الخرطوم مدينة حديثة نسبياً إذ قارناها بعواصم آخرى مثل روما و أثينا و القاهرة و دمشق التى تحتشد بروائع معمارية لحضارات ضاربة فى القدم. و بالرغم من ذلك يجب أن نحمد الله على ذلك التراث المعمارى القيم الذى خلفته بعض عهود الإحتلال الأجنبى- التركية السابقة و الحكم الثنائى. الحكم و الوطنى نفسه فى بداياته أفرز أعمال تاريخية بالغة التميز. هذه الأعمال تطرز عمارة الخرطوم و تنداح إلى أمدرمان و بحرى فتمنح العاصمة البصمة و النكهة المتفردة المعطرة بعبق التاريخ.
الأثر التركى وجوده محدود جداً. مردود البريطانيين يتجسد فى نماذج بديعة من مبانى الطوب الأحمر. و المصريون نثروا روائع من عمارة الحجر الرملى. و إكتملت اللوحة التراثية المدهشة بمساهمات من الراسمالية الأجنبية من خلال مبانى مقرات شركاتها و دورهم الخاصة. يزيد من قيمة هذه المبنى المميزة تنوع محبب ناتج عن إختلاف فى إستخداماتها و طرازاتها المعمارية و مواد بنائها. فإكتسبت بذلك عمارة الخرطوم التراثية ثراءً بائنً. لكن كل ذلك لم يشفع لها كثيراً و لم يحصنها و يصد عنها الجرافات المزمجرة.
التشويه كان يتم أحيناً نتيجة لأعمال التجديد و الصيانة. أبلغ مثال لذلك مبنى بلدية أمدرمان بشارع العرضة الجهة المسئولة عن حفظ التراث المعمارى. واجهته الشمالية غطتها البثور الناتجة عن تركيب المكيفات قبل فترة من الزمان. فى شارع البلدية كان هناك مبنى دار الوثائق السابق و هو تحفة بحق و مفرط فى العراقة. تغير مالكه فتغير حاله. تناوشته المعاول و الفؤوس فمسحته من الوجود. ثمة مبانى لوزارات مهمة مصطفة بذات القيمة المعمارية العالية. أخشى أن تلاقى نفس المصير المظلم بعد أن تنقل مقارها لضاحية سوبا فتفقد بذلك العاصمة كنوز أثرية لا يمكن تعويضها.
المحافظة على هذه الدرر تحتاج لقوانين صارمة. فى هذا السياق أخاطب الأخ نائب رئيس الجمهورية فهو مسكون بحق بحب الوطن و البلد و يتمتع بحساسية مفرطة نحو هذه المسائل. و أوجه ندائى أيضاً بشكل خاص لوالى الخرطوم. و أملى كبير جداً فى صديقى العزيز الشفيف الأنيق ( أب قلبً حار) معتمد أمدرمان الدكتور/ أبو كساوى، و نرجو أن يبتدر حملة يبدائها بمبنى محليته. و أمر المحافظة على التراث يحتاج لمستثمر فطن بعيد النظر لا تحكمه الرؤية النمطية. بعض من هذه المبانى الرائعة خالى الآن، و آخريات سيتوفرن قريباً. بنظرة ثاقبة و بعض من جسارة و إعادة تأهيل و تغيير إستخدام المبانى لتصبح فنادق و سلسلة مطاعم و مولات يمكن أن نجعل منها مشاريع إستثمارية سياحية ناجحة جداً بالغة التميز.