fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

تطواف في رحاب عمارتنا بأجنحة رؤي هايدغر و نوربيرغ- شولز الفلسفية

في البدء أنها ستضيئ دربي بشكل مؤثر. خلال مرحلة في عملي كنت تائه في عوالم قبائلنا المتمترسة في لجج تقاليدها الراسخة و ارثها التليد. ما كنت أحسب في البدء أن تلك العوالم الفلسفية الغربية ستضيئ دربي في عملي البحثي. ما كنت أصدق أن هناك ما يجمع بين أفكارهم الفلسفية و عمارة مجموعاتنا التقليدية. لكنني وجدت في توجهات بعضها المؤسس علي دفق إنساني معين كشف الكثير من خبايا عمارتهم. تبحرت في تلك العوالم الفلسفية في مرحلة مخاض متطاولة بدأت بها عملي في دراسة الدكتوراه. فأعانتني في التحرر من أسار مفاهيم معمارية علمانية الطابع. تشربت بها كجزء أساسي من دراستي للعمارة مرتين في بلادي. فترة مخاض عبرت بعدها لأفاق فلسفية رحبة خلصتني من براثن ماضي لا زال مهيمنا على أفق تعليم العمارة عندنا. لأصبح بعد ذلك درويشاً هائماً في دروب فلسفية ثرة مؤثرة. فاضلت بين خياراتها المتاحة فاخترت منها استعصمت بتوجه الظاهرية المشبع بالحس الإنساني. استدرجتني إليه في البدء كتابات المعماري الفيلسوف Christian Norberg- Schulz كرستيان نوربيرغ-شولز. التي كانت بمثابة جسر عبور سمح لي بالتوغل في فضاءات فلسفة الفيلسوف الألماني الوجودي Martin Heideggerمارتن هايدغر. الذي جنح في أخر كتاباته لملامسة قضايا في صميم عالمنا المعماري. خطوة قربتني كثيراً لعوالم فلسفته الثرة فسلمت نفسي لها طائعاً مختاراً لأنني وجدت فيها ضالتي المنشودة.

سأحاول هنا أن أحقق غايتي المنشودة في تسليط بعض الضوء على تلك المفاهيم الفلسفية العميقة. سأسعى لتحقيقها بملامسة بعض حالات أبداع و عبقرية عمارتنا في شتي العصور.  متنقلاً مسلطاً الضوء على نماذج منها سطعت في حقب تاريخية متعاقبة. عبر مكونات العمارة الرئيسة الثلاثة المعروفة مبتدأ بالتاريخية الضاربة في عمق الزمان. لكننا هنا لن أقصر اهتمامي بها في الحواضر و المدن إذ سأتجاوزها لأتتبع أثر التقليدي منها خارج هذا الإطار. سأتتبعه مسلطاً الضوء أيضاً على إبداعات أهلنا من قبائل السودان المبعثرين في الوديان و الصحاري و علي ضفاف الأنهر. لأعود مرة أخري بعد ذلك مجدداً لحالة الحواضر و المدن في الأزمنة الحديثة. أتتبع خطاها هي تسابق الزمن تقدم بلادنا في هذه الأزمنة عبر العمارة كمنافس شرس. يحاول أن يجد لنا عبرها موقعاً متقدما بين أمم العالم منافساً أحدثها و أكثرها رقياً. ليثبت لهم بأننا قادرون على احتلال موقع الصدارة كما كنا في سابق العهود أصحاب أول أعرق الحضارات. سأصحبكم معي في سياحة عبر الزمان و المكان السوداني. نهتدي فيها بنبراس مفاهيم نوربيرغ- شولز المتوهجة بوقود فلسفة هايدغر المترعة بالدفق الإنساني. بشكل سيضيئ لنا مفاهيمهم السديدة من خلال خبايا جذورها الفلسفية. بشكل سيجعل عمارتنا الكلاسيكية و التقليدية و الحديثة تبرق و تشع. مسلطين بذلك مزيداً من الضوء علي واقعنا المعاش مما سيساعد علي تتدبر طريق المستقبل. فما أحوجنا لمثل هذه الوقفات التي ستساعدنا في رسم خارطة طريق تضع الوطن في حدقات العيون.

نعود مرة أخري لجوهر موضوعنا الأساسي الذي سيشكل نقطة الانطلاق لهذه المقالة نبيلة المقاصد. التي سنحاول فيها النظر التأمل في ملامح من عمارتنا بتتبعها عبر بعديها التاريخي و الجغرافي. منطلقين لتحقيق هذه الأهداف من منصات فلسفية مؤثرة أسس لها اثنين من أميز الفلاسفة في القرن العشرين. كان لهم أثر ملموس يدركه من كان جاداً بحق متابعاً لكافة المستجدات الفكرية المؤثرة في هذا المجال. أتاحت لي دراستي لنيل درجة ا لدكتوراه الاضطلاع على فكرهما الذين تسيد الموقف حقبتئذٍ في الثمانينيات و لا زال. لفت انتباهي في البدء و أنا حديث بالمجالات الفلسفية المعماري رؤي المعماري المفكر كرستيان نوربيرغ- شولز. خلال فترة كانت العمارة في العالم الغربي تعاني من حالة احتقان حادة. سببها توجه الحداثة الذي تربي في شب في حضن الغرب ترعرع تحت رعايته خلال النصف الأول من ذلك القرن. لكنه نتيجة لمستجدات فكرية بداء يترنح مما دعي أهل نفس ذلك العالم ليبحثوا عن مخرج من هذا المأزق. كعادة كل من له بصيرة بداء جهدهم في هذا السياق بمراجعة الأساسيات التي تسببت في هذه الأزمة. المرجعيات الفكرية التي تأسس عليها نشاء توجه الحداثة أوصلها للحالة المتردية التي وصل إليها. كان من البديهي أن يتم البحث عن توجهات أكثر إنسانية تلامس هموم الناس و إحساسهم بشكل مباشر. تنظر للمجتمعات بلا تعالٍ تحاول أن توجد لهم الحلول من واقع رؤيتها الخاصة. منها تستخلص الحلول على كافة أصعدة حياتهم من أهمها عمارتهم. فبرزت في هذا الإطار فلسفة الظاهرية بحسبانها هي الأقرب لمثل هذه التوجهات.

كانت مثل هذه القضايا الفلسفية الشائكة عميقة الأبعاد في غاية التعقيد بالنسبة لي أنا اوانئذٍ في بداية مرحلة عملي في رسالة الدكتوراه. وصلت هناك خالي الذهن لا أفهم شئي يذكر عنها عن أبعادها. إذ لم تتطرق لها مناهج دراستي الجامعية التي درست فيها العمارة مرتين في بلادي. الواضح أن ذلك ناتج عن قناعة من وضعوا مناهجها بان لا علاقة لها بمساقنا العلمي بعضهم مقتنع بأنها مواضيع هامشية انصرافيه. قناعات راسخة تجلت في مفاهيم و عقلية من تصدوا لاحقاً لمراجعتها و تجديدها. الذين تربوا نشأوا على إرث من سبقوهم عبر عملية غسيل عقول ممنهجة. لدي تحفظات عديدة أساسية على عمليات التجديد التي لم تلامس جوانب جوهرية في تلك المناهج. خلفية كانت لها إسقاطات سلبية مؤثرة علي في بداية عملي في رسلة الدكتوراه. إذ وجدت نفسي وسط ذلك الزخم الفلسفي المتجدد في حالة أشبه بالأطرش في الزفة كما يقول المثل الشائع. تعاطفت كثيراً مع روح التوجهات الفلسفية الجديدة بدون أن أدرك بشكل مؤكد عمق علاقتها بمجال العمارة. تعاطف كان نابع من علاقة وشيجة لمستها في حالات دراسية سودانية نويت التعامل معها. كنت في حالة أشبه بالموشك على الغرق يبحث عن أي شئي طافي يعبر به إلى شاطئي الأمان. وجدته فعلاً في سلسلة كتب سطرها واحد من أهم شيوخي في هذا البحر المعماري الفلسفي متلاطم الأمواج. المفكر الفيلسوف المعماري كرستيان نوربيرغ- شولز. الذي تشبع بفلسفة ذلك التوجه الجديد فأنزلها إلي أرض الواقع المعماري.

تأسست أفكار نوربيرغ- شولز على فلسفة مارتين هايدغر شيخي الأساسي الذي أصبحت أيضاً واحد من دراويشه. التي كانت في البدء لا زالت عصية على إلي حد ما باعتباري (مستجد) في هذا المجال. يحمد له أنه قدم لي في هذا السياق و للعديدين ممن لم تكن لهم خلفية عن مجال الفلسفة خدمة لا تقدر بثمن. إذ جسر لنا الهوة بين مفاهيم هايدغر الفلسفية بالغة التعقيد و مجالنا المعماري. عمل كبير نجح فيه عبر العديد من كتبه القيمة متعددة متنوعة المواضيع. تمكن فيها بتبسيط أفكاره إلى حد بعيد بإنزالها إلى أرض واقعنا المعماري عبر عدة محاور. من أميز مساهماته بالنسبة لي و للمعماريين بشكل عام كتاب صدر عام 1971 هوExistence Space and Architecture. أهم ما فيه أنه تناول مفهوم الفضاء المعماري بطريقة جديدة فريدة سديدة عميقة للغاية. وضعه في إطار كبير جنباً لجنب مع فضاءات أخري متفاعلة مكملة له. أنجز ذلك من خلال مفهوم جديد أشار إليه بفضاء الوجود باللغة الإنجليزية Existential Space. وضعه في إطار عريض تعامل معه بطريقة عميقة شاملة منحته حقه المستحق. أستجار فيه نوربيرغ- شولز ارتكز علي أفكار و رؤي ملهمه مؤسس مرجعيته الفلسفية الأساسية شيخه هايدغر. أستعان به بشكل أساسي ليوضح جوهر فكرة فضاء الوجود. ضمنها في واحد من أهم مؤلفاته التي صدرت في نهاية السبعينيات Genius Loci: Towards a Phenomenology of Architecture.  سنوضح في الفقرات التالية بعضاً من أفكاره التي مضي به في هذا الطريق المحفوف بالتحديات.

أسترسل نوربيرغ- شولز و أسهب في ضفاف سفره الذي أشرنا إليه من قبل هو يشرح فكرة فضاء الوجود. الذي يتكون حسب رؤيته من عدة فضاءات افتراضية متداخلة متفاعلة متباينة في حجمها و مداها. أكبرها أعلاها مقاماً الكون كله الذي يحتوي على مستويات أقل جغرافية الطابع. لتتداعي تنزل للمستويات الإقليمية داخل الفضاء الجغرافي الكبير. لتنزل لمستويات أقل مثل البلدان بحدودها الجغرافية المتفق عليها. لتحتوي داخلها أقاليمها المتعددة بمدنها و قراها.  فتحملنا لمستوي العمارة بكافة مكوناتها و حجراتها. عملي المعمق في حالات سودانية في دراسة الدكتوراه أثبت لي حقيقة مهمة تجاوزت رواه. لأصل لمستوي أصغر اتضح لي أنه لا يقل أهمية هو مستوي الزي. الذي أثبت في أكثر من حالة بالدليل القاطع دوره المؤثر في هذه المنظومة الفضائية. مضي نوربيرغ- شولز ليوضح عبر شروحات مستفيضة أهمية النظر بعمق أكثر لظاهرة الفضاء. عزز من عمق مفاهيمه ربطه للفضاء في كل تلك الحالات بمعطيات عديدة. شكلت في كل حالة عناصر وجود الإنسان و مجتمعه و أمته. مستدلاً بحالات متباينة منها ما هو لحضارات ضاربة في القدم أخري لمجموعات تقليدية محلية لا نعيرها كثير اهتمام. أشار فيها أن معالم و ملامح فضاء الوجود نابعة دائماً من قيم و أعراف و مفاهيم متجذرة مقنعة. تشكل سمات وجودهم على الأرض تمنحه الهوية تجعله نبراساً لها. مستعينا في شروحاته متكأ على جزور فلسفة شبخه هايدغر. سأطوف معكم في رحاب هذه الرؤي الفلسفية التي تلامس واقع الأشياء تشرح معني فضاء الوجود.

قد يبدو من أول وهلة بنظرة عجلي أن ما توصل إليه و أحتفي به نوريرغ- شولز من مفاهيم أمر مفروغ منه معروف سلفاً. لكن العمق الذي تناول به الموضوع من كافة جوانبه و أبعاده غير مسبوق. أهم ما فيه تعامله مع مفهوم الفضاء من خلال مصطلح الوجود الذي ابتكره بشكل مختلف جديد. باعتباره وحدة متكاملة من أصغر إلي أعلي مستوياتها.  تشكل في مجملها كل تفاصيلها مجمل سمات و ملامح وجود المجموعة التي ارتبطت به. تجسد شيمهم و قيمهم  و أمالهم و أحلامهم و أشواقهم و هواجسهم و كل جوانب وجودهم يشيئ السبل. أهم ما في مفاهيمه أنها تجسده في إطار علاقة مكونات كل مستوي من مستويات ذلك الفضاء. تتجسد أيضاً بنفس القدر في علاقة مستويات ذلك الفضاء مع بعضها البعض. علاقات متشابكة تعكس حالة متفردة ترسم ملامح وجود تلك المجموعة. هناك عدة مشاكل ناتجة عن القصور في تعامل المختصين في هذه المجالات مع المستهدفين بالنحو المطلوب. من أهمها تعاملهم وفق حلول جاهزة في أغلب الحالات لا علاقة لها بهم. هذه المشكلة ناتجة أيضاً عن جانب أخر هو التعامل معها بأسلوب التجزئة. بمعني أن المختصين بكل مستوي من مستويات ذلك الفضاء يعملون بدون اعتبار أو تنسيق مع المعنيين بالمستويات الأخرى. الإشارة هنا مثلاً للمختصين في مجالات التخطيط العمراني و التصميم الحضري و العمارة و التصميم الداخلي. بدون وعي و إدراك و اعتراف بطبيعة العلاقة بالتكاملية بينها. التوجهات غير المتجانسة المتكاملة من أولئك المختصين من شأنها أن تبعثر تزعزع نسيج وجود المجموعات المستهدفة بالخدمة.

ذهب نوربيرغ- شولز بعيداً في مجهوداته لطرح رؤاه عن مفهوم فضاء الوجود. التي يستعين فيها بنماذج معبرة متعددة. من خلال إبحار يحلق فيه في فضاءات حضارات في عمق التاريخ   قافزاً منها إلى زماننا الحالي. لكنه لم ينسي في تطوافه أن يقف مرة أخري بكل تجلة و احترام أمام حالات من العمارة بسيطة الملامح محتشدة باسمي و أنبل المعاني. لم نعتاد أن نوليها الكثير من اهتمامنا. تجاهل نابع للأسف من شريحتها من البسطاء متواضعي الإمكانيات. توقف نوربيرغ- شولز عند العديد من حالات تلك العمارة التقليدية. موضحاً من خلالها ما يعنيه بمفهوم فضاء الوجود التي تجسده بجلاء. لأنها في مجملها جاءت بشكل تلقائي نابع من صميم مفاهيم هؤلاء القوم لكافة أمور الحياة. فهي بذلك خير معبر عن معاني وجودهم بدون تزييف أو رياء أو تدخلات من جهات خارجية متحذلقة. لهذه الأسباب احتفي بها نوريبرغ- شولز. فوضعها جنباً لجنب مع نماذج منتقا من أعظم عمارة الغرب الكلاسيكية و أخر مخرجات عالمه الحديث. أعجبت هنا أيما أعجاب بنهجه الذي تحرر فيه من عقد عالمه الغربي. ليفلت محرراً نفسه من إسار فكر الحداثة الذي بدأت إرهاصات أفوله تتجلي في سبعينيات القرن الماضي. تحرره الكامل حققه عبر خطوة جريئة حلقت بفكره إلي أسمي مراقيه. عمليه أشبه بالتحام مركبتي فضاء التقيا معاً في الفضاء الواسع الرحيب. ليحققا فتحاً جديداً أتاح لنا اقتحام عوالم مدهشة. إشارة هنا لالتقاء أفكار نوربيرغ –شولز مع مرئيات هايدغر.

مركبة نوربيرغ- شولز الفضائية سطعت في سفره الموسوم Guinness Loci: Towards a Phenomenology of Architecture.. التي التحمت في الفضاء الرحيب بمركبة زخرت بدرر فلسفية بثها هايدغر في أخر مؤلفات Poetry Language Thought. سفر بالغ القيمة للمعنيين بالشأن الفلسفي للمختصين في عدد من المجالات. ناقش فيه هايدغر بلور أطروحات جديرة بالاهتمام لامست العديد من القضايا الإبداعية بالغة الأهمية. نابعة بالنسبة للمعماريين بالتحديد من تعامله مع العمارة بشكل مزدوج. مرة من منطلق أن ما تنتجه من مباني هو واحد من الأشياء يمكن التعامل معها في هذا السياق شأنها شأن بقية الأشياء في عالمنا. في مرة أخري ارتقي بالعمارة إلي أعلي درجات السمو. فأعتبرها ضرب من ضروب الفنون تستحق التعامل معها على كعمل فني. في كلا الحالتين قدم هايدغر أطروحتين حلق بها في رحاب فلسفته المرفرفة بأجنحة مترعة بالدفق الإنساني. وصل بنا في كليهما لوصف دقيق معمق للعمارة، مرة باعتبارها شئي من الأشياء مرة أخري كعمل فني. توصيف حلق فيه بنا في كلا الحالتين إلي اعلي المراقٍ الفلسفية التي منحت العمارة كامل قيمتهما الإنسانية الرفيعة. أطروحتين جديرتين بالتوقف عندهما تأملها بتمعن عميق. هذا هو عين ما فعله نوربيرغ- شولز (حوار) هايدغر و تابعه المخلص. الذي حركت فيه تلك المرئيات لواعج شتي. إذ وجد فيها ضالته التي تعينه في تقديم أفكار بلورها في مفهوم فضاء الوجود الذي استعرضنا جوانب منه من قبل. أعتبر نفسي في هذا السياق واحد من المنتفعين بالتحام تلك المركبتين الفضائيتين.

تأملت مرئيات هايدغر في سفره المشار إليه هنا و قرأتهما في إطار مفاهيم نوبيرغ- شولز التي بلورها في مصطلح فضاء الوجود. فأضاءت جوانب أساسية منها بشكل يجعل من المهم التعمق فيها سبر أغوارها شرحها بشكل مفصل. استند هايدغر في سعيه ذاك على أطروحات يمكن أن تفسر لنا جوانب عميقة في العمل المعماري فتتجاوزه للعديد من المجالات الإبداعية المجاورة له. لتتمدد في النهاية تسدي خدمات جليلة تساهم في استيعاب معني فضاء الوجود بشكل معمق. ارتكز هايدغر في شرح مفاهيمه المغرقة في الرمزية على أبعاد أسطورية ميثولوجيه. مستعيناً بتراث حضارة اليونان الضاربة في القدم التي تشكل أساسيات مفاهيمهم العبادية. كانت تقوم على فكرة مجموعة من الألة تعمل مجتمعة كأنها وسيط بينهم و بين إلههم الأعظم.  آلهة كانت في زمانهم تمثل جونب أساسية من سياق حياتهم. فهناك ألهات و ألهه للحب و الجمال و أيضاً الحرب.  بعضها الأخر كان يتجسد في ظواهر طبيعية مثل الرياح و العواصف و الأمطار و البحار. تعمل كلها في توافق معهم لتصوغ الحياة من حولهم تجمع بين الأرض و السماء في توافق تام. أنطلق هايدغر من تلك المفاهيم ليقدم نموذجاً متفرداً يشكل الأساس لفهم العديد من الظواهر من حولنا. احتفي بها نوربيرغ- شولز كثيراً فاستثمر فيها كأداءه مفيدة لشرح مفهوم فضاء الوجود الذي أتي به. سأستثمره أنا أيضاً هنا للتعامل معها في نهاية مقالتي لاستعرض نماذج متنوعة من عمارتنا.

يرسم هايدغر في سفره المهم المشار إليه هنا صورة متكاملة الأركان للعديد من المواضيع التي تعامل معها. نركز هنا على بعضها المعني بشكل مباشر أو غير مباشر بالشأن المعماري. الذي قدم فيها إضاءات مفيدة تلامس تعضد مفهوم فضاء الوجود الذي بلوره نوربيرغ-شولز. يقدم هايدغر طرحه في فصلين مهمين من ذلك الكتاب يتعامل فيهما مع العمارة من طرف خفي. باعتبارها مرة شئي من الأشياء الموجودة حولنا أيضاً بحسبانها عمل فني. قدم رؤية فلسفية متكاملة تعاملت بحصافة و عمق مع كلا الحالتين. تحتاج منا لوقفة تأمل معمقة لأنها كما أشار نوربيرغ- شولز تتعامل مع تلك الظواهر برؤية فلسفية مترعة بالدفق الإنساني. تستند علي نفس ذلك التراث (الميثولوجي) الأسطوري. يستدعي فيها هايدغر يستجير بتفاصيل النظام العبادي لتلك العصور الضاربة في القدم. يوظفها لإلقاء الضوء على المعني الحقيقي للأشياء من حولنا من ضمنها على رأسها الأعمال الفنية. التي تتجلي وفق رؤيته الفلسفية تبرق تسطع في مواقف و لحظات محددة وفق معطيات معلومة. عندما تتألف تتوافق مجموعة من الناس برعاية حميمة لصيقة من منظومة من الاله. لحظة تجلي تقترب منها السماء بملكوتها الأعلى من الأرض التي يعمرها ذلك النفر من الناس أشار لهذا الموقف المهيب برقصة الأربعة. الاله مع ذلك النفر من البشر ترفرف فوقهم السماء تحرسهم تضيئي لهم أرضهم الطاهرة. لحظات تجلي تبرق تشع فيها الأشياء من حولهم على حقيقتها تزينها الأعمال الفنية في كامل رونقها و ألقها. كأني به في هذا الإطار يشير للعمارة هي تتصدر المشهد كواحد من أهم الأشياء و عمل فني يعتد به.

التقاء المركبتين الفضائيتين في ذلك الفضاء الرحيب الناتج عن السفرين المهمين المشار إليهما هنا فتح أمامي أفاق خرافية للتأمل. في العديد من الشئون المعمارية ما جاورها من مجالات أخري وفق رؤية فضفاضة. تحديداً فكرة مجموعة الألة (الميثولوجيين) التي وردت في هذا السياق في إطار مصطلح باللغة اللاتينية هو. Guinness Loci تناول هؤلاء الفلاسفة العباقرة أمرها تعاملوا معها باعتبارها تمثل حراس لمجموعة من البشر احتكموا لها سلموا لها أنفسهم طائعين مختارين. مفاهيم أعظم ما فيها أنها تفتح الباب على مصراعيه للتأويلات. فرصة عظيمة لم أتردد في اغتنامها و استثمارها. فأنا أتفق معهم فيما ذهبوا إليه باعتبار أن دور هؤلاء الألة هنا يعزز بشكل غير مباشر وجودهم بمعناه العميق. الذي يتم عبر مكانتهم السامية في المحافظة على قيمة الأشياء من حولهم من أهمها الأعمال الفنية بأنواعها المتعددة. الذي يتم عبر منظومتهم التي يقوم كل واحد منهم فيها بدوره في المحافظة علي كينونة و وجود مجموعة من البشر. يتميز هؤلاء الآلهة (الميثولوجيين) يختلفون عن بعضهم البعض نتيجة لتنوع مهامهم. تنوع يعكس في حد ذاته معني خصوصية تلك المجموعة و معني وجودهم و توجهاتهم في موطنهم في الأرض. التي تمنحها نوعية آلهتهم بصمتهم البائنة التي تميزهم عن باقي البشر من حولهم. تتباين تختلف منظومة الآلهة بناءً على نوعية مهام و تخصصات كل واحد منهم. تتكاتف تتضامن معاً أحيناً لترسم ملامح وجود مجموعة ما هم بمعناه الحقيقي المرتجى.

حملت تلك الأفكار و الرؤي التي استقيتها استلهمتها من ثنايا مظانها في كتابات هؤلاء الفلاسفة الأماجد. فرأيت أن أجربها في نماذج من عمارتنا محلقاً في فضاءاتها الرحبة عبر الزمان و المكان. مبحراً في تراثها الضارب في القدم و القديم منتقلاً للأقل قدماً و الحديث. حاولت أنا أعد نفسي لهذه السياحة و التطواف بأن أبُسط تلك المفاهيم الفلسفية الموغلة في الغموض تجريدية المعاني. أن أنظر لتخصصات هؤلاء الآلهة الحراس في إطار مهامهم و أدوارهم علي أرض الواقع. اجتهدت أمل أن تجد منكم هذه الخطوة الجريئة القبول. أرجو أن يكون حكمكم عليها بعد أن أقدم طرحي بشكل متكامل لأنه سيسهل من مهمتي هنا. المفترض هنا أن أدوار هؤلاء الآلهة هي التي توجه حياة شريحة من البشر تضعها في الطريق الصحيح المأمول بالنسبة لهم. المفترض هنا لكي تكتمل الصورة أن كل واحد من هؤلاء الاله (الميثولوجيين) يضطلع بدور محدد. نابع من رؤية هؤلاء النفر من الناس التي توافقوا عليها صارت تجمعهم مع بعضهم البعض. سأستبدلها في هذه الحالة بمفاهيم متعددة نابعة من حياة هؤلاء النفر من الناس. نجعلها تمثل مثلاً القيم والأعراف لتمدد فتشمل في نفس هذا الإطار المزاج و الأشواق و الهواجس حتى لو كانت متخيلة غير واقعية.

سأحمل هذه الرؤي المبتكرة أتجول بها في سوح عمارتنا مبتدئاً بتراث عصور ضاربة في القدم في شمال بلادنا النيلي. لأنتقل عبر الأف السنين لأتابع مشهد تاريخي جدير بالاهتمام في ساحل البحر الأحمر في شرق بلادنا. متوقفاً متأملاً حالة ميناء سواكن التاريخي بكل أبعاده المدهشة. لأبارحها متوجهاً صوب عاصمتنا أحط رحلي في البدء في عاصمتنا الوطنية. لأحدق في تجربة معمارية متفردة سطعت في ثلاثينيات القرن الماضي.  ثم أعبر بعدها جسر النيل الأبيض متوجهاً صوب عاصمتنا الخرطوم متفحصاً عمارتها عبر عقود متلاحقة في ذلك القرن. لأتجاوزها زمانياً مستطلعاً تطوراتها المعمارية الزاخرة بالمفاجأت في عشريات الألفية الأولي. تطوافنا الزماني في رحاب حواضرنا لن يجعلني أغفل أو أتجاهل منظومات معمارية تقليدية متنوعة السمات. منتشرة في بوادينا و صحارينا و ضفاف أنهرنا. التي لن يقلل من شأنها بساطة مواد تشييدها و تواضع إهابها المعماري إذ أنها محتشدة بالقيم السامية و المعاني النبيلة. التي تعلي من قيمتها تجعلها منافسة لرصيفاتها الحضرية. تجعلها بتلقائيتها العفوية الأجدر بتأملها لأنها تجسد الكثير من المفاهيم التي أشرنا لها من قبل. أعتقد أن التنوع في النماذج التي أخترتها من مجمل عمارتنا سيساهم كثيراً في كشف النقاب عن أطروحاتي. سيشكل إضاءات ممتازة تساعد في تفهم رؤي و مفاهيم هايدغر و نوربيرغ- -شولز الفلسفية. أنني واثق من أن مخرجات هذا التطواف ستكشف الكثير المثير الخطر. ستبين جدوى المفاهيم التي طرحناها في استيعاب الأبعاد الإنسانية التي غيبها و همشها فكر توجه الحداثة.

تهب كالعادة دائما حضارة كوش الضاربة في القدم لنجدتي كلما شرعت في سياحة في  رحاب عمارتنا عبر العصور. تقدم خدماتها السخية البازخة في إبداعات معمارية محتشدة بالمفاهيم العميقة. حالة تاريخية تنافست فيها ممالكها الثلاث كرمة و نابتا و مروي التي تداعت على ضفاف شريطنا النيلي الشمالي. مسترسلة في شموخ خلال حقبة تمددت منذ ألاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح لتتجاوز تاريخ ميلاده ببضع قرون. رصعت فيها أفق ذلك الشريط النيلي بروائع معمارية مدهشة شكلت اختراقات مشهودة لا زالت تبهر العالم. تناولت بعضها بطريقة غزلية وجدت طريقها عبر عدد من وسائط الاتصال الجماهيري. ضمنت عدد منها في موقعي الإلكتروني الوصول إليه عبر الرابط drhashimk.com. تعميماً للفائدة سأعيد نشر بعضها لتقرا مع هذه المقالة تحديداً تلك التي استعرضت حالة مجمع مملكة نابتا العبادي في جبل البركل.  ابتدرت تلك الحضارة مساهماتها بإشراقاتها الفذة في مدينة كرمة عاصمة المملكة التي حملت نفس الاسم. حضارة حبلي بالعديد من الإشراقات تحتاج منا لإعادة اكتشاف. على سبيل المثال عرفت أنها قدمت للحضارة الإنسانية أول نموذج للمسكن الحضري بعد أن بارح إنسان ذلك الزمان الكهوف. جانب يحتاج لإضاءات ستعزز من مجد بلادنا و حضارتنا. أنجازهم الأكبر كان ذلك الصرح العبادي الشامخ الذي زين أفق عاصمتهم المعروف باسم الدفوفة. ترويضهم لهذا الجبل الأشم و توظيفه بذكاء خارق لأغراض روحانية عبادية يقدم خدمة لمفهوم فضاء الوجود الذي بلوره نوريرغ-شولز. يذهب به بعيداً ليجعله يلامس عالم الطبيعة فيزداد ثراءً و عمقاً.  

كأني أري مملكة نابتا التي استلمت المشعل من مملكة كرمة قد أصابتها الغيرة من تعامل إسلافهم مع عناصر الطبيعة. فذهبوا بها أشواطاً بعيدة غير مسبوقة. لا أحسب أن حضارة ما نجحت في التعامل معها بهذا الشكل العبقري الذي يجسد مفاهيم نوربيرغ- شولز. الذي جسدته تلك المملكة في موقعها العبادي الأهم الرابض عند أعتاب جبل البركل الأشم. مشهد روحاني دراماتيكي يفوق الوصف يتمدد بين جبل فريد السمات و نهر ينساب بلا انقطاع لم تستطع جهة تحديد تاريخ مولده. لتوثق لموقع فائق القدسية كان لهم اعتقاد جازم بأنه مكان مهبط إلههم الأعظم أمون ألي الأرض. تعزيزاً لعظمة المكان جعلوا معبده يتمدد بسخاء كهمزة وصل بين قطبي الطبيعة هناك النهر و الجبل. في علاقة حميمة محتشدة بالمشاعر الروحانية. إذ تغتسل مقدمة مكوناته الخارجية بمياه النهر لتتواصل عبر الداخلية في عمق المعبد تكاد تجلس في حجر الجبل الأشم. منظومة معمارية متكاملة تتداعي مكوناتها الخارجية و الداخلية تستلم الحجيج من حافة النهر لتسلمهم إلي أصغر مكون المزار في جوف المبني. حالة عناق حار احتضان حميم يوثق له تتداعي له كافة مستويات فضاء الوجود. من مستوياتها الجغرافية الإقليمية الكبيرة إلي أصغرها في عمق المبني داخل حجرة المزار. في لعبة بارعة ذكية تستثمر في تضييق المكان تحجيمه و خفض درجات الإضاءة كسلاح مضاء للملمة حشد المشاعر الروحانية. مشهد مذهل كأني به قد تم بإيحاء و رعاية من أهم آلهتهم (الميثولوجيين) تكريماً لإلههم الأعظم. ليقدم هنا بيان بالعمل لمفاهيم نوريرغ –شولز التي لخصها في مصطلح فضاء الوجود.

خاتمة حضارة كوش كانت مسك و عنبر فواح سطعت في موطن مملكة مروي الثالثة و الأخيرة في سلسلة ممالكها. التي اختارت موقعها على ضفاف النهر في منطقة قرب الأجزاء الوسطي من بلادنا. اختيار يجب النظر إليه بعمق من منطلق فضاء الوجود على المستوي الجغرافي الكبير. لدي أحساس من منطلق (ميثولوجيي) أن قد تم بإيحاء من إلهه الطموح و الرغبة العارمة في التميز و التفرد و التحضر. تأثير استنتجته من عدد من المعطيات. من أهمها تميز تلك المنطقة الشاطئية زمانئذٍ بغطاء نباتي كثيف. مهد لهم السبيل لتحقيق نهضة حضارية و صناعية معدنية أوصلتهم إلى أعتاب العصر البرونزي. ارتقي بمملكتهم إلي أفاق راقية في ذلك الزمان الضارب في القدم. ثمة جانب إضافي لا يمكن تجاوزه له علاقة باختيار موقع موطنهم الجديد. الذي أحسب أنه تم أيضاً بإيعاز من إلهه التفاعل مع العالم الخارجي. إذ كان له مردود حضاري إيجابي ملموس من خلال في التواصل مع مراكز حضارية خارجية بعيدة عبر البحر الأحمر. مع حضارات قديمة سامقة مثل الرومانية في تلك البلاد البعيدة. تأثير ترك بصمته في عمارتهم العبادية، درة معمارية مبني صغير مكتمل الأناقة عرف باسم الكشك الروماني.

روعة عمارة مملكة مروي تحديداً تلك التي سطعت تزين مجمعاتهم العبادية تذهب بي إلى تفاسير (ميثولوجيه) محددة. أحس فيها بالتأثير القوي لآلهة التـأصيل محمول على أشرعة الابتكار و التجديد. التي نأت بعمارتهم الي حد بعيد من تأثير تراث حضارة الفراعنة و إرث مملك كوش السابقة. تفسير تشير إليه عدة شواهد معمارية واضحة دامغة. من أهمها المدافن تلك الأهرامات الصغيرة التي تدل مكوناتها و ملامحها عن مظاهر تمرد على الأنماط المتبعة. من أهمها استيعاب حجرات المبني في باطن الأرض ليس داخل جسم الهرم كما كان متبع من قبل. خطوة مهمة جعلت أهراماتهم صغيرة نسبيا أكثر أناقة تتمتع برشاقة مترفة. عزز من شموخها درجة ميلانها الحادة التي تبلغ 70 درجة. بالمقارنة بأهرامات الحقب السابقة التي كانت في حدود أل 45 درجة. واصل أهل تلك المملكة تمردهم في العمارة العبادية التي تتميز بقدسية عالية. لدي أحساس هنا بأن إله الطموح و التأصيل قد حرض مصمم معبد إلههم الجديد أباداماك فمضي في نزعته التجديدية لأبعد مدي. الذي جاء تصميمه مختلفاً تماماً عن عمارة المعابد المعهودة، بوابة ضخمة يتضاءل خلفها مبني المعبد الصغير. القفزة الكبرى في المباني العبادية في حالة بالغة الفرادة أشرت إليها من قبل تجلت في الكشك الروماني. الذي يحمل بصمة الحضارة الرومانية التي تفصلها عنهم بلادهم قارات و بحار. شواهد معمارية عديدة تدل على رغبتهم العارمة الواضحة في الظهور ككيان قائم بذاته. معززاً توجهات أخري مثل لغتهم الجديدة و إلههم الذي اصطف مع منظومة ألهتم الأخرى. خطوات مقدرة يبدو أنها جاءت بإيعاز من إله التأصيل (الميثولوجي).

الترحال في ربوع بلادنا سينقلنا عبر الزمان و المكان لموقع أخر محتشد بعمارة تضج بالمعاني في إطار كبير لا يقل إثارة. من ضفاف النهر قرب الأجزاء الوسطي منها لساحل البحر الأحمر في شرقها الحبيب. لينقلنا لميناء صغير مضجع في طرف خليج داخلي.  كان منذ عصور ضاربة في القدم محط الأنظار مركز اهتمام حضارات متعاقبة جابت تلك المنطقة من قارتنا. تصاعدت وتيرتها خلال القرون الماضية فازدهرت تجارتها مع أنحاء بعيدة من العالم. الذي انعكس على تركيبة سكانها الذين جمعوا أشتات من البشر و الأجناس كان دائماً للعنصر العربي و الإسلامي الغلبة. مما منحها الكثير من سمات المدن الإسلامية التي تنزلت على كافة مستوياتها. من أكبرها التخطيط العام مروراً بالعمارة حتى أصغر أدق تفاصيلها. مشهد تأملته بمنظور (ميثولوجي) اهتديت به من قبل فتخيلت آلهة ترفرف فوقه وضعت على أرجاءه ملامح من تراث المدن الإسلامية القديمة. التي كان السوق دائماً قلبها النابض الذي يتجاوز دوره التجاري الاقتصادي ليصبح مركزها المجتمعي الثقافي. بصمة و نفس الألة (الميثولوجي) تتجلي بوضوح في تخطيطها العام تلقائي السمات. فشوارعها بالرغم من عدم انتظامها كانت تشع من مركزها التجاري السوق قلبها المصطخب حركة و حيوية. التي كانت واضحة أيضاً في نسق تلك الشوارع المتعرجة الضيقة و هي تنسرب داخل الأحياء. تنشر ظلالها السخية مهيأةً بؤراً لتجمعات الرجال خارج البيوت معززة خصوصية النساء داخلها. بذلك كانت روح تلك الآلهة ترفرف فوق سماء المدينة ناشرة قيم الإسلام السمحة.

أتأمل في عمارة سواكن فأكاد أري منظومة الآلهة (الميثولوجيين) مرفرفة في أرجاءها لتمنحها تميزاً لافتاً. واضعين بصمتهم في تفاصيلها التي تشكل الشرفات، البلكونات، المعلقة في واجهات بيوتها أروع سماتها. أتفحص تفاصيلها المدهشة فتتداعي إلى ذهني أفكار هايدغر و نوربيرغ- شولز التي أشرت إليها من قبل. أتأملها برؤية (ميثولوجيه) فتغمرني خواطر شتي. لكأنها أنتجت برعاية عدة آلهة كل منهم مختص بجانب محدد. أحدهم معني بالقيم الدينية مهتم بتأمين خصوصية النساء. الثاني هدفه الأساسي ترويض مناخهم المتطرف الذي تصل فيه درجة الحرارة و الرطوبة لأعلي درجاتها. يبدو لي هنا كأن هذين الإلهين قد تضامنا نسقا جهودهما مع إلهه ثالث مهتم بالجانب الجمالي لتكتمل الصورة البهية. ليقدما في النهاية في تلك الشرفات عمل في غاية في الإبداع مكتمل الأركان. كلمة السر فيه المشربيات التي تسربل تلك الشرفات تلفها في حنو بالغ كأنها غلالة شفافة. منسوجة من أطوال خشبية رفيعة متقاطعة متباعدة نوعا ما.  تلتقي مع بعضها البعض لترسم بينها فراغات ذات أشكال هندسية بديعة تمنحها زخم جمالي مترف. تغطي الشرفة لتخدم عدة أغراض بالغة الأهمية. تصد أشعة الشمس تمنعها من التسلل لكنها تستقبل بحفاوة النسمات الشاردة التي تلطف الأجواء داخلها. من أهم ميزات نلك المشربيات أنها تحمي خصوصية النساء بدون أن تحرمهم من إطلالة على الشوارع المصطخبة حيوية. لا تكتفي الشرفات بتلك الأدوار الأساسية. إذ تساهم مشربياتها الموزعة في واجهة البيوت في تكحيل واجهاتها الموشحة باللون الأبيض. لتتألق الشرفات مقرة بأفضال حراسها الآلهة الذين يستمدون سر إبداعهم من عظمة الخالق العظيم.

شهدت عمارتنا الحضرية في ثلاثينيات القرن الماضي نقلة مهمة وثقت لشراكة ذكية بين ما أسميناهم بالآلهة (الميثولوجيين). جسدتها بيوت في بعض أحياء مدينة أمدرمان العريقة.  دور موظفين كانوا يعملون جنباً لجنب في الدواوين الحكومية مع منسوبي دولتي الاحتلال من البريطانيين. شريحة مجتمعية كان يشار إليها من واقع عملهم هناك بالأفندية. لهذا السبب أسميت نمط منازلهم متفردة العمارة ببيوت الأفندية. التي تميزت بمكونات و سمات معمارية غير مسبوقة في المدينة حقيتئذٍ. تشابه إلى حد بعيد بيوت هؤلاء المنسوبين فيما كان يعرف بحي الخرطوم شرق. ميزت دور الأفندية نفسها عن بيوت أمدرمان التقليدية بعدد من المكونات الأساسية. إذ كان بالضرورة يتصدرها رواق (برندة). متوج بعرش مائل من بلاطات القرميد (المارسيليا) محمول على أعمدة كلاسيكية غربية الطراز بالغة الرشاقة مفرطة الجمال. التي كانت فاسماً مشتركاً في كل البيوت. كان الرواق كان يفضي لأهم مكون في المنزل هو الديوان الذي صار اسمه الصالون. تجاوره مساحة صغيرة امتداد له هي غرفة الطعام أو السفرة. تجاوز التحور في عمارة البيت تلك المسميات لما هو أعمق إذ تجلي في نمط حياة عصرية حداثية السمات. نقلة كان أهم مظاهرها أطقم أثاث حديثة حلت محل الفرشات الأرضية التي كانت شائعة. ظاهرة عكستها أغنية شعبية تصف تتغزل في ملامح بيتهم ورد في وأحد من مقاطعها بأن (ديوانوا النظاموا) كراسي.

مظاهر الحداثة في حياة هؤلاء الأفندية تجاوزت حدود عمارة بيوتهم و مكوناتها لتظهر في أزيائهم و هندامهم. الذي كانوا يلتزمون به وفق ضوابط عمل رؤساءهم البريطانيين. اللافت للنظر تفوقهم عليهم أحيناً إذ كانوا يظهرون دائماً في أبهي صورة. سترات (بِدل) الثلاث قطع three piece suits و ربطات العنق (الكرافتات) الراقية أحينا أنواعها المعروفة بأل (بوبيون). بعضهم يعتمر القبعة (الكسكتة) يكمل مظهره الحداثي بالغليون (الكدوس). منظر يعطيك انطباع بأن الآلهة (الميثولوجيين) المختصين بهذه التفاصيل قد جرفوهم بعيداً عن أجواء بلادهم ليصبحوا مرتهنين لطابع حياة المحتل. لكن يبدو لحسن الحظ أن تأثير إله الوطنية (الميثولوجي) كان أقوي تأثيرا ضخ في عروقهم حب الوطن و الولاء له. فسخر كل ما تميزت به تلك النخب من أنبل الخصال لخدمة قضاياه. التي كانت تسعي للاستقلال بعد ذلك الارتقاء به لتضعه في مصاف أرقي الأمم. نضال استضافته وثقت له صالونات و رواقات و مصاطب و حدائق بيوت الأفندية. حراك وطني مصطخبً أرخت له ثلاثينيات و أربعينيات القرن. كان في بدايته أدبي فكري تجنباً للصدام المباشر مع المحتل المستبد. ليتحول لاحقاً لمواجهات سياسية نضالية أدت للاستقلال في منتصف الخمسينيات. منعطف تاريخي مهم مؤثر رعاه ثنائي من الآلهة (الميثيلويجية). الأول معني بالشأن الحضاري الحداثي و الثاني مهموم بحال الوطن و رفعة شأنه. استثمروا معاً في توافق تام في أناقة الأفندية و عمارة بيوتتهم. مهيأين الأجواء لهؤلاء الشبان الأماجد الذين تجاوبوا معهم عملوا بجد لبناء أعظم وطن حقبتئذٍ.

تبقي عمارة المسكن دائماً هي خير (ترمومتر) لقياس تتبع الظواهر التي تعنينا هنا باعتبارها الأقرب لمشاعر و أحاسيس الناس. لهذا السبب سنواصل تطوافنا لتتبع أثارها في رحلتنا الاستكشافية التي لن تبرح فيها رحاب عاصمتنا المثلثة. ليحط رحلنا عبر مدي زماني مكاني ليس ببعيد عن حالة تجربة بيوت الأفندية. لنستكشف وقائع حالة حي الخرطوم واحد متتبعين تجربتها التي أرخت لها أربعينيات و خمسينيات القرن الماضي. الذي كانت قد خصصته سلطات الاحتلال كأول تجربة من نوعها لمجموعة من أوائل المهنيين خريجي الجامعات صفوة المجتمع حقبتئذٍ. تميزوا عن حالة الأفندية الذين تفرقوا في عدة أحياء متباعدة. بأنهم كانوا كلهم مجمعين في حي واحد مشكلين معاً مجموعة متجانسة فكرياً و ثقافيا و مجتمعياً. تلك العوامل مجتمعة هيأت لها الظروف لتشكل نقلة نوعية متعددة الأبعاد من أهمها المعماري و التخطيطي الكبير بكافة أبعاده. في حي أستوعب مجموعة كانت بحكم خلفيتها و تركيبتها حقبتئذٍ متأثرة بالتجربة المصرية التي سبقتنا بنيل استقلالها. الذي ترك بصمته البائنة على عدة جوانب من حياتهم منها طراز عمارة بيوتهم الذي تسيدها طابع الفيلا. بالإضافة لعدة ظواهر أخري ذات صلة بها تحتاج منها لوقفة تأمل شبيه بتلك التي تعاملنا فيها مع حالة بيوت الأفندية. نحاول فيها على سبيل المثال التعرف على نوعية الآلهة (الميثولوجيين) الذين يبدو أنهم كانوا مسيطرين على المشهد.

عدة شواهد تشير لأن عمارة و إطار حي الخرطوم واحد العام كان إلى حد بعيد تحت قبضة إلهه الرومانسية (الميثولوجي). رومانسية استجارت بالإرث الكلاسيكي مغترفة من عدد من مظانه و ينابيعه الثرة. وضعت بصمتها في حالة استثنائية على التخطيط العام للحي و نظام شوارعه. التي لم تتبع النسق المتقاطع المتعامد كما هو الحال منذ ذلك الزمان. إذ انداحت في شكل منحنيات انسابت في رقة و عذوبة في أنحاء الحي ناشرة أجواء من الرومانسية تنزلت على كل مستويات العمارة. متناسقة متسقة مع تصاميم البيوت بأركانها الربع دائرية و نوافذها البيضاوية. تتوج هاماتها تطرزها مساحات بلاط المارسيليا تربت عليها بلطف تغمرها بشاعرية ملموسة. تتناغم معها في أنحاء العمارة وحدات أعمال الحديد (القريلات) تطرزها تمنحها عذوبة و رقة. دفق رومانسي لم ينشأ من فراغ لكنه نابع من روح النخب من أهل تلك الديار الذين كانوا في قبضة ذلك الإله (الميثولوجي). مجتمع كان يعيش في حالة فريدة ترفرف فوقها نفحات الفكر الرفيع و الشعر و الأدب محمولة علي أكف أرق الأحاسيس. وثقت لها حالة في ركن الحي كان يفصل فيها بين فيلا القانوني و السياسي الأريب محمد أحمد المحجوب و النطاسي البارع الدكتور عبد الحليم محمد شارع. فتشاء الأقدار ليجمع بينها سفر من أهم إصدارات عصرهم. أتأمل في سمات ذلك الحي المتميزة فتبدو لي حسب رؤيتي حصيلة شراكة ذكية بين ألهين (ميثولوجيين). جمعت في تضامن و توافق إله الرومانسية مع إلهة الوطنية. لتتنزل بركاتهم على سكانه الأماجد فيقودوا الوطن بجدارة في مرحلة مفصلية في بداية الخمسينيات نحو الاستقلال. ليرسموا ملامح أزهي حقبة في تاريخنا الحديث.

شهدت بداية الستينيات رياح تغيير عاتية هبت على ساحة عمارتنا ارتفعت معها أسهم نهج الحداثة إلي أعلي درجاتها. تسيد فيها الموقف إلهها (الميثولوجي) الذي حمل رايته عملائه الأساتذة البريطانيون الذين أسسوا أول قسم للعمارة بجامعة الخرطوم. مغادرتهم للبلاد لاحقاً لم تغير كثيراً في الموقف لأنهم سلموا الراية لطلابهم النجباء الذين صاروا أساتذة فحملوها بوفاء و إخلاص. ليتسيد ذلك التوجه الموقف يستفرد بالساحة المعمارية في حالة امتدت لأكثر من أربعة عقود من الزمان. تعرض فيها إله التأصيل (الميثولوجي) للإقصاء أمام أمواج الحداثة العاتية. أنقذها منه لاحقاً تراجع ذلك التيار الذي ابتداء الزمن يتجاوزه مع بزوغ شمس الألفية الثالثة. حالة احتقان حادة لم يستطع تجاوزها التحايل عليها إلا عدد محدود من أميز المعماريين. من خلال معادلة صعبة أرضوا فيها من خلال أعمالهم المتميزة كلا الإلهين (الميثولوجيين)، إلهة التحديث و غريمه إله التأصيل. إنجاز لم يوفق فيه إلا العباقرة من المعماريين واحد منهم من أعتبره العراب السوداني لعمارة الحداثة السودانية. أستاذنا أستاذ الأجيال عبد المنعم مصطفي. الذي حصنته خلفيته الأمدرمانية. في إشارة لتلك المدينة السودانية العريقة، التي حقنته بمصل التأصيل. بالرغم من أنه عاد في نهاية الخمسينيات بعد دراسة العمارة هناك مشبع تماماً بفكر الحداثة وموجهاتها المعمارية. لكنه كما أسميها استفاد من حالة ازدواج شخصية حميدة نادرة فريدة. جعلته يتعامل مع نهج الحداثة بشكل متوازن طريقة بالغة الذكاء و الدهاء لينتج أعمالاً متفردة. تمكن فيها من إرضاء ألهي الحداثة و التأصيل (الميثولوجيين) في عملين شكلا اختراقاً جديراً بالتأمل و الدراسة.

تجلت عبقرية عبد المنعم المشار إليها هنا في عملين شهدتهم الساحة المعمارية في بداية السبعينيات. أولهم مجمع الوجيه رجل الأعمال المرموق الشيخ إبراهيم طلب. شخصية تقليدية عصامية واحد من أثرياء العاصمة الجدد الذين جذبتهم العاصمة بعد نجاحات كبيرة في أقاليم السودان. استقر به المقام مع أسرته الممتدة في موقع متراميي الأطراف في حي الميرغنية بمدينة الخرطوم بحري. في نهج اتبعه زملائه من تلك الشريحة ظفر بخدمات أستاذنا عبد المنعم الذي صمم له مجمع سكني هناك. فلم يخيب ظنه قدم عملاً بالغ التميز أرضي فيه في أن معاً إلهي الحداثة و التأصيل (الميثولوجيين). توزعت مكونات المجمع في ثلاثة مباني أو أبراج شامخة تتصدرها بناية أصغر منها اقل ارتفاعاً. عمارة تضج حداثة من حيث المظهر تجلي فيها أستانا باعتباره عرابها الأوحد الأهم. لكن المتأمل بعمق في هذا المشروع السكني يكتشف فيه معاني عميقة لم تعصف بقيم هذه الأسرة الجعلية الوافدة للعاصمة بعد رحلة كفاح طويلة في شرق بلادنا. فخارطة المجمع أنموذج مضخم مكبر لبيتهم في الشمالية الذي تتوزع مكوناته في حوش فسيح. فالأبراج الأربعة يتقدمها واحد للشيخ و أسرته يقع خلفه من ناحية الغرب برج مخصص لنساء البيت. ينافس البرجين برج ثالث في الركن الجنوبي الشرقي مخصص لأخ الشيخ و أسرته استجابة لوشائج الأخوة. يتصدر المشهد في الركن الشمالي الشرقي للموقع مبني صغير من طابقين. هو نسخة مكبرة حديثة لديوان بيوتهم التقليدية مبذول للوافدين من الأهل والضيوف. بذلك نجح عبد المنعم من خلال تصميمه العبقري لمجمع الشيخ السكني في إرضاء إلهي الحداثة و التأصيل معاً.

ثمة نموذج أخر من أعمال عبد المنعم خلال نفس تلك الحقبة نجح فيه في تقديم عمل متوازن وفق فيه في إرضاء إلهي الحداثة و التأصيل (الميثولوجيين). مختلف بعض الشي في نوعه عن مجمع أبراهيم طلب السكني إن جاء كليهما في إطار العمارة السكنية. وجه الاختلاف الأساسي ليس فقط في نوعية المبني السكني لكن أيضاً في صاحبه. الحالة هذه المرة هي فيلا صديق عمره المفكر الدبلوماسي السياسي المحنك الدكتور منصور خالد. الذي كان بكل المقاييس جوهرا و مظهرا رمز للحداثة و عنوانها. مقدمة تجعل المرء يحتار يتساءل أين موضع الأصالة هنا في هذا الإطار. إذ نحن أمام حالة معماري مصمم و صاحب فيلا يقفان معاً في نفس الجانب. يمثلان أثنين من أميز رموز الحداثة إن اختلف مجال عملهما. نزيد فنوضح أنهما متفقان معاً أيضاً في خلفيتهما الأمدرمانية إذ ولدا معاً نشاء في تلك المدينة العريقة. فيها و منها تشبعوا بما يعرف بالسوداناوية وصف يطلق على كل من وصل عشقه لوطنه لأعلي الدرجات. من هذا المنطلق من واقع تلك الأحاسيس المشتركة اجتهد عبد المنعم في تصميم فيلا منصور. ليزدان بها الجزء الجنوبي من مركزها التجاري في حي الخرطوم وسط. يطول وصف روعة عمارتها مما يجعل من الصعوبة استيعابه هنا. مما دعاني للتغزل في معانيها السامية في مقالة سأعيد نشرها في موضع أخر. أكتفي ألخص قيمتها العالية في إن تصميمها أتاح لمنصور أن يعيش في عالمه الفكري السامق بدون أن يفقد تواصله مع أصحابه و أحبابه. بدون أن ينتقص ذلك من إحساسه بالشارع و الحياة من حوله. عمارة وفق فيها في الاستجابة بتوازن لوحي و إلهام إلهين (ميثولوجيين)، إله الحداثة و إله التأصيل.

حملت بدايات الألفية الثالثة أخبار غير سارة لتوجه الحداثة المعماري الذي بدأت إرهاصاته تتري في مجال عمارتنا. تحولات جزرية طالت بعض الاله (الميثولوجيين) الذي أصابهم اضطراب زعزع وضعهم. أهم بوادرها ظاهرة شهدها العالم الغربي في سبعينيات القرن الماضي استهدفت إله الحداثة الذي انتاشته السهام من كل جانب. حملة كان ملهمها إلهة (ميثولوجي) جديد ظهر ممتطى صهوة توجه يشار إليه بما -بعد -الحداثة. في ظاهرة جديدة في عالم هؤلاء الاله كانت له عدة أذرع. كانوا بمثابة ألهه مساعدين يعملون بهمة تحت مظلته مهتدين بمفاهيمه العامة. كل واحد منهم شق طريقه في ذلك الإطار منيراً الدرب لمن اهتدوا بنوره يعملون كلهم تحت مظلة مفاهيم إلههم الأكبر. ظاهرة جديدة نشأت في الغرب الأوربي لتتمدد تنتشر بعد ذلك في كافة أنحاء العالم. كان التفاعل معها عندنا في البداية بطيئاً متعثراً. شأنه شأن كل الظواهر الجديدة تجاوبت تفاعلت معه شريحة الشباب من المعماريين الأماجد. وجدت عندهم القبول لإحساسهم بضيق أفق رؤي إله الحداثة. فاجتذبتهم براحات الإله ا(الميثولوجي) الجديد بمساراته المتعددة المتنوعة. التي وجدوا فيها مجالاً رحباً لطرح رؤاهم الجديدة التي بدت لهم أنسب للتعامل مع مستجدات عصرهم. فلنلقي نظرة على جوانب هذا الواقع الجديد متعرفين على إسقاطاته المعمارية المتعددة. التي اهتدت برؤى الاله (الميثولوجيين) المساعدين مستنيرين بفكر إلههم الأكبر.

من أهم مكاسبنا من هذه التحولات التي تبدو طرازيه فكرية عميقة أنها عادت بعمارتنا إلى حياض الوطن. بعد فترة اختطاف طويلة تمددت منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي لا زلنا نعاني منها. ظلت فيه عمارتنا رهن اسأر مفاهيم غربية المنشأ أثبتت العديد من الشواهد عدم جدواها. أو على الأقل عدم مواكبتها لواقعنا المعاش. حقيقة دامغة أحس بها من أسس لها في العالم الغربي بدوا في مراجعة موقفهم منها بجدية منذ سبعينيات ذلك القرن. المستغرب المحزن أن جل معمارينا بما فيهم الأساتذة في هذا المجال لا زالوا مستعصمين بها. جاءنا الفرج نحن هنا هبت رياحه مع بداية الألفية الثالثة في حركة تصحيحية حمل رايتها بعض شبابنا الوثاب المستنير. عملوا بجد و اجتهاد بروح ابتكار عالية تحت راية إله (ميثولوجي) أشرت إليه من قبل. مدعم بعدد من معاونيه أله من أمثاله يعينونه في إنارة الطريق لكل من رغب في التغيير الإيجابي. تحولات فكرية (ميثولوجييه) الجذور تمكن بعض المعماريون المفكرين العباقرة الغربيون من إنزالها لأرض الواقع. نجح بعض الأماجد من شبابنا منذ مطلع الألفية في ترجمتها لأعمال شكلت إضافة مقدرة لعمارتنا. أهم ما اكتسبناه منها أنها أعادت الاعتبار لتراثنا الضارب في القدم و القديم و التقليدي. ضخت الدم في عروق العمارة السودانية بعثت فيها الروح من جديد من خلال أعمال تستحق الإشادة و التأمل.

ذهبت جهود هؤلاء المعمارين الشباب المبدعون في عدة اتجاهات إن توحدت أهدافهم. مستنيرين بهدي ذلك الإله (الميثولوجي) ومعاونوه ليحققوا اختراقات مشهودة فتحت مسارات جديدة لعمارتنا. أنقذتها من حالة اختناق أعادتها لجادة الطريق و حياض الوطن. بفضل مجهودات معماريون أماجد منهم السوداني أرمني الأصول جاك إشخانيص. بصحبة شباب أخر متطلع أمثال حيدر أحمد علي و مرتضي معاذ و صلاح رحمة و غيرهم ممن لم أستطع رصد مساهماتهم. لفتوا الأنظار نفضوا الغبار عن جوانب مشرقة من تراثنا التاريخي و التقليدي الحديث. مجتهدين على هدي رؤي عدد من مساعدي ذلك الإله ا(الميثولوجي) الأكبر. مستلهمين جوانب من تراثنا الزاخر بالروائع المدهشة الملهمة. بعضها من عصور ضاربة في القدم أخري أقل قدماً بعضها الأخر حديث لكنه تقليدي المنحى. فنفضوا الغبار عن روائع عمارة سواكن التاريخية أعادوا إليها مجدها بعد أن جار عليها الزمن أوشك أن يمحوها من الوجود. تعاملوا بنفس الهمة العالية و الحس الوطني السامي و روح ابتكار متميزة مع جزء غالي من تراثنا المعماري التقليدي. أذابته بقسوة بالغة مياه بحيرة ناصر في أرض النوبة على ضفاف النهر في شمال بلادنا. فمسحت من الوجود عمارة بيوت النوبيين واحدة من أروع مكونات تراثنا المعماري. نقب بعضاً من تلك الزمرة المبدعة من المعمارين الشباب في تراث تاريخنا الحديث فأعادوا اكتشاف طوب (السدابة) بكل نبله المشهود. الذي أسس له أجدادنا العظام في أزمنة ضاربة في القدم ليقع الغرب لاحقاً في غرامه. فالتقط هؤلاء الفتية الأماجد القفاز أعادوا إليه القه في إهاب عصري حديث. مجهودات مقدرة يبدو أنها تمت بإيحاء من عدد من آلهة (ميثولوجيين) أشرنا إليهم من قبل.

تربطني علاقة خاصة جداً مع عمارة قري النوبيين التقليدية التي ذوبتها مياه بحيرة ناصر.  من أهم مبرراتها أنها كانت مدخلي لدراسة الدكتوراه. التي عكفت فيها على دراستها بعمق و التعرف على كافة جوانبها و تفاصيلها. الأمر الذي يدعوني للاستدلال بها كما فعلت مع عدد من حالات عمارتنا. بفحصها تشريحها من خلال رؤي و مفاهيم مارتين هايدغر و نوربيرغ- شولز. لدي إحساس بأن إنتاجها في موطنهم على ضفاف النهر كان يتم بإيعاز رعاية من عدد من الألة (الميثولوجيين). كل واحد منهم معني بجانب أساسي من جوانب وجودهم في ظروف محفوفة بالتحديات. رعاية متميزة أنتجت عمارة تعاملت معهم بنجاح باهر. عكست التعاون المثمر و التنسيق العالي بين هؤلاء الآلهة. الواضح أن واحد منهم كان معني بجانب مهم جداً بالنسبة لهم هو ترويض الأرواح التي تحوم حولهم. أخر يبدو أن مهمته تعزيز الروابط الأسرية في ظروف أدت فيها طبيعة بلادهم الصحراوية لغياب بعض أفرادها. نفس تلك الظروف أدت للحوجة لالة يعتني بالشأن الاقتصادي المعقد. يضاف إليهم أخر منحهم الحس الجمالي العالي مع رغبة عارمة في وضع بصماته. يبدو أن الخالق العظيم قيض لهؤلاء الآلهة (الميثولوجيين) ليتضافروا معاً يصنعوا عمارة مكتملة الأركان. أشرت إليها في العديد من مقالاتي التي تجدونها في المصدر الذي أشرت من قبل. أتأمل بعمق في عمارة بيوتهم مستعيناً برؤى هايدغر فأري فيها مشهد رقصة الأربعة التي أشار إليها. أري فيها رقصة هؤلاء النوبيين مع منظومة آلهتهم في لحظة تجلي تلامس فيها السماء الأرض لتسطع عمارتهم في كامل ألقها.

لا يمكن أن أنهي هذا التطواف في ربوع عمارتنا بدون أن أتوقف عند حالة بالغة التميز. شغلت أفكاري في سابق الزمان لا زالت. أحسب أن عدد منكم لا يري أن لها مكان في هذا السياق. لأنها حالة معمارية متواضعة إذا قيمتموها بمواد تشييدها حسب المعايير المعتادة. مكونة عن خيام و مظلات مشيدة بأطوال من (البروش) المنسوجة بسعف النخيل محمولة علي سيقان و أغصان أشجار رفيعة. عمارة متنقلة تقليدية تلقائية الطابع. لمجموعة من أهلنا البجا الرحل الذين ظلوا يهيمون في موطنهم في شرق بلادنا منذ عصور ضاربة في القدم. لفتت انتباهي فاخترتها مع الحالات الدراسية في رسالة الدكتوراه. تعلقت بها منذ الثمانينيات لا زالت تدهشني. من أهم أسباب تعلقي المستمر بها أنه تعبر بوضوح عن مفاهيم فلسفية بالغة الأهمية. مثل فضاء وجود نوربيرغ- شولز الذي يتنزل هنا على كافة مستويات عمارتهم المرتحلة. من أكبرها هم يختارون مواقع تخييمهم إلى مستوي توزيع الخيام في كل واحد منها. نزولاً لمستوي الخيمة نفسها و نوعية و توزيع الأثاث داخلها. أعتز بأنني تجاوزت رؤيته لأتفحص بعناية تفاصيل أزيائهم. التي تعاملت معها باعتبارها من أصغر مستويات فضاء وجودهم. مشهد بانورامي متكامل الأركان يتجلى فيه فضاء وجود هذه المجموعة القبلية. أراه هنا يجسد مشهد ترفرف فوقه تهيمن عليه مجموعة من الآلهة (الميثولوجيين). واحد منهم معني بالحفاظ على نسائهم و أخر مختص بغرس روح الشجاعة في أطفالهم و صبيانهم و ثالث مكلف ببث روح الكرم و الشهامة. يرفرفون يفرضون سيطرتهم على كافة جوانب حياتهم بما فيها مخيماتهم المرتحلة. صورة مدهشة تغزلت فيها في العديد من المقالات ضمنتها مع مواد موقعي الإليكتروني الذي أشرت إليه من قبل.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان- نوفمبر 2021

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.