fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

كمال عباس يتجلى في تصميم ضريح شيخ البرهانية

لدى اهتمام خاص بالطرق الصوفية في السودان تنامى على مدى السنين و عقود من الزمان. تركز إلى حد بعيد في الموجودة منها و نشطة في العاصمة. اهتمامي المتزايد بها لم يقدني للانضمام لأي واحد منها بالتحديد. أعتقد أن هذا الموقف ساعدني كثيراً في دراستها و التعمق في عوالمها بدون تحيز لطرف محدد على حساب الباقيات. بشكل يمكن أن ينتقص من تناولي الموضوعي لبعضها. في هذا الإطار ركزت على مجموعة منها اخترتها بعناية بناءً على معايير محددة فجاءت عن قصد متنوعة في طبيعتها. درست كل واحدة منها بشكل معمق غطى العديد من جوانبها. أعترف بأني فعلت كل ذلك على خلفية مقصدي الأساسي المعنى بالعمارة. تأملي المتأني لجوانب مهمة عنها أعانني بشكل مقدر على التعرف عليها عن قرب و استيعاب فلسفتها بشكل مرضٍ. الذي انطلقت منه فركزت على أبعاد التخطيط العمراني و سمات العمارة التي تشكل حجر الزاوية في مراكزها. مما مكنني من النظر بعمق لكافة مكوناتها و أهم تفاصيلها. أعتقد إنني وصلت في النهاية لصورة عامة مدهشة للغاية. أوحت إلى بالكثير من الأفكار عبرت عنها في عدد من مقالاتي عن هذا الموضوع الدسم.

أوليت في إطار تعاملي مع تلك الطرق الصوفية اهتماماً مقدراً للأبعاد السياسية. التي أتاحت لبعضها للعب أدوار رئيسة محورية خلال مراحل مهمة من تاريخ السودان الحديث. الذي كان له في بعض الحالات مردوده الاقتصادي الواضح. دوره المؤثر للغاية جعلني دائماً أوليه قدراً خاصاً من الاهتمام. من جانب أخر ذهب بي تخصصي المتمدد في مجالات الدراسات الإنسانية لتغطية أبعاد أخرى لا تقل أهمية عن تلك الطرق الصوفية. بالرغم من أن بعضا منا بالذات من تشبع بفكر الفلسفة العلمانية لا يهتمون بها و لا يدركون جيداً قيمتها العالية. فطفقت أبحث عن تأثير تلك الأبعاد التي لم تجد كثير اهتمام. مثل الجوانب المهملة المعنية بالشأن المجتمعي والثقافي بأبعادهما الروحية. بكل إسقاطاتها النفسية و الفنية المتعددة. حاولت من خلال تلك الجوانب و الأبعاد أن أستوعب بعمق عمارة كل واحدة من الطرق الصوفية المنتقاة. الذي يشكل في النهاية غاية مقصدي هنا.

الطرق الصوفية التي اخترتها تختلف عن بعضها البعض بشكل كبير في عدة جوانب. نلاحظه بشكل واضح في البعد الاقتصادي المتفاوت في درجاته الذي ينعكس بشكل مؤثر على عدة جوانب أخرى. نلاحظ أن هناك تباين واضح بينها. فبعضها يعيش في حالة أقرب للكفاف يعززها ميل للزهد متأصل في فلسفة شيخ الطريقة و ينداح على كافة مريديه. على طرف نقيض منها نجد طرق بعينها تنعم بمقدرات مالية و مادية وفيرة للغاية. مثل هذا التباين الواضح يظهر في العديد في العديد من مظاهر تلك الطرق. يتجلى بشكل باين في مراكزها الصوفية المنتشرة في العاصمة. بداءً بمساحتها و انتهاءً بكافة تفاصيل عمارتها. في هذا السياق اخترت التركيز هنا على واحدة من تلك الطرق تمتعت بإمكانيات مالية و مادية بالغة الوفرة. قدمت من خلالها صورة مفرطة في الروعة تجلت في كافة جوانب و مظاهر و تفاصيل مركزها الصوفي.

التباين بين تلك الطرق يظهر بوضوح أيضاَ في عدد أخر من جوانبها. واحد من أهمها الجانب المجتمعي. الذي يتجلى في عدة ظواهر و مظاهر تحديداً في علاقة الشيخ و أسرته بباقي أفراد الجماعة و عامة الناس. بالإضافة إلى ذلك نلاحظ التباين في جوانب ثقافية الطابع طقوسية المنحى. تنعكس مثلاً في نهج و نسق احتفالات الطريقة و ما يتبعها من زخم. الذي ينعكس في بعض التفاصيل مثل نوعية الأزياء و (الإكسسوارات) الخاصة بها. التي تمنح الطريقة الصوفية جزءً مهماً من بصمتها الفنية تشكيلية المنحى. لاحظت ذلك الجانب بوضوح و أنا أدرس بعناية الطريقة الصوفية التي سأركز عليها هنا. تناولت ظاهرة التباين بين الطرق الصوفية في كل تلك الجوانب عدة مرات عبر عدد من الوسائط الإعلامية. ركزت عليها بشكل خاص في واحدة من مقالاتي الأخيرة. التي نزلت في صفحتي في الفيسبوك و موقعي الإلكتروني في الأسبوع الأول من شهر أبريل 2020. هذه المرة سأركز على طريقة صوفية اختطت لها نهجاً متفرداً في عدد من جوانبها. مَيزتها للغاية فذهبت بها بعيداً عن كافة الطرق الأخرى التي شكلت جزءً مهماً من مجمل الصورة الحضرية في العاصمة.

الطريقة الصوفية التي سوف أركز عليها هنا عرفت باسم الطريقة البرهانية. اسمها بالكامل عندهم البرهانية الدسوقية الشاذلية. تمثل في إطار طرقنا الصوفية حالة بالغة التفرد لعدة أسباب مقنعة للغاية. اكتسبت تفردها من أكثر من جانب من تلك الجوانب التي ترسم مجمل صورة حالة تلك الطرق. لهذه الأسباب مجتمعة اخترت حالتها و حالة مركزها الصوفي ضمن أربعة أفلام وثقت لها. في إطار أشرت إليه بالعمارة السودانية الإسلامية التجديدية. بثتها قناة النيل الأزرق الفضائية خلال شهر رمضان في عام 2014 و ضمنتها في مواد موقعي الإلكتروني. بالرغم من تركيز هذا المشروع على عمارة مجموعة من المساجد إلا أنه قدم في هذا الإطار إضاءات مهمة عن الطرق الصوفية التي ارتبطت بها. موضحاً تأثير فلسفتها على جوانب مهمة من عمارتها. استعراضنا لحالة مركز الطريقة البرهانية فيه الكثير مما أعنيه هنا.

المدهش أن انتباهي لهذه الطريقة بالرغم من اهتمامي بالطرق الصوفية لم يتم بشكل مباشر. تم من خلال علاقتي الحميمة و تواصلي المستمر بزميلنا الراحل العزيز المعماري الفذ العبقري كمال عباس عليه رحمة الله. الذي كنت أتابع معه باستمرار تدفق أعماله المعمارية الرائعة. فحدثني مرة في بدايات الألفية عن مشروع كبير و طموح كان يعمل فيه بهمة عالية و استغراق روحي عميق. هو مركز جديد مكتمل الأركان للطريقة البرهانية.  سبقت فترة عمله فيه مرحلة تصوف عاشها الأستاذ بكل وجدانه. قربته بشكل خاص بشيخ الطريقة فجاء المشروع في أوانه. أختار الشيخ وفق رؤية شفيفة نحو عامة الناس موقعاً مترامي الأطراف للمشروع الطموح. في مكان قصي زمانئذٍ في الطرف الغربي للخرطوم قرب مضمار سباق الخيل. كانت منطقته تعج بأماكن صناعة الخمور البلدية التي شكلت بيئة جاذبة لكل الممارسات المرتبطة بها. لم تفلح كل محاولات إقناعه بتغيير ذلك الموقع. الذي رأى فيه فرصة طيبة للتقرب أكثر لتلك الشرائح الضالة و محاولة هدايتهم للطريق القويم. تلك الرواية و أخريات عن ذلك المشروع تجدونها بين ثنايا الفيلم الوثائقي عنه في موقعي الإلكتروني.

ميزت عدة جوانب مشروع هذا المركز على كافة مراكز الطرق الصوفية الأخرى. من أهمها توفر الأرض و المساحة و الموارد المالية بشكل سخي للغاية. فالموقع المترامي الأطراف يسمح بتأسيس مركز مثالي مكون من كافة المكونات و الساحات المطلوبة. أما من ناحية الموارد المالية فالواضح أنها كانت على قدر الطموح المتمدد. على ذكر هذا الطموح يجب أن نشير لبعض خواص تركيبة أفراد و عضوية هذه الطريقة التي ميزتها على باقي الطرق الأخرى. التي لا بد أنها شكلت تحدياً للجهات المسئولة عن التعامل معهم. على راسهم شيوخ الطريقة و بالطبع المصمم الأستاذ كمال عباس. ضمت تلك التركيبة مكونات غير معهودة في باقي الطرق الصوفية الأخرى. فيها عدد مقدر من الأمارات العربية المتحدة.  بالإضافة لمجموعات من غرب أوربا. كانت تحرص على الحضور في شكل أسر للمشاركة في الاحتفالات السنوية لذكرى ميلاد مؤسسي الطريقة. الواضح أن التعامل و استضافة تلك الشرائح يشكل تحدياً للقائمين على امر الطريقة بنفس القدر على المصمم الأستاذ كمال عباس. من المشرف أنهم كانوا أجمعين على قدر التحدي. من خلال عملهم بهمة عالية و حساسية مفرطة. الذين وفقوا في تصميم و إعداد مركزهم بأعلى درجات الرقى في كافة مكوناته و أجزاءه.

كانت هذه المهمة بلا شك جسيمة للغاية و محفوفة بالتحديات العظام. يرد النجاح الكبير في التعامل الفطن معها من بعد الله للتعاون و التعامل السلس بين طرفي هذه المعادلة. شيوخ الطريقة بحكمتهم الفائقة من جانب و المعماري الفذ الأستاذ كمال عباس في الجانب الأخر. كان عملا كبيراً و ضخماً و معقداً في كافة جوانبه و تفاصيله. يكفي أن نذكر منها أكبر أجزاء المركز و هو مجمع المسجد الذي صمم ليستوعب سبعة ألاف مصلى داخل مبنى واحد مكيف. لم يكن المبنى مجرد مسجد إذ ضم داخله تحت سقف واحد عدد من المكونات تشتمل على عدة مصليات. بالإضافة لكل الوحدات الخدمية لكل ذلك العدد من المصلين. بما فيها أماكن داخلية لإقامة وسكن كل الذين يقومون بالخدمات هناك. استوعب المبنى أيضاً داخله كافة وحدات الخدمات الميكانيكية مثل خزانات المياه و حجرات توليد الكهرباء و تكييف الهواء. كل هذه المكونات استوعبت داخل المبنى و تحت سقف واحد بدون أن تخصم من شكله الخارجي. كمبنى مسجد مكتمل الأناقة و الوقار و الهيبة على أحسن ما يكون.  

يتكون المركز من جزئيين رئيسيين يفصل بينهما شارع إسفلت خارجي فرعى. الجزء الأصغر من المركز مثلث الشكل يقع على الجانب الغربي من الموقع. يطل على شارع رئيس يربط بين شارع الغابة و ما كان يعرف بالسوق الشعبي الذي كان فيه موقف الباصات السفرية المتوجه للولايات. الواضح أن وضع المسجد في هذا الجزء الطرفي الغربي قصد منه تسهيل الوصول إليه من المارة و السابلة من عامة الناس. الجزء الأكبر من موقع المركز في الناحية الشرقية خصص لأجزاء مهمة. تتوسطه ساحة احتفالات كبيرة تتسع لألاف المحتشدين الذين يعمرون المركز في الاحتفالات السنوية الراتبة. يقع شمالها و قرب المدخل مبنيين واحد للإدارة و بقربه أخر مخصص للضيوف الذين يفدون للاحتفالات و الموالد. ينهض من بعيد عبر ساحة الاحتفالات في الجزء الجنوبي من الموقع مبنى الضريح الصغير الأنيق. تلك الساحة المتمددة بسخاء أمامه تمنح المقبل نحوه فسحة من الزمن و المساحة. لتهيئة نفسه لما هو مقبل عليه داخل المبنى من موقف تعبدي تصل فيه الأشواق الروحانية إلى أعلى مداها.  

تجلى الأستاذ كمال عباس في تصميم مجمع المسجد و استعرض عضلات علمه و فنه. فالتحدي هنا كان فوق التصور استلزم الجمع في توازن تام بين شقي مجال العمارة، التقنية و الفن. أستدعى هنا كل معرفته التقنية لاستيعاب تلك المكونات الكبيرة و الصغيرة تحت سقف واحد. في بيئة متوازنة و مستوفية لكل متطلبات الخشوع و الراحة و السلامة. من المدهش هنا أنك لن تجد هنا كما هو معهود وحدات حمامات أو محولات كهربائية موزعة حول المبنى و خارجه. في مؤشر حضاري ستجد مقرات سكن العاملين في خدمة المصلين و المبنى موجودة داخله. يتحركون في سهولة و يسر لأداء أعمالهم على أكمل وجه. تعامله مع تلك التحديات التقنية الجسيمة يثبت أن مقدراته في هذا المجال لا تقل عن إحساسه الفني المتفرد. الذي أثبته في أكثر من عمل من أعماله. المدهش هنا أن استيعاب تلك المكونات داخل المبنى لم يؤثر على شكل مجمع المسجد الخارجي. الذي سطع مظهره العام بمؤشرات محورة من العمارة الفاطمية الكلاسيكية صيغت في قالب و هيئة حداثية. استثمر بنجاح في تلك الملامح المتكررة التي لملمت أطراف هذا العمل المعماري مترامي الأطراف. برر كمال قرار اتكاءه على هذا الطراز بإفاضة في حواري معه في العمل الوثائقي الذي أشرت إليه من قبل.

جاء كمال بعدة أفكار تصميمية أصيلة في مجمع المسجد. فهو في داخله يتوفر على عدة مصليات متصلة و منفصلة عن بعضها البعض بطريقة ذكية. تلتأم و تدمج في بعض الصلوات مثل صلاة الجمعة و العيدين. من أروع تلك الأفكار فكرة ما أطلق عليه اسم الرواق الجنوبي الذي لم تنفذ كما كانت تصبو إليها نفسه. كانت فكرته كما واضح من أسمها أن يكون هذا الجزء على شكل برندة كبيرة رحبة مفتوحة. وضعها في الجانب الجنوبي لكي تستفيد من الظروف المناخية طوال العام. تستقبل و تصطاد نسيم الصيف المنعش الذي يهب من ذلك الاتجاه. تكون أيضاً محمية من زمهرير الشتاء القارص الذي يأتي من الجانب الشمالي. فصممها بشكل مفتوح و مرحب بالمارة و السابلين لأداء الصلوات في كل الأوقات. استوحى تلك الفكرة من فلسفة و نهج شيخ الطريقة الأول. الذي قرر و ذهب بمركزه الجديد زمانئذٍ  لذلك الموقع القصي في المدينة. أملاً في اجتذاب عامة الناس إليه حتى الذين باعدت بهم سلوكياتهم عن طريق الهدى و الأيمان.  يبدو أن أهل الطريقة لاحقاً كانت لهم رؤية مختلفة عن فكرة المصمم الأساسية. فقرروا تعديل فكرة الرواق المفتوح ليصير مصلىً مغلق.

تعامل كمال عباس بحصافة بالغة مع كتلة مجمع المسجد الواحدة التي تضم بين ضفتيها عدد من المكونات و الوحدات الصغيرة. أضفى عليها أجواء من الحيوية و الحركة مستغلاً شكل الموقع المثلث إلى سمح له ببعض الارتدادات في جانب من جوانبه. خفف من تأثير تلك الحركة بثبيت الكتلة الكبيرة بطريقة ذكية. موظفاَ المآذن الموزعة في أطرافها التي تبدو لكأنها الأوتاد التي تثبتها بالأرض. أبراج السلالم المنتشرة على أطراف الكتلة لها تأثير مشابه. من أكثر عناصر الوحدة في هذا العمل هي الملامح و السمات المتكررة على الواجهات. تقترب إلى حد ما من العقدات أو الأقواس المسننة الكبيرة التي كانت تزين واجهات العمارة الفاطمية الكلاسيكية. لكنها هنا تحيد عن سماتها بذكاء متحاشية عملية الاجترار و متجنبة الوقوع في فخ النقل الحرفي. تَصرف المصمم هنا فمنحها سمت حداثية واضحة متنكباً طريقاً أساسه الخطوط المستقيمة التي تنحرف أحيناً بشكل مبتكر. تكرار تلك الملامح على أجزاء الواجهات شبيه بالخيط الذي يمسك برفق و ثقة بزمام عقد (لولى) منضد. يجعل حباته تتألق و تبرق بدون ما خوف على انفراط عقدها.

مغامرات كمال عباس الطرازية في عمارة مجمع المسجد تستحق التوقف عندها مستعينين ببعض إفاداته الشخصية. لم يخفٍ افتتانه بالعمارة الإسلامية الفاطمية الكلاسيكية في مرحلة مبكرة خلال دراسته للعمارة في بلغاريا في الستينيات. عندما كانت جزءً من الإمبراطورية العثمانية التي طرزت أفق تلك المدائن بروائع من تراث العمارة الإسلامية. انطبعت في ذهنه ملامح منها أسرته بساطتها و تعبيرها الرصين عن إرث تلك العمارة الكلاسيكية. لم تغب عن مخيلته فاستدعى روحها بعد نصف قرن من الزمان. تملكت على وجدانه و هو يهم بتصميم مجمع مسجد الطريقة البرهانية. مسوغات مقنعة دفعته لاستلهام روحها. لصياغة أنموذج حداثي لتصميم واجهات المجمع استلهمه من ملامح تلك العمارة الكلاسيكية. التي كان يغلب عليها العقد أو القوس المسنن الكبير المتكرر الذي أضفى عليها بساطة محببة. طوع العقد هنا فاختزله في عدة خطوط مستقيمة. تنحرف أحيناً قليلاً عن مساراتها ثم تنهض قافزة إلى أعلى في الواجهات. جاءت النتيجة مبهرة عبرت بتلك العقدات قروناً من الزمان لتحط رحلها بشكل معدل في زمان الحداثة. حملت روح الكلاسيكية بأصالتها المترفة فمنحتها مظهراً حداثياً بائناً.

أفصح المصمم عن مبررات استلهامه لذلك الطراز الإسلامي الكلاسيكي و أضيف عليها مسوغات أخرى من عندي. أوضح بأن استلهامه للطراز الفاطمي كان مبنى على بساطته. عزز تبنيه له اتساقه مع نهج شيوخ الطريقة الذين عرفوا بهذه الخصلة النبيلة فجاء الاختيار معبراً عن فلسفتهم في الحياة. أعتقد أن تجنبه لمرجعيات كلاسيكية مفرطة في التعقيد و الفخامة كان له مبررات أخرى. منها أن العمارة هنا تخاطب البسطاء من أهل تلك المنطقة البعيدين عن الأجواء الفخمة. فقرر عدم التعالي عليهم باستلهام طراز متميز بالبساطة. أشار أيضاً لمحاولته للتقرب لأذواقهم بالاستخدام الكثيف للون البنى. السائد في مباني منطقة المركز و جلها مشيد بالطين و الطوب الأحمر. تودده و تقربه لهؤلاء البسطاء جاء متسقاً مع فلسفة و توجه الشيخ المؤسس. الذي اختار من قبل موقع المركز القصي أملاً في التقرب إلى سكانه و استمالتهم إليه. ثمة مبرر أخر لاختيار الطراز الكلاسيكي المتسم بالبساطة له علاقة بمجموعات من المريدين الأجانب. معروف عن بعضهم بالذات الأوربيين أن مزاجهم حداثي الهوى. عليه يبدو أنه وجد من الأنسب مخاطبتهم بطراز إسلامي مخفف يغازل الحداثة. الطرح المعماري هنا في مجمله و تفاصيله تميز بالذكاء و معبر عن قيم سامية نبيلة. 

تجلت عبقرية كمال عباس بنفس القدر في عمارة مجمع المسجد الداخلية. تحايل على أمر عمق و اتساع المبنى الذي فرضته سعة المصليات الكبيرة. فوزع فوق أرجاءها بعض القباب الكبيرة. صممها بحيث يتسرب الضياء بلطف عبر فتحات في قاعدتها. بطريقة لا تسمح بدخول أشعة الشمس و معها حرارتها. تصميم القباب على هذا النحو نشر الضياء بنعومة في أرجاءها الداخلية و معه فيض من الإحساس الروحاني. معروف أن الضوء الذي يتسرب من عُلى في مثل هذه الأماكن العبادية له معاني رمزية عميقة. تعامل مع أمر الزخارف الداخلية بحنكة بالغة في نهج متسق مع المعالجات الخارجية. فجاء المشروع الزخرفي في مجمله من حيث الأشكال و الألوان هادئاً و رزيناً و بسيطاً. متأثراً في إطاره العام إلى حد ما بمفاهيم العمارة الفاطمية الكلاسيكية. فجاءت النتيجة النهائية أيضاً متسقة مع فلسفة و نهج شيوخ الطريقة الذين تتميز حياتهم بالبساطة.

يتكون مركز البرهانية من أربع مكونات رئيسة، مجمع المسجد و مبنى الإدارة و بيت الضيافة و مبنى الضريح. أعتقد و بقناعة جازمة مؤسسة على عدة معطيات و مسوغات مهمة بأن مبنى الضريح هو أميزهم بكل المقاييس المعمارية. أنعم عليه بهذا اللقب بالرغم من أنه أصغرهم حجماً و أقلهم تعقيداً. كان هو السبب المباشر لاختياري لهذا المركز ضمن أربعة أفلام وثائقية عن العمارة الإسلامية المعاصرة أنتجتها في عام 2014. لكن كما يقول المثل الشهير جرت الرياح بما لم تكن تشتهيه سفني. شهدت تلك الفترة حالات أحرقت فيها مجموعات سلفية مفرطة في التطرف توابيت في أضرحة بعض المراكز الصوفية. نتيجة لهذه الأحداث المؤسفة قررت الجهات الرسمية زمانئذٍ تحاشى تسليط الضوء على تلك الأضرحة تفادياً لمزيد من التوتر. نتيجة لهذا التوجيه الملزم قررت الجهة المنتجة لفلمي الوثائقي عن مركز البرهانية عدم الإشارة أو تغطية مبنى الضريح. مما أصابني بحالة حادة من الإحباط لكنها لم تمنعني من إنجاز هذا العمل على أكمل وجه.

تعامل الأستاذ العبقري كمال عباس مع مبنى الضريح بكل حكمة و فطنة و حذاقة على كافة المستويات. من مستوى التخطيط العام في ذلك الجزء الكبير من المركز حتى أصغر مستويات العمارة الداخلية بكل تفاصيلها. تعامله هنا يشي بالكثير عن جوانب شخصيته المعمارية و مقدراته الفائقة المتنوعة. عن عمق ثقافته و شموليتها التي مكنته من الإبحار في تراث الغرب الأوربي الضارب في القدم. الذي تعمق فيه و غاص ليخرج لنا منه بالدرر النفيسة ليحلق بنا في أجواء الحداثة. كشف لنا هذا العمل في إطار عمارته الداخلية مقدرات كمال الفنية المهولة. التي لا ينافسه فيها أحد منا إلا حالات نادرة مثل المعماري السوداني جاك إشخانيص. تفرد في أعماله المعمارية بحساسية عالية نحو المكون اللوني الذي تميز فيه بجرأة محسوبة بعناية فائقة. جسدها بامتياز في عمارة مبنى الضريح الداخلية. بالرغم من تمكنه اللافت في هذا المجال إلا أنه تعامل معه بحذر شديد و درجة عالية من ضبط النفس. في تصميمه للمبنى تحرك بثقة عالية في المساحة الكبيرة المخصصة له في ذلك الجزء من مركز البرهانية. مجسراً بحذاقة فائقة المسافة الشاسعة و الهوة العميقة المَتوهمة بين مكون التخطيط العمراني و أصغر تفاصيل العمارة الداخلية. ربط بينهما بمقدرات عالية جاءت لصالح هذا العمل بالغ التميز.

من ناحية التخطيط العام وضع كمال عباس مبنى الضريح في الموقع الشرقي من مركز البرهانية. شيده هناك في العمق و في أقصى الجهة الجنوبية. لكاني به أراد بوضعه هناك أن يكون مسك الختام و سدرة المنتهى. جعل الوصول إليه عبر ساحة رحبة تمنح المقبل نحوها مسافة كافية للتأمل و أعداد النفس لما ينتظره داخلها من احتشاد روحي. إجراء تخطيطي تأسس في عصور كلاسيكية ضاربة في القدم و لا زال بعض المعماريين الأذكياء يحرصون عليه. هو ترك مساحة كبيرة و مسافة ممتدة بسخاء أمام المباني بالغة الأهمية يشار إليها بالحرم. تلك الساحة التي خصصت هنا لاحتفالات الطريقة الألفية الجماهيرية خدمت هذا الغرض النبيل و زادت عليه إحساناً. تأخذ الدراما الروحانية للمقبل نحو الضريح منحى إضافي. عندما تصطخب أجواء الساحة باحتشاد ألاف المريدين في لقاءتهم السنوية الراتبة. التي ترتفع معها تهليلاتهم و تكبيراتهم لتشق أجواز الفضاء فتصعد بتلك الدراما إلى أعلى مراقيها. يؤجج من أوارها خلفية اللوحة المبهرة التي يرسمها من على البعد منظر مبنى الضريح المهيب المهاب.  

أكثر ما يعجبني في كمال خلفيته الثقافية عميقه الجذور التي تتجاوز الحدود النمطية لعلوم العمارة. هو مجال لمن يخلص له يجد فيه بحر بلا ضفاف. من ينطلق من مثل هذه الخلفية لا بد أن تشرئب نفسه لأفاق رفيعة الرؤى. تسمح له بأن يحلق بأعماله المعمارية عالياً فيحقق اختراقات ملموسة. لن يرضى في هذه الحالة أن يكون واحداً من قطيع كبير. ينجز أعماله عبر عملية اجترار تفتقد لروح الإبداع. هذه الحالة السامية يعكسها كمال في العديد من أعماله منها مبنى ضريح مركز البرهانية. الذي يدل على طموح مؤسس على بحث و تقصى معمق. يبدو أن دراسته للعمارة ببلغاريا فتحت عينية على أنماط تراثية لمباني الديانة المسيحية. أنموذج مبنى كنائس ضاربة في القدم ارتكز على أنماط معابد من المراحل الوثنية يشار إليها بالروتندا. دائرية الخارطة فكرتها الأساسية تقوم على التركيز و تكثيف الانتباه لمركز المبنى باعتباره الهدف الأساسي. تطورت الفكرة لتظهر محورة في أزمنة لاحقة. استفاد كمال من هذه النقلة التي تجلت في عمل بالغ التميز من تراث العمارة الإسلامية أرخ له القرن السابع الميلادي. ظهرت فيه الخارطة في شكل ثماني الأضلاع في عمل قمة في التعبير. صار ثالث الأماكن المقدسة لأمة الإسلام هو مسجد قبة الصخرة.

تأسياً بذلك الأنموذج الفريد اختار كمال لمبنى الضريح شكل خارطة مثمنة الأضلاع كانجع خيار لمثل هذه الحالة. لكنه تصرف فيه بطريقة حرة بناءً على اختلافات جوهرية بين استخدامات هذين العملين، مسجد قبة الصخرة و هذا الضريح. تقسيماته الداخلية المؤسسة على نوعية استخدام المكان جاءت هنا قمة في التعبير. عمقت فكرة التمركز من خلال عدة تقسيمات داخلية لعبت فيها العناصر الإنشائية دوراً مؤثراً للغاية. منظومة الأعمدة الداخلية الثمانية و معها فتحة العرش التي تتوسطه. فساهمت تلك العناصر بشكل فعال في لملمة الفضاء الداخلي بشكل مدهش للغاية. هدفه الأساسي تركيز كل الاهتمام على المركز الذي يحتله صندوق التابوت الخشبي متوهج اللون. بالإضافة إلى ذلك وظف كمال العديد من أدواته الأساسية لخدمة هذا الهدف النبيل. لعبته المفضلة ظهرت في الاستثمار في اللون سلاحه المضاء الذي أشتهر في التعامل معه بحنكة بالغة و ذكاء متميز. عززه بالتوظيف الفطن لتلك الطاقة الإلهية المؤثرة، الضوء الطبيعي. تجمعت كل تلك العناصر معاً لتصنع دراما معمارية فوق التصور. سُخرت كلها لخدمة هدف نبيل أساسي. هو الارتقاء بمشاعر من يزور الضريح إلى أعلى درجات الوجد الصوفي الروحاني.

وظف كمال هنا مكونات المبنى الإنشائية بشكل ذكي لترتيب الفضاء الداخلي لخدمة ذلك الهدف النبيل. وظفها لتحديد حلقات متمركزة تزداد أهمية و زخم روحاني كلما اقتربت من مركز المبنى. الحلقة الخارجية داخل الضريح حددها بين حيطانه و حلقة الأعمدة الثمانية الوسطية و هي المنطقة التي تستقبل الداخل للمبنى. توجد داخلها و في وسطها المنطقة التي تحتويها الأعمدة الثمانية التي تتصاعد فيها درجات التركيز الروحاني. تبلغ قمتها كلما اقترب الزائر نحو المركز. وظف المكونات الإنشائية مرة أخرى بطريقة ذكية لتحديد تلك المنطقة الأكثر قدسية. إذ توجها بفتحة في العرش ينهض من أطرافها جزء يحمل القبة فيشهق الفضاء الداخلي معها. يغمرني إحساس بأن هذه الشهقة تحمل معها لأجواز الفضاء للمولى عز و جل دعوات الذين يحيطون بصندوق التابوت. تتجلى عظمة كمال عباس هنا في حسن توظيفه لكافة عناصر المبنى الإنشائية. بشكل إيحائي يرتقي بأحاسيس زائر المبنى بنسق تصاعدي سلس.

لم يكتفى كمال في سعيه الحثيث لتحقيق تلك الأهداف النبيل في مبنى الضريح بالتوظيف الذكي للعناصر الإنشائية. أضاف إليها بالاستثمار في جوانب أخرى من العمارة الداخلية. من أهمها المكون اللوني الذي تعامل معه تعامل العارف ببواطن الأمور من منطلق ثقافته و إحساسه الفني العالي. وظفه بذكاء فائق للفت النظر و جذب الانتباه لمركز المبنى. فالمنظومة اللونية تسير من الأطراف في تدرج حتى تصل لذروتها و هي تصل لمنطقة المركز. حيطان المبنى الداخلية و منظومة الأعمدة الوسطية تكاد تخلو من الألوان. يغمرها اللون الأبيض و الجزء من الأعمدة المغلف بالرخام لونه أسود. يقترب المرء من مركز المبنى فتبدأ الألوان في الاشتعال. يفتتح المهرجان صندوق التابوت الخشبي بلونه المتلمع البنى المائل للأحمر. يشخص البصر إلى أعلى ناحية قاعدة القبة و الجزء الداخلي منها فيفاجأ بمهرجان صاخب من الألوان. يزيد من اصطخابه زخم زخرفي فوق التصور. يصل به المصمم للذروة بمغازلة الضوء الطبيعي المتسرب عبر وحدات الزجاج المعشق الضاجة بالألوان. لم يكتف كمال بتلك المنظومة اللونية المدهشة. أضاف إليها بالاستثمار الفطن في مكملات أو (إكسسوارات) العمارة الداخلية. تلك الثريا (النجفة) العملاقة التحفة التي تحلق فوق مركز المبنى مؤكدة قدسية ذلك المكان.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

أمدرمان- مايو 2020

Comment 1

  1. سورد جميل ورائع. التسلسل في السرد من المذهب . الصوفي وعلاقة المعماري بالصوفي

    Reply

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.