fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

بيوت سودانية : حالة النوبيين النيليين

مقدمة

يمكن تفسيم السودانيين لعدة مجموعات بناءً على معايير محددة. واحدة منها الخصائص القبلية. كل قبيلة لها نمط حياة مميز يشكل ملامح هويتها. من أهم مكونات الهوية الثقافة المحلية. فهي محور حياة المجموعة القبلية تتحكم في كل حركات و سكنات أفرادها. وهي العنصر الأساسي الذي يجمع بينهم ويؤطر آفاق تعاملهم مع العالم من حولهم.
تتشكل ثقافة القبيلة من عدة مكونات هي في الواقع من منتجاتها. منها ما هو مادي مُصنع من خامات من نوع ما، لذا يشار إليها بمكونات الثقافة المادية. ومنها ما هو غير ذلك. نحن معنيون هنا بالنوع الأول وتندرج تحته عدة أصناف مثل الحلي والزي والأثاث. ومنها أيضاً العاديات مثل آنية تناول الطعام وقائمة الطعام نفسها أو ما يعرف بالمينيو. من أهم المنتجات أو المكونات المادية المباني والعمارة محور اهتمامنا هنا. تركيزنا عليها لا يعني تجاهلنا لباقي منظومة منتجات الثقافة المادية. سنلاحظ في إطار مجمل حياة تلك المجموعات التقليدية أن هناك علاقة تكاملية بينهما.
العلاقة بين ثقافة القبيلة وما تنتجه من مكونات لها طابع مميز. هي تماماً كعلاقة الدجاجة بالبيضة. فنأخذ مثلا هنا المباني والعمارة. فالمفترض أن الثقافة ومعطياتها مثل القيم والأعراف والمحظورات هى التى تحدد مكوناتها وشكلها وأبعادها. بذلك تؤسس وتنتج أنموذجاً معمارياً يشار إليه بأنه طابع عمارة القبيلة التقليدي. فيرث أفراد القبيلة هذا الأنموذج ويناوله كل جيل للذي يأتي من بعده. من خلال هذه العملية تناول القيم والأعراف والمفاهيم. بذلك تصبح العمارة التقليدية عنصراً أساسياً في ترسيخ وتثبيت هوية القبيلة.
سنحاول تسليط الضوء على كل ما ورد هنا من خلال استعراض مجموعة منتقاة من عمارة القبائل السودانية. وسنركز على عمارة المسكن باعتبارها الأكثر تعبيراً عن ثقافة القبيلة. فى سياق متصل مع ما كنت قد بدأته من قبل فى عدد سابق من هذه الصحيفة سنستعرض نماذج من هذه البيوت مرتبة حسب مادة بنائها الأساسية. وسنبتدر مسعانا ببيوت الطين المنتشرة فى المناطق الشمالية والوسطى من بلادنا.
أسمتيحكم عذراً أن أركز فى هذا السياق على أنموذج البيت التقليدي للنوبيين النيليين في أقصى شمال السودان. ليس لأسباب عنصرية إذ إنني لا أنتمي لهم بشكل مباشر فلست   بـ (رطاني). من الأسباب القوية أن حالتهم- التاريخ والحضارة والعمارة التفليدية شكلت ركناً أساسياً من دراستي لدرجة الدكتوراه التي أنجزتها بجامعة إدنبرا ببريطانيا وأكملتها فى نهاية الثمانينات. واختيارى لها لم يكم محض صدفة.
من أهم مبررات الاختيار حجم المعلومات كثير الوفرة عن هذه الحالة. بناء السد العالي في جنوب مصر في منتصف الستينات كان من آثاره إغراق جزء كبير من أرض النوبيين المقيمين في شمال السودان وجنوب مصر. كانت الضحية فى الجانب السوداني ثلاثا وعشرين قرية ومدينة أو ميناء وادي حلفا النهري.  وهى منطقة تحتشد بحجم ضخم وقيمة فخمة من آثار واحدة من أول وأعظم الحضارات فى تاريخ الإنسانية. لهذا السبب تداعت زمانئذ أهم الجهات البحثية والعلمية على المستوى العالمى والمحلى فى مصر والسودان لتوثيق كافة جوانب هذه الحالة وذلك الشعب العظيم.
هذا الثراء المعلوماتي الباذخ سهل من مهمتي في التعرف على تاريخ هذه القبيلة وتراثها والعديد من مكونات ثقافتهم المحلية. وبصرني بواقعهم الاقتصادي وتداعياته المجتمعية. وساهم بشكل ملموس فى استيعابى لعمارتهم التقليدية بكل أبعادها وتفاصيلها المؤثرة وأسرارها وخفاياها. ومكنني في النهاية من رؤية هذه العمارة بالغة التميز في أطرها التاريخية والتراثية والثقافية. فتبدت لي في كامل ألقها ومعانيها. وأستعير هنا تعبيرات الفيلسوف الألماني المعاصر (مارتن هايدقر): فأومضت فتجلت حقيقتها تماماً في لحظة صدق بائنة. وقَدمت في تلك اللحظة هذا الشعب النوبي العظيم للعالم أجمع.
اسمحوا لي أن أستعرض هنا جزءا من حالة تلك المجموعة النوبية في فترة تاريخية معينة لا زالت أصداؤها تتردد على ضفاف موطنهم الوادع الملتصق بشواطيء نهر النيل في أقصى شمال السودان. أقوالي وإفاداتي في هذا السياق تقوم في الكثير من جوانبها على استنتاجات شخصية. فالعمل هنا في مجمله محاولة تفسير للعديد من جوانب هذه الحالة. و يجب أن لا ينتقص هذا الأمر كثيراً من الجهد المبذول هنا. فلقد فرضته طبيعة الظواهر التي يتم التعامل معها. أي عمل يستهدف الجوانب الإنسانية- الإنسان ومجتمعه- لا يمكن الركون فيها فقط لطرائق التحليل العلمى المعروفة المتبعة لدراسة الظواهر المادية الطابع.
معاً إلى مضابط هذا اللقاء. أملي كبير في تفاعلكم الحيوي مع ما يرد فيه. مثل هذه التغذية الراجعة مردودها بالغ الأهمية في تناول الأعمال ذات الطابع التفسيري. إنني بحق في حاجة ماسة لاختبار رجاحة استنتاجاتي المضمنة هنا. لهذا أحرص دائماً على إظهار رقم هاتفي وعنوان بريدي الالكتروني على صدر هذه الصفحة.

 

النوبة .. التاريخ والإطار الطبيعي والمناخ.

عدة عوامل لعبت دوراً موثراً في منح هذه الحالة درجة عالية من التميز انعكست بشكل واضح في عمارتهم التقليدية. الجغرافيا واحد من أهم تلك العوامل. عاش النوبيون السودانيون في موطنهم التاريخي ذاك على ضفاف النهر في أقصى شمال السودان في شبه عزلة عن باقي العالم. تحيط بهم من ناحية الشرق والغرب صحراء تكاد لا تعرف لها نهاية. جزء من موطنهم الذي غمرته المياه عززت من عزلته المناطق النهرية الواقعة شماله و جنوبه. طبيعتها الصخرية تُصعب من عبور النهر وشطآنه. من المتوقع أن يكون لمثل هذا الإطار الطبيعي الموحش إسقاطاته على نفوس الناس هناك.
عوامل أخرى عمقت بلا شك من الإحساس بالوحشة. تتمدد الصحراء فتكاد تلامس ضفاف النهر الملتمع كالسيف الصقيل. فينقطع أحيناً ذلك الشريط الضيق من الأرض الخصبة المحازية له. تلك الظروف الموحشة ومناخ وطنهم الصحراوي الجاف القاسي دفعهم للاقتراب أكثر من النهر. البيوت في قراهم كانت تصطف في خط طولي محاز له ينقطع أحيناً فتصبح أشبه بحبات المسبحة المتباعدة. وهكذا عاش النوبيون في موطنهم ذاك منذ زمان سحيق كما تدلل على ذلك العديد من الشواهد.
(وليام آدامز) ذلك المؤرخ الرقم وصف النوبة بأنها بوابة العبور لقارة أفريقيا، ووسم سفره البالغ الأهمية والشامل بنفس هذا الاسم- Nubia: Coriddor to Africa. في خضم تلك الصحراء الممتدة على مدى البصر شكل ذلك الشريط الضيق على ضفاف النهر فترة طويلة من الزمان المعبر الوحيد لأرض السودان. سلكه كل من وفد إلى بلادنا غازياً أو مهاجراً. من خلال ذلك، تفاعل النوبيون هناك بحيوية بائنة مع حضارات عديدة مجيدة. بدءً بالفراعنة و مروراً  بالرومان وأثرهم المسيحي وانتهاءً بالمجوعات الإسلامية التي وفدت من مصر حاملة معها لواء الإسلام وتأثير العروبة.
الاحتكاك والتفاعل الحيوي مع تلك الحضارات كان أثره بلا شك عميقاً على أهل تلك المنطقة. المعابد والكنائس والاديرة والمساجد التى تطرز أفق النوبة ظلت هناك شواهد شاخصة على عمق التفاعل الحضاري. تلك المعطيات والتاريخ الحافل بالأحداث الجسام شكل جوهر تراث وثقافة النوبيين. وفى هذا الإطار منح عمارتهم المحلية بصمة بائنة ميزتها عن تلك الخاصية بأبناء عمومتهم في النواحي الجنوبية والوسطى الذين ساهم تفاعل العرب الكثيف معهم في محو الكثير من جوانب هويتهم النوبية بما في ذلك اللغة.
النوبيون .. الخصائص الثقافية والمجتمعية والنفسية
الوضع الاقتصادي في منطقة النوبة مدخل مهم لفهم العديد من جوانب حياتهم بما في ذلك عمارتهم التقليدية. الإطار الطبيعي والمناخ الصحراوي الجاف لعبا دوراً أساسياً في تشكيل اقتصادهم. الشريط الضيق من الأرض الخصبة دفعهم منذ زمان بعيد لتصدير الرجال والشباب للمَهاجر البعيدة لدعم وإعاشة أسرهم المقيمة في أرض النوبة. فكانوا بذلك من أوائل المجموعات السودانية التي عرفت الاغتراب.

انعكست هذه الظاهرة اقتصادية المنحى على التركيبة السكانية لقرى النوبة وعلى بيوتهم هناك. الوظائف البسيطة للمهاجرين التي لم تكن تمكنهم من اصطحاب أسرهم، وطولت أيضاً من فترات غيابهم. جزئية من نظام ثقافتهم ساعد على احتواء هذا الأمر. حسب تقاليدهم الراسخة فإن على الرجل الذي يتزوج منهم أن يقيم هو وأبناؤه مع أسرة أصهاره. سهل هذا العرف المتبع بشكل شبه مقدس من أمر إيواء ورعاية زوجات الشبان المهاجرين. إقامتهم في بيت أبويهم أمنت لهم الحضن الدافيء.
نوع المجموعة الأسرية التي كانت تقيم معاً في البيوت النوبية تصنف بأنها أسرة ممتدة. تتكون عادة من ثلاثة أجيال. هذا النظام هو إلى حد ما وليد ظروف اقتصادية أشرنا إليها من قبل. في سياق آخر نستعرض فيه تصميم وخارطة البيت التقليدي، سننوه وندلل فيه على حسن استجابته لهذا الواقع والظروف الأسرية.
أشرنا من قبل إلى إسقاطات الإطار الطبيعي والجغرافي لأرض النوبة  وطابع الانعزالية الذي يولد أحاسيس سلبية غامرة. بالإضافة إلى ذلك فإن الصحراء المحيطة بهم بوحوشها وشرورها ومهددات مجموعات البدو التي كانت تنتشر حول قراهم ضاعفت من أجواء الوحشة في نفوسهم المرهفة. وفاقم من تلك المشاعر المؤرقة تأثير غياب الآباء والأزواج المتطاول. عمارة بيوتهم التقليدية تعاملت مع هذا الواقع بكل تفاصيله بحساسية مفرطة كما سنوضح لاحقاً بشيء من الإفاضة.
أمر الأرواح الخيرة والشريرة معروف ووارد في بعض الآيات القرانية والأحاديث النبوية. درجة الاهتمام والانشغال به تتفاوت من مجموع لأخرى. الراصد لعمارة بيوت النوبيين  تاريخياً حتى زماننا هذا يجد العديد من الشواهد تدلل على أن هذا الأمر كان دائماً بالنسبة لهم هاجساً تعاملوا معه بشتى الطرق. فى إطار عمارتهم التقليدية يتجلى ذلك فى توجه بيوتهم، وفى العديد من سماتها المعمارية ومكوناتها التزينية. سنفصل ونوضح الكثير من خلال استعراضنا ملامح وتفاصيل هذه العمارة.
من أهم ما يميز النوبيين إذا قارناهم بأبناء عمومتهم وباقي القبائل العربية النيلية الأخرى هو ميلهم لزخرفة وتلوين أشيائهم وكل مايحيط بهم. ويتجلى ذلك بشكل واضح فى عمارة بيوتهم. تفسيرى لهذا الأمر هو أنه نابع إلى حد بعيد من تأثير البيئة. فالأطفال وهم صغار تتفتح أعينهم على المعابد والمبانى الأثرية المحيطة بهم المحتشدة بالرسوم والنقوش والألوان. لكن قد يكون هناك دور للموروثات- الجينات في هذا الأمر. و قد يرد لتداخل وتكامل بين تأثير الطبع والتطبع.
البعد التشكيلي يجب النظر إليه هنا بعمق لأن النوبيين قد وظفوه بذكاء وارتقوا به لأبعاد سامية. سخروه لكى يتلاءموا مع ظروفهم الضاغطة وبيئتهم الموحشة وحالة العزلة التى خلقوا وولدوا و نشؤوا فيها. وأهم من ذلك كله، أنهم استعانوا بالمكون التشكيلى واستخدموه آلية تحصين مهمة جعلت بيوتهم بالنسبة لهم مساكن بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان لأنها أدخلت السكينة في نفوسهم الشفيفة.

عمارة بيوت النوبيين التقليدية .. حلول متكاملة ومدمجة

قسم الاختصاصيون النوبيون النيليون الذين كانوا يسكنون في شمال السودان إلى ثلاث مجموعات بناءً على بعض الفوارق العرقية واللغوية وهم الكنوز والفديكا والمحس. فى استعراضى لعمارة بيوت النوبيين التقليدية سأركز هنا إلى حد ما على أنموذج مجوعة (الفديكا). يجب أن لا يفهم هذا الأمر أنه تقليل من شأن نماذج المجموعتين الأخريين. أولاً هناك تشابه كبير بين تلك النماذج الثلاثة بالرغم من بعض الفوارق المهمة. محدودية المساحة المتاحة هنا هي من أسباب التركيز على أنموذج واحد.
عظمة أي عمل معماري تقاس بمدى استجابة التصميم لمتطلبات متعددة الطابع. منها ما  هو اقتصادى الطابع او بيئي مناخي أو مجتمعي ثقافي مجتمعي أو نفسي روحي. الأعمال المعمارية التي تطالعنا في المدن قل أن تقدم نماذج متوازنة فى استجابتها لتلك المتطلبات. وقد تنجح فى التعامل مع الجانب الاقتصادى والمناخى لأن أمرهما أقل تعقيداً. لكن التحدي الفعلي هو المتعلق بالأبعاد الثقافية والمجتمعية والنفسية والروحية. إذا نجح المعمارى لحد ما فغالباً تأتي حلوله مرضيةً لشخصه أو قناعاته الشخصية. فنجد أنفسنا أمام حالة لا تخلو من النرجسية.
واحد من أهم أسرار عظمة عمارة بيوت النوبة التقليدية ظاهرة الحلول المدمجة التى تستجيب لعدد من المتطلبات الأساسية فى إطار حل واحد. فنأخذ مثالا لذلك شكل خارطته هو ما يعرف بنموذج الصحن الوسطى، عدد من الغرف تلتف حول فِناء أو حوش داخلى. من ناحية مناخية هو الحل الأمثل للمناطق الحارة الجافة مثل إقليم النوبة. يوفر بعض الظل دائماً داخل الدار ويقي أهله من (سَمُوم) الصيف وزمهرير الشتاء.

من زاوية أخرى نجد نظام الصحن الوسطي ملائما أيضاً تماماً لحالة أهل النوبة. يستجيب للعديد من احتياجاتهم المجتمعية والنفسية. هو مثالي لنوع الأسرة الممتدة التي تسكن بيوتهم. تتحلق الأسرة داخل الحوش الداخلي فتزداد الإلفة بين أفرادها. تَجمُعهم هناك يطرد الوحشة المتولدة من غياب الزوج والوالد. صحن الدار المحاط بالغرف هو بالنسبة لهم أشبه بالقلعة المحصنة. وجودهم فيه يمنحهم الإحساس بالأمان من الشرور المحدقة بهم.
بيتهم في شكله العام فعلاً أشبة بالقلعة. حوائطه العالية تكاد تخلو من النوافذ إلا من فتحات صغيرة مرتفعة. الأعمدة الطينية الشاهقة في أركان مبنى البيت تعزز من الشعور بإحساس القلعة. هذه المعالجات المعمارية حبلى بالمعاني وتخاطب المتطلبات المجتمعية والنفسية بذكاء بالغ. فشكل القلعة يعبر بقوة عن مفهوم الأسرة الممتدة كوحدة متميزة مستقلة قائمة بذاتها. من ناحية أخرى غياب النوافذ الكبيرة المطلة على الشارع يخدم أكثر من غرض. يلطف من تأثير الأجواء الخارجية اللاهبة. ويقي أهل الدار من شرور العين الحاسدة العابرة.
تعامل تصميم البيت مع الجوانب النفسية والروحانية هو الروعة بعينها. وظف فيها توجه المبنى وفتحاته الخارجية التي أشرنا لأمرها من قبل بكل فطنة وحنكة. القرى فى إقليمهم أرض النوبة بعضها يقع شرق النهر والبعض الآخر غربه. فى كل الحالات توجه البيوت وتفتح بواباتها صوب النهر. أهل القرى في ذلك الزمان وجلهم من كبار السن والنساء محدودات التعليم كان لهم اعتقاد جازم بأن الملائكة تسكن في البحر “النيل”. إذاً فمن المنطقى أن تُوجه بوابات البيوت لتسقبل تلك الأرواح الخيرة.
ثمة آلية من نوع آخر كانت توظف للتعامل مع تلك الأرواح وهى مكون الفن التشكيلى. توظيفه يكون فى شكل كتابات ورسومات ورموز وقطع وأشياء تثبت على الحوائط تحديداً بوابة الدار وحائطه الأمامى. وهو موقع مهم باعتباره خط الدفاع الأول. عناصر الزخرفة هنا مسخرة لدرء العين الحاسدة. وهى معززة بعناصر إضافية. قطع من المرايا ملصقة على الجدار وأطراف مدببة على شكل قرن غزال أو فك تمساح مثبتة فوق مدخل البوابة. هناك قناعات واتفاق على نحو ما عند شرائح محددة فى السودان وعالمياً على جدوى مثل تلك العناصر في الوقاية من شرور العين.
وتتمدد مساحة الفن التشكيلى وتنسرب داخل الدار وعلى حوائط الصحن الوسطي. تَخُط عليه أنامل فتيات الأسرة أجمل اللوحات من وحي الطبيعة. يكون لها مفعول السحر على أهل الدار. تلطف من الإحساس بالعزلة داخل هذا البيت القلعة. تنقل لهم سحر الطبيعة داخله وهم في مأمن من شرور العالم الخارجي.
يبدو أن روائع آثار الحضارات القديمة التي تطرز أفق النوبة قد عبأت نفوس أهلها بشحنة من الإحساس الفنى المترف. تفريغ هذه الشحنة فى إطار العمارة التقليدية اتسم بعبقرية بائنة. طرائق توظيف الفن التشكيلى تدلل على أن مفهومه تجاوز حد الإشباع البصري الحسي. فهو هنا يخاطب ويلامس الأحاسيس النفسية ويتمدد عند تخوم العوالم الروحية

خاتمة

النوبيون الذين استعرضنا واقع حياتهم وعمارتهم التقليدية هنا يمثلون إلى حد كبير حالة تلك المجموعة التي هجرت وأسكنت فى منطقة خشم القربة بشرق السودان في منتصف الستينات. الواقع أن العديد من الجوانب المشار إليها هنا لم تتغير كثيراً لأنها بنيت على قناعات راسخة في نفوس الناس وتشكل أساس ثقافتهم المحلية. تسليط الضوء عليها أمر فى غاية الأهمية. سيعيننا فى تقويم تجربة تهجيرهم التى تعتير هى الأكبر والأعمق تأثيراً فى تاريخ عمليات الإسكان فق السودان.
أكثر من سبب مقنع يبرر اهتمامنا بهذه التجربة. لعل من أهمها تجاهل الجهات المكلفة بأمر التهجير زمانئذ للواقع الإنساني للمهجرين المتعلق بخصوصية مجتمعاتهم. تدلل على ذلك العديد من الشواهد. من أهم الأسباب أيضاً أنه رغم تقادم الزمن يشير واقع الحال الآن إلى أن نفس تلك العقلية التي قادت عملية التهجير والإسكان فى منتصف الستيبات لا زالت إلى حد بعيد تدير الأمور وفق نفس القناعات وبنفس الأسلوب.
لهذه الأسباب مجتمعة سنخصص تغطيتنا فى المرة القادمة للنظر بعمق فى كافة جوانب هذا التجربة وأبعادها المأساوية. وسنلقى فيها  أيضاً الضوء على جوانب أخرى مهمة تركز على إسقاطات العمارة النوبية التقليدية وتحديها لعامل الزمن وتمددها الجغرافى. فى هذا الإطار سنناقش جدوى اعتماد التراث منصة انطلاق للتحليق فى آفاق الحداثة ومعالجة قضايا العصر. وسيقودنا الأمر بلا أدنى شك لفضاءات جدلية الأصالة والتجديد.

Comment 1

  1. اشكرك علي هذه المعلومات القيمة وساشارك بعض هذه المعلومات ظمن دراستي الحلية لمواد وبحوث الدكتوراة مع ذكر المراجع ,, واتمني ان تدلوني على مصادر الكتب والمقالات التي تلامس هذا الموضوع ’’
    الشكر ثانيا استاذي

    Reply

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.