تتبعت مسيرة المعماري الأريب صلاح رحمة و هو الأن من الجيل الوسيط من المعماريين منذ قرابة العقدين من الزمان. لفت انتباهي خلال العقد الأول من الألفية بتفوقه الباهر في عدد من المسابقات المعمارية المهمة. مما أجبرني بعد ذلك من واقع مسؤوليتي التي بمليها على تخصصي في التعرف عن قرب على كافة جوانب شخصيته و تجربته. توقفت بشكل خاص عند تجربة تعامله مع مبنى رئاسة الهيئة السودانية للمواصفات و المقاييس الذي شيد في منتصف العقد الأول من الألفية. في موقع مترامي الأطراف على شارع الجامعة الرئيس قرب تقاطعه مع شارع عثمان دقنه. اهتممت بالتوقف عند هذه الحالة باعتبارها كانت أكبر مشروع بالنسبة له خلال تلك المرحلة الأولي من مسيرته. عمل معماري محتشد بالأفكار الجديدة الجريئة الأمر الذي أوحي لي بعنوان هذه المقالة. إحراز الأهداف في مباريات كرة القدم من خارج منطقة الجزاء لا يقدر عليه إلا أمهر اللاعبين. الذين يحظون حينها ببالغ إعجاب المتابعين للمباراة. مقترناً بإطراء النقاد الرياضيين وهذا هو بيت القصيد هنا. يمثل النقاد هنا لجان تحكيم المسابقات التي فتحت له أبواب المجد المعماري. كنت من قبل قد دبجت مقالة مطولة طوفت فيها عبر مسيرته الظافرة المطرزة بعدد من الأعمال المتميزة. هانزا أتوقف بكم هذه المرة عند واحد من أهمها.
هذه التجربة حبلي بالأفكار النيرة الجريئة سأتوقف عند بعضاً منها لم يسبقه عليها أحد حتى الأن. فيصبح بذلك معبراً عن حالة أشار إليها الفنان المبدع الأصيل عبد الكريم الكابلي واصفاً شخصية أسطورية في واحدة من أغانيه التراثية. عندا تغزل فيها واصفاً إياها (بألفات الكبار و القدروا). أنا أستعرض حالة هذا العمل المعماري لا أبرئه عن بعض الهنات. التي تؤخذ أحيناً على بعضنا نحن الكبار و قدامي المعماريين لأن الكمال لله وحده. سأركز هنا في البدء على جانب بعينه في المشروع مشيراً لمبررات اختياره كمدخل لهذا العمل الكبير. هي الساحة الخارجية المطلة على شارع الجامعة التي يحتويها المبني جزئياً ببرجين يشكلا معاً أكبر مكونات المشروع. سر تصميمه يكمن إلى حد بعيد في هذه المنطقة. الذي تشهد دراما مدهشة أطرافها عدد من مكوناته الأساسية. كما أشرت من قبل الجزء الأساسي في المشروع هما برجين بارتفاع ثلاثة عشر طابق. يلتحمان معاَ ليشكلا قرب نقطة التقائهما معاً حرف الإل L الإنجليزي. ليفسحا المجال أمامهما عند أعتابهما لساحة مترامية الأطراف. من أهم ما يميز هذه المنطقة قاعة معلقة تنهض قرب نقطة التقاء البرجين. لتفسح المجال في الساحة تهيئ المسرح لهذه الدراما الفضائية. التي تلعب فيها عدد من مكونات المبني أدواراً أساسية محورية هي أساس روعة هذا العمل المعماري بالغ التميز.
استيعاب الأفكار العبقرية المستبطنة في تصميم هذا الجزء من المشروع تستدعي بالضرورة التعرف الجيد على طبيعة عمل هذه الهيئة صاحبة المبني. التي تضطلع بأدوار مؤثرة حيوية جداً تعتبر من أساسيات عمل أي دولة حديثة متقدمة. يكفي أنها مسئولة عن ضبط جودة عدد كبير جداً من المنتجات الحيوية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية. بعضها خارج ذلك الإطار معني بمنتجات تبدو كمالية المظهر لكنها استراتيجية مؤثرة جداً مثل معدن الذهب. من منطلق المهام الأساسية التي تضطلع بها تلك المؤسسة لك أن تتخيل نوعية و عدد من يتوافدون يومياً إلى مقرها. من كافة أطياف العاملين في مجالات متعددة. عدد مقدر منهم بحكم مناصبهم من ذوي المقامات الرفيعة الذين يصلون للمبنى بعرباتهم الخاصة. الأمر الذي يستدعي توفير عدد مقدر من المواقف لسياراتهم داخل الموقع لصعوبة استخدام جوانب شارع الجامعة لهذا الغرض. تتوافد للمبني بالإضافة لتلك الشريحة أعداد مقدرة من خارج إطارها مما يضاعف من جملة من يتعاملون معه بشكل يومي. تضطلع هذه المؤسسة بالإضافة لمهام عملها اليومي الروتيني فتلعب أدواراً أخري حيوية من أهمها رفع الوعي العام بكل الطرق. من خلال المؤتمرات و المحاضرات و الندوات الراتبة التي تومها أطياف عريضة من المختصين و عامة الناس. هذه المقدمة كان مهمة للغاية لتفهم الحلول العبقرية التي تعاملت مع هذه المعطيات. التي تركزت بشكل أساسي في الجزء الأمامي من المشروع خارج إطار برجي المبني.
عبقرية هذه الحلول أنها تعاملت بطريقة غير مسبوقة مع تحديات معطيات المشروع التي أشرنا لها من قبل. أعتقد أن أهمها الساحة الخارجية الأمامية التي تقع إلى حد ما في حضن برجي المشروع. منحته نفساً كلاسيكياً مؤثراً أضفي عليه هيبة و مهابة. تليق بدور هذه الهيئة المؤثر في الاقتصاد و التنمية و في العديد من جوانب و تفاصيل حياتنا. عاد هذا المكون بذاكرتنا لحالة مبني الحكمدارية أو قصر الحكم في فترة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري الذي تشغله الأن مباني وزارة المالية. الذي ميزوه حقبتئذٍ بساحة رحبة تمددت أمامه على جانبه الشمالي المطل على النهر. تجاوز صلاح رحمة تلك الفكرة و تفوق عليها هنا بتعامله مع الساحة بشكل فريد منحها قيمة إضافية متعددة الجوانب. لدي إحساس غامر بأنه جعل تصميم المبنى بشكل معين لكي يوفر لها احتواءً جزئيًا مؤثراً. حققه بأن جعل برجي المبنى في خارطة المشروع يلتقيا معاً في شكل حرف الإل الإنجليزي. حققه أيضاً عبر خطوة مهمة في نفس ذلك السياق استثمر فيها في مكون مهم من المشروع هو قاعة المؤتمرات. التي جعلها معلقة فوق جزء مقدر من الساحة قرب الركن الذي يلتقي عنده البرجين. جانب أخر هو الأهم في التعامل مع هذه الساحة يشكل حالة نادرة. هو رفعها من مستوي الأرض لتفسح المجال تحتها لمنطقة مواقف سيارات تستوعب عدد وفير منها متصلة بالساحة فوقها بسلالم مفتوحة. حلول عبقرية غير مسبوقة تستحق التوقف عندها.
توفير الساحة مترامية الأطراف نفسه لم يأتي من فراغ إذ أن المبرر لها هو الأعداد الكبيرة التي تؤم المبنى بشكل يومي. رَفعُها عن مستوي الشارع خطوة حكيمة للغاية. إذ توفر إلى حد بعيد حماية من تلوث بيئي و سمعي مصدره شارع الجامعة الذي يتواصل فيه زخم حركة السيارات لساعات طوال. بذلك حقق و أمن لها رَفعُها عن مستوي الشارع بيئة مقبولة. كانت ستكون أكثر حيوية و جاذبية إذا أنجزت أعمال البستنة وفق ما هو موضح في التصميم. كانت لو اكتملت حسب ما هو مخطط لها ستكون ملتقً جيداً للمقبلين على أنشطة قاعة المؤتمرات بعد ساعات العمل الرسمية.
تعامل المصمم مع قاعة المؤتمرات و هي من أهم مكونات المشروع يشف عن طاقة إبداعية هائلة. كانت أول الخطوات رفعها فوق الساحة الخارجية و ربطها بها بطريقة ذكية حققها من خلال علاقتها ببرجي المبني. معالجة أسطحها الخارجية تكمل منظومة ذلك الدفق الإبداعي. تحديداً نوع غلافها الخارجي الذي منحها مزايا تفضيلية بالغة القيمة. إذا لُفت تماماً بنوع جديد مبتكر من الزجاج كان يعتبر فتحاً مهماً في هذا المجال حقبتئذٍ. اسمه باللغة الإنجليزية أل structure glass يمكن ترجمتها حرفياً بالزجاج الإنشائي. يرجع الاسم لان أسطحه على الواجهات لا تحتاج لإطارات لتحمل تثبت ألواحه. مما يمنح شكل العمارة درجة عالية من الشفافية و النقاء الناتج عن اندياح مساحات الزجاج بلا فواصل. تضاف إليها مزايا أخري بالغة الأهمية من أهمها عملية العزل الحراري و الصوتي. راهن صلاح رحمة هنا بشكل كبير على مزايا النقاء و درجة معقولة من الشفافية. تأكيداً لميزة النقاء فصلها جزئياً من برجي المبني و رفعها فوق سطح الساحة لتبدو كأنها توشك أن تطير محلقة في الفضاء. جعلها أشبه بجوهرة ترصع صدر العمارة. راهن هنا أيضاً بشكل أساسي على جانب الشفافية. أسر إلى أنه وضع القاعة معلقة و متصدرة للمبني لكي يظهر للملأ زخم المحاضرات و المؤتمرات التي تستضيفها في الأمسيات. مستثمراً في حركة المركبات و السابلة التي لا تنقطع في شارع الجامعة.
علاقة القاعة مع مكونات المشروع المجاورة تحتها و بجوارها يشف عن مقدرات إبداعية هائلة. من أهمها رفعها عن مستوي الساحة الذي ربطها بها بدون أن تخصم الضوضاء في أرجاءها من الهدوء المطلوب داخلها. مستثمراً في خاصية التجويف بين طبقتي الزجاج الإنشائي التي تعزل الصوت. الاستثمار الأكبر هنا وجود الساحة تحتها في حالة النشاطات المسائية. إذ تصبح أرجائها في الهواء الطلق بمثابة امتداد لوحدات بهو الاستقبال الموجودة داخل البرج المجاور. الحديث هنا يقودنا لاهتمامه الفائق بأن تكون القاعة المعلقة فوق الساحة أشبه بالجوهرة النقية. الهدف الذي حققه عبر خطوات تصميمية متعددة مؤثرة. من أهمها استخدام الزجاج الإنشائي الذي تنساب وحداته بسلاسة على سطح المبني بلا فواصل. حققه أيضاً بجعل كل مكوناته القاعة الثانوية المساندة خارجها داخل البرج المجاور لها. مثل وحدات بهو الدخول و الاستقبال بالإضافة للمرافق الخدمية الخاصة بها. فكرسها بشكل محدد لما يدور فيها من أنشطة. نجح في المحافظة على نقاء شكلها بأن فصلها من البرجين المحيطين بها الذي نجح في إخفاء الرابط بينهما. فأطلق لها العنان لكي تسطع في كبرياء محلقة في صدر المشروع. جعلها تبدو كجوهرة تتلألأ معتزة بنفسها في صدر حسناء معتزة بجمالها تعلن عن نفسها في خيلاء. هدف صلاح رحمة الأساسي من تصميمها هو إبراز دورها التوعوي المتقدم في التبصير بأهدافها عبر المؤتمرات و المحاضرات الراتبة. الذي حققه بتغليفها بالزجاج الإنشائي شبه الشفاف.
بَر صلاح رحمة قاعة المؤتمرات المعلقة كما الجوهرة بخلفيات رائعة في منتهي الأناقة. تزدان بها واجهة البرج الشمالي الشرقية و واجهة البرج الجنوبي الشمالية التي تحتشد بمعالجات معمارية متميزة. من أهمها في البرج الشمالي قوس الزجاج الإنشائي شبه المسطح الذي يتصدر الواجهة متمدداً في شموخ بارتفاع البرج. ليقدم مع رفيق دربه غلاف قاعة المؤتمرات ما يشبه فواصل اشتهرت بها ثنايات أبرع لاعبي كرة القدم يشار إليها بالخد و هات. يتبادلون فيها الكرة بينهم بمهارة فائقة توطئة لإيداعها الشِباك. بالإضافة لذلك هناك مكون صغير موشح بنفس نوع الزجاج معلق في الجزء الجنوبي الأعلى من البرج الشمالي. يبدو هناك كأنه يغمز من طرف خفي يغازل رفيقي دربه في أجزاء المبني الأخرى. لم يكن الغرض من قوس الزجاج الإنشائي جمالي إذ أن له مبررات أخري لا تقل أهمية. فهو مثبت في أجزاء طوابق المبني التي تتم فيها أهم العمليات في أقسامها المتعددة. فغلفها المصمم بالزجاج شبه الشفاف لكي يكشف حركة العمل النشطة الدؤوبة هناك. في تلك الواجهات ومضات إبداعية أخري تسترعي الانتباه. نجدها مثلاً في الطرف الشمالي للبرج الشمالي و الطرف الشرقي للبرج الجنوبي. في تلك الأجزاء من الطوابق المخصصة لرؤساء الأقسام التي تعامل معها المصمم بشكل خاص يليق بمقامهم. فصمم عمق المكاتب بطريقة متميزة غلفه فيها بالزجاج الإنشائي شبه الشفاف الذي يتيح إطلالة على النهر من على البعد. أكرم أصحاب تلك المكاتب أيضاً ببلكونة فريدة التصميم تسمح بإطلالة أرحب.
ظهر صلاح رحمة للوجود كمعماري خريج جديد من جامعة الخرطوم مع نهايات القرن الماضي. في وقت كان طراز عمارة الحداثة لمن يمعن النظر فيه يمر بتجربة خجولة يحاول فيها تغيير جلده. يحاول كما يفعل الثعبان أن يفعل ذلك بدون أن يفقد هويته بين أقرانه من الزواحف باقي مخلوقات الله. ابتدر صلاح رحمة حياته العملية مع جهة تخصصت في مجال تنفيذ المباني. لكن طموحه منذ البداية كان أكبر من ذلك. كان يملاه بإحساس أنه أجلاً أو عاجلاً سيكون له شأن كبير. أثبته بعد عام من تخرجه بتجاسره و اشتراكه في مسابقة مع عدد كبير من الجهات و المعماريين المتمرسين في هذا المجال. تنافسوا لتصميم مبني بالغ الأهمية هو رئاسة وزارة التعليم العالي. فوضعته هيئة التحكيم المكونة من عدد من كبار أساتذة العمارة في المقدمة فأهلته للاضطلاع بتصميم المبني. شرف انتزعه منه ما كان يعرف بالفك المفترس حقبتئذٍ. جسم هلامي عجيب ابتدعه نظام الإنقاذ من ضمن ما ابتلانا بها من بلاوي.
لم تقلل هذه التجربة المريرة من عزيمة و طموح الفتي الألمعي حقبتئذٍ. إذ سرعان ما عوضته الأحداث المتلاحقة ببدائل لم تقل شأناً عن ذلك المشروع الذي لم يسعده الحظ في التعامل معه. إذ أتيحت له الفرصة لاحقاً في الفوز في عدة مسابقات متلاحقة خاصة بمشاريع بالغة الأهمية. جعلته يضع أقدامه بثقة في مجال تصميم مباني المؤسسات المهمة التي يشار إليها باللغة الإنجليزية بال Corporate buildings. منحته هذه التجارب ثقة عالية بنفسه. أيضا ثقة جهة استشارية مهمة كلفته لاحقاً بتصميم مبنى هيئة المواصفات الذي كان موضوع هذه المقالة. تلك الفتوحات الموفقة فتحت له أبواب أرحب في زمن قياسي. لعل من أهمها على الإطلاق فوزه في مسابقة لتصميم مجمع السفارة و القنصلية الهندية في نفس موقعها الحالي بحي الخرطوم واحد. تحدي كبير من حيث التعامل مع جهة تمثل أمة مرتكزة على تراث ثري بازخ و طموح بلا حدود. في تجربة أثبت فيها حتى الأن صموده و جدارته و المشروع يمضي قدماً إلى أخر نهاياته السعيدة. تلك الخلفية البهية و المسيرة الظافرة هي التي تدفعني دائناً لتناول أعماله متوقفاً عند جوانبها التي تمثل اختراقات جديرة بالاهتمام. هذا هو عين ما ركزت عليه في هذه المقالة عن مبني الهيئة السودانية للمواصفات و المقاييس.
الشرفة هي ذلك الجزء الصغير الناتئ الناهض أمام الواجهة في طوابق المبنى العليا. أعتدنا نحن و بعض الدولة العربية الأخرى أن نسميه البلكونة. الواضح أن التسمية تحريف لمسماها باللغة الإنجليزية بالبالكونيbalcony. لا أدعي بأني قد قمت ببحث عميق ضافي عن أماكن و تاريخ ميلادها في العالم الغربي. لكني اجتهدت نوعاً ما في تتبع أثارها هناك. ثمة مؤشرات لاجتهادات خلال فترة حضارة روما القديمة. مهدت الطريق لخطوات خجولة شهدتها عصور أوربا الكلاسيكية تحديداً فترة العمارة القوطية. تجلت تحديداً في بعض أعمال المعماري الإسباني العبقري أنطونيو قاودي التي تميزت بشطحات معمارية مشهودة. ممهدة السبيل لعصر النهضة الذي وضعت فيه البلكونة أطراف أقدامها تحديداً في روائعها في إيطاليا. مقدمة نفسها على استحياء في عمارة قصورهم بما فيها القصر الحضري. الذي بذل له أصحابها الغالي و النفيس لتشييده و رعته موهبة و علم أميز المعماريين زمانئذٍ. ظهرت هناك على استحياء بشكل صغير متواري نوعاً ما. إذ منعتها خامة الحجر المستخدمة في تشييدها من النهوض بجسارة أمام واجهات المبني.
تم تحرير البلكونة من إسارها في العالم الغربي في زمان الحداثة خلال العقود الأولي من القرن العشرين. عندما تسارعت خطي تطور مواد البناء فشهدت تقدماً ملموساً. فتسيدت المشهد المكونات الحديدية مثل سيخ التسليح ليشكل ثنائية مدهشة مع رفيقة دربه خامة الإسمنت. مُطلين معا على عالم العمارة في شراكة ذكية مبهرة. حررت تلك التطورات المؤثرة البلكونة من القيود التي جعلتها تظهر من قبل على استحياء. بالإضافة إلى التطورات في علم إنِشات المباني التي منحتها دفعة مقدرة جعلتها أكثر جرأة لاختراق الفضاء من حولها. فمضت تَسطع تزين واجهات العمارة تغازل أجوائها. ترفرف لكأنها فراشة ممراحة أو راقصة بالية بارعة تستعرض فنونها في مسرح البوليشوي الأشهر بموسكو. تخلصت من قيودها فلم يعد يحد من مدي تحليقها إلا مقدرات المهندس الإنشائي العلمية و طاقات المعماري الإبداعية. فتفنن فيها المعماري و أبدع فدخل معها في شراكة ذكية فأنتجا معاً مكونات معمارية مرفرفة في غاية الروعة. مما دعي المعماري الإيطالي الفيلسوف كارلو بونتي ليتغزل فيها. فيصف البلكونات الناهضة في واجهة المباني بأنها أشبه بمراكب شراعية تبحر في الفضاء.
بعيداً عن ذلك العالم الغربي ظهرت البلكونة في حضور مختلف رائع مدهش بحق في كل جوانبه. أطلت في واجهة المباني في ظل ظروف مغايرة تماماً مرفرفة متدثرة بغلالة شبه شفافة أطلقوا عليها اسم المشربية. ظروف متباينة مناخيا لكن أهم من ذلك الاختلاف الديني بكل مستحقاته. فظهرت في إهاب مغاير تحت مظلة دين مختلف عن المسيحية التي ولدت من قبل في كنفه في العالم الغربي. جاءت محمولة هذه المرة تحت راية الإسلام الذي تمدد عبر عدة قارات و بلدان. فأضفي عليها مزاج و ذائقة شعوبها بصمة متميزة. جعلتها تطل تشمخ في مظهر متفرد في كل جوانبه و تفاصيله. لم ينلنا منها للأسف إلا أثر محدود تركز في مدينة صغيرة في طرف نائي من بلادنا. عندما ظهرت كحالة استثنائية هناك في القرن التاسع عشر. زينت فيها البلكونات الخشبية محتشدة المنمنمات واجهات بيوت مدينة سواكن. تلك الجزيرة المضجعة في خليج صغير في ساحل البحر الأحمر شرقي البلاد. فطرزت هامات العمارة بشكل مدهش. سأعود إليه بشي من التفصيل لاحقاً. لكن فلننتهز فرصة تلك البلكونات لكي نجعلها مدخل نلج من خلاله لحالة السودان متتبعين أثارها عبر الزمان و المكان.
كانت بلكونات بيوت سواكن جزء مؤثر للغاية من عمارتها. نوع منها يسمي الروشان تفتح نوافذه على اعلي فتظللها تماما من الداخل. ظهرت في أشكال بديعة مترفة التفاصيل شبيه بالتحف و أروع أعمال النحت. نوع أخر بالغ التميز مغطي تماماً بما يشبه الغلالة الشفافة تسمي المشربية. عظمة فكرتها أنها تعاملت بحصافة بالغة مع عدد من أهم تحديات حياتهم. المناخية منها و الدينية ذات الأبعاد الثقافية المجتمعية. التي يتم التعامل معها بحل واحد مدمج، بضربة لازب كما يقول التعبير المتداول. سرها يكمن في غلالتها أو غلافها شبه الشفاف المكونة من أطوال متقاطعة شبيه بالعصي الخشبية. تلتقي في تكوينات هندسية بديعة تنسدل في شكل شبكة تحيط بالبلكونة. جعلت البلكونات المعلقة في الواجهات خير ملاز تستجير به نساء الدار اللائي حددت التقاليد إقامتهن في البيوت. تتيح لهن فتحات المشربية الصغيرة متابعة نبض الشوارع المصطحبة حيوية بدون انتقاص لخصوصيتهن. نفس الفتحات الصغيرة تروض مناخ منطقتهم الحار عالي الرطوبة. تصد أشعة الشمس لكنها تستدرج كل نسمة شاردة. وفرت لهن فيها أجواء منعشة فصارت كأنها مسكن قائم بذاته مجهز بالعديد من احتياجاتهن. مثل جرار الماء الشرب الصغيرة، القُلل، التي تحولها النسائم الهابة إلى مبردات. أكملت تلك البلكونات بديعة الأشكال جميلها فأضفت على منظر المدينة مسحة جمال بائنة. كسرت رتابة منظومتها المشيدة بخامة واحدة مدهونة باللون الأبيض. تبرق هنا و هناك على الواجهات كأنها قناديل مضيئة.
بعد بضعة عقود من حقبة مجد عمارة سواكن المدهشة مع مطلع القرن العشرين شهدت الخرطوم بداية تحول أساسي في هذا المجال. جاءها مع جحافل خيول قوات الجيوش الغازية. التي احتلت البلاد مدشنة لنظام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. الذي أسس لمرحلة مفصلية مهمة مؤثرة من مراحل تحور العمارة السودانية. اجتهد ليعيد أمجادها بعد سلسلة من الهزائم و الانكسارات. كان أخرها خراب سوبا عاصمة أخر مملكة مسيحية نشأت و ازدهت في موقع ليس ببعيد من الخرطوم عاصمتهم الجديدة. أتي النظام الجديد المحتل برؤية طموحة لإقامة عاصمتهم الجديدة. اجتهد لكي ينافس بها رصيفاتها في عواصم دول أفريقية كانت ترزح تحت نير الاستعمار. مبتدأين بمواد البناء و تقنياته من نقطة أقرب من الصفر. جاءت بداياتهم قوية بالرغم من محدودية الإمكانيات الأساسية المتاحة. فقدموا في سنواتهم الأولي عمارة في غاية الرصانة و الجمال و الفخامة كلاسيكية الهوى و الهوية. محمولة بشكل أساسي على أكف أعز مواد البناء عند الجانب البريطاني طوب السدابة الأحمر الذي طوروا صناعته. دعموا عضده بتقوية المباني بتطعيمها بالحجر الرملي المستخدمة في أجزاء محددة من المباني. وفائهم النابع من حب جارف للطوب الأحمر لم يمنعهم في حالات محدودة جداً من الاستجارة بالحجر الرملي كما سنوضح لاحقاً.
مضت مسيرة إدارة الحكم الثنائي المعنية بالشأن العمراني و المعماري بخطي حثيثة في عملها خلال عقود القرن الأولي. قدمت عبرها روائع من عمارة طوب السدابة التي لا زالت تتحدي الزمن. من أميزها مبني كلية غردون التذكارية و توأمه مبنى الحكمدارية أو قصر الحكم الذي أل لاحقاً لوزارة المالية. في مشهد مهيب تسيده إلى حد بعيد طوب السدابة. معززاُ بقدر محدود بالحجر الرملي الذي احتل مكانه في أركان المباني و حول فتحاتها بغرض تقويتها. مشهد رائع كانت فيه البلكونة خارج اللعبة و هي بلا شك ترمقه تشعر بالغيرة لعدم منحها الفرصة لتساهم في رسمه. لم يكن ذلك ممكناً في البداية و الجهات المعنية بإعمار العاصمة تخطو أول خطواتها خلال العقود الأولي من القرن. تتقدم بحذر بالغ لكي ترسخ أقدامها. كان لها رائي أخر عندما أشتد عودها لأحقاً وتعززت ثقتها بنفسها. فيه بعضاً مما يرضي غرور البلكونة التي بدأت تتأهب لتشكل حضوراً مشرفاً متصدرة واجهة واحد من أهم المباني.
الإشارة هنا لمبني في غاية الأهمية خلال تلك الحقبة لأكثر من سبب مقنع. هو مبنى مكتب البريد الرئيس الواقع غرب ما كان يعرف بقصر الحاكم جنوب قصر الحكم زمانئذٍ المطل على شارع الخديوي الجامعة حالياً. أولته إدارة الحكم الثنائي كامل اهتمامها لأن يضم جهة التواصل الوحيدة مع بلادهم التي تبعد عنهم ببحار و قارات. تلك العوامل جعلتهم يولوا هذا المبنى اهتماماً عظيماً مما جعله من أميز أعمال عمارة الكولونيال أو المستعمرين. أهم ما ميزه الشراكة الذكية المتكافئة بين طوب السدابة و مكونات الحجر الرملي الإنشائية. بالإضافة إلى ذلك أرخت عمارته لنقلة طرازييه مفصلية سلسلة تشهد عليها حالة هنا عاشت فيها الكلاسيكية في حالة غزل فاضح مع الحداثة. تلك العوامل بالإضافة للثقة التي اكتسبتها الجهات المصممة والمنفذة الرسمية منحت البلكونة مساحة لا بأس بها. تسللت فوجدت لها موطئي قدم في الطابق الأعلى من الواجهة الرئيسة و المداخل الجانبية الشرقية و الغربية منه. فتصدرت المشهد توزعت فيه وحدات بلكونات صغيرة ناهضة ناهدة في حضن أعمدة الحجر الرملي الضخمة. مشيدة بنفس نوع الحجر متحدية بمعايير ذلك الزمان قوانين الجاذبية الأرضية لتسجل فتحاً مهماً في سجل عمارة الكولونيال.
ارتحلت البلكونة بعد عقدين من الزمان فعبرت النهر لتحط رحلها بمدينة أمدرمان مزينة واجهات مجلسها البلدي. لتحكي قصة أخري مختلفة تماماً عن حكاية مبني رئاسة مكتب البريد الرئيس في الخرطوم. تركت ردائها الحجري هناك لتظهر في إهاب رائع بديع من طوب السدابة عشق البريطانيين الأثير. في مبنى بديع العمارة متسربل بكامله بهذه الخامة البنائية النبيلة المحتشد بالمفاجئات في كافة جوانبه. اختيارها لم يكن محض صدفة. فالواضح أن حصافة هؤلاء القوم جعلتهم يلجؤون إليها لأكثر من سبب وجيه. لأنها تذوب بلونها البنى في إطار منظومة عمارة المدينة التقليدية الملتحفة بهذا اللون. بالإضافة لأنها تتوافق مع مزاج و طبع أهلها الشعبي المشبع بروحهم الوطنية المتقدة. حصافتهم تتجلي في تعويض متانة الحجر الرملي بالاستثمار في حيل نظم تشييد عمارة الطوب الإنشائية التي وُظفت في شكل رائع بديع. الأروع من ذلك أن نظام تشييد الحيطان الجانبية للبلكونات يشكل جزءً مهماً من مشروع العمارة الجمالي. هكذا هم البريطانيون يتوقون تحرقون دائماً شوقاً لطوب السدابة خامة بناءهم المحببة. بدليل أن تبنيهم هنا لعمارة حداثية النهج لم يجعلهم يتخلون عنها. فقدموها في واحد من أروع أعمال عمارة الكولونيال هم يستعدون لمفارقة بلاد احتلوها لستة عقود من الزمان.
لم يقف الجانب المصري شريك البريطانيين في سلطة الحكم مكتوف الأيدي في تطوير عمارة عاصمتهم الخرطوم. فكانت المنافسة محتدمة بين الطرفين غطت كافة أنواع العمارة و جوانبها. في هذا الإطار كانت البلكونة موضوع هذه المقالة دور مقدر في عمل مهم جداً أخذ موضعه في قلب الحدث. يبدوا أن تشييد الجانب البريطاني لكنيسة في مجمع قصر الحاكم قد حز في أنفسهم مما دعاهم للرد عليه بمشروع ينافسه. أنطلق من واقع أن مصر كانت تمثل راس الرمح في العالم الإسلامي. فشيدوا في مطلع خمسينيات القرن الماضي مشروع كبير مهم هو جامع فاروق. في موقع متميز في مركز الخرطوم التجاري عند تقاطع شارع الجمهورية مع شارع الحرية. جاء في مجمل عمارته و تفاصيلها خير معبر عن عظمة العمارة الإسلامية. التي تجلت في خامات متنوعة وجدت في أرجاء عمارته متسعاً للتنافس. بين مكونات حجر القرانيت الصقيل و أخشاب الأبواب المتوهجة و الواح النحاس الملتمعة. يتسلل فوقها برفق الضوء الطبيعي عبر الواح الزجاج المزجج مداعباً بلطف الفوانيس المدهشة المتدلية من العرش. سجلت البلكونة الموشحة تماماً بالمشربية حضوراً مؤثراً متصدرة هذا المشهد المعماري الرائع. سطوعها بحجمها الكبير في الركن الجنوبي الغربي من المبني أشبه بمنارة تهتدي بها السفن التائهة في عرض البحر. تجلت في إهاب من الخشب الأحمر الغامق الوهاج المشغول بعناية فائقة مقدمة أروع نموذج للمشربيات بديعة الشكل متقنة الصناعة.
الواضح أن الغيرة الحميدة قد لعبت دوراً مهما بشكل غير مباشر في تطوير و تجميل الخرطوم في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي. أشير هنا بالتحديد لحالة جهة غير حكومية أجنبية يبدو أن تألق تلك الدرر المعمارية على جانبي شارع الخديوي الجامعة حالياً قد حرك مشاعرها. هي شركة سفريان واحدة من المكونات المهمة في المجال الاقتصادي خلال تلك الحقبة التاريخية. امتلكت قطعة أرض قريبة من ذلك الشارع على الجانب الجنوبي الغربي من مبنى الحقانية أو القضائية. شيدت فيه مبني رئاستها تحفة من عمارة الحجر الرملي طرازها الغربي الكلاسيكي الرصين مكتمل الوقار. منحت ذلك الشارع و الجزء من المدينة زخماً مترفاً نافس عمارة المباني الحكومية هناك. تميز بالرغم من صغر حجمه بطلة مهيبة مهابة للغاية. خففت لمسات تفاصيل جمالية من صرامة محياها فمنحتها بعض أجواء رومانسية. تحديداً تلك البلكونة الصغيرة المرفرفة في جزء صغير من واجهته التي شكلت إضافة جمالية مؤثرة لمجمل عمارته. ترتكز على وحدات صغيرة من الحجر الرملي منحوتة بعناية فائقة لكأن الذي نفذها صائغ فنان بارع للغاية. سطعت تلك البلكونة هناك لتنضم لرصيفاتها اللائي طرزن محيا عمارة الخرطوم عبر عقود متتابعة من تاريخها المجيد.
الإبداع المعماري في الخرطوم في النصف الأول من الخمسينيات لم يقتصر على الجهات الحكومية و الشركات الخاصة المهمة مثل سفريان. كان لوجهاء المدينة من السودانيين و الأجانب دور مهم في هذا الشأن تجلي في فيلاتهم في حي الخرطوم واحد الجديد زمانئذٍ. الذي خصص لأوائل الخريجين المهنيين السودانيين من الأطباء و المهندسين و المحامين بالإضافة لعلية القوم من الأجانب. الذي سطعت فيه بانوراما معمارية مدهشة. تميزت بتنوع أنماط البيوت بالرغم من أنها لم تخرج من إطار طابع الفيلا المعروف. لفتت انتباهي بشكل خاص حالة بالغة التفرد. فيلا موقعها في الطرف الشمالي الغربي من الحي مطلة على الامتداد الجنوبي لشارع المك نمر. ألت قبل فترة طويلة لأسرة المرحومين حامد الأنصاري و الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد. لم أري لها مثيل منذ تلك الفترة حتى زماننا هذا. تصميمها مستلهم من تراث للبيت الريفي في بريطانيا عرف باسم cottage house يمكن أن ترجمتها بالبيت العُشة. عَشقتُ عمارتها بالغة النقاء منذ اللحظة الأولي ما زلت متيم بها بعد عقود من الزمان. من أكثر أسباب تعلقي بها بلكونتها الصغيرة الرشيقة المرفرفة على واجهتها. افتتاني بها نابع من أنها تذكرني بتشبيه تغزل فيه المعماري الإيطالي الفيلسوف المعاصر كارلو بونتي في تلك البلكونات. شبهها بزوارق شراعية سابحة في الفضاء. الحكم متروك لكم بعد مشاهدة صورها تغازل واجهة الفيلا كما الفراشة.
أرخ منتصف الخمسينيات لحدث مهم فرض على بلادنا متغيرات جوهرية بعد نيلها الاستقلال. أدخلها في تحديٍ مزدوج ألقي بظلاله الكثيفة على كافة نواحي حياتنا. كان علينا أن نقف على أقدامنا كأمة مستقلة بعد طول غياب. بالإضافة إلى ذلك كان يجب أن نظهر كأمة و بلد عصري. في عالم تجاوزت العديد من أجزائه مرحلة هذا المخاض بنجاح. كانت العمارة في قلب تلك الأحداث متلاحقة الخطي. أزم من موقفنا مواجهته بدون كتيبة من المعماريين الوطنيين. الذين بدأ توافدهم لاحقاً عند نهاية الخمسينيات بأعداد محدودة لم تكن كافية لأحداث التغيير المأمول. في فترة حرجة كان من المهم أن نؤسس لنسخة سودانية لعمارة الحداثة التي ظهرت كبديل منطقي حقبتئذٍ. في زمن كانت فيه عمارتنا تتخبط متأرجحة مشدودة لإسار الماضي عاجزة عن التعامل مع واقعها بتحدياته الجديدة. بالإضافة لتعقيدات أخرى على راسها مناخاتنا الحارة. قيض الله لنا الفرج في تلك المرحلة المفصلية في مقدرات و مواهب معماري نمساوي هو بيتر مولر. الذي تواجد في الساحة العامة فتسيدها. إذ أن تأثير و إنجازات أساتذة قسم العمارة بجامعة الخرطوم الذي كان في طور التأسيس حقبتئذٍ محدود الأثر في نطاق مواقعها. عليه سأركز في سياق هذه التطورات و التداعيات على مساهمات بيتر مولر. مولياً اهتماماً خاصاً لمكون البلكونة موضوع مقالتي الأساسي الذي ضاعف من أهميته طبيعة مناخاتنا الحارة.
لم تولد البلكونة من فراغ في حقبة منعطف نهاية الخمسينيات و بداية الستينيات. لقد خرجت من رحم تطورات متعددة متشابكة متداخلة تقنية و مناخية و بعضها ثقافي مجتمعي. تَقدمُ واقعنا الهندسي في تلك الحقبة طور العمارة فاتجهت للنمو الراسي بدأت معه المباني متعددة الطوابق تطل براسها بثقة. اقتحمت مجال الإسكان الذي تبنته في البدء جهات بعينها جلها مؤسسات حكومية و جامعات. جاءت في زمان لم يكن أمر تبريد و تكييف الهواء في المباني شائعاً. فقدمت البلكونة نفسها كمتنفس ملجأ يهرب إليه من في الشقق المعلقة في الهواء لاصطياد نسمة شاردة ترطب الأجواء. مهرب يذكر ممن في تلك الشقق بأيام (حيشان) بيوتهم التقليدية التي ترفرف الحميمية في أرجائها. فوفرت لهم البلكونة الملاذ بالذات للحالمين الرومانسيين و المؤرقين الذي يستدرجون النوم بِعد النجوم. المشكلة هنا أن شهر العسل في حضن البلكونة لم يدم طويلاً. فعملية ترطيب الأجواء هناك اصطدمت بواقع مصدره الأساسي هو نفس الخامات البنائية التي نهضت بالعمارة لتجعلها تشق أجواز الفضاء. على راسها الإسمنت المستخدم في أجزاء المبنى المشيدة من الخرسانة المسلحة. التي تختزن حرارة فترة النهار لترسلها ببطء طوال ساعات المساء. لتصبح البلكونة كالمدفأة لمن استجاروا بها بحثاً عن نسمة هواء باردة. عبقرية بيتر مولر قدمت الوصفة السحرية للتعامل مع هذا المأزق.
سعي بيتر مولر الحثيث في هذا الدرب في تلك الحقبة التي أشرنا إليها من قبل بداء بخطوة موفقة عبر عمل معماري بالغ التميز. داخلية لطلاب معهد الخرطوم الفني شيدت في الطرف الشمالي من حي الحلة الجديدة في الخرطوم. في موقع مطل على شارع رئيس في المنطقة الصناعية قرب مصنع سك العملة. في إطار مشروع كبير تبنته هيئة اليونسكو العالمية. واحد من مظاهر اهتمامها به تكليف بيتر مولر بتصميم هذا المبنى الذي جاء متميزاً في كافة جوانبه. تهمنا فيه هنا على وجه التحديد معالجة الواجهة الشمالية المطلة على الشارع الرئيس. التي صمم فيها بلكونات طوابق المبنى المتعددة بطريقة مبتكرة سديدة. صممها بحيث لا تكون البلكونات في طوابق المبنى فوق بعضها البعض مباشرة. بحيث جعل المسافة ستة أمتار و ليس ثلاثة أمتار بين البلكونة و التي تقع تحتها و فوقها. إجراء سليم وحصيف يسمح بتهوية البلكونة جيداً و يقلل من تأثير الحرارة المختزنة في البلكونة التي تعلوها مباشرة. الواضح أن بيتر مولر اعتبر هذا المشروع عملية إحماء أو (تسخينة) كتلك التي يقوم بها الرياضيين قبل المباريات المهمة. لكأني به تعامل معها هنا بنفس الفهم استعداداً لمشروع أخر كبير مهم طور فيه هذه الأفكار بشكل مدهش بحق.
المشروع الذي تمت الإشارة إليه هو (ميز) أو مجمع سكن الأطباء العزاب. موقعه مطل على الطرف الجنوبي شرق شارع المك نمر جنوب مستشفى الأسنان. عمارة في غاية الروعة خاصة درجها أو سلمها اللولبي المتألق أمام المبنى من الناحية الشمالية. قمة الروعة تمددت في الطوابق العليا في الواجهة الجنوبية هي بيت القصيد هنا. معالجة جاءت فوق التصور للبلكونات الفسيحة المعلقة هناك. يحكي كل جانب منها عن عبقرية بيتر مولر و عمق إحساسه و حساسيته في تعامله مع هذا الجزء من المبني. الخطوة الأولي كانت توزيعها بنفس طريقة داخلية المعهد الفني بحيث لا تكون البلكونات في طوابق المبني فوق بعضها البعض مباشرة. الخطوة الثانية المهمة كانت تفادي استخدام مكونات الخرسانة المسلحة مثل الأعمدة و الأبيام و البلاطة أو (السلابة) تجنباً لمردودها السلبي. فعلق أطراف البلكونات بحبال أو كوابل حديدية. استغنى أيضاً عن الأرضيات الخرسانية. فاستبدلها بأرضيات من الشرائح الخشبية مفرقة بعض الشي عن بعضها بحيث تسمح بمرورها الهواء. ساهمت تلك الخطوات التصميمية في تهوية البلكونات المعلقة فلطفت أجوائها خلال أشهر السنة مرتفعة الحرارة. حزنت كثيرا لأني لم أوثق هذا المشهد المدهش بكاميرتي. لأنه بكل أسف قد أزيل ليحل محله فيل أبيض عملاق مكسو بألواح المعدن. لينضم لأخريات تسد أفق المدينة بعمارة مسطحة باهتة بلا سمات أو ملامح.
من أعظم الخدمات التي قدمها لنا بيتر مولر قبل مغادرته لبلادنا في بداية الستينيات أنه أسس فيها لعمارة الحداثة في بلادنا. صنع من فكرتها العالمية نسخة سودانية قدمها في أزهي صورة متعاملة بحصافة مع تحدياتها المناخية. أضاف إلى جمائله علينا فسلم الراية بشكل سلس لأول مجموعة من الخريجين السودانيين. يكفي أن أحدهم هو المعماري الرائد الأمين مدثر ورث منه مكتبه الاستشاري. المستفيد الأكبر من جوهر أفكاره هو شيخي و أستاذ الأجيال عراب عمارة الحداثة السودانية عبد المنعم مصطفي. تأثر به في بداية مسيرته لكنه انطلق بعد ذلك يختط طريقه مؤسساً لنهجه الخاص الذي أهتدي به عدد مقدر من المعماريين. واحد من دلائل تأثره ببيتر مولر عمارة إبراهيم طلب المطلة على شارع البلدية في الخرطوم بحري في منطقة تعرف باسم المحطة الوسطي. التي اقتبس فيها نفس فكرة بلكونات داخلية طلاب المعهد الفني التي أشرت لها هنا من قبل. تسطع على واجهتها الشمالية الرئيسة ملطفة أجواء البلكونات المعلقة مانحة هذا العمل المعماري حيوية و زخماً بائناً.
قدم أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي أعمالاً خالدة في إطار مساره المستقل الذي أسس له بثقة وافرة. طرح في واحدة من أميزها رؤيا جديدة لفكرة البلكونة. كان مسرحها عمارة شيدت في السبعينيات في موقع شكله مثلث. هي عمارة الإخوة المطلة على الطرف الجنوبي الغربي من شارع عطبرة في مركز الخرطوم التجاري. تلاعب بالبلكونات على واجهاتها الجنوبية بشكل مدهش. أرجو ألا تفهم من هذه العبارة أن التلاعب هنا لم يكن وراه هدف مقنع نبيل. شبيه بحالة التلاعب بالألفاظ في نص أو قصيدة بدون مضمون أو هدف. الفكرة في تلك البلكونات قائمة على تنوع و تغير اتجاهاتها في طوابق المبني. فنجدها متجه من الشمال للجنوب في طابق و من الشرق إلى الغرب في الطابق الذي يعلوه أو الذي يقع أسفله. لم يكن الغرض الأساسي من هذا الإجراء هو إضفاء بعض الحيوية و الحركة على العمل المعماري فهناك أهداف أسمى أهم منها. إذ أنه يجعل نصف البلكونة في هذه الحالة مظلل بالتي تعلوها متيحاً الفرصة للنصف الأخر ليكون مفتوحاً للسماء. بالإضافة ألي ذلك أيضاً يتيح للجزء الداخلي المظلل قدراً أكبر من الخصوصية. بذلك وظف عبد المنعم فكرة البلكونات هنا لتحقيق أكثر من هدف بضربة لازب واحدة. منتهي العبقرية إذ لم يكتفي بالسير على خطي بيتر مولر إذ تخطاه بمراحل. نضرب له تعظيم سلام و نحييه من على البعد في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة أدام الله علية الصحة و طولة العمر.
شهد عقد السبعينيات بداية تراجع لموقف البلكونة بالرغم من تواجدها أحيناً يعزي ذلك لعدة أسباب متداخلة. من أهمها انتشار استخدام وسائل تبريد و تكييف الهواء داخل المباني مما قلل من الحوجة للبحث عن نسمة هواء خارجها. قد يُرد أيضاً لتعاظم دور التلفزيون و قنواته الفضائية الجاذبة التي جعلت الناس متسمرين أمام شاشاته طوال الوقت. هناك أيضاً عوامل أخري مثل رهق الحياة الذي يستنزف طاقات الناس فلا يدع لهم مجال لقضاء بعض الوقت في البلكونة بعد الدوام. تلك العوامل ربما هناك أخري قللت من الحوجة للجلوس في البلكونة. أدت للإحساس بعدم جدواها و التعامل معها بشكل غير لائق يقلل من قدرها. مما جعلها في حالات كثيرة في واجهة المبني شبيه بالبثور في وجه الحسناء. مع أنها من المفترض أن تكون كالشامة التي تضئ وجهها. التعامل معها بطرق معينة جعلها واحد من أسباب تشوهات واجهات المباني. إذ صارت مثلا مكان إضافي لتخزين قطع الأثاث الفائضة و المحطمة. في حالات أخري شائعة تستخدم كمكان لتجفيف الملابس بعد غسلها. منظر غير مستحب منعته بعض دول الخليج العربي التي تعاملت مع مثل تلك الحالات كمخالفة يعاقب عليها القانون. في حالات كثيرة اِعتبرت البلكونة مساحة إضافية تتمدد فيها الشقة بأريحية عالية لتقفل في نهاية الأمر خارجياً بأي طريقة. مخلفة لوحة سريالية شائه في واجهة المبني. لتضيف لمنظومة الشغب المعماري في مدننا الذي أشار إليه المرحوم الدكتور منصور خالد معلقاً على حالها.
في مطلع السبعينيات عندما ما كان تيار البلكونة قد بداء ينحسر قيض الله له من وضع اللبنة الأولي حقبتئذٍ في محاولة لاسترداد أراضيه. هو المعماري السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص. الذي كان يخطو أول خطواته في طريق طويل حافل بالإنجازات و المفاجآت المعمارية. سلك ذلك الطريق هو مزعزعً الولاء. مفتتن لدرجة الوله بعمارة بيوت النوبيين التقليدية في شمال السودان و جنوب مصر. التي أعاد اكتشافها و روج لها المعماري المصري الرسالي حسن فتحي. تشده في نفس الوقت بقوة جذب مماثلة أثار سواكن بعمارتها المدهشة التي زارها أول مرة في فترة باكرة من عمره. يقول علماء النفس أن ذكريات الطفولة المبهجة ترسخ في ذهن المرء تظل مؤثرة طوال مراحل عمره اللاحقة. هذا بالتحديد عين ما حدث لجاك. انطبعت بلكونات سواكن الموشحة بالمشربيات في ذاكرته البصرية لاحقاً فأصابته بحالة زغللة. تحدث لنا عندما نكون في مكان معتم الإضاءة به نوافذ مشعة بالضوء. تظهر لنا لفترة من الزمان في شكل مساحات صغيرة سوداء كلما أغمضنا أعيننا و فتحناها مرة أخرى. هذا هو ما فعلته ملامح بلكونات سواكن الموشحة بالمشربيات مع جاك. أصابته بحالة زغللة مستفحلة ظلت تلاحقه بإصرار طوال عمره حتى الأن. تغللت في روحه و وجدانه فأصبح لا يري البلكونة إلا هي متدثرة بالمشربية. صارت رفيقة دربه مطرزة لعمارته لفترة أوشكت أن تكمل النصف قرن من مسيرته المحتشدة الحافلة بالإنجازات.
تعرفت على جاك أول مرة في بداية السبعينيات عندما التحق بالعمل معنا عقب تخرجه بقسم التصميم المعماري بوزارة الأشغال العامة. توطدت الصلة بيننا فتطورت لعلاقة صداقة حميمة اكتشفت من خلالها مقدراته الفنية العالية. اكتشفتها أكثر من خلال أول مشربية خشبية صغيرة صممها بمزاج عالٍ و أشرف على تنفيذها في بداية مسيرته المعمارية. نفذها في بيت في حي الخرطوم وسط جنوب مستشفى الخرطوم. أعجبت بها لدرجة أن صُورتها لا زالت عالقة بذهني بعد عدة عقود من الزمان بالرغم من اختفائها من الوجود بإزالة ذلك البيتَ. افترقنا بعد تلك الفترة الوجيزة من الرفقة. ذهب هو لفترة اغتراب طويلة في قطر و تونس. ذهبت أنا في طريق مختلف في رحلة طويلة داخل و خارج السودان ابتغاءً لمزيد من العلم تمددت حتى نهاية الثمانينات. كنت طوال تلك الفترة متواصلاً مع جاك في زياراتي للسودان. عزز من علاقتنا هَمُ و اهتمام عالٍ مشترك تمحور حول تراث سواكن و عمارة بيوت النوبيين النيلين التقليدية. اهتمت بشكل خاص في مجمل أعماله بمكون المشربيات التي أوحت لي بموضوع هذه المقالة. إذ شدت انتباهي منذ وقت مبكر فظللت أتتبع مسيرتها باهتمام و شغف شديد.
حمل جاك إشخانيص البلكونة الموشحة بالمشربية على كاهله منذ بداية السبعينيات لا زال يواصل سعية لمدة قاربت النصف قرن من الزمان. جاب بها أحياء العاصمة مكحلاً عيون عمارته المدهشة. سعي بالبلكونة بين الناس يغمره اعتقاد راسخ بأنها لا تستقيم و تكتمل صورتها إلا إذ توشحت بالمشربية. لم يشذ عن هذه القاعدة إلا مرة واحدة في تلك الفيلات الثلاثة التؤام في حي الجريف غرب في الخرطوم التي سماها دار السرور. الواضح أن المعالجة المعمارية هنا أجبرته هنا على التنازل عن نهجه المعهود. ظهرت كل مرة في تلك المسيرة الظافرة مختلفة نحو ما عن الأخريات مما يدل على سعة أفقه و طاقته الإبداعية الهائلة. اتكأ في البدء على مخزون تراث بيوت سواكن الثري ثم أنطلق منه متحرراً إلى فضاء الارتجال البناء الرحب. أعنى الارتجال هنا بمفهومه البناء الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بال improvisation. الذي يتجلى على سبيل المثال في حالات (يخرم) فيها المغنى الملحن المبدع محمد الأمين في مقاطع من أغانيه الخالدات. التي يخرج فيها عن قالبها المعهود ليقدم طرحاً مدهشاً مختلفاً في نفس السياق. هذا هو عين ما كان يفعله جاك ببلكوناته الموشحة بالمشربية. افتتاني بها جعلني أخصص لها أكثر من مقالة عنوان واحدة منها- جاك إشخانيص أسير التراث عاشق المشربية. نشرت في صفحة الفيسبوك و موقعي الإلكتروني الوصول لكليها عبر الرابط drhashimk.com. وجدت لها أيضا مكاناَ مرموقاً في رحاب أل.LinkedIn
متابعتي المتصلة لمسيرة جاك الظافرة و اهتمامي الخاص بلكوناته المتميزة عرفتني على جوانب مهمة من عالمها. فاكتشفت ميزة يتفوق بها علينا نحن معشر المعماريين. هي سيطرته الكاملة على أنتاج مكونات العمارة مثل تلك المشربيات. التي أتاحت له أن ينتج أفكار تهويماته المدهشة ليقدمها في عدد من أعماله. ابلغ مثال تلك تتصدر الفيلا الصغيرة في جانب من مجمع السفارة الليبية في حي الرياض التي صارت مسكناً للسفير. السيطرة التي مكنته التطواف ببلكوناته بحرية متلاعباً بها كما يشاء. ظهرت أحيناً في شكلها التقليدي كمكان يطيب الجلوس فيه. كما هو الحال في فيلا نورما كافوري في حي كافوري بالخرطوم بحري. أطلت علينا في مرات عديدة في صورة مختلفة مجرد متكأ يسمح بإطلالة على العالم الخارجي من خلال رؤية محفزة للتأملات الرومانسية. قمة الإبداع عندما أستخدمها في شكل جديد مختلف عن الأنماط المعهودة. تتصدر فيها المشربيات الواجهة لغرض واحد محدد هو إضفاء لمسات جمالية مترفة. لتظهر لأول مرة مفارقة رفيقة دربها النافذة. تسطع على صفحة الحيطان الصماء كأنها (زمام) أو (رشمة) تبرق في وجه حسناء مغترة بجمالها. أبلغ مثال الحائط الغربي في الطابق الأول من فيلا الوجيه محمد شمينا بحي أركويت بالخرطوم. بدل المشربية الواحدة هناك ثلاثة مصطفة بجوار بعضها لتصبح شبيه بالرشمة. هي عقد من عملات ذهبية يتمدد بدلال علي خد فتاة مفرطة الجمال من ثقب أنفها ليُربط في جانب من غطاء راسها الذهبي.
فيما كان جاك يمتعنا ببلكوناته المستوحاة من تراث العمارة الإسلامية كان لمعماري أخر راي مغاير قدمه في عمل متميز في التسعينيات. الاختلاف الأساسي بينهما كان في مصدر الإلهام. الغريب في الأمر أن هذا المعماري اللبناني كان مصدره الأساسي من واقع حياتنا التقليدية و تراثنا الريفي. لم يكتف بمجرد الاستلهام إذ لجاء أحيناً للنقل الحرفي مع بعض التصرف الأريب. كان يقوده في سعيه الدؤوب هنا عشق عميق متأصل للمواد الطبيعية البكر. هو المعماري العبقري المبدع جمال مكي الذي سكب ذلك العشق في مباني سلسلة فنادقه الأربعة التي برنا بواحدة منها. فعل العجب في فندق و مطعم الساحة في بداية شارع أفريقيا عند تقاطعه مع امتداد شارع المك نمر الجنوبي. الذي سكب في عمارته عصارة عشقه لتراثنا الشعبي الريفي. تغزلت فيه في مقالة مطولة ضمنتها في موقعي الإلكتروني عنوانها- فندق الساحة في السودان نموذج لعمارة بلا حدود. نُشرت أيضاً في صحيفة السفير اللبنانية التي كانت الأوسع انتشاراً حقبتئذِ. من فرط إعجاب جمال بها وضعها في إطار رائع زين بها مداخل فنادقه. من أروع ما قدمه في إطار عمارة الفندق بلكونات واحدة منها محاطة بمشربية مبتكرة مشيدة بالكامل بسيقان الخيزران العادي. تحفة مدهشة كل مكوناتها من المواد المحلية المتوفرة في ريفنا استكمالاً و انسجاماً مع باقي عمارة الفندق. عمل رائع استثمر في تراثنا الشعبي سلاحنا المَضَاء الذي لا تقدر دبي و غيرها من حواضر العالم المتقدم أن تنافسنا فيه.
طوفت بكم في رحلة متطاولة للغاية عبر الزمان و المكان كان موضوعنا فيها هو البلكونة و المشربية دِثارها المدهش. قطعنا فيها القارات و البحار متجولين في مدائن كثيرة. ضربنا فيها في عمق التاريخ متوقفين عند حضارات ممعنة في القدم متجاوزينها بعدة قرون حتى وصلنا لعقود الألفية الأولي. متوقفين في النهاية لنبذل جزءً مقدراً من المقالة للشأن السوداني. تفحصنا في البدء نماذج نادرة منها أنعمت علينا بها عمارة الكولونيال بشقيها البريطاني و المصري و عهدها الذهبي. لندلف منها لمرحلة الحكم الوطني القديم منه و الحديث ما يشار إليه بلغة نظرية و تاريخ العمارة حقبة ما بعد الحداثة. لمسنا فيها بداية جيدة تلتها مراحل تراجع فانتكاسة. استبسل المعماري السوداني المجدد الخلاق جاك إشخانيص في أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. مستجيراً بمَنحً استلهمه من مخزون تراثنا. أعتقد أن بعض المنعطفات القليلة المضيئة هنا و هناك في تاريخ البلكونة يمكن أن تشكل مؤشرات لخارطة طريق لإنقاذها و إعادة مجدها. تحتاج منا جميعاً لهبة مضريه. أملي الكبير في الشباب الحصيف الوثاب. أيضاً في الفئات العمرية الأخرى ممن اصطفاهم الله بوافر نعمائه من روح ابتكار عالية و جرأة محسوبة العواقب. فهل نطمع فيمن يستدعي لنا بتصرف مكونات بلكونات سواكن أو تلك التي تمددت في واجهة ميز الدكاترة الجنوبية في سالف الأزمان. أو يستلهم فكرة وحدات جاك أشخانيص المعلقة كالقناديل في الواجهات لتضيئي محيا عمارة هذه الأيام الباهتة. أنك مجيب الدعوات يا رب العالمين.
قاربت فترة علاقتي و معرفتي اللصيقة بالأخ الأكبر الحبيب المعماري المتميز الأستاذ محمد محمود حمدي النصف قرن من الزمان. فارق السن بيننا خلق علاقة متميزة في البدء عندما عرفته عن قرب في اطر عائلية عندما أقمنا معاً في حي أم درماني عريق. جمعت بيننا زمانئذٍ علاقة أسرية ودية جسرت فارق عمر الوهمي الذي كان يفصلنا. جمعت بين طفل غر و شاب مترع بالطموح المحمول على أكف مخزون فني موروث و قدرات فنية متوثبة. عرفته في المرحلة التالية بعد أكثر من عقد من الزمان في رحاب مراسم قسم العمارة بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم. كان طرفيها طالب مُجد متشوق للعلم و المعرفة و أستاذ لم أجد له نظير طوال سني دراستي و عملي كأستاذ. كان ينافس فيها تواضعه الجم و مشاعره الإنسانية الحانية علمه المتدفق الثرى. الذي كان يتنزل برداً و سلاماً على كافة طلابه. ظل يشملنا برعايته المثمرة التي تواصلت حتى مراحل ممارستنا الأولى للعمارة. التي شملني فيها مع بعض رفاقي بحظ وافر حتى قوى عودنا و استوت قامتنا المعمارية. تطورت العلاقة لاحقاً بشي من الندية مع حفظ المقامات. فتعاملت معه في مكتبه الاستشاري في نطاق محدود لفترة قصيرة. تطورت العلاقة بعدها في إطار واقع جديد مختلف قوامه اهتمامي و تركيزي على التوثيق لرموز العمارة السودانية. أحسب أنني استفدت كثيراً و استثمرت جيداً في كل مراحل فترات علاقاتي السابقة معه. التي منحتني فرصة ذهبية في التعمق في هذه الحالة الدراسية.
أنعم الله على أستاذنا محمد حمدي بجينات مترعة بالزخم و الحس الإبداعي الفني الذي ورثه من أكثر من فرع من فروع أسلافه. أفاض عليه بها جانب من أهل والدته الذين لمع منهم خاله في الخمسينيات كأشهر أستاذ فنون في أهم المدارس الثانوية. خلال فترة كانت خدمة تدريس مقررات تلك المادة الدراسية فيها تضاهى ما تقدمه كلية الفنون في زماننا الحالي. يبدو أن جانب من جيناته كان بطريقة ما حصيلة مقدرات و مواهب والده الطبيب المرموق حقبتئذٍ. الذي كان أديباً مفوهاً و شاعراً غريداً و عواداً ماهراً. الواضح أن خلفية تلك الجينات متعددة الأبعاد وفرت له أرضية خصبة. ترعرعت فيها مواهبه الكامنة لتتفتح و تزدهر لاحقاً. فتبلورت من خلالها و تحورت شخصيته بشكل إيجابي في خواتيم الخمسينيات. التي شكلتها أجواء قسم العمارة بجامعة الخرطوم بعد التحاقه به. في تجربة مازجت كجزء من أسس منهج تعليمها بين علوم الهندسة و براحات الفنون. فأكتشف الفتى الألمعي هناك أسرار عالم العمارة المدهش فدخله من أوسع أبوابه متقدماً الصفوف. محمولاً على أجنحة مواهبه المتدفقة و إحساسه الفني العالي مع نزعة ابتكارية متميزة هي التي صنعت منه لاحقاً نجماً ساطعاً.
منعطف مهم في حياة محمد حمدي خلال تلك المرحلة الباكرة كان له أثر بالغ لاحقا على حياته و شخصيته و توجهه المعماري لفترة من الزمان. جاء في إطار تطورات مذهبية سياسية عارمة عميقة الأثر شهدتها بلادنا خلال حقبة خواتيم الخمسينيات. كان لشريحة الشباب فيها دور متقدم مؤثر إذ كانوا هم عمادها. شكلت في النهاية تيارين مؤثرين ازدادت أهميتهما مع تقادم الزمن. كانا على طرفي نقيض بحيث مثلا خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيان. تطورا سريعا في حقبة خواتيم الخمسينيات و مطلع الستينيات. ليتبلورا في توجهين مذهبيين أنتجا حزبيين سياسيين هما حزب الأخوان المسلمين و الحزب الشيوعي. لأسباب متعددة توجه محمد حمدي بكلياته نحو الكيان الأول. أفتتن به و جذبه إليه بشكل خاص جوهر فكرته. التي قامت على أحياء ذلك النموذج المثالي الإسلامي الأول برؤية حديثة تستوعب كافة مستجدات العصر. اجتذبته فيها على وجه الخصوص تحديات استلهام تلك الرؤى المثالية الطموحة و تطبيقها على أرض الواقع في مجال العمارة. التي جعلها لاحقاً واحداً من أهم أهدافه التي حاول بقدر المستطاع تحقيقها عبر أهم أعماله المعمارية. طريق و هدف نبيل انكب فيه في عملية بحث دؤوب مستمر استثمر فيها نزعته الابتكارية العالية و روحه الوثابة. التي سنستعرض هنا بعض نتائج مخرجاتها الرائعة.
تخرج محمد حمدي من قسم العمارة في منتصف الستينيات ضمن صفوة محدودة العدد من الخريجين النجباء. تم تعميدهم تلقائياً ضمن كتائب حملة لواء عمارة الحداثة. التي تربت و رضعت من ثدي نهج مرتهن تماماً للفلسفة العلمانية. أنخرط في ذلك المسار في بداية مسيرته المعمارية انجز فيها أعمالاً بالغة التميز في سياق ذلك الدرب. خلال مرحلة كانت تتنازعه فيها أهواء أخرى شده جزءً منها لمنابع تراثية إسلامية. مرحلة لم تنشأ من فراغ إذ كان خلال مرحلة دراسته للعمارة منكب بكلياته بعمق على دراسة تراث الفنون و العمارة الإسلامية. في حالة كان يمكن أن يستسلم لها فيجرفه تيارها لعوالم النقل الحرفي. أنقذته من هذا الحالة نزعة تمرد هي جزء أصيل من شخصيته مقترنة بدوافع ابتكارية عارمة. حصنته و أنجته من فخ كبير كان يمكن أن يبتلعه تماماً ليجعله يسير في ذلك الدرب الذي يقتال روح الإبداع. فخرج من تلك المعركة ظافراً غانماً. تشرب بروح ذلك التراث فمضي محلقاً بأجنحته المرفرفة ليصنع واقعا معمارياً هجيناً. يعبر عن قيم تراثية يقدمها في إهاب حداثي مستثمراً في أخر مستجدات العصر.
شهد النصف الثاني من الستينيات انطلاقة بداية مسيرة محمد حمدي المعمارية. كانت محطته الأولى في وحدة المباني التابعة لكلية الهندسة بجامعة الخرطوم التي كانت مكلفة حقبتئذٍ بتصميم مباني الجامعة. خلال مرحلة ارتبطت فيها بما يشبه الجبل سرى بقسم العمارة إذ صارت واحدة من أهم منصات انطلاق خرجيه المتميزين. عزز عمله فيها من التزامه الصارم بنهج الحداثة الذي تربى عليه خلال فترة دراسته بالقسم فأنتج أعمالاً بالغة التميز في هذا السياق. لكنه لاحقاً خلال نفس تلك الفترة نجح نوعاً ما في الإفلات من هذه المصيدة. حرر نفسه منها جزئياً بالانخراط في أعماله الخاصة. عبر مكتب صغير أسسه مع واحد من أقرب زملائه و أصدقائه إلى نفسه كان بينهما توافق في الآراء و التوجهات. شكلت تلك المرحلة المفصلية قصيرة الأمد بالغة التأثير نقطة انطلاق مهمة في مسيرته و توجهاته المعمارية. عليه يجب التوقف عندها لإلقاء نظرة فاحصة على ملامحها و مخرجاتها المهمة.
لفتت نظري هذه المرحلة المهمة في مسيرته ظاهرة مشابه شكلت محطة متميزة مر بها أستاذنا عبد المنعم مصطفى في بداية حياته العملية. تشابه لافت للنظر بالرغم من الاختلاف البائن في نهج هذين الأستاذين. الذي جعل مسيرتيهما تسيران في خطين متوازيين جعلت من المستحيل التقائهما معاً. أشرت من قبل في أكثر من مقالة لظاهرة محددة تميزت بها المرحلة الأولى في بداية مسيرة أستاذنا عبد المنعم جديرة بالاهتمام. لَفتُ النظر لأنه طبق أفكاره المعمارية حداثية النهج في تلك المرحلة في بداية الستينيات على زمرة من أقرب أصدقائه. المتوافقين معه فكريا و في جوانب كثيرة من نمط حياتهم جعلتني أشير إليهم بالإنتليقنزيا أو الصفوة. في حالة تعامل معهم فيها مع كامل احترامي لمقاماتهم السامية دائماً كأنهم فئران المعامل. مطبقاً فيهم أفكاره المعمارية الحديثة في تصميم بيوتهم التي صادفت هوى في نفوسهم. ثم لاقت لاحقاً قبولاً منقطع النظير من شرائح مجتمعية متعددة خارج ذلك الإطار. في تجربة ساهمت كثيراً في نشر أفكار و نمط عمارة الحداثة على نطاق واسع. لاحظت ظاهرة شبيه اتسمت بها مسيرة أستاذنا حمدي في بداياتها بالرغم من بعض تباين واضح بينهما. جرت أحداثها خلال نفس حقبة الستينيات لكن هذه المرة في خواتيمها. فنلقى عليها نظرة فاحصة عليها نسبة لأهميتها الفائقة.
كما أشرت من قبل نجح محمد حمدي في فتح مسارات عمل أخرى خلال فترة عمله بوحدة المباني بكلية الهندسة في بداية مسيرته المهنية. سمحت له في نهاية الستينيات من خلال مكتب صغير خاص به بالتخلص جزئياً من إسار نهج الحداثة و قبضته المحكمة. استثمر خلالها في علاقات ربطته بزمرة من أصدقائه و معارفه الأقربين من الشباب. جمعته بهم صلات حميمة و صداقة في إطار حركة الأخوان المسلمين الناشئة حقبتئذٍ. جَلهم كان من شريحة المهنيين المتميزين في مجالاتهم و بعضهم رجال أعمال كانوا يشقون طريقهم بنجاح. أتاحت له تلك العلاقات فرصة ذهبية جعلته المعماري الأوحد لزمرة أصدقاءه المتوافقين معه في العديد من مرئياتهم. سمحت له بطرح العديد من أفكاره الجديدة في عمارة مبانيهم و بيوتهم التي جاءت في إطار حداثي مبتكر.
اتسم مدخله خلال تلك الأعمال بنهجه الجديد في البداية بالحذر. فأنتج أنماطاً لم تخرج كثيراً من سياق عمارة الحداثة. التي وظف الحجر الطبيعي في عدد مقدر منها. تعامله الحذر ظهر في البدء في عناصر ثانوية مثل تصاميم شبك التأمين أو (القريلات). التي استلهم فيها بتصرف تراث العمارة الإسلامية بشكل ذكي بديع. خطوة تحرك بعدها بجرأة ليضع بصمته البائنة في بوابات مبتكرة التصميم. مهدت تلك الخطوات و منحته ثقة جعلته يتعامل بدرجة جيدة و جرأة مع الواجهات و كتلة المبنى ككل. في ذلك الإطار وضع بصمته أيضاً على الخارطة محدثاً فيها نقلة مقدرة. فتحت له تلك الخطوات الباب له ليضع لمساته على العمارة الداخلية بشكل متوافق مع فكرة المبنى. التي كان دئماً تستجيب لتتفاعل بروح ابتكارية عالية مع خصوصية كل حالة من عملائه أصحاب المباني و البيوت. تلك المعالجات مجتمعة أضفت على أعماله حيوية خففت من جمود محيا عمارة الحداثة الباردة فحلقت بها في فضاءات بعيدة. قدمها في عدة نماذج نذكر منها حالة بيت الوجيه توفيق عثمان صالح المطل على شارع النص بحي ودنوباوي بأمدرمان. بالإضافة لفيلا مولانا دفع الله الحاج يوسف بشارع الدومة في نفس الحي. تجلت أيضاً في حي الرياض في الخرطوم في دارة الوجيه المرحوم عبد القادر حسن جعفر.
هذه الخطوات الموفقة منحت محمد حمدي خلال فترة مطلع السبعينيات ثقة عالية بنفسه. الأهم من ذلك أنها قدمته بشكل جيد بشتى الطرق لجهات مهمة في البلد. ظهرت حقبتئذٍ بشكل فعال في مجال التنمية و النشاط الاقتصادي. في هذا الإطار استثمر جيداً في انتمائه للحركة الإسلامية التي بدأت تظهر لاحقاً كقوة اقتصادية مؤثرة عبر العديد من مؤسساتها. هذه العوامل مجتمعة بالإضافة لعلاقاته الخاصة المتشعبة أمطرته بعدد من المشاريع المتنوعة. مما دعاه في خواتيم السبعينيات للتفرغ تماماً للعمل الاستشاري. الذي سعى سعياً حثيثاً عبره للتأسيس لأسلوبه الخاص المتميز كعامل مؤثر لاجتذاب المزيد من العملاء أو الزبائن. التواقين لإبداعاته المعمارية المترعة بمظاهر (البريستيج) أو الأبهة التي تعنى لهم الكثير.
ظهر محمد حمدي و سطع نجمه في خواتيم السبعينيات. في مرحلة مفصلية كان الناس يستشعرون فيها إلى حد ما إفلاس و خواء عمارة الحداثة. ظهر في مرحلة بداء فيها فكره التقدمي المشبع بروأه و طاقاته الإبداعية المترفة يتفجر. لدرجة أنه لم يتردد في وضع بصمته بجرأة يحسد عليها في حصن عمارة الحداثة الحصين في أرجاء مجمع الوسط بجامعة الخرطوم. ففجر مفاجأة داويه في مشروع مبنى مسجد الجامعة الرابض على الطرف الشرقي من شارع الجامعة. بعمارة مدببة الكتلة معدنية براقة مكسوة بالزجاج المرايا. متحدياً واقع عمارة ملتزمة بصرامة بأسس عمارة الحداثة الموشحة بطوب السدابة. كان محمد حمدي قد قام بتصميم مسجد صغير تم تشييده بضاحية الصافية في الخرطوم بحري قبل أن يبدا في مشروع مسجد الجامعة. ارتقى بعمارته إلى أعلى درجات الإبداع مستلهماً تراث العمارة الإسلامية ليقدمه في صورة متجددة بالغة التعبير. أكثر ما استرعى انتباهي فيه مبنى المئذنة متوسطة الحجم تحديداً التاج المعدني الصغير الذي يكللها. سأعود لاحقا لاستعراض هذا العمل المعماري المتفرد بشي من التفصيل. قام محمد حمدي بذلك الإنجاز قبل أن يبدا العمل في مشروع مسجد الجامعة. في حالة شبيه بعملية التسخين التي يقوم بها لاعب كرة القدم و هو مقدم على مباراة بالغة الأهمية.
يَظلم الأستاذ محمد حمدي من يعتبر أن إبداعه و نزعته نحو التجديد اقتصرت فقط على أعماله ذات الطابع الإسلامي تحديداً عمارة المساجد. الرد عليهم يجب أن يكون من خلال الإشارة لإنجازات خارج هذا الإطار. تحديداً المباني الإدارية و المكتبية التي وجد فيها فرصاً عديدة و مساحات مقدرة مكنته من تقديم عطاء وفير. أعتقد حسب تقويمي له أنه نجح في عدد محدود منها في تقديم أعمال متميزة يجب الإشارة إليها. على سبيل المثال مبنى رئاسة بنك التضامن الإسلامي المطل على شارع البلدية في قلب مركز الخرطوم التجاري الإداري. الذي جاءت معالجات واجهاته قمة في الإبداع. غازلت تراث العمارة الإسلامية من طرف خفي بلمسات بديعة زخرفية الطابع. تحمل ملامح من أسلوب أستاذنا الراحل العزيز البروفيسور أحمد محمد شبرين. تحديداً تلك التي جاءت في إطار واحدة مراحل مسيرته المظفرة اتسمت بأسلوب عرف بالحروفية. من المحزن أن كل هذا الإبداع اختفى من الوجود نتيجة عمل يستحق المسألة و المحاسبة. إذا كنا فعلاً معنيون بالحفاظ على تراثنا المعماري الحديث. قامت به جهة من البنك اٍستبدلت معالجة الواجهات المتفردة بأخرى أقل من عادية في مستواها قوامها الألواح المعدنية. تمت في إطار وباء اجتاح العمارة في الفترة الأخيرة كان تأثيره أشد قسوة عليها من الكورونا.
قدم محمد حمدي خلال في مطلع التسعينيات عمل جدير بالاهتمام و الانتباه في مجال المباني الإدارية المكتبية المهمة. خاص بجهة لها موقع متقدم جداً في مجال التنمية و الصناعة في بلادنا هي شركة سكر كنانة. صمم مبنى رئاستها في موقع بالغ التميز مترامي الأطراف. في الجانب الشمالي الغربي من حي الطائف بالخرطوم مطل على شارع عبيد ختم الرئيس. اخترته لأكثر من سبب وجيه للغاية لأن الأستاذ هنا قدم نفسه كقامة معمارية متفردة في إبداعها من بين أقرانه و أبناء جيله. واحد من أهم أسباب إعجابي به تمكنه من تجاوز مظاهر التغليف المعدني السلبية. الذي صار شائع الاستخدام و واقعاً فرضته علينا ظروف محددة. مصدر إعجابي به نابع من تعامله الأريب مع تلك الألواح التي جعلها أكثر مقبولية لا بل صنع منها عنصر تميز نادر جدير بهذه المؤسسة الشامخة. استخدمه في واجهة المبنى و بعض أجزائه الداخلية بعد معالجته بطريقة جعلته أية في التفرد. إذ تمت طباعة الألواح بطريقة متقدمة فريدة. شكلت بتراصها بجوار بعضها البعض لوحة تجريدية المنحى لمنظر حقل من حقول قصب السكر. فمنح العمارة بصمة بائنة لا مثيل له من خلال لوحة جدارية معدنية مبتكرة تمددت بسخاء في واجهة المبنى. موظفاً بعضاً منها تنسرب داخله لترسم لوحة شبيه أصغر حجماً. تحتل موقعاً في بهو الدخول الرحيب الشاهق بديع التصميم. من المحزن حقاً أن كل ذلك الإبداع والعمل الكبير في واجهات المبنى قد تمت إزالته تماماً قبل عدة عقود من الزمان.
المؤسف أن هذا العمل الفني الرائع أزيل بدون مبررات مقنعة ليحل محله في البدء تجليد بألواح الرخام. لينتهي أمره أخيراً بالعودة مرة أخرى لخيار ألواح المعدن التي جاءت هذه المرة من ناحية معمارية بلا طعم أو رائحة. بشكل لا يليق بمثل هذه المؤسسة الصناعية العملاقة. شكلت هذه التجربة بكل تفاصيلها دراما مؤثرة للغاية تحتاج لتسليط الضوء عليها للاستفادة من دروسها. منذ خطواتها الأولى التي أنتجت ذلك العمل الفريد الرائع انتهاءً بتلك المالات المحزنة. رصدتها فتتبعتها خطوة بخطوة و أوليتها اهتماماً خاصاً لأكثر من سبب وجيه. أولاً لأنها تكشف جوانب مهمة نادرة من شخصية أستاذنا محمد حمدي. ثانياً لأنها تسلط الضوء على أبعاد ثقافية مجتمعية مؤثرة على مجال الأعمال الإبداعية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها. فلنمعن النظر في كل واحد من هذين الجانبين المهمين.
بداء محمد حمدي مسيرته المعمارية ملتزماً بخط عمارة الحداثة بعد فترة غسيل مخ مركزة من خلال دراسته للعمارة بقسمها بكلية الهندسة. التي كانت من أهم أساسياتها عدم التعاطي من الزُخرف بمفهومه التقليدي المعروف أي كان مصدره. مما جرد عمارتها من أهم الأسلحة المضاءة. التي تم استبدالها بمشروع جمالي متكامل سعى لخلق عمارة مفرطة في البساطة في كافة جوانبها. من أساسياتها فيما يلي الأشكال الالتزام الصارم بالخطوط المستقيمة و الزوايا القائمة قيود تُنتج بالضرورة عمارة صندوقية. في هذا الإطار كانت هناك أيضاً قيود على المنظومة اللونية التي طغى عليها اللونين الأبيض و الرمادي. بدليل أنه عندما انتشرت ظاهرة تغطية المباني بالألواح المعدنية استعصم ذلك التوجه بالنوع الفضي منها. عاش محمد حمدي في عقود مسيرته المعمارية الأولى مكبلاً بتلك القيود. لكن الواضح أن جيناته الفنية المحتدمة و نزعته الابتكارية الوثابة ضاقت بها زرعاً فبداء بالتحرر منها. يظهر ذلك جلياً في خطوات جريئة تشهد عليها جوانب من مبنى رئاسة شركة كنانة. منها تلك اللوحة الجدارية المتمددة في واجهته الرئيسة. التي نجح في التعامل معها في تجاوز حدود حصار النهج المتحفظ و قيود الالتزام باللون الفضي. ليحلق في فضاءات تشكيلية و لونية رحبة.
قد يتهم البعض أستاذنا محمد حمدي أستنادنا على بعض أعماله مثل مبنى رئاسة شركة كنانة بأن يؤلى اهتمامه الأكبر للواجهات. مما ينتج في النهاية إلى حد ما عمارة سطحية التوجه. جوانب مهمة من تصميم نفس ذلك المبنى ترد عليهم بقوة في محاولة لتبرئه ساحته. من أهمها صالة الدخول الرئيسة الرحبة شاهقة الارتفاع الذي يتسامى لعدة طوابق متيحاً إطلالة رائعة منها. عمل معماري مدهش تصطرع في ساحته الداخلية الرحبة منافسة حامية الوطيس. بين إبداعات التصميم الداخلي و إشراقات فنون البستنة. في ساحة داخلية تتوجها أخر مخرجات تقنيات العروش. تتـألق أيضاً في جانب منها لوحة جدارية صغيرة شبيه بتلك التي تتمدد على واجهة المبنى الرئيسة. المدهش هنا أن العمارة الداخلية تسطع بين قوسين لعالمين نحسب أنهما متباعدين متناقضين. فعلى أرضية صالة الدخول تتمدد أشكال رصف مستوحاة من تراث الزخارف الإسلامية. فيما تتوج عرشها قبة تمتثل الأنابيب المعدنية التي تحملها لحسابات أخر نظم إنشاءات العروش الحديثة. يمثل بهو الدخول الرحب هنا جزئية معمارية لم أري لها نظير من قبل. تعاملت مع المبنى بأعلى درجات المسئولية فأوفته كافة حقوقه. باعتباره مبنى رئاسة مؤسسة عملاقة كانت و ما زالت تمثل قمة سنام بلادنا في مجال الصناعة و التنمية. نرفع القبة هنا لأستاذنا محمد حمدي ننحني له احتراماً و هو يضع بصمة مهمة في مسيرة عمارتنا في زمان بدأت تنحسر فيه و تفقد أسهمها.
كانت و احسب أنها ستظل الأعمال المعمارية ذات الطابع الإسلامي مثل المساجد محور اهتمام و عشق أستاذنا محمد حمدي الأثير المستمر. تَوجه له العديد من المبررات ذات صلة بانتماءات مذهبية فكرية عاشها خلال مراحل مبكرة من حياته أشرت إليها من قبل بشي من التفصيل. لي اهتمام خاص بهذا الجانب من مسيرته و عطائه المعماري لأنه يعكس لي بجلاء جوانب مهمة من شخصيته المعمارية. تحديداً طاقته الإبداعية الابتكارية الهائلة و جرأته المتميزة. التي تأسست على علم معماري راسخ تدعمه مواهب فنية أصيلة دفينة. وضعته و هو يتنكب هذا الدرب في اختبارات معمارية محفوفة بالتحديات. سار فيها بجسارة محسوبة العواقب بفطنة عالية على حقل ألغام قوامه إرث فني و معماري بازخ. فمضي فيه موفقاً في مجال عمارة المساجد في مسيرة فاقت حتى الأن النصف قرن من الزمان. قدم فيها العديد من الإعمال الصغيرة و الكبيرة بالغة التميز. أبدع فأصاب و أخطأ أحينا شأنه في ذلك شأن بقية البشر.
أني بحق مفتتن جداً ببعض أعماله المتفردة في سياق تلك المنظومة من عطائه المعماري. التي أصنفها في إطار ما يعرف بالعمارة الإسلامية التجديدية التي تناي بنفسها عن النقل الحرفي من تراثها الضخم الفخم. لتحلق في فضاءات الإبداع مرتكزة على فيض معانيها السامية الرفيعة. رصدت أميز أعماله في هذا السياق بسيل متدفق لم ينقطع من الجهود التوثيقية. من خلال عدة منابر و أكثر من وسيط من وسائط الاتصال الجماهيري. عبر ما يعرف باللغة الإنجليزية بالماس ميديا mass media. بتركيز على مجالي الصحافة و التلفزيون. نشرت عدد منها في أوسع الصحف انتشاراً تجدون نماذج منها في موقعي الإلكتروني في إطار مساهمات صحفية. سأحاول اطلاعكم على بعض منها مرة أخرى مع هذه المقالة. توجت مساهماتي التلفزيونية بفيلم وثائقي أعتز به كثيراً من إعدادي و تقديمي عن مسجد القصر الجمهوري عشقي الأثير. بثته قناة النيل الأزرق عالية المشاهدة في شهر رمضان عام 1914. اعتزازي به و لتعميم الفائدة ضمنته في مواد موقعي الإلكتروني في الجزء الخاص بالمساهمات التلفزيونية. يمكن الوصول إليه عبر الرابط-drhashimk.com. تعميما للفائدة أيضاً رأيت أن أتيح لكم مشاهدة الحلقة مع هذه المقالة في الجزء الخاص بي في الفيسبوك.
أولىِ اٍهتماماً خاصاً لأعمال محمد حمدي و مسيرته في عمارة المساجد لأنه واجه فيها تحدياً مزدوج الجوانب. خاض فيها معركتين الأولى تمثلت في مقاومته لإغراء النقل الحرفي من تراث ثري يكاد يكون بلا ضفاف. وقع في فخه من قبل أجيال من المعماريين لم يستطيعوا التحرر من تأثيره المهيمن و قبضته الحديدية. معركته الثانية التي كسبها بنجاح تجسدت في تحرره من إسار فكر و نهج عمارة الحداثة الذي فرض على المعماريين قيوداً صارمة. خاض تلك المعركتين متسلحاً بروحه المتمردة و طاقته الإبداعية المصادمة. التي ساعدته في التعامل مع ذلك التحدي مزدوج الجوانب. متسلحاً في الحالة الأولى بفكر حركة الإخوان المسلمين. التي ارتكزت بداياتها على فكر تقدمي منفتح على مستجدات العصر. من جانب أخر الواضح إنه استثمر في مكونات متعددة دفينة في جيناته للتحرر من قيود فكر و فلسفة حركة الحداثة. مطلقاً العنان لطاقاته الفنية الكامنة لتحرك أفكاره تطرحها بحرية في رؤى تجسدت في منظومات معمارية مدهشة. وضعت الأساس لعمارة إسلامية تجديدية سوداناوية الهوية تفاعلت مع مستجدات العصر و تحدثت بلغته بفصاحة بائنة.
تتبعت مسيرة أستاذنا محمد حمدي عبر هذا الدرب التي تطاول لأكثر من أربعة عقود من الزمان. رصدتها من خلال بضع تجارب شكلت محطات مهمة و منعطفات فارقة في هذه المسيرة. ألخصها في حالة ثلاثة مساجد توزعت في ثلاثة عقود من الزمان-السبعينيات و الثمانينيات و نهاية التسعينيات. تجلت مقدمة سيناريوهات معمارية مدهشة جرت أحداثها بالتتابع خلال تلك العقود. في البداية في السبعينيات سطعت عمارة مسجد حاجة النَية في ضاحية الصافية بالخرطوم بحري. تلتها بعد عقد من الزمان تجربة مسجد جامعة الخرطوم التي أشرت إليها من قبل. مسك ختام في تلك الحالات المتميزة تجلت عمارتها مفرطة التميز في مسجد القصر الجمهوري. الذي بدأت ملامحه تتبلور لتبرق في نهاية التسعينيات بعد عملية مخاض طويلة. أكثر ما أعجبني في تجربة هذه المساجد أن عمارة كل واحد منها تعاملت بحساسية عالية مع إطارها الحضري. احترمته بطريقة ذكية مقدمة له بعض فروض الولاء و الطاعة بدون أن تستسلم له تماما و ترتمي في أحضانه. إذ نجحت في صياغة واقع معماري جديد يحترم بعضاً من جوانب خصوصيته.
مسجد حاجة النية هو واحد من تلك الحالات الثلاثة احتل موقعاً في وسط ضاحية أو حي الصافية الراقي. الذي كان حقبتئذٍ و ما زال أصحاب بيوته و سكانه من الصفوة. جلهم من قيادات الخدمة المدنية و رجال أعمال بمستوى عالٍ و مقام رفيع. واقع مجتمعي انعكس على مستوى عمارة دورهم التي حملت سمات أناقة و بساطة عمارة الحداثة بألقها المعهود. استوعب حمدي تلك المعطيات فنظم في سياقها عمارة إسلامية خاطبت مستجدات العصر. عكست إرثها البازخ بروح ابتكارية عالية جريئة جاءت حداثية القسمات. عندما ذهب لاحقاً بعمارته للطرف الجنوبي الشرقي من مجمع الوسط بجامعة الخرطوم تعامل مع العمارة الإسلامية بنهج مختلف. تفاعل معها بحساسية و ذكاء فائق عندما وجد نفسه في حضن قلعة العلم. فحلقت عمارته في مسجدها بحس تجديدي عالي. جاءت محمولة على أكف أخر مخرجات هندسة إنشاءات المباني وأحدث مواد البناء. التي صاغها في إطار مشروع جمالي مبتكر متمرداً على الأطر الإسلامية الكلاسيكية الجامدة. انتقل حمدي بعد أكثر من عقد من الزمان من ذلك الموقع متوجهاً بشارع الجامعة باتجاه الغرب. ليحط رحله في الركن الجنوبي الغربي من مجمع القصر الجمهوري. حيث فجر في مشروع مسجده مفاجأة معمارية مدوية. تعامل فيها مع هذه الحالة بقدر عالٍ من الاحترام لأجوائها الكلاسيكية. التي أستوعب روحها لكنه طوع العمارة لتتكلم بلغة العصر موظفاً أخر مستجداته العلمية و إشراقاته الفنية. استعرضت هذه الأعمال الثلاثة في طرح صحفي سأطلعكم على نماذج منه مع هذه المقالة.
أعتقد أنى تتبعت عدد مقدر من أعمال أستاذنا خلال عدة فترات و مراحل من مسيرته الطويلة. قربى منه منحنى فرصة جيدة للتعرف عليها بشكل جيد في عملية عزز منها تواصلي المستمر معه. طبيعة الصداقة و الود الوفير بيننا ساعدتني كثيراً في التعرف بعمق على الكثير من جوانب تلك الأعمال. التي عززتها حواراتنا المتصلة في كل الأوقات و المراحل. تكليفي من قبله في عدة مرات بتوثيق أعماله بالتصوير الفوتوغرافي أتاح لي نظرة معمقة تعرفت من خلالها على كل مفاصلها و كافة تفاصيلها. الأهم من كل ذلك أنها وفرت لي صوراً نادرة لبعض الأعمال المهمة التي تبدلت معالمها و ملامحها المتميزة. مثل حالتي واجهات مبنى رئاسة بنك التضامن الإسلامي و شركة كنانة التين استعرضتها في هذه المقالة. يجب أن أشير أن كل ما قمت به من عمل في إطار استعراضي لأعماله و تقويمها حسب رويتي هو جهد شخصي لم أتلق عليه أجراً. فعلت ذلك من واقع مسئوليتي كموثق و مؤرخ للعمارة السودانية مختص في هذا المجال. التي يرتكز العمل فيه بشكل أساسي على التجرد و النزاهة و الأمانة العلمية. كما يجب أن أشير أنه منذ فترة طويلة ما عادت تربطني به أي علاقات عمل إلا حبال الود و الاحترام التي ومازالت متصلة. تماماً كما هو حالي مع عدد من رموز عمارتنا المؤثرين في إطار عملي التوثيقي.
نفس الأمانة العلمية تتطلب منى النظر أيضاَ في بعض الجوانب التي لم يقدم فيها أستاذنا محمد حمدي ما كان مرجواً منه فيها. أقول قولي هذا واضعاً في الاعتبار مبررات قوية تدفعني لكي أحاسبه هنا بصرامة كناقد و مؤرخ محترف. مع كامل احترامي و تقديري له كواحد من أساتذتي السابقين. الصرامة المطلوبة هنا نابعة من ظروف بعينها أحاطت بأعماله الأخيرة. إذ أتيحت له فرصاً وفيرة خلال العقود الماضية لم تتوفر لأقرانه و أنداده من كبار المعماريين و الذين يديرون مثله المكاتب المعمارية الاستشارية. على سبيل المثال توفرت له خلال تلك الفترة فرصة تصميم عدد مقدر من مباني رئاسة البنوك الرئيسة. سوانح مثالية يتمناها كل استشاري معماري وفرت له جل المقومات المطلوبة لإنجاز عمل ممتاز. مثل رسوم التصميم السخية و الميزانيات المفتوحة لتشييد المبنى بكافة تفاصيله. أضع في الاعتبار تلك المقومات المتاحة و أقارنها بالمحصلة المعمارية. التي يجب أن نقومها بالمعايير الصارمة التي تتعامل مع أستاذ كبير أنجز الكثير قبل عدة عقود من الزمان. أعيد النظر إليها في خاطري ما قدمه من أعمال بالغة التميز. في مبنى مثل رئاسة شركة كنانة بالإضافة لتلك المساجد متفردة التصميم التي أشرت إليها من قبل. بصراحة لا أري في أعماله الأخيرة كثيراً مما كنت أتمناه من الاختراقات المؤثرة. التي عودنا عليها قبل عقود من زمان أشرت للعديد من منها في هذه المقالة.
أسأل نفسي و أتسأل، هل يمكن أن نسامح أستاذنا على تقصيره في رفدنا بمزيد من الروائع. التي كانت تشكل محطات مهمة في مسيرة عمارتنا. لنغفر له بناءً على تلك الإنجازات في عصره الذهبي. لا أتفق مع هذا الراي لأكثر من سبب. فبناءً على حواراتي المتصلة معه أعرف أن دواخله تتوفر على الكثير من الأفكار الجديدة و المرئيات الواعدة. التي يمكن إذا أنزلت إلى أرض الواقع أن تحدث واقعاً مؤثراً. كما أنى أعلم أن في جعبته العديد من المشاريع الكبيرة المهمة. التي يمكن إذا تعامل معها بروح جديدة كما كان يفعل من قبل أن تفرش طريق مسيرته مرة أخرى بالورود و الرياحين. سيشكل تجسيدها على أرض الواقع فارقاً كبيراً و خطوة مهمة فارقة في مسيرة عمارتنا.
قد يعتقد بعضكم أن المواضيع و القضايا التي أثرتها هنا ليست بالدرجة من الأهمية التي تستحق أن تُفرد لها مقالة كاملة. لأنها كما يبدو من أول وهلة بدون تعمق كافٍ بالنسبة لهم معنية بجوانب ثانوية هامشية. مثل البعد التشكيلي و الجمالي للعمارة و التركيز في أطارها على عمارة المساجد. مثل هذه المرئيات التي صارت شائعة بيننا و عند قطاع عريض من المعماريين هي نتاج واقع نعيشه منذ فترة طويلة. أوصلنا إليه و رسخته في نفوسنا مفاهيم عمارة الحداثة الذي نشأت و ترعرعت في حضن فلسفة علمانية التوجه. واحدة من أخطر إفرازاتها السلبية نهج تعاملها مع أمر أو قضية الهوية. لأنه تأسس على مفهوم جديد خطير يلغى كافة الهويات المحلية مهما كان نوعها أو أهميتها. مقدماً كبديل نموذجاً واحداً لكل أجزاء العالم يشار إليه بالعمارة العالمية باللغة الإنجليزية International Style. اعتبروه الطراز الأوحد على نطاق العالم صالح لكل مكان و زمان. بحيث يَجبُ كل ما كان قبله و سياتي بعده أيً كان شأنه.
خطورة هذا الأمر و أهمية القصوى تكمن في الطريقة التي يتم التعامل فيها مع أمر بالغ الحساسية معنى بالهوية المعمارية. تتعاظم أهميته عندما ننظر على وجه التحديد للشأن السوداني. فنحن بلد أهم ما يميزه ة تنوعه الثقافي المحلى المذهل الذي لا أعتقد أن هناك حالة تشابهه. من الخطورة و المزعج حقاً أن نتعامل مع عمارته بهذه النظرة إحادية التوجه. من المؤكد أنه هذه المشكلة ستتعاظم حدتها بشكل مزعج إذا كانت هذه الهوية ستستورد من العالم الغربي كما هو الحال مع ذلك الطراز العالمي. كلكم يعلم أن واحداً من أهم مشاكلنا المتوارثة عبر عقود من الزمان كانت ناتجة عن محاولة فرض هوية سودانية واحدة. نحاول الأن مجتهدين تجاوزها عبر الحوار البناء. نحن نحتاج أيضاً بصورة عاجلة لنقل هذه المعركة لساحة العمارة. لنراجع موقفنا منها بشكل جزري عام عبر رؤية إنسانية معمقة. مع عدم تجاهلنا لكافة جوانبها، فنتكن البداية و الأسبقية للسكنية منها باعتبارها الأكثر تأثيراً على حياة الناس بشكل مباشر. هذا هو بالتحديد مجال تخصصي الذي نزرت له عمري ظللت أعمل لتحقيقه بقوة و عزيمة متصلة. متحركاً في كل الاتجاهات من أهمهما منابر وسائط الاتصال الجماهيري بكافة أنواعها بما فيها صفحتي في الفيسبوك. هانزا من خلالها أوجه جل مؤشرات مقالتي هنا لهذا الهدف النبيل. فتعاملي و تركيزي على جوانب العمارة الفنية و التشكيلية يتم في إطار ملامستها لهويتها. من خلال رؤية تتبعُ نهجاً معمقاً لا يتعامل معها بشكل سطحي باعتبارها مجرد ديكور أو مكياج (ميكاب) خارجي.
وثائقيات عمارة السودان- مسجد القصر
مقالة فى صحيفة الرائد عنوانها- عمارة اسلامية فى صيغة حداثية
صحيفة السودانى عنوان المقالة – عمارة اسلامية سودانية تجديدية
نزرت نفسي بجدية و تجرد و تفرغت للعمل في مجال النقد المعماري الذي أهلني له تخصصي عن جدارة و استحقاق. في هذا الإطار طفقت أبحث بدأب شديد عن كل ما هو جديد. من خلاله أحاول التعرف على الظواهر من الأعمال المعمارية التي تشكل منعطفات مهمة في مسيرتها. عليه، ركزت و صوبت جل اهتمامي لهذا الجانب. ذات مرة عاتبني أحد المعماريين من الجيل الوسيط عالي الصوت خارج هذا الإطار تربطني به علاقة خاصة. عاب على أنى لم أشير أو أستعرض بعضاً من أعماله. فرددت عليه بأن المسألة ما عاوز ليها واسطة. فأنا هنا لا أهتم كثيراً بالأسماء الكبيرة و الأصوات العالية التي تملا الدنيا ضجيجاً خارج سياق أهدافي الأساسية. فالأعمال التي أصوب سهامي نحوها عادة تأخذ بتلابيب انتباهي لا تتركني منذ لحظة تعرفي عليها حتى أوفيها حقها. لا أعباء في هذا الشأن باي اعتبارات أخرى غير معاييري الصارمة التي أتمسك بها. الحالة التي سأتعرض لها هنا بشكل سريع تقدم نموذجاً مثالياً لما أعنيه. أعرفكم بها هنا بشكل مقتضب. على أمل أن أوفيها حقها كاملاً لاحقاً في مقالة مطولة قطعت شوطاً مقدراً في إنجازها. أخرني عن إكمالها مزيد من التحقق عن بعض التفاصيل المهمة.
واحد من أهم الأسماء التي جذبت انتباهي في سياق ما أشرت إليه منذ العقد الأول من الألفية تدل على الكثير مما ذكرته هنا. هو صلاح حسن رحمة شاب ولد و نشاء في مدينة صغيرة في الولاية الشمالية. وفد للعاصمة في منتصف تسعينيات القرن الماضي لدراسة العمارة بجامعة الخرطوم بتلك الخلفية شبه الريفية. اقتحم مجال الممارسة مع العديد من أقرانه متسلحاً بنفس تلك الخلفية البسيطة. أعزل اليدين إلا من علمه الوافر و موهبته المتوهجة و إحساسه المعماري العالي التي يشكل أساس العمارة. افتقد خلال فترة دراسته للعمارة و مرحلة بداياته الأولى في مسيرته المعمارية أهم المقومات. التي تُعد من أمثاله و تدفع بهم إلى أفاق المجد بسرعة الصاروخ. من أهمها جهة حاضنة ترعاه هو طالب عمارة و هو يخطو أولى خطواته في ممارسة المهنة. لتسلمه بعد ذلك لجهة رافعة تفرش له طريقة بالورود و الرياحين ليرتقي سلم المجد مختصراً السنيين الطوال.
لم يعبأ المعماري الشاب زمانئذٍ في بدايات الألفية لافتقاده لمثل تلك المقومات. التي كان يحتاجها لكي يرتقي سلم المجد في بداية حياته العملية. حفزته ثقته العالية بنفسه و هو لم يكمل عامه الأول بعد تخرجه في الدخول في منافسة معمارية لتصميم مبنى بالغ الأهمية هو رئاسة وزارة التعليم العالي. فأقحم نفسه في تجربة جعلته منافساً لعدد مقدر من المكاتب الاستشارية و معماريين سبقوه في هذا الدرب بسنوات عديدة. حسمت أمر اختيار مقترح تصميم المبنى لجنة تحكيم رفيعة المستوى ترأسها واحد من أهم أساتذة قسم العمارة بجامعة الخرطوم. التي وضعت مقترح ذلك شاب حديث التخرج على راس القائمة ليكون المرشح الأول لتصميم المبنى. لكن للأسف جرت الرياح بما لم تكن تشتهيه سفنه. انتزعت منه هذا الشرف جهة هلامية ابتدعها نظام الإنقاذ لتكون بديلا لوزارة الأشغال هي الدار الاستشارية لتطوير الخرطوم. استأثرت به بدون مصوغات مقنعة إذ كان على رأسها مجموعة من النكرات المعمارية. الدليل على ذلك تصميمها البديل الذي أنتج عملا معمارياً فطيراً. لا يرتقي لمقام جهة معنية إلى حد كبير بإنتاج العلماء من ضمنهم شريحة المعماريين. فحرمت ذلك المعماري الشاب الطموح من رؤية أول نتائج إبداعاته تظهر إلى حيز الواقع.
بالرغم من إخفاقه في قطف كل الثمار بعد فوزه في تلك المسابقة إلا أنه جنى منها فوائد قيمة للغاية. من أهمها أنها اكتشف أو أعاد اكتشاف مقدراته المتميزة بعد تخرجه من قسم العمارة. التي تجلت هنا فمكنته من الفوز على المتنافسين في هذه المسابقة عدد مقدر منهم يتفوق عليه بدرجاته العلمية و خبراته الطويلة. استفاد منها أيضاً باكتشافه بأن صفحات الصحف تتوفر أحيناً على معلومات يمكن أن تقوده إلى طريق المجد المعماري. عبر إعلاناتها عن المسابقات المعمارية و هي ذات الخدمة التي قادته لطريق أول مسابقة تفوق فيها على جميع المتسابقين. من أهم فوائد نتائج تلك المسابقة أنها جعلته يفكر بجدية في الخطوات القادمة في مسيرته المعمارية. فقام بخطوة بعد تلك التجربة فارق فيها الجهة التي كان يعمل معها المعنية بشكل أساسي بمجال المقاولات و تنفيذ المباني. ليلتحق بمكتب استشاري مؤسسه و مديره استشاري مرموق في مجال الهندسة المدنية. كانت الاستشارات المعمارية من ضمن خدماته التي يتولى أمرها بعض المعماريين صار صلاح رحمة واحداً منهم.
سرعان ما سطح نجمه بينهم عبر أحداث جعلته على وجه السرعة يحتل موقعاً متقدما بين منسوبي المكتب. متجاوزاً لاحقاً معهم أفاقه المحدودة إلى حد ما. ليرفع أسهم المكتب المنزوي بعيدا ًعن دائرة الأحداث المعمارية في مدينة الخرطوم بحري. بعيداً أيضاً عن منصة قيادة العمل المعماري بحسبان أن مؤسسه و مديره استشاري هندسة مدنية و ليس معماري كما هو معهود في تلك الدوائر. كان صلاح رحمة ذلك المعماري الشاب حديث التخرج اوانئذٍ في قلب تلك الأحداث المؤثرة. إذ أوعز لصاحب المكتب بفكرة اقتحام مجال مسابقات معمارية لمشاريع مهمة تصيد أخبارها من إعلانات الصحف. كان له ما أراد ليدفع بنفسه و معه المكتب الاستشاري إلى دائرة الضوء. عندما اشتركوا في مسابقتين لتصميم مباني مقرات جهتين مهمتين. الأولى الجهة المعنية بشأن الغرف التجارية و الثانية مجلس بيوت الخبرة. فأجتهد صلاح رحمة الذي لعب دور قيادياً في هذه المعركة المحتدمة باعتباره المصمم المعماري الأساسي. الذي وثقه له بشهادات من مكتبه الاستشاري. فكانت النتيجة مشرفه له و لهم. إذ جاء مقترحهم لمجمع الغرف التجارية في المرتبة الأولى متفوقاً على كل الجهات المنافسة. تميزوا أيضا في مسابقة مبنى المجلس بيوت الخبرة إذ جاء ترتيبهم في المرتبة الثانية.
كان مشروع مجمع الغرف التجارية الذي تقدم فيه صلاح رحمة بعمل معماري بالغ الروعة يعنى له الكثير لأكثر من سبب وجيه. من أهمها الجهة المعنية به المؤثرة في المجال الاقتصادي التنموي. منها أيضاً موقع المبنى المتميز في مركز الخرطوم التجاري الإداري المطل على أهم شوارعه هو شارع الجمهورية. شاءت الأقدار للمرة الثانية في هذه الحالة أن تحرمه من أن يرى مقترحه النور و ينفذ على أرض الواقع. لأسباب مختلفة عن حالة مشروع وزارة التعليم العالي. إذ واجهت الجهات المعنية به صعوبات في تمويل تكلفة تنفيذه. فربطت اختيار المكتب الاستشاري بمقدرته على إيجاد جهة ممولة للمشروع. الأمر الذي لم ينجح فيه مكتب صلاح رحمه الاستشاري فذهب التصميم لمكتب أخر. بذلك فقد للمرة الثانية فرصة أن يرى حلم مشروعه بالغ التميز النور في ذلك الموقع الاستراتيجي في قلب العاصمة الخرطوم.
نسبة لعوامل خارج إرادة المعماري الشاب حقبتذٍ صلاح رحمة لم يمضي العمل قدما في هاتين المشروعين. لكن يبقى المهم في الأمر ما حققه من انتصارات داويه خلال السنوات الأولى من مسيرته المعمارية. متقدماً الصفوف على من هم أقدم منه يتميزون عليه بخبرة طويلة و بمخزون من الشهادات العلمية. مقدماً نفسه كظاهرة متفردة تسترعي الانتباه كنت أنا على راس قائمة المهتمين بها. استرعت فضولي فرحت أستفسر عنها و جمعت معلومات أساسية عن كافة جوانبها. تفاعلت معها و وثقت لها في مقالة متقدة العاطفة سطرتها في صحيفة يومية خصصت لي عدة أبواب أسبوعية راتبة. أنا عادة لا أخجل من عواطفي المتدفقة في هذه الحالات لأنها جاءت محمولة على أجنحة مرتكزات هي أساس العمارة نفسها. التي أهم تتميز على رصيفاتها من ضروب العلوم المشابه لها بذلك المكون العاطفي. نُشرت المقالة في نهاية العقد الأول من الألفية في صحيفة الرائد. في باب أسبوعي كنت أحرره باسم عمارة بلا حدود و كان عنوان المقالة: النجم المعماري/ صلاح حسن رحمة. التي وجدت طريقها لموقعي الإلكتروني مصنفة ضمن مواد المساهمات الصحفية و يمكنكم الوصول إليها عبر الرابط- drhashimk.com. تعميماً للفائدة قررت نشرها مرة أخرى ضمن مواد صفحتي في الفيسبوك.
اشتركت في أكثر من لجنة من لجان تحكيم المسابقات المعمارية و تراست بعضاً منها. لكن لم تسعدني الظروف لأكون ضمن تلك التي تعاملت مع المسابقات التي خاض غمارها و أحرز فيها صلاح رحمة مواقع متقدمة. لا أشك في أن مقترحات مشاريعه الفائزة أخضعت لفحص متأنى و عمليات تقويم وافية دقيقة. أنا من جانبي عندما أثارت أنتباهى ظاهرة ذلك الشاب الألمعي حقبتئذٍ توقفت عندها متأملاً. درست أعماله بنظرة فاحصة فهيجت في خواطر عديدة بَددتُ جزءً كبيراً منها عبر جلسات متأنية معه. عمقت في أحساس غامر بأن تلك الأعمال لم تكن نتيجة تهويمات شاردة عابرة لكن حصاد فكر ثاقب قائم على أسس علمية رصينة. سأوفر الحديث عن العديد من جوانبها لمقالة مطولة. تتناول العديد من أعماله الفائزة في مسابقات و أخريات زاخرة بأفكار جديدة نيرة. أهم ما ميز جل أعماله التي نالت التقدير من جهات مأذونة تلك الاختراقات الموفقة المشهودة التي ميزته عن باقي المتنافسين. هذه الظاهرة أوحت لي بعنوان المقالة القادمة التي ستتناول جوانب مهمة من سيرته و أعماله. استوحيته من عبارة شائعة متداولة مستلفة من مجال خطط و استراتيجيات كرة القدم. سيكون عنوانها: المعماري صلاح رحمة يحرز الأهداف من خارج الصندوق. الصندوق المشار إليه هنا هو منطقة في ملعبها مستطيلة الشكل تقع أمام المرمى يسهل منها إصابة الهدف. الذي يصعب إحرازه من خارجها إلا لمن رحم ربى.
فتحت تلك الانتصارات المتتالية شهية المكتب الاستشاري الذي تعاون معه صلاح رحمة من قبل و أحرز نجاحات في عدة مسابقات معمارية. مما حفزه لاحقاً لمزيد من التعاون معه. فطلبت خدماته مجددا لعمل كبير و مبني بالغ الأهمية. كانت مجموعة في المكتب قد بدأت محاولات أولية لتصميمه. فجاء بأفكار جديدة تماماً قدم من خلالها إنجازاً معماريا متكاملاً. لمبنى كبير خاص بمؤسسة حكومية عظيمة الشأن تنامى دورها في السنوات الأخيرة هي الهيئة السودانية للمواصفات و المقاييس. التي خُصص لمبنى رئاستها موقعاً مفتاحيٍ مترامي الأطراف مطل على شارع الجامعة قرب تقاطعه مع شارع عثمان دقنه. عمل معماري كبير للغاية بالغ التعقيد نسبة لطبيعة عمل المؤسسة و مسئولياتها الجسام. شكل نقلة مقدرة لذلك المعماري الطموح إذا ما قارناه بتجاربه السابقة. قدم فيه أفكار جديدة نيرة لم يسبقها عليها أحد. بنظرة فاحصة دقيقة رصدت بعض الهنات دافع عنها مقدماً حججاً تبدو إلى حد ما مقنعة. سأستعرض هذا العمل الكبير بشي من التفصيل في مقالة قادمة.
النجاحات المتوالية في المسابقات المعمارية جعلت ذلك المعماري الشاب في خواتيم عشرية الألفية الأولى يعيد النظر في شكل مسيرته المعمارية. على وجه الخصوص علاقته بمكتبه الاستشاري. فقرر أن يكون وضعه شبه مستقل عنه مع احتفاظه ببعض علاقات ربطته به لأسباب لوجستية. يبدو أن هذا الوضع الجديد حقبتئذٍ جعله أكثر اهتماماً و متابعة لأخبار المسابقات المعمارية في الصحف. فغمزت سنارته و اصطادت أكثر من صيد ثمين. كانت نتيجتها في النهاية فوزه في ثلاث مسابقات تنوعت و تباين حجم و أهمية مشاريعها. الأول و هو أقلها أهمية كان نموذج متكرر لمراكز ولائية لجامعة أنشأت حقبتئذٍ. المشروع الثاني كان أكثر أهمية هو مقر رئاسة المجلس الهندسي الذي يلعب أدواراً رئيسة محورية في تنظيم العمل في هذا المجال. أما المشروع الثالث و هو بالغ الأهمية و التميز مختلف تماماً عن جل مشاريعه الأخرى. الذي ذهب بذلك المعماري الشاب بعيداً فحلق به في أفاق لم تخطر على باله. هو مجمع كبير للغاية خاص بالبعثة الدبلوماسية الهندية يضم عدة مكونات من أهمها مبني السفارة و القنصلية.
انكب صلاح يعمل بهمة في مقترحات تلك المشاريع الثلاثة التي حازت في النهاية على رضى لجان التحكيم. التي منحته الضوء الأخضر للمضي قدما في تجهيز الرسومات و الوثائق النهائية لتنفيذها. مر مشروع نماذج مراكز تلك الجامعة الولائية بكل تلك المراحل بعد نقاشات متكررة مع مستشاريها الفنيين. الذين أجازوها في صورتها النهائية. ثم حدث بعد ذلك ما لم يرد بخاطره إذ اختفوا تماماً عن الصورة و لم يعاودوا الاتصال به مرة أخرى. نمى إلى علمه لاحقاً أنهم قرروا أن يقوموا بهذه العمل و يستفردوا به. هذه واحدة من نوع المواقف التي أعتدنا عليها في مجال عملنا في نوعية الأعمال العادية. لكن من المحزن أن يحدث ذلك من جهة مفوضة من قبل مؤسسة جامعية. لعل بعض العوامل أغرتهم على هذا التصرف الغريب الغير مقبول. منها صغر سن المصمم المعماري و أيضا عمله في إطار لم يظهر فيه المكتب الاستشاري بشكل واضح. في النهاية للأسف الشديد كان عليه أن يدفع الثمن بالرغم من أنه كان يعمل وفق اللوائح المنظمة لمثل تلك الأعمال.
أكثر من سبب وجيه جعل المعماري صلاح رحمة يولى كل اهتمامه لمشروع مقر رئاسة المجلس الهندسي. أولها وزن و أهمية الجهة التي تعامل معها. تلك المؤسسة القيمة على الشأن الهندسي بكافة تخصصاته بما فيها مجال العمارة. الأمر الذي عرضه لضغوط هائلة خلال مراحل التصميم فأضاف لتجربته بعداً مهماً. إذ جعل هذه العملية التي استغرقت وقتاً طويلاً تنضج على نار هادئة مما انعكس بشكل مؤثر على المحصلة النهائية. فخرج هذا العمل في النهاية بشكل يكاد يكون مكتمل الجوانب. تضاف لتلك العوامل التي منحت المشروع أهمية خاصة موقعه في مركز الخرطوم التجاري الإداري. المطل على شارع رئيس فيما يعرف بحي الخرطوم وسط الواقع شمال مجمع المستشفى هناك. تلك العوامل مجتمعة جعلته يصبر على الفترة المتطاولة التي استغرقتها الخطوات التمهيدية للبدء في هذا المشروع بالغ الأهمية. ألذى سيشكل اكتماله بلا شك إضافة مهمة لمسيرة هذا المعماري الطموح.
يعتبر مشروع مجمع السفارة و القنصلية الهندية بلا أدنى شك لعدة اعتبارات أساسية و سيظل أكبر و أهم أعمال المعماري صلاح رحمة. إذ أدخله منذ البداية في تجربة اختيار مقترحه بواسطة الجهات المعنية في ذلك البلد. ثم تقبلهم لعمله بكل الرضى خلال مراحل المشروع المتعددة اللاحقة. الذي يمضي العمل فيه قدماً الأن يسير نحو نهاياته السعيدة متجاوزاً سلسلة تحديات متلاحقة. وضعته خلالها وجهاً لوجه أمام تجربة عمل و حالة فريدة في نوعها. تتميز بخلفية بعد تراثي عريق ثرى و طموح حضاري بلا حدود. حالة أمة تتكئي على إرث مهول و طموح دفع بها إلى مقدمة العالم المتحضر. تلك العوامل مجتمعة أدخلت المصمم في تجربة سببها الأساسي الأبعاد المتشابكة لهذه المعضلة المعمارية. لمشروع مترامي الأطراف تصميمه محتشد بالتحديات من أهمها الجوانب الأمنية و التأمينية لمثل هذا النوع من المباني. من أكبر التحديات أيضاً البعد الطرازي. لمبنى من المفترض أن يعبر عن أمة ذات تراث عريق ممعن في الثراء و تطلعات بلا حدود نحو أفاق تستشرف أعلى درجات الحداثة. من أهم ميزات هذا المشروع أيضاً موقعه المتميز في واحد من أرقى أحياء الخرطوم تاريخياً هو حي الخرطوم واحد. في موقع مطل على أهم شوارعه قرب الطرف الغربي لشارع أفريقيا.
حمل منتصف العشرية الثانية من الألفية أخبار سارة للمعماري صلاح رحمة و مكتبه الاستشاري الذي كان زال يحتفظ بعلاقته معه. جلبتها لهم سيرتهم الذاتية المرصعة بالفوز في عدد من المسابقات المعمارية التي لعب فيها دوراً محورياً متقدما. عمل كبير لن يتكرر بنفس تفاصيله بالغة التميز لأسباب موضوعية. كان يشكل لهم و له بالتحديد حالة استثنائية نقلته من أجواء ثقافة ذلك الجزء القصي جنوب القارة الأسيوية. إلى عوالم تراثية ثقافيه سودانوية أفريقانية ضاربة في عمق تاريخينا الحديث. أدخلته في تمرين معماري متناهي التعقيد سعى و اجتهد و ثابر في الخروج منه بأحسن النتائج. لكن عوامل خارجه عن إرادته خصمت جزءً من كسبه و مردوده المعماري. في مشروع كبير مهم مترامي الأطراف تم إنجازه خلال تلك الفترة. جاء في إطار احتفال درجت منظمة العالم الإسلامي على تنظيمه بشكل سنوي. تحتفى و تحتفل فيه بواحد من حواضر عالمها الحالي او في سابق العصور باعتبارها عاصمة الثقافة الإسلامية. في هذا السياق وقع اختيار الجهة المنظمة لهذا الاحتفال في تلك السنة على مدينة سنار. باعتبارها كانت في القرن السادس عشر الميلادي عاصمة أول مملكة إسلامية في تاريخ السودان الحديث في ذلك الجزء من أفريقيا.
كُلفت لجنة عليا في السودان للتحضير لهذه الاحتفالية بالغة الأهمية للمنظمة و للسودان على وجه الخصوص. انبثقت منها عدة لجان تعنينها منها على وجه الخصوص اللجنة الفنية المكلفة بالنظر فيما في كل ما يلي الجانب المعماري و أطره التخطيطية. اختارت في إطار عملها بناءً على معطيات محددة مكتب المعماري صلاح رحمة الاستشاري. مستندة على سيرته المتميزة المعززة بالفوز في عدد من المسابقات المعمارية. أسهمهم العالية من بين مجموعة المكاتب الاستشارية التي تم اختيارها جعلتهم يكلفونه بأهم و أكثر المهام تعقيداً. هي التعامل مع أكبر جزء من هذا المشروع و هو مترامي الأطراف متعدد المكونات. لا يستمد أهميته الفائقة فقط من مساحته الشاسعة و مكوناته المتعددة. لكن أيضاً من موقعه المفتاحي على ضفة النهر عند مدخل منطقة تلك الحاضرة التاريخية. تلك المعطيات ذات البعد التاريخي و الطابع التراثي جعلت التعامل مع هذا المشروع تحدى كبير و مهمة بالغة الصعوبة.
انكب ذلك المعماري منفردا في الغوص في خلفيات تلك التجربة المعمارية. مستعينا و مستجيراً بعدد من الوثائق و جل ما كتب عن تلك الحقبة و مملكتها العظيمة التي تعتبر الأولى في ذلك الجزء من العالم. أهم ما فيها تمحور حول ما كان يحدث في المنطقة المفتاحية التي كلفوا بالتعامل معها. التي تسيدها في ذلك الزمان و نهض في مركزها قصر او نزل سلطان تلك المملكة الإسلامية التاريخية. الذي لم يكن مجرد قصر رئاسي بل كان أكبر من ذلك. إذ كان مركز إشعاع فعال مؤثر على كل من كانوا يقيمون حوله من كافة أتباعه و أطياف شعبه. استوعب المعماري صلاح رحمة جيداً كل تلك المعلومات و معها المضامين الظاهر منها والخفي. مستصحباً معها كافة ملامح و تفاصيل العمارة في ذلك المشهد المهيب. التي وثقتها لوحات فنانين ذلك الزمان الذين كلفتهم بإنجازها سلطات القوات الغازية. فمضى صلاح رحمة يترجمها في شكل مقترحات معمارية مكتملة الأركان. لكن للأسف الشديد جرت الرياح بما لم تكن تشتهيه سفنه. إذ تباطأت الجهات المعنية بتنفيذ المشروع لعدة سنوات مما دعاها لإكمال المراحل الأخيرة منه على عجل شديد. جاء ذلك على حساب اللمسات الأخيرة منه التي انتقصت من ملامحه المعمارية و طابعه التراثي و بصمته المتميزة.
شكلت تلك المعطيات مجتمعة ذات البعد التاريخي و الجغرافي و الطابع الترائي القديم تحديات مهمة للغاية. استوعبها بعمق المعماري صلاح رحمة الذي أوكل له مكتبه الاستشاري مهمة التعامل مع هذا المشروع الكبير بالغ الأهمية. فانكب في همة فائقة يدرسه من كل جوانبه الزاخرة بالمعاني. منقباً عن كل ما كتب عن تلك الحقبة المفصلية في تاريخ السودان التي شهدت ميلاد أول دولة إسلامية في بلادنا. استوعب تماماً ما كان يجرى في ذلك الموقع مترامي الأطراف في تلك الحقب التاريخية. الذي كان يتصدره و يحتل مركزه صرح شامخ برج مرتفع يشار إليه بنزل السلطان. ملك ذلك الزمان و تلك الدولة الإسلامية. لم يكن مجرد مقر سكن له و لأسرته إذ كان فيه أيضاً متسع لضيوفه و زواره. بالإضافة إلى ذلك كان مركزه الذي يدير منه شئون البلاد و العباد. كانت تجسو تحت أقدام ذلك الصرح الشاهق مكونات عديدة مباني إدارية و مجمعات سكنية تضجع عند ضفة النهر. في علاقة تخطيطية حاولت أن تستمد روحها من تراث علاقة الخلفاء الراشدين برعاياهم في تلك العصور الذهبية الأولى.
استوعب المعماري صلاح رحمة تلك المضامين النبيلة. الظاهرة و المستبطنة في تخطيط المنطقة المركزية لعاصمة مملكة الفونج التاريخية. استنار بها في المهام الموكلة له للتعامل مع نفس الموقع في العقد الثاني من الألفية. مدركاً تماماً عدم إمكانية إعادة عقارب الساعة و دوران الزمان للوراء لبضع قرون. فتعامل مع هذه الحالة وفق معطياتها الجديدة التي قررت أن تُكرس هذه المنطقة المركزية لأغراض سياحية. احتفظ بنفس فكرة البرج المركزي المهيمن الشامخ فصممه على شكل فندق فاخر كبير. نثر حوله عند أعتابه على ضفة النهر مكونات فندقية ثانوية صغيرة من نوع ما يعرف بالشاليهات و وحدات خدمية. في نسق تخطيط عام شبيه بحالة نفس الموقع في فترة مملكة الفونج مع اختلاف جوهري في نوعية الاستخدامات. بالرغم من الطابع الحديث للمشروع استثمر المصمم في الإرث التاريخي التراثي فأطلق على الفندق اسم نزل السلطان بادي. لم يكتف فقط بالاسم إذ منحه بصمة بائنة من خلال التصميم و العديد من السمات و التفاصيل المعمارية. التي استفاد فيها من لوحات فنانين ذلك الزمان للمدينة قبل أن يدمرها الغزاة الأتراك. لكن شأت الأقدار ألا يكتمل العمل كما خُطط له لأسباب وضحتها من قبل. مشيراً لتأثيرها السلبي على الطابع المعماري التراثي.
أكملت مسيرة المعماري صلاح رحمة الظافرة بنهاية العشرية الثانية من الألفية عقدين من الزمان. لفت انتباهي منذ بداياته الأولى بفوزه الكاسح في أكثر من مسابقة معمارية فوطنت نفسي على متابعة خطوات تلك المسيرة. لم يخيب ظني فسار بثقة عالية في نفس ذلك الدرب مما جعلني أكثر إصراراً على متابعة حالته التي أعتبرها ظاهرة جديرة بالاهتمام و الدراسة. شدتني بالتحديد جوانب محددة منها. أولها انه كان و لا زال يعمل و ينجح و يسطع نجمة بلا جهة حاضنة أو رافعة. استوقفني على وجه الخصوص في مسيرته الموفقة التنوع الواضح و الكبير في أنواع المشاريع التي تعامل معها. بنجاح باهر في جل تلك الحالات بشهادة لجان تحكيم معمارية يعتد بها. أسوق مثال لها حالتين مهمتين في تلك المسيرة الظافرة. مجمع السفارة و القنصلية الهندية في حي الخرطوم واحد و ذلك المشروع في مدينة سنار الذي أقيم احتفاءً بمملكة الفونج التاريخية. متنقلاً من أجواء تراث و رؤى بلد في الطرف الجنوبي من القارة الأسيوية لحالة أخرى سودانية تاريخية إسلامية الجذور. التي تعامل معهما بحذاقة بائنة بالرغم من تباين حالتيهما. مستصحباً و موظفاً التراث في كلا الحالتين بطريق مبتكرة. ليقدمه مرفرفاً على أجنحة الإبداع في عمارة حداثية السمات. دفعتني تلك الجوانب بالإضافة لأخريات لمحاولة التوثيق لسيرته و مسيرته المعمارية. التي أمهد لها هنا بهذه المقالة الترويجية لحين إنجاز عمل أكبر يبدأ بمقالة مطولة المقالة السابقة
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان-أكتوبر2020
تعتبر الحقبة من نهاية القرن التاسع عشر و حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي فترة مظلمة في تاريخنا الحديث. جثمت على صدورنا خلالها طغمة محتلة باغية. حكمتنا و سيرت أمور بلادنا تحت راية ما يعرف بنظام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. من البديهي أن ترتبط مثل تلك الحقبة بالمظالم و المرارات التي رصدتها و دونتها العديد من المصادر. تركت أثارها السلبية في العديد من جوانب حياتنا. بالرغم من قتامة الصورة و مهما تشددنا في الحكم على هذه التجربة نجد فيها بعض جوانب مشرقة. تشهد عليها إنجازات مقدرة في عدة مجالات حيوية لا ينكرها إلا مكابر. عليه يصبح من مصلحتنا أن ننظر إلى ما تبقى من الجانب الممتلئ من هذا الكوب بغية التعرف على مردوده الإيجابي. في محاولة للاستفادة من بعض الدروس القيمة التي ارتبطت به. هذا ما سنحاول أن نفعله في هذه المقالة و هي معنية بشكل خاص بالنظر في جانب مهم من مجال العمارة. بالرغم من الأمر معنى بتجربة فترة الحكم الثنائي إلا أننا سننظر أيضاً هنا في واحدة من إسقاطاته المهمة. التي ارتبطت بمرحلة لاحقة تجاوزت فترة الاحتلال بثلاثة عقود من الزمان.
المتأمل و المتعمق في بعض جوانب فترة الحكم الثنائي يمكنه أن يلاحظ ظاهرة التنافس بين طرفي الحكم اوانئذ بريطانيا و مصر. يتضح ذلك بشكل واضح في أكثر من مجال. كان للعمارة حظها الوافر في هذا السياق و السباق. الذي نتجت عنه أعمال رائعة توزعت في أرجاء العاصمة الخرطوم الكبرى بمدنها الثلاثة. من أهم أبعاد تلك المنافسة أن كل جانب منهم اجتهد من خلال تلك الأعمال بالغة التميز أن يبرز عظمة حضارته. في هذا الإطار كانت الخامة البنائية الأثيرة لكل طرف خير أداة للتعبير عن كل حالته. تجلى كل منهما في إظهار عظمة تقنياتها و فنياتها. فدخل الطوب الأحمر تحديداً نوع السدابة خيار الجانب البريطاني في منافسة حامية مع الحجر الرملي الذي تبناه الجانب المصري. في هذا السياق و السباق يعنينا هنا عطاء و بذل و مساهمة الجانب البريطاني المقدرة المؤثرة عبر تلك الخامة النبيلة. التي تمددت و تداعت انعكاساتها هنا فعبرت بعمارة الطوب الأحمر إلى مراحل بعد نيل بلادنا لاستقلالها. كانت بفضل هؤلاء البريطانيون عاملاً مؤثراً لثمانية عقود بعد تاريخ احتلال سلطتهم لبلادنا. راسمة صورة ملحمة معمارية جديرة بالتأمل و استلهام العبر.
قصة البريطانيين مع طوب السدابة في سياق تاريخ بلادنا الحديث متعددة الفصول استمرت كما ذكرت من قبل قرابة الثمانية عقود من الزمان. مرت بعدة مراحل لعبوا فيها أكثر من دور مؤثر للغاية. من خلال إدارة شئون الحكم في فترة الاحتلال و لاحقاً بعد الاستقلال عبر أدوار ثانوية مؤثرة. ساهموا من خلالها فوضعوا بصمتهم البائنة في مراحل و منعطفات مهمة في مسيرة العمارة السودانية. بالرغم من أننا معنيون هنا بمرحلة محددة حديثة نسبياً إلا أنه من المهم النظر إلى هذه الظاهرة في إطارها التاريخي. نبدأه بخلفية ألقت بظلالها الكثيفة على علاقتهم بهذه الخامة البنائية النبيلة. عدة شواهد تدل على ارتباطهم بها وجدانياً. واحد منها تدل عليه تواجدها الكثيف في واجهة مبنى بالغ الأهمية في عاصمتهم لندن و عنوانه (تن دأوننق ستريت). أهميته نابعة من أنه به مسكن و مكتب رئيس الوزراء. ثمة مبررات أخرى مقنعة لتبنيهم لها كمادة بناء رئيسة في مشروعاتهم المهمة التي دشنوها في بلادنا مع بداية القرن الماضي. من أهمها توفر المادة الخام الأساسية لإنتاجه و هي أنواع محددة من التراب. بالإضافة إلى ذلك سهولة تصنيع وحداته. ثمة مبرر أخر له علاقة بواحد من أهم هواجسهم عندما حلوا ببلادنا. هي درجات الحرارة المرتفعة التي لم يعهدوها في بلادهم. فالطوب الحمر يعتبر من أنسب مواد البناء لمثل هذه المناخات. هذه الأسباب مجتمعة دعتهم لتبنية كمادة بناء رئيسة. قناعتهم الفائقة بجدواها جعلتهم يبذلون قصارى جهدهم ليؤسسوا لصناعته على أحسن وجه. في هذا الإطار وفروا بشكل طيب من جوف أرضنا السخية خامة أخرى كانت خير شريك لوحداته البنائية. لعدم توفر الإسمنت في ذلك الزمان وجدوا له بديلاً ممتازاً. استخرجوا الجير من ارض مدينة امدرمان فعالجوه و استخدموه بكفاءة عالية كمادة رابطة تعرف باسم المونة.
بعد ذلك الإعداد الجيد و الحماس الدافق بدأت الجهات البريطانية المعنية بأمر التنمية العمرانية و العمارة مسيرتها القاصدة مع مطلع القرن العشرين. مؤسسة على كل ما سبق ذكره ابتدرت ملحمة عمارة الطوب السدابة في بلادنا في العصور الحديثة في عاصمتهم الجديدة اوانئذ الخرطوم. قدمتها في أشكال معمارية مخدومة بعناية فائقة فجاءت عالية الجودة. تقدموا بها خطوات مقدرة لاحقاً فطروحها في طرازات متنوعة تجاوبت و استوعبت كافة المستجدات التقنية و الطرازية. فكأنى بهم هنا يَسدون لنا خدمة جليلة و هم يؤسسون لحلقة كانت مفقودة في سياق مسيرة عمارة الطوب في تاريخ بلادنا. جزورها ضاربة في القدم ترجع لعصور تعود لبضع ألاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح. وصلت أوج مجدها في نهايات عصر ممالك النوبة المسيحية تحديداً مدينة سوبا عاصمة مملكة علوا. واصلت مسيرتها الظافرة لاحقاً فظهرت بشكل مشرف في سنار عاصمة مملكة الفونج الإسلامية. مجموعات معادية سودانية و أخرى غازية تركية دمرت ذلك الألق المعماري فجعلته أثراً بعد عين. بعد ذلك و خلال القرن التاسع عشر و لأسباب متعددة مرت عمارة الطوب الأحمر بحالة كسوف و خسوف بائن. إذ لم يكن لها وجود يذكر في أطلال الخرطوم عاصمة التركية السابقة أو أمدرمان التي اتخذها المهدويين عاصمة لهم. مع مطلع القرن العشرين كتب الله لتلك العمارة نبيلة المحيا و قيض لها ميلاد جديد. على أيدي المعنيين بأمرها من جانب الشريك البريطاني في إطار الحكم الثنائي. حملوها على أكف الراح فظهرت في أبهى صورها لستة عقود من الزمان طوال فترة حكمهم. تواصلت جهودهم بشكل محدود لكنه مؤثر بعد رحيلهم عندما نالت البلاد استقلالها في منتصف خمسينيات القرن.
كانت أولى ساحاتها موقع مفتاحي ممتاز مترامي الأطراف مطل على النيل الأزرق. اختارته إدارة الحكم الثنائي ممثلة في جانبها البريطاني لواحد من أهم مشاريعها. الذي ارتبط وجدانياً بقيم عالية جداً لأمتهم هو مبنى كلية غردون التذكارية. فجروا فيه كل ينابيع عمارة الطوب السدابة كلاسيكية الطراز بكل مكوناتها و تفاصيلها. دشنوا من خلال تشييده العمل في ذلك الموقع الذي صار لاحقاً النواة لتلك المؤسسة الجامعية الرائدة جامعة الخرطوم. أهميته الفائقة لموضوعنا هنا أنه أصبح فيما بعد منصة انطلاق لعدد من مراحل تحور عمارة السودان في العصر الحديث. منذ مطلع القرن العشرين حتى زمان لاحق سطع فيه نجم السودان كبلد حر مستقل. في كل تلك العهود و المراحل كانت عمارة السدابة دائماً بمثابة راس الرمح. من ذلك الموقع صُوبت سهام كلاسيكية السدابة بعيداً عنه لتستقر في قصر الحكم بجوار القصر الذي تشغله حالياً وزارة المالية. أرسلت رسائلها المعمارية الرصينة لاحقا بعيدا لتطل على أهل عواصم أقاليم البلاد عبر مباني بلدياتها. في تلك السنوات الأولى ظهر مبنى كلية غردون كمركز الإشعاع المتوهج معمارياً الذي أسس لما عرف بعمارة (الكولونيال). تداعت بعده روائع عمارة السدابة الكلاسيكية تحيط به في موقعه المترامي الأطراف. تنشر ألقها و تؤكد وجودها و وجود من تبنوها من إدارة الحكم الثنائي عبر عمارة تنضح هيبة و (برستيجاً). تواتر تلك السنوات الأول خفف بعض الشي من نبرتها و سَمتها الكلاسيكي لكنه لم ينتقص من حضورها المهيب المهاب.
هبت على عمارة السودان الحضرية في النصف الثاني من الخمسينيات رياح مؤثرة مصحوبة بتداعيات بالغة الأهمية. فأحنت عمارة السدابة هامتها للعاصفة. ثم نهضت مرة أخرى متجاوبة مع تأثيراتها فظهرت في رداء جديد جوهراً و مظهراً. ثمة عوامل تفاعلت مجتمعة مع ظروف و ملابسات تلك المرحلة المفصلية المهمة. لعب فيها ثلة من الأساتذة البريطانيين الذين أسسوا أول قسم لتدريس العمارة في كلية الهندسة بجامعة الخرطون دوراً محورياً مؤثراً. مستصحبين معهم نفس ذلك السلاح المضاء. الذي استعان به من قبل أقرانهم البريطانيين قبل بضعة عقود من الزمان في أرجاء موقع كلية غردون التذكارية. فاستجاروا ولجأوا لطوب السدابة فأجارهم و كان خير معين لهم. لكأني بهم هنا يلتقطون من أسلافهم المشعل ليواصلوا مسيرة عمارة السودان في زمان مختلف. هبوا في تلك الحقبة يصنعون تغييراً ملوساً مؤثراً. ليَعبروا من خلال أعمالهم المعمارية بطوب السدابة من عوالم الكلاسيكية إلى أفاق الحداثة الرحبة. التي طرزوا بها مواقع جامعة الخرطوم المنتشرة في أرجاء العاصمة المثلثة. شأنهم شأن الأساتذة الأوفياء الأنقياء في كل العصور بثوا الرسالة و أودعوها في عقول و نفوس طلابهم السودانيين النجباء. الذين استلموا منهم الراية بعد رحيلهم لاحقاً في الستينيات. فقاموا بكافة مهامهم بجدارة فائقة. من ضمنها و من أهمها تنزيل رسالة عمارة الحداثة من خلال أعمالهم المتميزة مبتدئين بمواقع الجامعة. ليؤكدوا مرة أخرى دور أرضها الطيبة المعطاة الولود دائماً كمنصة رئيسة لانطلاق مسيرة العمارة السودانية في كافة منعطفاتها. قد حدث ذلك بالفعل إذ انطلقت من هناك عمارة الحداثة المحمولة على أكف طوب السدابة بفضل ابكار الخريجين من القسم. لتعلن عن نفسها بعد ذلك في خيلاء في كافة أرجاء العاصمة وباقي عواصم و حواضر البلاد. تجدون تفاصيل أوفى عن هذه المرحلة المهمة في عدد من مقالاتي المضمنة في موقعي الإلكتروني.
رحيل الأساتذة البريطانيين من بلادنا في منتصف الستينيات و هم مشبعون بذكريات عطرة عن عمارة طوب السدابة لم يكن نهاية المطاف. لدى إحساس بأن نفوسهم كانت تهفو لإعادة تلك الذكرى على نحو ما. جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب في عقد الثمانينيات في شكل مشروع كبير في الخرطوم خاص ببلادهم. مجمع ضخم يضم مبنيي السفارة و القنصلية. اختاروا له موقعا مترامي الأطراف في حي الخرطوم شرق غير مطل مباشرة على شارع البلدية لكنه على مرمى حجر منه. مثل هذه المجمع يحمل قيم رمزية عالية من واقع طبيعته التي تحكمها الأعراف الدبلوماسية. بالرغم من أن أرضه و موقعه في قلب عاصمة بلادنا إلا انه يعتبر أرضاً بريطانية. الواضح أن تلك العوامل بالإضافة لأخرى ذات صلة بالإسقاطات التاريخية التي أشرنا إليها من قبل كانت مؤثرة للغاية. شكلت الدوافع الأساسية التي أنتجت هذا العمل الكبير. تجلت في عدد من جوانبه و ملامحه المعمارية من أهمها الاجتياح الكاسح لطوب السدابة. الذي شكل حضورا كثيفاً بتغطيته الكاملة للمبنى خارجياً. بالإضافة لتغلغله داخله و تغليفه لكافة الأعمدة و كل جدران أهم صالاته الداخلية.
ثمة جانب مهم في هذا العمل الكبير بالغ التميز يجب الإشارة إليه بالتحديد. جاءت مساحات السدابة المتمددة عبر الأفق محمولة على أكف نظام إنشائي مؤسس على أخر المستجدات في هذا المجال. التي تحمل بعض أجزاء و مكونات المبنى الناهضة أمام الواجهات بجرأة فتجعلها تحلق بجسارة. بعضها محمول بثقة على أكف بلاطة أرضيات خرصانية، سلابات، نظام إنشاءها كان الأحدث في الثمانينيات. ظهور الأجزاء السفلى منها مكشوفاً يبدو لكأن المقصود منه التباهي بتبني أحدث مخرجات تقنية إنشاءات المباني. مثل تلك المكونات و الملامح التي منحت العمارة تميزاً باذخاً هي في الواقع مؤشرات بالغة الأهمية. فيها إشارة واضحة للتقدم العلمي في العالم الغربي الذي كانت بريطانيا واحداً من أهم أركانه زمانئذ. بذلك خطت هذه التجربة بعمارة السدابة حداثية النهج خطوات إضافية في ذلك الدرب مستثمرة في أخر مخرجات ذلك النهج التقنية. اللافت للنظر أن ما فعلته هنا لم يكن على حساب التخلي عن أبسط مواد البناء المستخدمة التي صدحت بها واجهات المبنى. الإشارة هنا لطوب السدابة المصنع أساساً من المواد الترابية. إن ذلك الأمر إن دل على شئي فإنما يدل على وفاء هؤلاء القوم لخامتهم الأثيرة. الذي دعاهم للتمسك بها في إصرار واضح بعد عودتهم لبلادنا بعد ثمانية عقود من ظهورهم الأول في بدايات القرن. في إطار صيغة و علاقة سياسية مختلفة بعيدة عن هيمنة المحتل و مؤسسة هذه المرة على شراكة قِوامها الندية.
إصرار الجانب البريطاني على التمسك بطوب السدابة هنا يُستدل عليه في أكثر من جانب من جوانب هذا العمل المفرط في التميز. في البدء هو ظاهر جداً في عدة مواضع في واجهاته تحديداً الأجزاء الإنشائية. تتجلى في محاولات ناجحة مستميتة في استبدال العناصر الخرصانية بأخرى بديلة مؤسسة على طوب السدابة. نلاحظها مثلا ذلك في التعامل مع البروز البسيط في الجزء الأسفل من واجهة الحيطان الخارجية. فهو محمول على بروز متدرج لمداميك أو صفوف الطوب في ذلك الجزء الذي يحل هنا محل العناصر الخرصانية. تظهر بوضوح عملية الاستغناء عن تلك العناصر في أجزاء أخرى من الواجهات ذات طبيعة إنشائية. هي تلك الأعتاب، جمع عتب، التي تثبت فوق فتحات النوافذ لحمل الحيطان التي تعلوها. تم الاستعاضة عن الأنواع التقليدية الخرصانة بخيارات مستحدثة قوامها وحدات طوب السدابة. نفس ذلك الإجراء تم إتباعه في تشييد الجزء الأسفل من تلك الفتحات التي تعرف باسم الجلسة. حيث تم استبدال الوحدات الخرصانية بأخرى مشيدة من طوب السدابة. استبدال الأعتاب و الجلسات الخرصانية بالخيارات الطوبية خلص الواجهات من أجزاء خرصانية صغيرة كانت تبدو كما البثور على وجه الحسناء. بذلك سمحت لمساحات الطوب بالاسترسال و التمدد بأريحية و سلاسة فائقة على واجهات المبنى مشكلة لوحة بالغة الروعة.
قد يحسب المرء أن الإفراط في استخدام طوب السدابة في الواجهات هو مجرد مجاملة قصد منها إظهار تعلقهم بهذه الخامة النبيلة. لكن جوانب أخرى من عمارة المبنى تشير لعمق هذه العلاقة. هي استخدامه بكثافة داخله كمادة تغليف أو تجليد أساسية و في أهم الأجزاء هناك. في وقت كنا نتوقع أنهم بعد أن قاموا بالواجب نحو السدابة خارجياً أن يستجلبوا أحدث و أرقى و أفخم المواد للتشطيبات الداخلية. لكنهم ذهبوا في اتجاه مغاير تماماً حيث يتمدد طوب السدابة بكل جلالة قدره فيغطى كافة الحيطان الداخلية لكل صالات الاستقبال الرحبة في مبنيي السفارة و القنصلية. ستأخذك إليها برفق سلالم داخلية مكسوة على جانبيها بنفس ذلك الطوب. لتصل إلى صالات الاستقبال الرحبة و الشاهقة الارتفاع. المحاطة من كل الجوانب بطوب السدابة. منظرها (الدراماتيكي) تزيد من هيبته و جلاله إضاءة طبيعية تنسرب بلطف من نوافذ علوية. ترتفع الدراما المعبرة عن كل الود لهذه الخامة النبيلة لأقصى درجاتها بمنظر حائط عريض مكتسى بطوب السدابة. يشهق في صالة دخول و انتظار المبنيين لارتفاع ثلاثة طوابق. يرقد على صدره بكل وداعة في كلتا الحالتين مباشرة على سطح السدابة شعار المملكة المتحدة. تغازله من عُلى و تمسح على سطحه برفق أشعة شمسنا المدارية في غدوها و رواحها.
حمل ابكار المعماريون و رموزهم في الزمان الحديث تحديداً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي طوب السدابة على أكف الراح. فقدموا به عمارة الحداثة السودانية في أنصع صورها و أزهى حللها. تضعضع موقفها بعد ذلك و إنتاشته السهام من أكثر من جهة. تجسد واحد منها في تدهورت صناعته من حيث نوعية المنتج و أبعاد وحداته. ثمة عامل أخر مهم للغاية يجب أخذه في الاعتبار. كانت الأعمال المعمارية الممتازة في عصرها الذهبي من أهم عوامل الترويج لهذه الخامة. التي تدنى تأثيرها لاحقاً مع الانخفاض في مستويات العمارة. من جانب أخر كانت السهام التي أضعفت موقف طوب السدابة مصوبة من أبناء عمومته من المنافسين الجدد مثل الطوب الإسمنتي و الآلي. تلقى لاحقا ضربة قاضية من منافس جديد في مجال المباني المهمة. ظهر في رداء التغليف الخارجي بالألواح المعدنية الشبيه بالألومنيوم. لكن بالرغم من كل تلك المتغيرات و المستجدات سيبقى إلى زمن طويل لطوب السدابة حضوره المتميز بالذات في بعض الحالات الخاصة. سيبقى ما بقيت تلك الأشياء القديمة محتفظة بسحرها المتجدد. مثل الشعر الجاهلي و معلقاته المتفردة و السيمفونيات الغربية الخالدة و أغاني أم كلثوم و فيروز و روائع حقيبة الفن المعتقة. ستبقى دائماً مثل هذه الأعمال الخالدة ملهمة لكل مبدع أصيل خلاق. يستشف من روحها أعمالاً جديدة لا تقل صدقية و ألق. لقد فعلها من قبل البريطانيون في ديارنا محلقين بطوب السدابة في بداية القرن و في ستينياته ثم في ثمانينياته. طوفوا فيها به بطرازات متعددة خاطبت كل حقبة زمانية بتقنياتها وفنياتها بكفاه عالية. فهل معماريونا أقل كفأه و إبداعا منهم؟