامح التصميم تشير لنقلة محسوبة بعناية فائقة. لم تفارق الكلاسيكية تماماً إذ احتفظت ببعض ثوابتها لكنها وضعت أمشاط أقدامها في رحاب الحداثة. لم يكن من الملائم اعتماد طراز مفرط في الصرامة لمبنى يستضيف شباب في مقتبل العمر يواجهون تجربة علمية محفوفة بالتحديات. باعدت فيها ظروف الدراسة بينهم و بين أهلهم في الضفة الأخرى من النهر في مدينة أمدرمان. فنزلت عليهم العمارة في مجمل تصميمها و في العديد من تفاصيلها برداً و سلاماً. في المبتدئ تبنى المصمم فكرة الصحن الوسطى الذي وفر من خلال العمارة حضناً مخضراً مفتوحاً للسماء. كان له دور مؤثر في تعزيز العلاقات المجتمعية بين سأكنى الداخلية. الذين كانوا يمثلون كافة أطياف مجتمع العاصمة و البلاد زمانئذٍ. بذلك ساهم في انصهارهم في بوتقة واحدة توطئة لبناء أمة موحدة. خاضت العمارة معركة في جبهة المناخ من خلال تصميم واجهاتها فخرجت منها بنتائج ممتازة. معالجات نجحت في ترويض أجوائنا الحارة في زمان لم تتوفر فيه وسائل تبريد و تكييف الهواء الميكانيكية المتقدمة. طوب السدابة الذي تدثرت به العمارة كان خط الدفاع الأول في هذه المعركة.
دخلت العمارة معركة ترويض المناخ بخطة متعددة الجوانب و أسلحة مضاً. أرست من خلالها تقاليد مدرسة قائمة بذاتها دمغت مباني جامعة الخرطوم زمانئذٍ بطراز متميز لعمارة السدابة. كانت مباني هاتين الداخليتين بمثابة راس الرمح. كلمة السر كانت التعامل الفطن مع فتحات و نوافذ المبنى وهي اهم نقاط اختراق أشعة شمسنا اللاهبة. أكثرها حرجاً تلك التي تفتح في اتجاه الشرق و الغرب مناطحة أشعة الشمس المباشرة. تعامل معها المصمم بذكاء فاحتوى النوافذ الرئيسة المفتوحة على الجانبين داخل ارتداد محاط بحيطان متوجة في جزئها الأعلى بقوس مسنن. شكلها العام أشبه بعروس (واقفة) لتؤدي رقصتها الشهيرة و هي تغطى وجهها بكفيها في دلال بائن. صنع من خلال هذه المعالجات إضافات جمالية مؤثرة. عززها بعناصر أخرى لا تقل عنها أهمية. استثمر في فتحات صغيرة موزعة في الواجهات فسخرها لاستدراج النسيم العابر بدون أن تسمح باختراق أشعة الشمس. حققت أيضاً أهدافاً إضافية لا تقل أهمية. واحداً منها تأمين الخصوصية لمن هم بالداخل بدون أن تحرمهم من التواصل البصري مع العالم من حولهم.
حقق مصمم الداخليتين من خلال تلك الأخرام هدفاً أخر بالغ الأهمية في هذه المعركة متعددة الأهداف. إذ صمم مجموعة وحداتها مثلثة الأشكال بطريقة ذكية تقطر فناً و جمالاً. جعل من المتجاورة منها منظومة مجموعات زخرفية بديعة زينت واجهات المبنى. فنثرت الجمال على صفحة العمارة و حقنتها بجرعات حميمية مؤثرة متسقة مع طبيعة العمارة السكنية. كانت تلك اللمسات الجمالية مؤثرة للغاية إذ لطفت من مظهر السدابة الكالح نوعاً ما. عمارة تلك الداخليتين كانت ضربة البداية لهذا النهج في توظيف الفتحات. الذي انتشر بعد ذلك انتشار النار في الهشيم في عمارة جامعة الخرطوم خلال تلك الحقبة. أضيف لتخريم الحيطان مكون أخر من نفس المصدر. وظفت فيه بعض وحدات الطوب بشكل مختلف منح وجه العمارة بعداً إضافياً مؤثراً. تم بإبراز بعض الوحدات بإيقاعات محسوبة بدقة. أنتجت هذه المعالجة ثناية بديعة مدهشة مع الأخرام المجاورة في الحائط. فساهمت في رسم لوحات جدارية فتانة نابضة بالحيوية. مستثمرة في سطوع شمسنا المدارية الدائمة و هي تمسح الواجهات في غدوها و رواحها. صنعت تلك الملامح المتفردة من عمارة السدابة بجامعة الخرطوم خلال تلك الحقبة طرازاً بالغ التميز. لم نستثمره جيداً في الترويج لهذه العمارة على نطاق واسع.
شهدت نهاية خمسينيات القرن الماضي بداية تحولات طرازيه جزرية و منعطف مهم في مسيرة عمارة السدابة في أرجاء مواقع جامعة الخرطوم. قادها زمرة من خيرة الأساتذة الغربيين الذين أسسوا قسم العمارة بكلية الهندسة في الجامعة. جاءوا من بلادهم لتحقيق أهداف علمية أكاديمية مشبعة بروح جديدة كانت قد اكتسحت الغرب الأوربي خلال العقود الأولى من القرن. ضمنوا فكرها في صلب علوم العمارة التي تشبع بها طلابهم. أسسوا مفاهيم تعليمهم على فكر علماني هو الذي أنتج عمارة الحداثة. يقوم على عدة أسس مهمة للغاية واحد منها له علاقة قوية بالجانب الطرازي. من أهم أركانها نسيان الماضي تماماً بكل ما يحمله من تراث عالمي كان أم غربي أم محلى. شكلت هذه الخطوة نقطة تحول طرازيه مهمة لعمارة الجامعة. إذ أرخت لنهاية شهر العسل للنهج الكلاسيكي الذي دام لخمسة عقود من الزمان. جاءت هذه النهاية لأن فكر الحداثة قدماً طرحاً متكاملاً من أهم مكوناته مشروعه الجمالي الذي كان بمثابة حجر الزاوية. لقنوه لهؤلاء الشباب النوابغ من أول دفعات قسم العمارة. الذين تشبعوا بفكره في إطار ما تعلموه من علوم العمارة.
دق هذا المشروع الجمالي بمكوناته المتعددة أخر مسمار في نعش منظومة العمارة الكلاسيكية الجمالية. انطلق بعد ذلك من أهم مرتكزاته و هي عدائه المستحكم لكافة منابع التراث. فهو لا يستجدى جمالياته بإعادة تدوير عناصره الموروثة مثل تلك الأعمدة المعروفة و باقي التفاصيل المعمارية. إذ يقوم الجمال هنا على أسس جديدة مثل الاهتمام الفائق بأمر النسب و التناسب الذي يعتبر حجر الزاوية. بالإضافة لحيوية تفاعل مكونات المبنى مع بعضها البعض مراهناً و مستثمراً في علاقة الأضداد باللغة الإنجليزية أل contrast. مثل تفاعل الكتلة و الفراغ و الأجزاء البارزة بجوار المرتدة منها و الأسطح الناعمة مع الخشنة الملمس. هذه هي أساسيات المشروع الجمالي لنهج الحداثة. الذي لا يسعى لتحقيق غاياته النبيلة باستجلاب عناصر إضافية للمبنى في عملية استجداء واضحة. لم يولد و يتشكل هذا المشروع من فراغ. ارتكز على قاعدة عريضة من عدة مدارس فلسفية فنية مؤثرة. نشأت و ترعرعت و ازدهرت في الغرب الأوربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. انداح أثرها العميق بشكل واضح على كافة ضروب و أجناس الإبداع الفني والثقافي. كانت العمارة في قلب ذلك الحراك ممثلة في نهجها الحداثي. الذي خرجت منها غانمة و تجسد كسبها بالغ القيمة في مجمل مشروعها الجمالي. الذي تربت على مبادئه تلك النخبة من طلاب الدفعات الأولى من قسم العمارة. فتشربوا بفكره و ترجموه لاحقاً في أعمال معمارية بالغة التميز.
تلك المتغيرات الكبيرة و التحولات الطرازية المؤثرة النابعة من فكر الحداثة لم تنل من مكانة طوب السدابة خلال تلك الحقبة التاريخية. بضع جوانب من طرحها الفكري دفعت به مرة أخرى في المقدمة في الواجهات. في نفس المكانة التي تربع عليها لعدة عقود من الزمان في بداية القرن العشرين و هو في كنف العمارة الكلاسيكية. هبت لنجدته أهم مبادئي التوجه الجديد و نقاط ارتكاز مشروعه الجمالي. هو الصدق في إظهار كافة المواد البنائية بالذات طبيعية المنشأ منها. توجه كان ضد فكرة استخدام المساحيق التجميلية في الواجهات لإخفاء وجهها الطبيعي. مثل إضافة طبقة البياض على سطح الحيطان ثم طلائها بالدهانات أو (البوهية). هذا التوجه دفع بطوب السدابة بمظهره الطبيعي مرة أخرى ليتصدر الواجهات بكل اعتداد بالنفس. توجه أخر ارتكز على أساسيات مشروع الحداثة الجمالي مكنه من الاحتفاظ بذلك الموقع المتقدم. مراهناً هذه المرة على خاصية الأضداد التي هدفت لإضفاء قدر من الحيوية على مظهر العمارة. شكلت في هذا الإطار مساحات السدابة خشنة الملامس ثناية ًموفقة مع ألأسطح الناعمة للمكونات الخرصانية خامة عمارة الحداثة المفتاحية. عززت هذه الثنائية من موقف طوب السدابة الذي صار من أهم ملامح تلك العمارة خلال فترة ظهورها الأولى و لعدة عقود لاحقة.
لم يكتف الأساتذة الأجانب الأجلاء الذين أسسوا قسم العمارة بما ما بثوة من علم غزير رصين لطلابهم. إذ قاموا خلال حقبة نهاية الخمسينيات و بداية الستينيات بتصميم أعمال معمارية متميزة تزينت بها مواقع الجامعة في العاصمة. بثوا من خلالها رسالة عمارة الحداثة في أنصع صورها. كان راس الرمح في تلك المساهمات المؤثرة رئيس القسم الدكتور ألك بوتر. من أعظم أعماله مبنى قاعة الامتحانات الرئيسة التي شيدت على مرمى حجر جنوب مجمع مباني كلية غردون التذكارية. اعتبرت في زمانها الجوهرة الثمينة في تاج عمارة الحداثة في الجامعة. رفد أيضاً منظومة مواقع الجامعة بمزيد من الأعمال الممتازة مؤسساً لنهج جديد في العمارة السكنية. فسطعت مساهماته المشهودة في عمارات الأساتذة السكنية بمجمعهم ببرى عند مدخل كبرى القوات المسلحة. بالإضافة للشقق الأمريكية المطلة على شارع البرلمان. ساهم من الأساتذة أيضاً الدكتور كوبا بأعمال بالغة التميز بعضها في مجمع داخليات البنات في الطرف الشرقي من شارع البرلمان. قدم هؤلاء الأساتذة الطراز الجديد في أبهى صوره. بعثوا من خلاله عمارة السدابة مرة أخرى في ثوب قشيب بلغة معمارية جديدة. بذلك أثبتت جامعة الخرطوم بأنها دوماً تقود حركة التغيير في مجال العمارة في البلاد.
شهدت رحاب قسم العمارة بالجامعة مع بداية الستينيات عملية نقل حرس سلسلة كان أبطالها أساتذة القسم. جاءت نتيجة لتخريج أول الدفعات و تأهل بعضهم بنيلهم الدرجات العليا التي تزامنت مع بداية رحيل الأساتذة الأجانب. سبق تلك المرحلة تأسيس وحدة المباني التابعة لكلية الهندسة التي كانت معنية بتصميم مباني الجامعة. كانت تدار في البداية بمهندسين غربيين الذين رحلوا لاحقاً مع بداية الستينات. استوعبت المتميزين من خريجو القسم الذين عملوا معهم في البدء قبل أن يتسلموا زمام الأمور بعد رحيلهم. انكبوا جميعاً في عمل دؤوب و تركيز عالِ. فأنتجوا في الوحدة قبل أن تؤول لجهات أخرى عدد من الأعمال المعمارية الرصينة الأنيقة. التي طرزت أرجاء مجمعات الجامعة في العاصمة المثلثة. فكانت خير معبر عن التوجه و الطراز الحديث الذي قدمته في أنصع صوره مكتسياً بطوب السدابة. بذلك يمكن أن نعتبر وحدة المباني خلال تلك الفترة الذهبية حاضنة الطراز الحديث و الذراع المعين و المؤثر لقسم العمارة بالجامعة.
استمر قسم العمارة في العمل بهمة عالية في الاضطلاع بدوره الكبير المرتجى خلال فترة الستينات بعد رحيل الأساتذة الأجانب. دعم صفوفه لاحقاً بعدد من الأساتذة الذين تخرجوا في جامعات أخرى. لعل من أهمهم أستاذنا الجليل عبد المنعم مصطفى الذي درس العمارة و حضر الدراسات العليا في جامعات غربية. بناءً على حيثيات عديدة أوردتها في عدد من مقالاتي أعتبره الأب الروحي الوطني لعمارة الحداثة السودانية. تقلد رئاسة القسم لدورة كاملة و كان له دور مؤثر في عمله هناك. بالإضافة لمساهماته في تصميم عدد من المباني في عدد من مواقع الجامعة. من أميزها معمل الخرصانة في مجمع مباني كلية الهندسة. الذي استعرضت عمارته في واحداً من مقالاتي المضمنة في موقعي الإلكتروني. فقده القسم عند استقالته في بداية السبعينيات لكن ربحه بشكل مقدر مجال الاستشارات الهندسية عندما أسس مكتبه الخاص أوانئذٍ. أخصب سني عطائه هناك كانت في السبعينيات و الثمانينيات حين قدم أعظم الأعمال في سياق عمارة الحداثة السودانية.
هدفت هذه المقالة المطولة لإلقاء نظرة عامة على عمارة جامعة الخرطوم. مع محاولة التوقف عند بعض المشاريع و الأعمال المعمارية بالغة التميز التي شكلت إلى حد ما نقطة تحول مهمة. تغطيتنا هنا لا تقتصر فقط على عمارة السدابة التي رسمت مجمل الصورة في هذه (البانوراما) المعمارية. عليه أدخلت في منظومتها من واحد من خارج ذلك الإطار. مشروع كبير بالغ التفرد أنجز في السبعينيات أستحق التوقف عنده و إلقاء بعض الضوء عليه. لم يلفت الانتباه لبعد موقعه عن دائرة الاهتمام في مواقع الجامعة الرئيسة. إذ شيد في موقع كلية التربية في ذلك الركن القصي زمانئذٍ شمال مدينة أمدرمان. أفلت من مصيدة السدابة لان الجهة التي رعته و تولت أمر تشييده و هي هيئة اليونسكو العالمية قررت أن يشيد بمكونات الخرصانة المسلحة. نفس الخامة البنائية التي قدمت بها عمارة الحداثة نفسها في الغرب الأوربي في أحسن صورة. أفلت من تلك المصيدة لكنه وقع بالكامل أسيراً لطرازها الحديث. إذ أن من قام بتصميمه معماريون من بلاد هي التي أسست لهذا الطراز. فجاء حداثي كامل الدسم و بالغ الرصانة. زرته و تمعنت فيه برؤية مدققة. من أهم مصادر إعجابي به تعامله الفطن مع الجانب المناخي و هو نقطة ضعف المباني المشيدة بهذه الخامة. تجاوز هذا التحدي عبر عدة خطوات أساسية. أولها تبنى فكرة الفناء الوسطى المُشجر المُخضر انتهاءً بتظليل النوافذ بطريقة مبتكرة حصيفة.
شهد بداية الثمانينات استقراراً في قسم العمارة بعد تدعيمه بعدد من الأساتذة بعضهم كان قد عاد موفقاً من بعثته الدراسية. تزامنت تلك الفترة مع حركة بناء و تشييد نشطة على مستوى الجامعة و البلد بشكل عام. كان لبعض الأساتذة نصيب مقدر منها فازدانت مواقعها بالمزيد من أعمالهم المتميزة. تزامنت تلك المرحلة مع فترة ازدهار و انتشار لأفكار الحداثة و عمارتها في بلادنا فتسيدت المشهد المعماري. في تناقض على ما كان عليه الحال في الغرب. إذ شهدت تلك الحقبة هناك بداية مظاهر انحسارها. الذى ظهر في البدء في شكل تململ و تشكك أدى لاحقاً لنفور تسبب في ظهور توجهات مناويه بديلة. لكن نحن كعادتنا دائما نعيش في حالة تسمى ب (التايم لاق) باللغة الإنجليزية أل time lag. حالة من لا ينتبه و يحس بظاهرة ما مهمة إلا بعد فوات الأوان. أكبر دليل على ذلك تفاعلنا نحن الضعيف مع هذه الظاهرة. أقصد بنحن هنا بالتحديد من هم في قسم العمارة باعتباره أوانئذٍ كان المؤسسة الوحيدة المعنية بتدريس علومها. بالرغم من تلك المستجدات كان الوضع عندنا مختلفاَ. واصلت تلك المؤسسة التعليمية في الاضطلاع بدورها الريادي المؤثر كراس الرمح لعمارة الحداثة الموشحة بطوب السدابة. من خلال دورها الفاعل في مدارج العلم و رفدها لمواقع الجامعة بجلائل الأعمال المعمارية.
عشت الواقع المعماري في الثمانينيات و ما بعدها بعد عودتي للسودان من البعثة الدراسية و انخرطت أعمل بحماس كأستاذ و معماري ممارس. لم ألاحظ على كلا الصعيدين إحساس ببودر أزمة ناتجة عن بداية ظواهر الإعراض عن عمارة الحداثة. في هذا الإطار، لم أتلمس رغبة ملموسة بيننا لمراجعة واقعنا المعماري عل ضوء ما يحدث حولنا في العالم الغربي. في زمن كان الذين استوردنا منهم فكر الحداثة و طرازها يستشعرون عمق الأزمة. المتمثلة في عدم مقدرتها على مجاراة التطورات المحيطة بها والإخفاقات الناتجة عنها. حيث بدأ هناك نتيجة لتلك التراكمات يتبلور توجه مناوئي في شكل مدارس معمارية أنتجت طرازات واضحة المعالم. بعض التباين في رؤاها لم يمنعها من اتخاذ موقف موحد قوى. إذ اتفقت معا على إخفاق فكر الحداثة و طرازها في التجاوب بشكل مرضٍ مع مستجدات الحاضر الراهن بكافة تحدياته. مجمعين معاً على أهمية السعي حثيثاً لإيجاد مخرج من هذا المأزق التاريخي. فتألفت و استظلت كلها تحت مظلة عريضة واسعة أطلق عليها النقاد اسم توجه ما- بعد- الحداثة. بدأت المدارس المتفرعة منه تتحرك بهمة عالية في كل الاتجاهات لتصنع التغيير المثمر.
عدت إلى السودان في نهاية الثمانينات فلم أجد في أروقة قسم العمارة كثير انتباه لهذا الواقع المضطرب الذي كانت تعيشه العمارة بشكل عام. لدهشتي الشديدة وجدت الحال هو نفس الحال عندما كنت أزور السودان في المرات السابقة. وجدت مفاهيم عمارة الحداثة هي السائدة. عمارتها الموشحة بطوب السدابة بتصاميمها الممهورة بتوقيع أساتذته ما زالت تتمدد و تسد أفق مواقع الجامعة و أرجاء المدينة. أسترعى أنتباهى في مجمل هذه الصورة مكررة الملامح و السمات ظاهرة واحد من الأساتذة القدامى شق عصا الطاعة. قرر على الأقل في واحد من أهم أعماله في موقع مفتاحي في مجمع الوسط أن يغرد خارج السرب. بالرغم من أنه واحد ممن أرسوا قواعد هذه اللعبة و قدم في سياق عمارة الحداثة أميز أعماله في السبعينيات. المدهش أنه عندما قرر أن يتمرد على ذلك التراث الحديث اختار له مبنى هو الأصعب لخوض مثل هذه التجربة المحفوفة بالتحديات. الأستاذ المعنى هنا هو أستاذنا محمد محمود حمدي. المبنى المشار إليه هو مسجد جامعة الخرطوم الذي يحتل موقعاً متميزاً في الطرف الشرقي لشارع الجامعة.
ادخل أستاذ حمدي نفسه في هذا العمل في تحدى متعدد الجوانب و الأبعاد. في مبنى محصن بموروث ضارب في القدم تحرسه تقاليد و أعراف معمارية مفرطة في العراقة. جزورها متوغلة في الدين مما يجعل من الصعوبة المساس بها. اقتحمها بجرأة بالغة و تحصن منها بأخر ما قدمه العلم في كافة جوانب العمارة. فقرر أن يقفز فوق التقاليد المعمارية و الفنية العريقة بتبني أخر مخرجات التقنية و الإنشاءات و مواد البناء. عزز موقفه بالتأمل في أسمى معاني فنون العمارة الإسلامية بدون أن يقع في فخ النقل الحرفي فاستحق التقدير. تميزت تركيبته و شخصيته بخواص شكلت أساس انطلاقه لهذا العمل بالغ التفرد. فهو يتحدر من أسرة مسكونة بالفن منحته (جيناتها) مقدرات عالية و إحساس فني مؤسس على فهم عميق للمجال الذي سيتعامل معه. زاد عليها بقناعات شكلت جزءً مهماً من دوافعه التي بنى عليها هذا العمل. فقد كان خلال تلك المرحلة من حياته مفتتن بفكرة و فكر بعض الرؤى الإسلامية التجديدية. فأقبل على هذا العمل متحصناً بإحساسه الفني العال و علمه المتقدم متكئاً على نظرة إسلامية فلسفية عميقة. عازم على تجسيد تلك المعطيات في عمل متشرب بالتراث و الفكر الإسلامي يجسد روح العصر.
ضرب أستاذ حمدي في تنكبه لهذا الدرب المحفوف بالتحديات عرض الحائط أو فلنقل تجاهل العديد من الضوابط و المسلمات المتوافق عليها. من أهمهما الثوابت الأساسية المتفق عليها في تصميم المساجد. بالإضافة للعرف المتوارث في أن تلتزم جامعة الخرطوم في عمارتها بطوب السدابة الذي صار ماركة مسجلة لها. قفز برشاقة فوق كل تلك الحواجز. لقناعة مرتكزة في نفسه أن المعماري الأريب في هذه الحالة بمقدوره أن يتفاعل بنجاح مع كافة معطيات زمانه الفكرية و العلمية و الفنية. بالإضافة لقناعته الراسخة بأن جامعة الخرطوم بفضل علمائها المتميزين بمقدورها دائماً قيادة حركة التجديد على كافة الأصعدة. مثل هذه الدوافع هي التي حفزته لتقديم عمل بالغ التميز و قمة في التعبير. متجاوزاً محطة طوب السدابة التي أبلى فيها من قبل بلاءً حسناً.
ابتدر المصمم عمله هنا بمكون العرش متخطياً الخيارات الموروثة التقليدية من منظومة القباب متعددة الأنواع. قفز فوق منظوماتها فوجد الملجأ في أخر مستحدثات العصر في مجال إنشاءات المباني أوانئذٍ و حتى زماننا هذا. عروش خفيفة مكونة من شبكة أنابيب معدنية صغيرة متشابكة مكونة أشكال هندسية بديعة. تسمى الإطارات الفضائية باللغة الإنجليزية frames space. تستخدم لتغطية الفراغات الداخلية مترامية الأطراف بدون أعمدة وسطية. أكمل جميله و منظومته المعدنية فغطى الجزء الأسفل من العرش بشرائح معدنية رفيعة أنيقة متسقة مع نظامه الإنشائي المعدني. واصل الأستاذ استعراض عضلاته في مجال إنشاءات المباني هذه المرة خارج المبنى الرئيس مستثمرا في خامة الخرصانة المسلحة. موظفاً نوع من الأعمدة أبتكرها معماري أمريكي عبقري قبل بضعة عقود من تشييد المسجد. تسمى بالأعمدة (المشرومية) لأن شكلها يشبه تلك النبتة الصغيرة. الواحدة منها أشبه بالمظلة أو (الشمسية) صبت منفردة لكنها جمعت متلاصقة مكونة تشكيلات هندسية بديعة. مجموعاتها المحيطة بمبنى المسجد تتيح منطقة مظللة يتجمع فيها المصلون قبل و بعد الصلاة. فكرتها شبيه بالرواقات أو البرندات التي تحيط بمساجدنا. أفكار الأستاذ هنا و توظيفه للإنشاءات كانت و لا زالت غير مسبوقة. لم يأتي الزمان بمثلها بعد أربعة عقود من تشييد المسجد.
واصل الأستاذ سلسلة مفاجأته و استخدامه لأحدث مواد البناء أوانئذٍ. في حالة استثنائية مخالفة لما هو مألوف حيطان المسجد الجانبية زجاجية بالكامل. يتمدد فيها الزجاج المرايا و هو عاكس خلال ساعات النهار و شفاف في الأمسيات. الجدار الأمامي حيث يوجد المنبر و المحراب شبه مصمت و هناك عمل كبير و مهم في جانبه الخارجي. الجزء الأوسط البارز منه مغطى بأجمل أنواع حجر القرانيت تتصدره لوحة معدنية لآية قرانيه كلاسيكية النهج. توجهات المصمم الموغلة في الحداثة لم تمنعه من تقديم بعض فروض الولاء و الطاعة للتراث الكلاسيكي التي تجسدها هنا هذه اللوحة. تتجلى أيضاً في مغازلته لتراث زخارفها مترفة الجمال في وحدات السور الخارجي الشفافة الشبيهة ب (القريل). وحدات زخرفية متكررة مستنسخة من أرشيف تراث الزخارف الإسلامية. تظهر أيضاً في لحظة إبداع و تجلى في الوحدات الخارجية المحيطة بمبنى المسجد الشبيه بالمظلات. عرش كل واحد منها وحدة زخرفية كبيرة رائعة ثلاثية الأبعاد. يعزز من تأثيرها الزخرفي في نفس السياق منظومة مجموعاتها المتلاصقة. تبدو هذه المكونات الكبيرة و الصغيرة لكأنها محاولات لإظهار بعض الوفاء لتراث العمارة الإسلامية بأقل قدر من النقل الحرفي.
شكل عقد الثمانينات مرحلة مفترق طرق في مسيرة الأستاذ محمد حمدي إذ فارق قسم العمارة ليؤسس مكتبه الاستشاري. فعلها بعد أن فجر تلك القنبلة في موقع مفتاحي في الطرف الشرقي من شارع الجامعة حيث نهض هناك مسجد الجامعة. متحدياً و ضارباً عرض الحائط بالعديد من الأعراف و المسلمات و الضوابط غير المكتوبة. غرد خارج السرب بانفلاته من قبضة طوب السدابة التي أسلمت له عمارة الجامعة نفسها طائعة لمدة تجاوزت الثمانية عقود من الزمانٍ أوانئذٍ. خرج أيضاً من بيت طاعة تقاليد عمارة المساجد الصارمة التي هيمنت على هذا المجال لقرون من الزمان. أعلنها داويه بعمارة معدنية مدببة الأطراف زجاجية الواجهات. مغطاة بأحدث أنواع العروش و ملتحفة بأخر مخرجات مواد البناء و تشطيبات في الثمانينات. حشد لها وافر علمه و مخزون جيناته الفنية لينتج عمارة تتحدث بلغة العصر و مخرجات فنونه. فعلها إيماناً منه بدور علماء الجامعة في تحقيق اختراقات مشهودة كل في مجاله. من واقع اقتناعه التام بأن العمارة باعتبارها على راس المجالات العلمية الإبداعية يفترض أن تتقدم الصفوف.
بارحت رحاب الجامعة في منتصف التسعينيات. لكن عيني كانت دائماً عليها من على البعد استشعاراً منى لدورها المأمول لقيادة مسيرة العمارة في بلادي. كنت مهتم على وجه الخصوص بتفاعل أساتذتها بما كان يدور على المستوى العالمي. الذي نعتبر نحن شئنا أم أبينا جزء أصيلاً منه. تركز اهتمامي على ظاهرة محاولة كسر طوق عمارة الحداثة الذي كتم أنفاس عمارتنا و أعتقلها في محطة واحدة. بالرغم من المسارات المتنوعة التي اختطها المفكرون على المستوى العالمي للانعتاق و الخروج من هذا النفق المظلم. التي انتظمت هناك في عدة مسارات تحت مظلة ذلك التوجه العريض الذي عرفه النقاد عندهم بتوجه ما- بعد-الحداثة. بالرغم من بعدى من قسم العمارة لمست بوارق أمل في تحقيق بعض الإنجازات على هذا الصعيد. حاولت رصد هذه الظاهرة على ارض الواقع عندما كنت أجهز لمحاضرتي في قاعة الشارقة في بداية العقد الثاني من الألفية. رحت أجوب مواقع الجامعة بهدف رصد حالات يمكن أن تؤرخ لبوادر مثل هذه التحولات. من ضمن منظومة الأساتذة ركزت في البدء على وجه الخصوص على شريحة الشباب و أعترف بأني لم أغنم منهم بصيد ثمين كبير.
استوقفتني على وجه الخصوص من أعمال شباب الأساتذة حالة واحدة. المدهش أنها لمبنى يعتبره جلنا للأسف عمل هامشي إذ انه مجرد سور خارجي لجزء محدود من مجمع الوسط. المطل على النيل الأزرق من المنطقة القريبة من مدخل كبرى النيل الأزرق و الممتدة حتى ركن المجمع المقابل لمباني وزارة الصحة. بالرغم من أن طوله لا يتعدى البضعة كيلومترات إلا أن بعض المداخل الموزعة على طول امتداده منحته تميزاً خاصاً. أحدها كان المدخل الرسمي لمجمع مبنى كلية غردون التذكارية و الثاني خاص بمكتب مدير الجامعة و الثالث مدخل مبنى الشئون العلمية ذروة سنام كسبها العلمي. تلك المعطيات جعلت شخصية مهمة جداً و مؤثرة في عهد نظام الإنقاذ تهتم بأمر هذا السور. فتبنى مشروع إعادة تشييده و وفر له الميزانية المطلوبة حتى خرج بالهيئة المشرفة الحالية. اهتممت به بشكل خاص لأنه عمل بالغ الرصانة. أيضاً لأنه يمثل مدرسة من أهم مدارس توجه ما- بعد- الحداثة. الذي حاول عبر مدارسه المتعددة القفز فوق الحواجز لتجاوز قصور فكر عمارة الحداثة و اخفاقات مردودها.
قام بإعادة تصميم السور الجديد و أشرف على تنفيذه الدكتور أبو بكر حسين الذي كان أوانئذٍ واحداً من شباب هيئة التدريس بالقسم. قام بإعادة صياغة جوهرية شاملة للسور القديم بحساسية فائقة و روح ابتكار عالية. مستلهماً التعديلات و الإضافات الجديدة من شكل السور القديم. أعجبني جداً بالتحديد جزء معين من تلك الإضافات. الجزء الأنيق الصغير المفتوح الشبيه بالقفص المشيد بالطوب و الحجر الرملي. الذي يتوج الركائز و يحمى وحدات الإضاءة كروية الشكل. مكونات جديدة موفقة أضافت لفكرة السور و لم تنتقص من طابعه الكلاسيكي. أعجبتني أيضاً ثنائية وحدات طوب السدابة و الحجر الرملي التي تربط بينها مساحات (قريلات) كلاسيكية التصميم. عظمة العمل تتجسد بحق في تلك الركائز الطوبية التي أعاد تدويرها بحذاقة مفرطة لتقف منتصبة كقطع نحت فتانة. أعبر هنا عن كامل تقديري للدكتور الذي لم يستصغر شأن هذا العمل فتعامل معه بروح مسئولية عالية. أشبه بجراح فائق المهارة يجرى عملية مجهرية بالغة التعقيد. مصدر إعجابي بهذا العمل في أنه يقع في إطار مدرسة الكلاسيكية الراجعة المستظلة بمظلة توجه عمارة ما- بعد- الحداثة. ما أحوجنا لتفهم فلسفتها بعمق و استيعاب مضامينها. التي تصلح كمنطلق ممتاز لتصميم مباني مجمع الوسط المرصع بتحف العمارة الكلاسيكية. دبجت مقالة عن هذا العمل المتفرد وجدت مكانها ضمن مواد موقعي الإلكتروني.
حمل العقد الأول من الألفية معه مزيداً من رياح التغيير على مشهد عمارة الجامعة تحديداً مجمع الوسط. التي ساهم فيها بشكل متميز أحد أهم أساتذة القسم من الجيل الثاني من موقع عمل بعيد منه نوعاً ما. فاعل الخير المعنى هنا هو أستاذنا الدكتور سيف الدين صادق حسن. لعلها كانت من أوائل مساهماته في رحاب الجامعة بالرغم من سنواته الطوال التي قضاها أستاذاً بالقسم. إسهاماته المقدرة المشهودة فيه كانت لفترة طويلة في مدرجات المحاضرات و قاعات المرسم. حيث كان دوماً يتجلى و يحلق بطلابه في رحاب عوالم فلسفية عميقة المعاني. أعتبره من بيننا كلنا نحن معشر الأساتذة بالقسم من واقع مجال تخصصه من أهم حملة مشاعل حركة التنوير والتغيير. ساهم بشكل مقدر في نشر رسالتها عبر محاضراته وإشرافه على مشاريع المرسم.
بث دكتور سيف في البدء رسالته على نطاق أوسع من خلال أعماله المعمارية الجسورة المنتشرة في أرجاء العاصمة. مبنى الأبحاث الجيولوجية على شارع فرعى متفرع من شارع النيل بجوار مصلحة الجيولوجيا. حيث سطع هناك بعمارة قدمت فتحاً جديداً في مجال هذا النوع من المباني. بالإضافة لعمل معماري بالغ التميز ليس ببعيد عنه هو نادى وزارة الطاقة المطل على النهر قبالة مبنى وزارتها. مبنى في غاية الأناقة يستحق هذا الموقع المتميز. تجلى دكتور سيف في كلا المبنيين و حلق في أفاق بعيدة عن باقي منظومة المدينة المعمارية التي لا زالت أسيرة قيود مفاهيم الحداثة. مفاجأته المدوية كانت في مبنى لجهة فنية تابعة لإدارة مطار الخرطوم مشيدة في حرمه. موقعه هناك المطل على شارع عبيد ختم يقع شمال مباني رئاسة شركة الخطوط الجوية السودانية. عمارة مكسوة بكاملها بألواح معدنية نحاسية الهيئة مبرقة المحيا. تتجاوز حد الإبهار فتكاد تكون صادمة إن لم نقل مستفزة للشخص العادي. مثل هذه الأعمال الجريئة قد تبرر لنا نايي دكتور سيف و تجنبه المساهمة في تصميم أعمال في رحاب مواقع الجامعة لفترة طويلة من الزمان.
أتت الفرصة طائعة مختارة لدكتور سيف مع بداية الألفية عندما صار مديراً للإدارة الهندسية في الجامعة. فأدارها بإحساس العلامة في مجاله و الفنان و المبدع مستعيناً بكوكبة من أنبغ الخريجين الجدد. الذين كانوا من قبل من (حيرانه) و دراويش طريقته عندما أشرف عليهم في سني دراستهم النهائية. مما ووفر أجواء توافق و تقارب في الروى بينهم سهل عملية تقبلهم لأفكاره التقدمية. عمله هناك بصلاحيات واسعة مكنه من طرحها بجرأة يحسد عليها. فأنتج أعمالاً معمارية بالغة التميز كسر بها طوق فكر الحداثة الجامد و أطر عمارته محدودة الأفق. من أهمها قاعة صديق ودعة التي شيدت في موقع قرب الطرف الشرقي لشارع البرلمان الداخلي. جنوب و خلف مجمع قاعة الشارقة التي شيدت في السبعينيات فدخلت معها في منافسة نسبة لتشابه نوعية استخداماتهما. كان الموقع محفوفاً بمباني حملت سمات عمارة الحداثة و تدثرت بطوب السدابة. قفز دكتور سيف فوق حواجز الزمن متمرداً على قيود فكرها. قدم في نفس الوقت عملاً معمارياً أرضى طموح الشيخ ودعة الذي تبرع بسخاء لهذا المشروع. فنهضت هناك بكبرياء عمارة ملتمعة تخلصت من قيود أشكال الحداثة الصندوقية. نزعت رداء طوب السدابة لتلتحف بألواح المعدن البراقة المطعمة بومضات زجاج المرايا. فشكلت منعطف جديد في مجمل عمارة جامعة الخرطوم.
العمل الأهم بالنسبة لي هو مبنى واحد من أهم بوابات مجمع الوسط المطلة على شارع الجامعة. أهميتها في أنها المدخل لواحد من أميز شوارع المجمع الداخلية معروف باسم شارع (المَين). يستمد تميزه من عدة معطيات منها أنه محور رئيس في ذلك الجزء المؤثر من مجمع الوسط. يضاف إلى ذلك أن طرفه الشمالي يقود إلى مبنى المدخل الرئيس لمجمع مبنى كلية غردون التذكارية التاريخي. من أميز المعطيات أن أرصفته كانت عبر الأزمنة شاهدة على أهم الأحداث والمواقف متنوعة المقاصد. اكتسبها في فترات سابقة عندما كان بمثابة بهو دخول مفتوح في الفضاء الطلق لقاعة الامتحانات الكبرى. التي شهدت في تلك الحقبة الزمانية أهم الفعاليات السياسة و الفكرية و الثقافية و الفنية. تضاف إليها أحداث سياسية جرت خلال الثلاثة عقود الماضية. كانت فيها أرصفته مسرحاً نشطاً لأركان نقاش الجهات المعارضة لنظام الإنقاذ. استضافت لاحقاً قبل وقت قريب وقفات احتجاجية عاصفة لزمرة من الأساتذة الثوار ساهمت بشكل فعال في إسقاط ذلك النظام. جدير بالذكر أيضاً أن أرصفة الشارع وريفة الظلال أرخت عبر الزمان للقاءات المحبين من الطلاب التي أثمرت لاحقاً زيجات موفقة. الوقائع و الأحداث الكبيرة و الصغيرة التي ارتبطت بهذا الشارع جعلت البوابة المقضية إليه أمراً بالغ الأهمية.
لم يقصر الدكتور سيف الدين صادق مع شارع المين و مع مبنى بوابته. بالرغم من تحفظي على بعض جوانب تصميمها. الذي منحه الكثير مما ادخره من علم زاخر متجدد و روح مقدامة لا تخشى في الحق لومة لائم. المقطع الأخير من هذه الجملة بالغ الأهمية بالنسبة لهذه الحالة. التي هدف فيها المصمم لتحقيق فتوحات جديدة مؤسسة على أعلى درجات الإبداع. فجاء التصميم هنا معبراً بحق عن تلك الأهداف محتشداً بالمفاجآت. يستلف مرة من بعض مكونات عمارة الجامعة الكلاسيكية الموشحة بطوب السدابة. ثم ينحرف منها مرات بدون أن يفارقها تماماً. ليشطح و ينطح مرات أخرى مبتعداً تماماً عن تلك الأطر الكلاسيكية. موغلاً في عالم الحداثة التي تجاوزه لما هو أكثر منه جرأة و تمرداً. من المؤكد أن الدكتور هنا أسلم نفسه تماماً لقياد ذلك التوجه الذي وصمه النقاد في الغرب فأطلقوا عليه مسمى ما- بعد- الحداثة. حاولت أن أصنفه داخل واحد من مدراسه المتعددة واضحة المعالم و السمات. لكنه بتمرده المعهود و حالة الفلتان التي انتابته في هذا العمل لم يتقيد بضوابطها. إذ أطلق لنفسه العنان محلقاً بحرية في فضاءات الإبداع بعيداً عن قيود تلك التصنيفات.
فعل دكتور سيف العجب في تصميم البوابة. المدهش أن افتتانه بأفكار توجه ما- بعد- لم يمنعه أحيناً من تقديم فروض الولاء لعمارة الجامعة الكلاسيكية. في هذا السياق أبت عليه نفسه أن يلجأ للنقل الحرفي و هو زعيم المجددين ففعل ذلك بطرق لا تخلو من عبقرية. لم يكن من المتوقع أن يلجأ إليه بعد اختراقاته المعمارية في أرجاء المدينة التي نأت به عن باقي القطيع. عليه لم يكن من المتوقع أن يعود إليه بطريقة ساذجة. حقق نائه عن النقل الحرفي أحيناً باللجوء لأسلوب الصدمة. الذي يضعه في إطار مدارس توجه ما- بعد- الحداثة. على العموم يشف هذا العمل في أكثر من واحد من جوانبه عن حالة تأرجح واضحة. تقرب و تودد للتراث مع حالة تمرد عليه لا تخلو من عنف طرازي. نلاحظه في عدة مكونات و ملامح من مبنى البوابة. منهاً ظهور العقد أو القوس المسنن بشكل مختلف جديد في أطراف المبنى و فوق سطحه. بالإضافة لأجزاء المبنى الرئيس، الأسطوانة الزجاجية في بهو الدخول و البرج الذي يعلوها.
لم يتعامل دكتور سيف مع العقد أو القوس المسنن بطريقة نمطية كما فعل من قبل أقرانه الذين أعادوا تدويره مراراً وتكراراً. قدمه بعد أن جرده من طوب السدابة ممتطاً صهوة خامة الخرصانة المسلحة. ظهر مرة رشيقا شامخاً في شكل ثناية على جانبي البوابة تمر من خلالها المركبات. سطع مرة أخرى هو أصغر حجماً يحتضن الساعة العملاقة المثبتة فوق برج المبنى. تَودد الدكتور لعمارة الجامعة الكلاسيكية بطريقة أخرى مختلفة و محيرة تجسدت في البرج العجيب الذي يعلو المبنى. تقرب إليها في البدء بالظهور الكثيف لطوب السدابة. استكمل تودده ببعض ملامح شبه بين شكل البرج و الجزء الأعلى من مبنى مدخل مجمع كلية غردون التذكارية الذي يظهر بعيداً في الأفق. لدى إحساس بأنه شعر بعد تلك الخطوات بالذنب. لأنه قطع شوطاً مقدراً في طريق النقل الحرفي الذي تاباه نفسه و هو أمير المجددين. فانتابته حالة تمرد غريبة الأطوار جعلته ينهى مكون البرج بطريقة ممعنة في الغرابة. تتجلى في عدم تركيب نوافذ في فتحاته مما يجعل من الصعوبة استخدامه للأغراض المعروفة فجعله أشبه بالبرج الزائف. الواضح أن رؤية المصمم هنا كانت أعمق من تلك المطلوبات الدنيوية. كانت مؤسسة على مضامين رمزية تتجاوز الأهداف النفعية العادية. أسلوب الصدمة هنا الذي يولد الإحساس بالدهشة يضع عمارة المبنى على أعتاب فضاءات توجه ما-بعد-الحداثة.
تقرب و تودد الدكتور لعمارة الجامعة الكلاسيكية لم يجعله يرتمى في أحضانها بالكامل. تمرد عليها محاولاً مرة أخرى اللحاق بركب الحداثة و ما بعدها في جزء مهم جداً من مبنى البوابة. صمم بهو الدخول على شكل أسطوانة زجاجية كبيرة شفافة نقية تكون بلا تفاصيل خارجية أو تقسيمات داخلية. فجاء هذا الجزء من المبنى قمة في التعبير عن الحداثة شكلا و مضموناً و خاماتً. تجاوز حدودها فلامس فضاءات ما- بعد- الحداثة باستخدام سلاح و أسلوب الصدمة. من خلال وضع معكوس شكل جانباً أساسياً في مجمل عمارة المبنى. برج طوبى ثقيل الوزن يجلس على أسطوانة زجاجية. وضع يجعلك تحس باحتمال تحطم تلك الأسطوانة نتيجة للجزء الثقيل من المبنى الذي يعلوها. لقد تكسرت فعلاً لكن بفعل فاعل أخر كما سنوضح لاحقاَ. هذا الإحساس المؤرق الذي يولد الصدمة يذهب بالعمارة طرازياً إلى ساحات توجه ما- بعد- الحداثة. تعتبر فكرة بهو الدخول الزجاجية في تلك الفترة في العقد الأول من الألفية غير موفقة. لأنها لم تراعى أجواء الجامعة الناتجة عن بعض الأوضاع السياسية المحتقنة. التي كانت فيها الحجارة و العصى و (السيخ) هي لغة الحوار الطلابي بين الفرقاء السياسيين. فتحطم غلاف تلك الأسطوانة الزجاجية في أول معترك دار بينهم في ساحتها. نتيجة لتلك الأحداث أجهض واقع الجامعة السياسي المضطرب فكرة تلك الرؤية المستقبلية الجريئة.
حاولت في هذه المقالة المطولة أن أعود مرة أخرى لعمارة جامعة الخرطوم. متوقفاً بقدر الإمكان عند بعض المشاريع و الأعمال المعمارية التي تشكل مرتكزات مهمة و نقاط تحول مؤثرة. المساحة المحدودة هنا جعلتني أكون انتقائياً فتعاملت مع عدد محدود منها. بعضها لم تؤهله عمارته للدخول في هذه القائمة لكن جوانب من تاريخه المشرف تستدعى إضافته لها. أذكر منها نادى الأساتذة الذي يقع قرب الطرف الشرقي من شارع الجامعة. الذي شهدت أرجائه لحظات مخاض صعبة للغاية لعب فيها أساتذة الجامعة دوراً سياسياً مؤثراً في تاريخنا الحديث. أرخت لثورة أكتوبر في عام 1964 و الانتفاضة الشهيرة في عام 1985. مما يرفع من قيمة المبنى لارتباطه بنضال أساتذة الجامعة من أجل الوطن. وصلتني من قبل رسالة مؤثرة للغاية من شابة من خريجات الجامعة. تتحدث بحسرة عن نية بعض الجهات تحويل النادي لمطعم للبيرقر و الفول و الطعمية. كما يقول أهلنا أنشاء الله ربنا (يكضب الشينة). نأمل في يبقى النادي كما هو عليه الأن. على أن تشمله إدارة الجامعة المبنى بكامل الرعاية بدون تغيير مؤثر على مظهره الأساسي. أملاً في أن يعود من خلاله أساتذة الجامعة الأجلاء في مواصلة دورهم التاريخي التنويري المرتج بنفس الهمة العالية.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان – أبريل 2020