عمارة الشباب: جرأة وتنوع ومستقبل واعد
لدى اهتمام خاص بعمارة الشباب. مبعثه الأساسي هو أننى أرى فيهم مستقبل السودان ونحن نعيش زمان الإحباط. حالة متصاعدة من التوهان أوصلت المشهد المعماري لحالة لا تسر عدو أو صديق. اختفي أو كاد أن يختفي الرموز، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وبعضهم أصابه الإحباط وهو يحاول التواجد في الساحة. تسيدت الموقف جهة كونها النظام كبديل لوزارة الأشغال نصب على رأسها ممن يمكن أن نصفهم بالنكرات. من أبرز سوءاتهم أنهم استهدفوا تراث العاصمة المعماري الرائع ففعلوا فيه ما فعل الثور في مستودع الخزف. هذا ملف كبير يحتاج لوقفة متأنية تتعامل معه بجسارة في المستقبل القريب نسبة لأثاره المدمرة المستمرة.
منذ بداية الألفية الثالثة وبالرغم من الأجواء المحفوفة باليأس والإحباط ظل بعض الزملاء يبدعون هنا وهناك في حالات جلها فردى. برزت في هذا الإطار أو خارجه وجوه شابة حاولت أن تقدم الجديد. اهتممت بشكل خاص بهذه الظاهرة وحاولت رصد العديد من إنجازاتها. أشرت لها وأشدت بها ودرجت على التنويه بكسبهم المميز كل ما سنحت لي الفرص في الوسائط الإعلامية. أذكر من تلك الوجوه النيرة التي جملت صورة العمارة على سبيل المثال لا الحصر مرتضى معاذ ومحمد المصباح وصلاح رحمة. تراوحت تواريخ ميلادهم من نهاية الستينات إلى منتصف السبعينات.
انتبهت لهم منذ بداية الألفية الثالثة. بهرني في البدء صلاح رحمة وقد كان أوان اذ خريج جديد لم يكمل العقد الأول بعد تخرجه. لفت انتباهي بتفوقه في عدة مسابقات خاضها مع مكتب الإتقان الاستشاري. انتزع المركز الأول متقدماً على مكاتب يديرها بعض الأساتذة وعدد ممن من سبقوه في المهنة بعدة سنوات. اطلعت على تلك الأعمال فلمست فيها رصانة في الأفكار ودفق إبداعي واضح. فكرست لتك التجربة صفحة كاملة في أحد الصحف اليومية سنة 2008 ضمنتها إشادات عديدة مؤسسة على رؤية علمية. تابعت بعد ذلك مسيرته وإنجازاته المهمة الكبيرة واحدة منها مقر رئاسة الهيئة القومية للمواصفات قرب الطرف الشرقي لشارع الجامعة.
تجولت مع صلاح رحمة في مبنى هيئة المواصفات فتعرفت على ملامحه المميزة وأفكاره الجديدة. على سبيل المثال رفع المبنى بكامله بمقدار طابق عن شارع الجامعة المجاور المصطخب بالحركة فخلق ميدان بلازا أمامه. منتهى الحكمة والفطنة. من ملامح التصميم المميزة أنه جعل واجهته وهي صالة كبيرة للمؤتمرات في أحد الطوابق العليا مكشوفة وواضحة من بعيد. قصد أن يكشف النشاط الكثيف الذي يدور داخلها وهو أسلوب ذكي للترويج للصالة المتاحة للإيجار. من أهم سمات هذا العمل التعامل البارع مع العمارة المغلفة بألواح المعدن التي بدت في كامل حسنها. اعتدنا أن نراها في اشكال باردة تفتقد إلى اللمسات الجمالية.
محمد المصباح واحد من زمرة الشباب الذين لفتوا انتباهي منذ وقت مبكر عندما درسته بقسم العمارة بجامعة الخرطوم في الثمانينات. نزعته الإبداعية أوان إذ جعلتني أتنبأ له بمستقبل باهر يساهم في صناعة عمارة سودانية متميزة. لم يخيب ظني إذ فأجنى بعد بضع سنوات من تخرجه بعمل أمسك بتلابيب فضولي وأنا أتجول في شوارع أمدرمان. فجرها المصباح مدوية وهو يؤسس للعمارة التفكيكية في مبنى صغير في الطرف الشمالي الشرقي من حي العمدة الأمدرماني. أشرت لهذا الحالة بشئي من التفصيل في واحد من مقالاتي السابقة. قدم العديد من الأعمال الأخرى الجديرة بالإنتباهة التي أرى لزاماً على أن أكرس وقتاً لدراستها.
مرتضى معاذ هو أيضاً واحد من الوجوه الشابة النضرة التي اكتشفتها في بدايات هذا القرن. ساهمت كثيراً في إضاءة صورة العمارة السودانية وفتحت لها أبواب الأمل في التقدم بثبات وارتياد أفاق جديدة مشرفة. لفت نظري في البدء بواحد من المشاريع الصغيرة التي تحتل موقعاً مفتاحياً في الخرطوم. مبنى المركز الفني للنفط التابع لمؤسسة سودابت للبترول وهو مخصص لتدريب العاملين في هذا مجال. المبنى مشيد في موقع صغير مطل على شارع أفريقيا قبالة مطار الخرطوم. تجاوز في تصميمه ما هو معهود ومطروق لما هو جديد يرتاد أفاق طموحة تسمو بالعمارة إلى أعلى درجاتها. هذا هو لعمرى غاية ما نطمح إليه نحن جل المعماريين.
أول ما لفت نظري الشكل الجديد اللافت للانتباه وهو في حد ذاته نهج ترويجي يستحق الإشادة. لأول مرة هنا نرى شكل ربع الدائرة في خارطة مبنى مخصص للتدريب. تفاصيل أخرى في الواجهة كانت لافته للانتباه. مثل المظلة الطائرة المفتوحة في الواجهة المصممة على شكل مكونات نظام الإنشاءات الفضائية space structures. أهم ما لفت انتباهي في هذا العمل هو اعتماد مرتضى معاذ على الطوب الآلي أو طوب السكة حديد mechanical bricks كمادة تشطيبات خارجية أساسية. أنتج منها عمارة في غاية الأناقة والروعة والبريستيج. أشدت بهذه التجربة الرائدة المميزة في مقالة مدعمة بالصور في صحيفة يومية.
العبرة هنا ليست فقط في الواجهة وبعض المعماريين يراهن على هذا الجانب بدون كثير انتباه لجوهر العمارة. جوانب أخرى من عمارة المركز الفني للنفط قدمت فهماً متقدماً لهذا النوع من المباني المعنية بشكل أساسي بالتدريب. المبنى من طابقين ويتوسطه بهو يرتفع بارتفاع المبنى يلتف حوله السلم الرئيس. تتوزع المكاتب وقاعات التدريب في الطابقين حول هذا البهو فتهيئ أجواء لا تخلو من الحميمية. تبدد من روح الجدية المرتبطة بعملية التدريب. بعض الحميمية هنا مطلوب للمتدربين إذ أن جلهم يقضون جزء مقدر من عمرهم في محطات خلوية بعيدة في حقول استخراج النفط.
يعتبر المبنى الذي كان مخطط له أن يكون رئاسة شركة هجليج للبترول واحداً من أكبر أعمال مرضى معاذ. تزامن التخطيط له مع فترة شبيه بما كان يشار إليه في الخليج العربي بالطفرة. فترة تفجر وتدفق فيه النفط بسخاء في أرض السودان مما جعل الجهات العاملة في مجاله في الواجهة. كانت فرصة ذهبية للفتى الطموح حينها عندما كلف بتصميم مقر رئاسة الشركة. أقبل على العمل وهو مشحون بتجربة دراسته في الفلبين ومزهو بما اكتسبه من علم وفن. الواضح إنه بداء هذا العمل وهو عازم على التأسيس لفهم جديد مختلف لعمارة رئاسة هذا النوع من المؤسسات المؤثرة على اقتصاد البلد corporate institutions
استمد المشروع أهميته العالية من القيمة المتصاعدة لصناعة النفط في بداية الألفية ووضعية الجهات الحكومية العالمة فيها. ضاعف منها حجم المشروع وموقعه المتميز. يقع في الطرف الشمالي الغربي من حي الرياض الخرطومي وهو مطل على شارع عبيد ختم الرئيس. نصب مرتضى في ذلك الموقع برجاً وصرحاً منيفاً لا زال وبعد مرور فترة طويلة من الزمان ينافس أعمالا شبيه في المدينة. بالرغم من أن بعضها تطاول عليه في البنيان وبعضها الأخر اكتسى بأخر مخرجات مواد البناء والتشطيب. قيض الله للمشروع ميزة شكلت قيمة إضافية مقدرة. مساحة أمامه بينه وبين الشارع الرئيس صارت حديقة مفتوحة. منحته حرماً جعله يزهو بنفسه في خيلاء.
اختط مرتضى معاذ طريق مختلفاً في تصميم مبنى شركة هجليج. نئى بنفسه عن الشكل التقليدي المتبع وعبارة عن لوح slab متوجهة بجانبية الطويلين تجاه الشمال او الجنوب. شكل مكرر للغاية يفقد العمارة خاصية التميز. جاءت الواجهة الرئيسة المتوجهة ناحية الشرق والشارع الرئيس مقوسة. ممسوكة بالجانبين الشمالي والجنوبي بجزء مصمت يحتوي كل واحد منها على مكونات الخدمات والسلالم. لجاء لبعض الحيل لتقليل تأثير أشعة الشمس على الواجهة الشرقية هو يشكل مشكلة. واحد منها شكل الواجهة المقوس. يضاف إليه تدرج الطوابق، فكل واحد منها يبرز عن الذي يقع تحته فيظلله جزئياً. منحت تلك الخطوات التصميمية العمارة بصمة بائنة.
منظر مبنى رئاسة هجليج لم يكن مجرد واجهة مبهرة. فكرة التصميم الأساسية كانت نقلة مقدرة في مفهوم مثل هذه المباني بالغة الأهمية. لم تكن مطروقة في السودان أو العالم الثالث. دشنت في الولايات المتحدة قبل بضع عقود من تطبيقها هنا. مؤسسة على بهو وسطى ينهض بطول ارتفاع المبنى بطوابقه السبعة. تتوزع على جانبيه الشرقي والغربي في شكل مقوس الوحدات المكتبية. الطابق الأرضي من البهو منطقة دخول واستقبال رحبة يتصدرها مصعدان مفتوحان. يشكل البهو عنصر ربط رأسي بصري بين كل طوابق وجوانب المبنى. الإطلالة عليه من الشرفات العليا والمصاعد تملاء النفس بإحساس دراماتيكي خلاب عميق الأثر مطلوب في مثل هذا النوع من المباني.
أحوم حول المدينة أحيناً بدون هدف. فيتربص بي دائماً ذلك الشاب مرتضى معاذ فيفاجئني هنا وهناك بعمل مدهش. فعلها معي بجسارة وأنا أقود سيارتي في بداية شارع الجامعة قرب طرفه الشرقي. أمتع نفسي بمنظر عمارة مباني الجامعة ومساحات طوب السدابة المرسلة. فأجانى في ذلك السياق وخارجه إلى حد ما عمل معماري مدهش متسربل تماماً بمساحات من تلك الخامة الوقورة. تتصدره على جانبي الواجهة الماركة المسجلة لعمارة جامعة الخرطوم العريقة. عقدات- آرشات- عملاقة شاهقة من النوع المسنن pointed arches. إنه مبنى بنك فيصل فرع جامعة الخرطوم بسيط ومدهش ويوشي بالبرستيتش والأهمية بدون استفزاز للعمارة من حوله.
عمارة فرع البنك مخدومة وليست مجرد واجهة واحدة منقولة حرفياً من تراث جامعة الخرطوم (الكولونيالى). هناك تلاعب في الاحجام والنسب وتباين في الاستخدامات مع مساحات شاسعة من الزجاج تتوافق مع طبيعة المبنى. روح العمل تغازل أفكار مدرسة حديثة نشأت في الغرب الأوربي في حضن توجه مناهض لفكر ونهج الحداثة. تعتبر الكلاسيكيات مصدر إلهام مهم تستعين ببعض مكوناتها بتصرف حر سعياً لضخ روح التمييز والأهمية والبريستيج. قدم مرتضى هنا بعض أفكار جديدة في العمارة الداخلية وكنت أتوقع منه أكثر من ذلك. ظفر مكتبه بشرف تصميم هذا المبنى بعد تفوقه على عدة جهات منافسة في مسابقة معمارية.
انتشر مكتب مرتضى انتشارا كثيفاً في السنوات الماضية. تعددت وتنوعت أعماله بعضها كبير والبعض الأخر يخص جهات بالغة الأهمية. جلست إليه في جلسة مسامرة فحدثني كثيراً عن أخر أعماله. لكنني رغبت في أن أسمع من تلك الأعمال مباشرة بدون وسيط آملاً في استنكاه أسرار عمارتها. الأفيد في هذه الحالة أن تتم العملية عبر معايشة وملامسة يحس فيها المرء بنبض العمارة. الحق إنني أخاف عليه من حجم العمل الكثيف الجماعي وإيقاعه السريع الذي سيكون على حساب تعامله المباشر مع كل مشروع. إنني للأسف دقة قديمة. تجربتي الطويلة أقنعتني بأن العمل المعماري بالضرورة كما يقول الخواجاتa one man show.
اخترت هنا عدد محدود من المعماريين الشباب نسبياً رأيت فيهم وفي أعمالهم بارقة أمل لصياغة عمارة تستشرف المستقبل بجسارة إيجابية. أرجو ألا تفهم محدودية العدد بأنها مؤشر لحالة عقم عامة إذ أنها ترد إلى عدة أسباب أخرى. من أهمها عدم تفرغي بالكامل لمثل هذا المهمة مما حد من انتشاري بشكل يسمح لي بتغطية أوسع لمساحات الإبداع المعماري. استعراضي لأعمال هؤلاء الشباب قد لا يكون منصفاً ومعبراً عن إسهاماتهم القيمة. فقد جاءت التغطية إلى حد بعيد جزئية وغير معمقة بما فيه الكفاية. قد أكون ظلمتهم بتركيزي على أعمال قديمة. يرد ذلك لضعف مواكبتي في الفترة الأخيرة والذي آمل في أن أتجاوزه إذا سمحت الظروف.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- سبتمبر 2018
حياك الله استاذنا المبدع الدكتور هاشم خليفة .. هذا مقال ينضح بالجمال والتشويق للقارئ العادي فضلا عن المنخصص ويحثه علي ترداد طرفه من جديد بعين باصرة متأنية للمحيط الذي طغت عليه النفايات فازهدت العيون في التبصر .. هذه مقدرة جميلة علي التقاط الجمال من قلب القبح .. حيا الله الشباب المتميزين رحمة ومصباح ومرتضي معاذ نرجوا لهم المزيد من التقدم والاتحاف للجمهور بروائع أخري